مقدمة
جاء إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في منتصف أبريل/نيسان الجاري، عن استمرار خطوات تطبيع العلاقات مع مصر، من خلال استئناف الزيارة على مستوى وزراء الخارجية مطلع شهر مايو/أيار المقبل، بصفته إحدى الخطوات التي تمهد لكسر حالة الجمود والقطيعة بين البلدين التي استمرت قرابة ثمانية أعوام.
جاء هذا التقارب عقب الموقف الإيجابي الذي اتخذته مصر؛ باحترام حدود الجرف القاري التركي أثناء طرحها مناقصة للتنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط في مارس/آذار الماضي، وهو ما مهد لحدوث مثل هذا التقارب، خصوصاً أن الطرفين يدركان أن التغيرات التي شهدتها المنطقة تتطلب إعادة تحسين العلاقات من أجل حماية المصالح الاستراتيجية لكلا البلدين.
يبحث تقدير الموقف في السياقات التي أدت إلى هذا التقارب؟ وما دوافع كلا الطرفين؟ وما التحديات التي تواجهه؟ وما محددات مستقبل هذا التقارب؟
سياق التقارب
لا يمكن فهم طبيعة التقارب التركي- المصري دون النظر إلى التغيرات السياسية الدولية وإلى التغيرات الجيوسياسية على المستوى الإقليمي، ولعل السبب الأبرز في حالة عدم الثبات في بنية التحالفات وتناقضاتها في بعض المراحل يعود إلى غياب مشروع إقليمي جامع، مقابل وجود حالة من التجاذبات الجيوسياسية التي تدفع كل طرف إلى إعادة حساباته كل مرة من أجل البحث عن مصلحته أولاً، وتتلخص أبرز العوامل التي أدت إلى التقارب التركي/المصري في النقاط التالية:
قدوم إدارة أمريكية جديدة
شكل فوز الرئيس الأمريكي جو بايدن حالة جديدة دفعت تحالفات المنطقة إلى إعادة التشكل، إذ إن سياسة ترامب التي استثمرت التوترات لجني مزيد من الأرباح مقابل ترك مساحة أوسع لمناورات الدول، ستختلف بقدوم إدارة بايدن الذي حرص منذ قدومه على انتهاج سياسة جني الأرباح من خلال التهدئة القائمة على تنفيذ سياسات صارمة حيال تحركات بعض الدول في المنطقة.
تحقق المصالحة الخليجية
ساعدت المصالحة الخليجية التي جرت في 5 يناير/كانون الثاني الماضي بمدينة العلا السعودية في تهدئة حالة الاستقطاب الإقليمي بشكل عام، وهو ما انعكس بشكل ما على سياسة المحاور التي تعيشها المنطقة منذ بداية الربيع العربي قبل حوالي 10 سنوات، إذ أعطت هذه المصالحة فرصة للأطراف المختلفة لإعادة النظر في خارطة التحالفات، مع إمكانية كسر حالة العداء الصريح، كما حدث في العلاقات التركية/السعودية، بما قد يمهد لحدوث تقارب في المستقبل بين البلدين. وهذا التغير الذي طرأ على العلاقة بين البلدين أسهم إلى حد ما في حدوث تقارب تركي/ مصري في وقت لاحق.
التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي
شكلت الخطوات المتسارعة للتطبيع الإماراتي/ الإسرائيلي على وجه الخصوص المسمار الأخير في نعش القومية العربية والمصالح المشتركة، جاء هذا التطبيع في وقت تبتعد فيه سياسات أبو ظبي عن القاهرة، إذ مثَّل التقارب الإماراتي مع ثلاثي اتحاد إيست ميد- الذي يتكون من الكيان الإسرائيلي واليونان وقبرص- دافعاً للتقارب التركي/المصري، فالمشروعات المزمع إجراؤها بقيادة الإمارات مع الكيان الإسرائيلي في مجالات الطاقة، وتتجاوز المصالح المصرية، سواء في قناة السويس أو في طموحات مصر لتسييل الغاز، تشير إلى أن تحالف الثورات المضادة لم يعد كافياً ليخلق قاعدة للمصالح المشتركة بين البلدين.
الأبعاد والدوافع
على الرغم من حالة العداء والجمود التي صبغت العلاقة بين أنقرة والقاهرة فقد بادر الطرفان إلى إعادة تطبيع العلاقة بينهما ما إن وجدا فرصة لذلك؛ نظراً لحجم التحديات التي فرضتها السياقات المستجدة في المنطقة، إضافة إلى الدوافع التي تحرك كل طرف.
الدوافع التركية
تواجه أنقرة عزلة إقليمية، مقابل كثرة الخصوم في الشرق الأوسط، وهو ما يدفعها إلى كسر هذه الحالة وتحقيق اختراقات دبلوماسية جديدة، ومن أهم دوافعها من خلال هذا التقارب:
– حاجة تركيا لإيجاد حليف قوي في منطقة شرق المتوسط يمكنها من جني ثمار تقاربها مع ليبيا، إضافة إلى تأثرها اقتصادياً، شأنها شأن الدول الأخرى، بآثار كورونا، وهو ما دفعها لأن تبادر إلى التقاط المبادرة الإيجابية من الموقف المصري؛ باحترام حدودها المائية في مناقصاتها، والسعي لتحويلها إلى تقارب حقيقي قد يفضي إلى علاقة استراتيجية، خصوصاً أن كلا البلدين يشتركان في كثير من التحديات والملفات الاستراتيجية؛ على غرار ملف الطاقة في شرق المتوسط، والملف الليبي.
– الرغبة التركية في حماية مصالحها الاستراتيجية، فبالنسبة لملف شرق المتوسط يمثل تقاربها مع مصر ورقة ضغط قوية تجبر بها اليونان على الجلوس للتفاوض وتقديم تنازلات حقيقية، والتخلي عن سقفها العالي، وحسم الملفات الخلافية في المتوسط وبحر إيجة. فعلى الرغم من أن أنقرة تمكنت خلال الفترة السابقة من التموضع في مناطق وجبهات عدة، محققة اختراقات مهمة تصب في مجال استعادة دورها الإقليمي الفاعل، فما زالت تواجه تحديين:
التحدي الأول: يتعلق بتوجهات السياسة الأمريكية الحالية التي تحاول أن تحجم ذلك النفوذ، إضافة إلى أنها تواجه محوراً إقليمياً مكوناً من اليونان والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية ومدعوماً من فرنسا، متعارضاً معها في مختلف قضايا المنطقة، وخصوصاً ملف شرق المتوسط، ولذلك تحاول في الآونة الأخيرة خلخلته و/أو إضعافه.
التحدي الثاني: من جهة أخرى يشار إلى أنه على الرغم من أن نفوذها في ليبيا يعزز من مكانتها وقدراتها في شرق المتوسط بموجب اتفاقيات التعاون الثنائية، فإن تقاربها مع مصر سيعزز من جهودها في إيجاد موطئ قدم لها بما يمنحها جانباً من ثروة الغاز في المنطقة. كما أنها تدرك أن الحكومة الليبية المعترف بها لن تتمكن من بسط السيطرة على جميع أراضي ليبيا بالعمل العسكري، لذلك فإن من مصلحتها أن تسهم في استقرار ليبيا بالتوافق مع مصر على الملفات المشتركة بين البلدين في الساحة الليبية، لأن ذلك يسهم في إضعاف حفتر وتفكك جبهته، خصوصاً بعد أن ظهر الصدع في التحالف المصري/الإماراتي الذي كان يدعمه.
الدوافع المصرية
تواجه القاهرة عدداً من الملفات المعقدة، وتبحث عن تحالفات جديدة من جراء الخذلان الذي تعرضت له من حليفتها الإمارات بعد تقارب الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي على حساب المصالح المصرية.
– تراجع دور مصر الإقليمي سياسياً وتراكم التحديات الداخلية التي تواجهها، سواء تلك المتعلقة بملف سد النهضة والآثار المترتبة عليه، أو ما يتعلق بتراجع وضعها الاقتصادي وحاجتها الماسة إلى إيجاد بدائل تمكنها من تغذية وسد عجز ميزانيتها، وهو ما تتوجه إليه الإدارة السياسية الحالية من خلال مناقصات التنقيب في شرق المتوسط، وهو ما يعد أحد أبرز الدوافع التي تحرك تقاربها الأخير مع تركيا.
– حرمان مصر من مشاريع الطاقة يشكل دافعاً رئيسياً لتقاربها مع تركيا، إذ استُبْعِدت من أنشطة ومشاريع اتحاد شرق المتوسط الذي يضم كلاً من (الكيان الإسرائيلي وقبرص واليونان)، كما جرى تجاهلها في مطلع العام 2020 في اتفاقية ضمت الثلاثي إضافة إلى إيطاليا من أجل تدشين مشروع خط أنابيب شرق المتوسط “إيست ميد”(EastMed)، في الوقت الذي كانت تأمل فيه القاهرة أن تتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، إضافة إلى تجاهلها، في 8 مارس/آذار 2021، عندما وقع الثلاثي (الكيان الإسرائيلي وقبرص واليونان) اتفاقاً لتطوير أطول وأعمق كابل كهربائي في العالم، يربط بين أوروبا وآسيا تحت سطح البحر. وفي 16 من أبريل/نيسان الجاري عُقد لقاء رباعي شهدته قبرص وضم وزير خارجيتها ونظيريه الإسرائيلي واليوناني والمستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، في حين استبعدت مصر مجدداً؛ في رسالة واضحة بالاعتراض على تقاربها الأخير مع أنقرة.
– الرغبة المصرية في الاستفادة من التقنيات التكنولوجية التركية المتطورة فيما يتعلق بالبحث السيزمي، المتعلق باكتشاف مكامن النفط والغاز وتحديد امتداداتها، بشكل يحقق لها إمكانية الاستفادة من صفقات التنقيب بما يسهم في سد العجز الذي تعاني منه، إضافة إلى الاستفادة من الغاز الذي سيُستَخرج، بما قد يحقق مشاريعها في أن تكون مركزاً إقليمياً للطاقة.
محددات مستقبل التقارب
عقب تواصل جمع بين وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ونظيره المصري سامح شكري صرح الأول عن بدء عهد جديد من العلاقة بين البلدين، في حين لم يظهر أي تعليق من الأخير، وهذا يشير إلى أن التقارب لا يزال في خطواته الأولى، وأن ثمة محددات ترسم مستقبله:
– يعتمد نجاح التقارب التركي/المصري على حجم الفوائد التي ستنعكس على الطرفين، مع الأخذ في الحسبان حجم الآثار السلبية التي ستصاحب الفوائد المتحققة، ففي حين يبدو أن كلا الطرفين رابح من هذه العلاقة يبدو أن وضع مصر أكثر حرجاً من الوضع التركي؛ نظراً للتحديات الداخلية التي تعصف بها من جهة، وإمكانية خسارتها لعضويتها في منتدى شرق المتوسط، خصوصاً إن أدى هذا التقارب إلى خطوات تضر بمصلحة أعضاء المنتدى، من جهة أخرى.
– حالة الهشاشة وعدم اليقين التي تصبغ التحالفات القائمة حالياً في منطقة شرق المتوسط تجعل من الصعوبة بمكان- خصوصاً على مصر- الالتزام بموقف محدد، خصوصاً إذا لم يكن هنالك ما يضمن لها حقوقها، لكن يبقى التقارب الحذر ومحاولة تبني خطوات صغيرة من أجل الحفاظ على التوازن بين المخاوف والمصالح أسلوباً شائعاً في مثل هذه الظروف، وهو ما تتبناه مصر في تقاربها مع تركيا، فهي تحاول أن تكسب تركيا من خلال احترام الحدود التركية في مناقصتها، لكنها بالمقابل لا تبدي الحماس الموازي للجانب التركي، وهذا يؤكد موقفها الصعب مقارنة بتركيا.
– حالة العداء بين تركيا وأعضاء منتدى شرق المتوسط تخلق حالة من الوضوح لديها بالنسبة للمقاربات والأهداف التي تريدها من تقاربها مع مصر، فهي من خلال هذا التقارب تستطيع أن تحسم كثيراً من الملفات العالقة التي سيكون لها انعكاسات نوعية على مصالحها الاستراتيجية.
– على الرغم من أن كلتا الدولتين تنطلقان من دوافع اقتصادية أيضاً للمضي في هذا التقارب، نرى أن مصر أكثر حاجة إليه من أجل الحسم في تحديات داخلية على غرار ملف عجز الميزانية الذي تحاول الإدارة القائمة حالياً سده من خلال مناقصات التنقيب، وحتى تستفيد من هذه المناقصات تحاول مصر ألا تكسب أي عداوة تزيد من ثقل التحديات التي تواجهها، وهو ما سيؤثر كثيراً في حدود هذا التقارب.
– حالة التنافس بين البلدين تشكل عائقاً للمضي قدماً في هذا التقارب، وهذا ما يفسر تعليق الموقف المصري على تصريحات الجانب التركي بأنه من المبكر الحديث عن ترسيم الحدود البحرية قبل حسم ملفات معينة بين البلدين.
– حالة التقارب تشكل إزعاجاً على المدى القصير وتحدياً على المدى البعيد لكثير من الأطراف، لا لدول شرق المتوسط وحسب، بل لدول أخرى على غرار فرنسا، التي ترى أن هذا التقارب يهدد مصالحها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأمام حالة تجمهر العداوات يبدو أنه من الصعب على كلتا الدولتين أن تجابهه، لكنها على الأقل- باتحادها- تستطيع أن تعرقل تلك المشاريع التي تهدد مصالحها الاستراتيجية.
خاتمة
تشهد المنطقة حالة سيولة في بناء التحالفات، ففي حين تلعب المصالح المشتركة دوراً أساسياً في تأسيس قاعدة لجمع الأطراف ذات المصلحة، تدفع المخاوف الأطراف المتباينة إلى بناء تحالفات مقابلة. وبالنظر إلى المحددات التي استُعرِضت يبدو أنه من المبكر الحديث عن ترسيم حدود بحرية بين البلدين؛ إذ لا يزال التقارب في مراحله المبكرة، وعلى الرغم من ذلك يبدو أن هذا التقارب سيكون له أثر في زيادة حالة عدم اليقين بين أطراف التحالفات القائمة على غرار منتدى شرق المتوسط، وقد يفضي إلى تشكل تحالف مقابل يضم الدول الأخرى التي هُمشت مصالحها، سيكون له أثر في توازن المصالح في المنطقة، لكن تشكل مثل هذا التحالف مرهون بمدى جدية التقارب الحالي وحدوده الممكنة.
رابط المصدر: