قمة بايدن ـ أردوغان: تحديات كبرى وتحالفات هشة

د. عصام عبد الشافي

 

الاثنين الرابع عشر من يونيو 2021، كان الموعد لأول لقاء مباشر بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، على هامش قمة حلف الناتو، التي عقدت في العاصمة البلجيكية بروكسل، وذلك منذ تولي بايدن الرئاسة رسمياً في العشرين من يناير 2021. بينما كان أول اتصال هاتفي بين الرئيسين في الثالث والعشرين من أبريل/ نيسان 2021، وبين الاتصال واللقاء الذي استغرق نحو 45 دقيقة، تعددت القضايا التي لم تكن فقط محلاً لاهتمام الطرفين، ولكن كانت أيضاً مثاراً للجدل والترقب بل والتوتر كذلك خلال النصف الأول من العام الجاري.

قضايا عشر كانت حاضرة وبقوة في سياق هذا الاهتمام وذلك الجدل، وستظل تثير الاهتمام والجدل معاً خلال السنوات المتبقية من إدارة بايدن، يمكن تناولها على النحو التالي:

أولاً: الموقف الأميركي من انقلاب 2016:

مع وقوع محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، 15 يوليو/ تموز 2016، توجهت أصابع الاتهام من جانب العديد من المسؤولين الأتراك إلى الإدارة الأميركية، وأنها متورطة في هذه المحاولة، وكان على رأس هذه الإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ونائبه جو بايدن، الرئيس الحالي للولايات المتحدة، ومع تغير الأدوار والمواقع، بين بايدن النائب وبايدن الرئيس تبقى الذكرى حاضرة والاتهام بالتورط قائم، وخاصة أنه لم يتكشف ما ينفي الاتهام، بل على العكس تتعدد مؤشرات ترسيخه وتأكيده، ولعل من بين ذلك ما ذهب إليه بايدن أثناء حملته الانتخابية عام 2020، بالقول عن الرئيس التركي: “لقد أمضيت الكثير من الوقت معه، إنه مستبد، إنه رئيس تركيا وأكثر من ذلك بكثير، ما أعتقد أننا يجب أن نفعله هو اتخاذ منهج مختلف تمامًا تجاهه الآن، مما يوضح أننا ندعم قيادة المعارضة”.

ثانياً: الدعم الأميركي للأكراد:

يشكل الملف الكردي أحد أهم ملفات السياستين الداخلية والخارجية للدولة التركية، التي تتعاطى معه باعتباره أخطر مهددات أمنها القومي، وتتعارض رؤية بايدن مع الرؤية التركية في هذا الملف، حيث يحرص على الإعلان المستمر على تقديم الدعم الدائم للأكراد سواء في شمال العراق أو في شمال شرق سوريا، أو حتى في الجنوب التركي، وفي ورقة سياسات قدمها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وثيق الصلة بالخارجية الأميركية، تم نشرها في الثالث من مارس 2021، تحت عنوان “على إدارة بايدن دعم الأكراد”، ذكر ما نصه: “في حين تعيد فيه إدارة بايدن صياغة سياستها في الشرق الأوسط، عليها الالتزام بدعم الأكراد على جبهتين مهمتين: أولًا، عليها الاستمرار في توفير الدعم لحماية “حكومة إقليم كردستان” وتمكينها لمواجهة التهديدات المتنامية التي تطرحها جماعات الميليشيات الموالية لإيران وجهاديو “الدولة الإسلامية” الذين يستهدفون الأكراد بسبب تعاونهم مع الولايات المتحدة في الإقليم بشكل رئيسي. وثانيًا، عليها أن تجعل هذا الدعم المقدّم إلى الأكراد مشروطًا بإصلاحات جدية في مجال الحوكمة المحلية وإضفاء الطابع المؤسسي على قوات الأمن من خلال وضعها تحت قيادة حكومة الإقليم وتحسين حقوق الإنسان”.

وليس خافياً على المسؤولين الأتراك الدعم المالي والسياسي والعسكري واللوجيستي الذي تقدمه الإدارات الأميركية المتعاقبة للأكراد، واستخدامهم كورقة للضغط على تركيا، سواء في الملف العراقي أو السوري أو الداخلي التركي، وتعددت التصريحات التركية المنددة بهذا الدعم والمطالبة بالتوقف الفوري عنه، حرصاً على العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين.

ثالثاً: قضية الأرمن:

في الرابع والعشرين من أبريل 2021، وفي اليوم التالي مباشرة لأول اتصال هاتفي بينه وبين الرئيس التركي، وصف بايدن ما حدث للأرمن في الحرب العالمية الأولى أنه “إبادة جماعية”، بعد حملة ضغط واسعة قام بها أعضاء في الكونغرس الأميركية وجماعات أمريكية ذوي أصول أرمينية. وهو ما انتقدته الخارجية التركية، وقالت في بيان رسمي “هذا البيان الأمريكي الذي يشوه الحقائق التاريخية لن يقبله ضمير الشعب التركي وسوف يفتح جرحا عميقا يقوض الصداقة والثقة المتبادلة بيننا”. وأضافت أنها ترفض وتستنكر البيان “بأشد العبارات”.

وقال وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو: “الكلمات لا يمكن أن تغير التاريخ أو تعيد كتابته”. وأضاف: “ليس لدينا ما نتعلمه من أي شخص فيما يتعلق بماضينا. الانتهازية السياسية هي أكبر خيانة للسلام والعدالة”.

رابعاً: صفقات السلاح الروسية:

فقد أعلنت الإدارة الأميركية في أكثر من مناسبة، رفضها صفقة السلاح الروسية “إس 400” التي وقعتها تركيا مع روسيا، وربطت بين تنفيذ هذه الصفقة وتجميد عضوية تركيا في برنامج المقاتلة الأميركية “إف ـ 35″، وتوقيع عدد من العقوبات الاقتصادية والعسكرية على تركيا إذا أصرت على الاستمرار في الصفقة، وهو ما ترفضه تركيا وترى أن من حقها ليس فقط تنويع مصادر سلاحها، ولكن أيضاً التوسع في التصنيع الداخلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسلحة التي تحتاج إليها. وهو ما ترفضه الولايات المتحدة وترى أن عضوية تركيا في حلف الناتو، المنافس الاستراتيجي للنظام الروسي، تحتم عليها مراعاة شروط وضوابط العضوية، والتعامل مع الروس باعتبارهم العدو الاستراتيجي للحلف وأعضائه.

خامساً: قضية أفغانستان:

مع إعلان إدارة بايدن عن انسحابها من أفغانستان، لما يشكله استمرار وجودها من تهديدات وتحديات طرحت الإدارة التركية إمكانية أن تكون بديلاً للوجود الأميركي، وأن تساهم في تسوية الأزمة، في ظل علاقتها الجيدة مع مختلف الأطراف الأفغانية، وقدرتها على إدارة التفاوض فيما بينهما، مدعومة بالدور القطري الذي له حضور مهم في هذا الملف، وكان راعياً لمفاوضات السلام الأفغانية لعدة سنوات.

سادساً: إيران:

تشكل إيران أحد ملفات العلاقات التركية ـ الأميركية، في ظل تشابك التفاعلات وتعدد الملفات بين تركيا وإيران، والموقف التركي الرافض للعقوبات الأميركية على إيران، رغم تعارض الدولتين في الملفين السوري والعراقي، وفي وقت تسعى فيه إدارة بايدن إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني، فإن تركيا يمكن أن يكون لها دور في تقريب وجهات النظر، بين الجانبين، ودعم المسار التفاوضي التوافقي بينهما.

سابعاً: ليبيا:

كان للدور التركي في الملف الليبي أهمية بالغة في تغيير موازين القوى على الأرض، والدفع باتجاه التسوية السلمية وخاصة بعد توقيع عدد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية، وترسيم الحدود البحرية في نوفمبر 2019، وتقديم دعم عسكري واضح ومؤثر للحكومة الشرعية في ليبيا برئاسة السراج. إلا أن هذا الدور التركي المتنامي لم يكن محل ترحيب مع عدد من شركائها في حلف الناتو والذين لهم أهداف استراتيجية في ليبيا مثل فرنسا وإيطاليا، ورغم أهمية الوجود التركي في تحجيم الوجود الروسي في ليبيا، بما يدعم أهداف الناتو، إلا أن الإدارة الأميركية تدفع باتجاه تحجيم الوجود التركي، والعمل على تهميشه واستعادة زمام التحكم في الأمور في المشهد الليبي، بعد أن تركه ترامب في أيدى أطراف إقليمية ودولية تفعل فيه ما تشاء بعيداً عن المصالح الأميركية.

ثامناً: سوريا:

مع تصريحات بايدن برزت مجموعة من الركائز حول توجهاته نحو سوريا، منها: دعم قوات سوريا الديمقراطية في شرق نهر الفرات، ومحاربة تنظيم داعش، ومنع تمدد إيران، والإبقاء على الوجود العسكري الأميركي هناك، مع الصرامة (ولو إعلامياً) تجاه النظام السوري، والتأكيد على أن بشار الأسد لا يمكن الوثوق به، حيث اقترف الكثير من جرائم الحرب بحق شعبه، ولم يلتزم بقرارات مجلس الأمن، ونكث بوعوده وعهوده بشأن القضاء على ترسانة الأسلحة الكيماوية التي يملكها نظامه، والتي عاود استخدامها مرات عديدة”.

وتأتي عودة “بريت ماجورك” إلى البيت الأبيض متغيراً مهماً في هذا الملف، فقد كان حاضرا في كل اجتماعات بايدن بشأن سوريا وقدم 3 إجازات له بشأن تطورات الحرب، وسيكون له القرار الأول بعد بايدن في تشكيل السياسة الأميركية تجاه سوريا، من خلال موقعه كمنسق للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.

إلا أن توجه ماجورك إلى تقديم مزيد من الدعم لقوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية، ووقوفه ضد أي عملية عسكرية تركية ضد هذه القوات، يعني صداماً مستمراً بين تركيا وأميركا في الملف السوري.

تاسعاً: ملف شرق المتوسط

تسعى تركيا لتعزيز وجودها ومكانتها والحفاظ على حقوقها البحرية والطبيعية في ثروات شرق المتوسط، إلا أن هذا يتصادم مع توجهات إدارة بايدن، فقد كشف وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكين” أن بلاده تتابع عن كثبٍ التطورات الأخيرة بمنطقة شرقي المتوسط، والمبادرات التركية الأوروبية التي جرت مؤخراً لحل الأزمات والنزاعات بتلك المنطقة، مضيفاً: إننا “نشعر بالقلق” حيال ما أسماها “بعض التحركات التركية” بشرق المتوسط خلال العام الأخير. وشدد على أن “الولايات المتحدة حريصة على استقرار شرقي المتوسط ​​والحفاظ على سيادة وسلامة أراضي جميع الأطراف. يمكن حل النزاعات في المنطقة سلمياً، وليس من خلال الوسائل العسكرية والاستفزازية” في إشارة إلى تركيا. الأمر الذي يدفع باتجاه المزيد من التوتر في علاقات الدولتين.

عاشراً: حلف الناتو:

تُعتبر تركيا شريكاً استراتيجياً في حلف الناتو، ويحتل الجيش التركي المرتبة الثانية من حيث القدرات داخل الحلف، بعد الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن الدور التركي داخل الحلف يواجه بالعديد من التحديات والمعوقات والتي يأتي أغلبها من جانب فرنسا، التي دعت في مرحلة من المراحل لتشكيل جناح عسكري للاتحاد الأوربي، بهدف تهميش القوة التركية وحشد القوى الأوربية في مواجهتها من ناحية، ومن ناحية ثانية وضع العراقيل أمام تعزيز الدور التركي داخل الحلف.

ومع التقارب التركي ـ الروسي، تعددت المطالبات بإعادة تقييم موقع تركيا في الحلف، لكن من الواضح أن مخرجات قمة الناتو قد أكدت على أهمية الدور التركي في الحلف، كما أن اللقاءات المتعددة للرئيس أردوغان خلال قمة الناتو وخاصة مع الرئيس الفرنسي، ورئيس الوزراء البريطاني والمستشارة الألمانية، قد تعزز من أطر تسوية الخلافات بين تركيا وهذه الأطراف بوسائل دبلوماسية، أو على الأقل تهدئتها مرحلياً في ظل وجود تهديد استراتيجي مشترك للمنظومة الغربية، متمثلاً في الصين، تضع الولايات المتحدة مواجهته أولوية في المرحلة الراهنة.

ومع هذا التعدد في القضايا، وما تحمله من جدالات، يمكن القول إن اللقطات الودية التي تناقلتها وسائل الإعلام، بين بايدن وأردوغان في لقائهما الأول، ليست كافية لتخفيف حدة التوتر في العلاقات، لأن بايدن يجيد العمل بعيداً عن وسائل الإعلام، بما يحقق أهدافه ويعظم مكاسبه، خلافاً لما كان عليه نهج سلفه السابق دونالد ترامب، إلا أنه لن يضحي بالحليف التركي (الدولة وليس النظام)، وإن كان لن يتوقف عن تشديد الضغوط على النظام في الكثير من الملفات والقضايا محل الاهتمام المشترك، وهو ما يجب التحسب له، والتفكير في كيفية التعاطي معه من جانب الإدارة التركية، ووضع مسارات بديلة لمواجهة هذه الضغوط، والتي لن تتوقف وخاصة مع الرفض الأميركي للتمدد الإقليمي التركي، أو على أقل تقدير، التحفظ عليه، سواء في الشرق الأوسط أو في وسط آسيا، أو في شرق المتوسط.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M