الجزء الثاني
رأينا في الجزء الأول أن التوظيف السياسي للدين قائم بالمغرب منذ أمد بعيد، مرجعية وتعاقدا وشرعية، لكن كيف تمت مسرحة السلطة على هذا الأساس في المغرب وشرعنتها؟ وهل من إمكانية لعقلنتها اليوم؟ ذاك ما سنحاول الإجابة عنه في الجزء الثاني والأخير من هذا الملف.
مسرحة للسلطة وشرعنتها
مع أن التنظير في مجال مسرحة السلطة يبدو حديثا، إلا أن ذلك كان يمارس في المغرب منذ القديم بإتقان منقطع النظير من خلال مراسم وطقوس وآداب تعامل محبوكة بعناية. لقد كانت المراسم ضمن هذا الإطار آلية لاستعراض القوة، بحيث ينمي السلطان الخوف والشعور بالحماية وذلك بفرض حضوره المقدس وتمكين سلطته وإجلال الرعية وولائها له، ابتداء بالبيعة ونهاية بحفل الولاء الذي يقام كل سنة.
يشير الباحث المغربي محمد نبيل ملين في كتابه “السلطان الشريف:- الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب” إلى أن شارة السلطنة الشريفة الفريدة من نوعها، كانت المظلة التي تستخدم لحماية الملك من الشمس والمطر، إذ يبدو مقبضها مثل محور العالم وتعلوه قبة تمثل الكون، فيكون العاهل بذلك هو مركز وقطب السلطنة بل مركز الكون الذي يقف عليه ويدور حوله كل شيء”.
إمامة الصلاة بدورها كانت فيما مضى تحظى برمزية كبيرة. على هذا الأساس كان الخليفة باعتباره وريثا للنبي وقائدا للأمة، لا يفوت فرصة صلاة الجمعة وصلاة العيدين، حيث كان يتولى الخطبة التي تلقى في أول وآخر هذه الصلوات، وهو الطقس الذي سرعان ما اكتسب صبغة سياسية وصار إحدى أهم شارات الملوك في الإسلام.
الرهان لم يكن أساسا على الخطبة بقدر ما كان يتعلق بالسيطرة على المساجد لما لها من ثقل في صناعة المواقف ونشرها.
حسب ملين دائما، فإن إمامة الصلاة كانت تسمح للخليفة بممارسة صلاحياته وبإعطاء طابع ديني لوظيفته، غير أن السلطان الشريف أوكل هذه الوظيفة فيما بعد إلى كبير علماء حضرته. وقد كان السلطان يقوم على غرار أسلافه بشعائر دينية أخرى كذبح أضحية العيد بنفسه، وهي الطقوس التي لا زالت حاضرة في المغرب إلى يومنا هذا.
بالمقابل، يمكن القول إن الرهان لم يكن أساسا على الخطبة بقدر ما كان يتعلق بالسيطرة على المساجد لما لها من ثقل في صناعة المواقف ونشرها. بسط السلطان لسيطرته على هذه الأداة كان يضمن له نشر مواقفه ومعتقداته بين الناس. في عهد لم يكن فيه للإعلام وجود بشكله الحالي، كانت الخطبة فرصة لذكر السلطان القائم مع الاعتراف بفضله ولزوم طاعته. وكان الخطيب من أعلى منبره يدعو الله أن يبارك الحاكم وأن يهبه إلى سواء السبيل، كما كان يتضرع إلى الله كي يكون في عونه وأن يهبه النصر.
أي إمكانية لعقلنة السلطة بالمغرب؟
يرى الباحث عبد الإله بلقزيز في كتابه “الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي”، أن المجال السياسي هو مجال صراع مصالح دنيوية وتنظيم للاجتماع الإنساني على قواعد مدنية وعمومية، بالمقابل، يشكل الدين مجالا خاصا بالأفراد المؤمنين.
كل أزمة سياسية يمكن أن تلحق بالدولة، هي من فعل السياسة وليس للدين يد في ذلك.
ولما كان التوسع الاستعماري على البلاد الإسلامية، تشكلت أرضية خصبة لاستثمار الدين كقوة مادية ومعنوية في الصراع كمحفز ودافع إلى التحرر الوطني، غير أنه تحول فيما بعد إلى حلبة للصراع الإيديولوجي والمذهبي.
في نظر نفس الباحث، كل أزمة سياسية يمكن أن تلحق بالدولة، هي من فعل السياسة وليس للدين يد في ذلك. لذلك، يعتبر بلقزيز أن الخروج من هذا النفق المظلم الذي قد تدخله الدولة لن يتأتى إلا بقبول العَلمانية كقاعدة متينة للدولة ونظام الحكم، كي يتوقف الخلط غير المشروع بين الدين والسياسة.
من جهة أخرى، يشير الباحث عز الدين العلام إلى أن أغلب الذين كتبوا في الآداب السلطانية، يضفون على الخطط الدينية طابعا وظيفيا وتصورا دنيويا يجعل غايات نفعية تحكمها، لا تختلف عن الخطط السياسية، إذ كلاهما يساهم في تنظيم وتوجيه عمل الدولة. فإذا كانت الخطط السياسية تعمل لقوة الدولة ولا ترى في المجتمع إلا موضوعا لها، فإن الخطط الدينية تعمل بالأساس على تنظيم أمور الرعية “المدنية” ولا ترى في الدولة سوى شرطيا يضمن السير العادي لهذه الأمور.
من هنا، يمكن حسب هذا الفهم، وفق العلام، تصور الحاجة والاعتماد المتبادل بين الدين والدولة في المغرب؛ إذ يحتاج الملك إلى الدين ليعفيه من صعوبات التنظيم الاجتماعي، فيما يحتاج الدين إلى الملك لكي يحقق له حدا أدنى من الشروط اللازمة لتقام شعائره وعباداته.
المفكر المغربي عبد الله العروي كان له رأي في الموضوع أيضا، إذ دعا في حوار سابق له على قناة تلفزيونية إلى استثمار الوضعية الخاصة للملكية في المغرب، وذلك عن طريق الاعتراف بمؤسسة إمارة المؤمنين مع إخراج كل ما يعد دنيويا من يدي الملك.
فكرة تحرير الدين من السياسة، يقول العروي هي فكرة للدفاع عن الدين بالأساس وليس عن رجال الدين.
بالرجوع إلى عبد الإله بلقزيز، فإننا نجده يقر في كتاب آخر “أسئلة الفكر العربي المعاصر” بأن العلمانية ليست تقنية جاهزة بحيث تكون بضاعة قابلة للاستعارة والاستيراد، إنما هي محصلة تاريخ خاص بكل مجتمع من التطور السياسي والثقافي، وإعادة لتنظيم السياسيّ كمجال نسبي غير مقدس، وهي قبل كل شيء تحرر للسياسة من ميثولوجيا امتلاك الحقيقة المطلقة، بما فيها العَلمانية كعقيدة لمن يعتبرها كذلك، وهي بذلك مجرد علاقة بين الناس لإدارة أمور تقع في مجال نسبي.
لقراءة الجزء الأول: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات
رابط المصدر: