ما بعد الهزيمة الأميركية في أفغانستان: المسارات المستقبلية للمنطقة العربية

د. عمرو درّاج

 

تمهيد

قبل الحديث عن الدلالات والتداعيات والتحولات المترتبة على انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وخاصة في منطقتنا العربية، ينبغي في البداية محاولة فهم ما حدث على أرض الواقع وذلك بتقديم إجابة على هذا السؤال: هل ما حدث في أفغانستان يُعد انتصاراً كبيراً لحركة طالبان على الولايات المتحدة وحلفائها بكل ما يترتب على ذلك من أثار، أم أنه كان مجرد ترتيبات تم الاتفاق عليها بين أمريكا وطالبان بهدف تحقيق أهداف استراتيجية أخرى للولايات المتحدة، كما يرى البعض؟

تقدم هذه الدراسة إجابة واضحة على هذا السؤال، وتنتهي إلى أن ما حدث في أفغانستان هو نصر ساحق وكبير لحركة طالبان خاصة وللشعب الأفغاني عامة؛ وهزيمة ساحقة وخيبة أمل كبيرة لأمريكا وحلفائها الأفغان في المقام الأول، وللمنظومة الغربية بشكل عام. كما توضح الدراسة أن الأمر لا يتوقف على ذلك، ولكنه يتعداه ليكون محطة هامة على طريق الإسراع بتراجع المشروع الغربي الاستعماري الذي تقوده الولايات المتحدة، وبهذا فهو يشكل منعطفا هاما سوف تترتب عليه أثار وتداعيات كبيرة، ليست فقط مادية وسياسية، ولكن أيضا فكرية وفلسفية.

وللوصول إلى هذا الاستنتاج، اعتمدت الدراسة بشكل رئيس على متابعة الكتابات وردود الأفعال الغربية، وذلك تجنباً للوقوع فيما يُطلق عليه البعض ’التفسير الرغائبي للأحداث‘. وفي هذا الإطار، قام الكاتب بالاطلاع على مجموعة كبيرة من الدراسات والتقارير ومقالات الرأي التي نشرتها كبريات الصحف والمجلات الغربية مؤخرا، خاصة الأمريكية والبريطانية منها، والتي قام المعهد المصري للدراسات بترجمة ونشر عدد كبير منها على موقعه مؤخراً، وعكف عليها بالدراسة والتحليل، حيث ظهر بوضوح أنها بانسحابها من أفغانستان، خسرت الولايات المتحدة بالفعل أطول حرب في تاريخها، وأنها تدخل حاليا منعطفا جديدا تتناقص فيه بشكل كبير هيمنتها على كل ما يحدث في العالم.

وقد أشار الكثير من المعلقين الغربيين إلى أنه كما أدى انسحاب الجيش الأحمر من أفغانستان في فبراير 1989 إلى التعجيل بالانهيار الكامل للاتحاد السوفيتي وفقدان إمبراطوريته في غضون ثلاث سنوات فقط، فإن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان هو محطة شديدة الأهمية على طريق النهاية للإمبراطورية الأمريكية، ليس بالضرورة على النحو الذي حدث للاتحاد السوفييتي، إلا أنه يشكل علامة واضحة على أن قوة أمريكا قد وصلت إلى أقصى حدود ما يمكن أن تفعله أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض؛ وأن ذلك، كما يقول ألفريد مكّوي، يُعتبر بمثابة إشارة – للحلفاء والأعداء على حد سواء –  بأن الهيمنة الأمريكية قد بدأت في الانزواء، وأنه لم يعد بوسع واشنطن أن تستمر في إدارة العالم وفق رغباتها[1].

وفقاً لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون، تكبدت حروب أمريكا بعد 11 سبتمبر ما يزيد على 6.4 تريليون دولار، ومئات الآلاف من الأرواح من جميع الأطراف، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الإصابات. ولكن السؤال هو: ماذا كانت النتيجة؟ في العراق، كما يقول هارتونج كانت النتيجة نظاماً طائفياً قمعياً فاسداً[2] تسبب في استيلاء تنظيم الدولة (داعش) على أجزاء كبيرة من البلاد، حيث تبخرت القوات العراقية في مواجهة الهجوم الذي شنه التنظيم عام 2014، لنفس الأسباب تقريباً التي تكررت من جديد في حالة الجيش الأفغاني في مواجهة هجوم طالبان الأخير – من الفساد، ونقص الإمدادات، وتراجع الروح المعنوية. أما في أفغانستان، فقد كانت النتيجة عشرين عاماً من الحرب المدمرة تلاها مباشرة صعود طالبان إلى السلطة من جديد. وبهذا الصدد، تُعتبر كلتا الحالتين، احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان، بمثابة دروس موضوعية في حدود الاعتماد على القوة العسكرية كأداة للمشاركة الأمريكية العالمية، والعواقب الخطيرة المترتبة على مثل هذه التدخلات الخشنة.

من أهم ما يدل على تقدير النخبة الفكرية الغربية لأهمية وخطورة دلالة وتأثير ما حدث في أفغانستان مؤخرا هو السؤال الذي وجّهته المجلة البريطانية الرصينة “الإيكونوميست” لعدد من أهم الكتاب والمفكرين الغربيين من أمثال فرانسيس فوكوياما وهنري كيسنجر ونيال فيرجسون وبول كنيدي وآن ماري سلوتر وروبرت كابلان وأخرين: “ما هو مستقبل القوة الأمريكية؟”[3]. وقد جاء هذا السؤال، والمقالات التي كتبها هؤلاء المفكرون بعد أيام قليلة فقط من دخول طالبان إلى كابل، وقد قام الكاتب بدراسة وتحليل هذه المقالات، وغيرها من كتابات مراكز التفكير والمجلات والصحف الغربية الكبرى حول الموضوع، وقام المعهد المصري للدراسات بترجمة أهم هذه الكتابات، التي اعتمدت عليها هذه الدراسة في جزء كبير منها.

تستعرض هذه الدراسة بشكل رئيس دلالات الهزيمة الأمريكية في أفغانستان، بالأساس، على انحسار الهيمنة الأمريكية الإمبراطورية وتفرّدها بتقرير ما يحدث في عالم أحادي القطبية، وذلك بدءا بالنظرة المتعمقة للأداء الأمريكي خلال الأعوام العشرين الماضية على وجه التحديد، وصولا إلى الوضع الأمريكي الحالي. ومن ثمّ يحاول الكاتب استشراف بعض التحولات الدولية والإقليمية المترتبة على ذلك، وبصفة خاصة في المنطقة العربية، حيث تحاول الورقة استشراف سيناريوهات ما بعد التراجع الأمريكي في المنطقة، وهل سيناريو الفوضى سيكون هو الراجح بعد هذا التراجع.

إن  تحديد حجم الهزيمة التي مُنيت بها الولايات المتحدة في أفغانستان من الأهمية بمكان من أجل تحديد مدى عمق المألات اللاحقة والمترتبة عليها، ولإدراك خطأ استمرار نفس النظرة السائدة للولايات المتحدة عند الكثير من النخب بأنها تملك مفاتيح كل الملفات، وأنه لا يمكن تحقيق أي إنجاز أو الوصول إلى أي نتيجة إلا بدعم منها، أو بموافقتها على الأقل، خاصة في منطقتنا العربية .

وقبل المضي قُدماً في هذه الدراسة، تجدر الإشارة إلى أن الكاتب لن يتطرق في هذا السياق إلى تقييم حركة طالبان، أو الحكم عليها من حيث مدى تمثيلها للإسلام بشكل صحيح من عدمه، أو احتمالات نجاحها أو فشلها في المستقبل، أو تقييم أدائها على الساحات المختلفة؛ فهذا ليس موضوع الدراسة؛ باعتبار أن كل هذه الأمور لا تغير من قريب أو بعيد الاستنتاج الرئيس الذي توصلت إليه الدراسة، وأشرنا إليه في هذه المقدمة.

أولا: الدور الأمريكي في أفغانستان – عشرون عاما من الفشل

أثارت المشاهد المؤلمة في مطار كابول عقب دخول قوات طالبان إلى العاصمة الأفغانية الجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها حول حرب أفغانستان التي امتدت عشرين عاماً، كأطول حرب خاضتها القوات الأمريكية في تاريخها، وامتد الجدل ليشمل ما كان ينبغي وما لا ينبغي عمله حيال أفغانستان.

فيما يتعلق بما كان يجب القيام به، فمن الواضح أن هناك نوع من الاتفاق بين تيار كبير على أن إبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى لم يكن أمراً منطقياً، كما أشار الرئيس بايدن في خطابه بخصوص ذلك. ولكن الخلاف يبرز حول الطريقة المتعجلة والتي وصفها البعض بـ “الفوضوية” التي تم بها الانسحاب. ولكن الأكثر عمقاً من ذلك هو أن يتم تقييم حقيقة ما جرى في أفغانستان، ليس من خلال المشهد الختامي فقط ولكن على مدى عشرين عاماً من وجود أمريكا وهيمنتها على الأوضاع هناك، تقييماً موضوعياً.

من نهاية التاريخ إلى نهاية الهيمنة الأمريكية

في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، نشر فرانسيس فوكوياما، كبير الباحثين في مؤسسة راند والزميل في معهد الدراسات الدولية المتقدمة التابع لكلية السياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز، والعالم السياسي ذائع الصيت، عام 1989 مقالا بعنوان “نهاية التاريخ؟“؛ وفي عام 1992، ألف أيضاً كتاباً بعنوان “نهاية التاريخ والرجل الأخير4؛ ومما قاله فوكوياما في مقاله الشهير “إن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولّى وانتهى إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية”. وخلُص فوكوياما في كتابه إلى أن التاريخ يوشك أن يصل إلى نهايته بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشيوعي واندثار حلف وارسو. وبشّر بميلاد عصر جديد يحصل فيه توافق عالمي واسع حول المثل الديمقراطية. وكان فوكوياما أيضا داعما لمطالب المحافظين الجدد، حيث كان أحد موقّعي رسالة موجهة للرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، تطالبه بغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين (كنظام شمولي يجب إسقاطه في إطار نظرية نهاية التاريخ!).

ولكن منذ عام 2004 وما تلاه، انقلب فوكوياما على مواقفه السابقة، وأصبح من منتقدي الغزو الأميركي للعراق، ووجّه انتقادات لاذعة للمحافظين الجدد وأعلن تنصّله التام منهم. وها هو فرانسيس فوكوياما الآن يعلق على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ويبشر بنهاية الهيمنة الأمريكية، في مقال له بعنوان “نهاية الهيمنة الأمريكية” نشره في مجلة الإيكونوميست5 البريطانية. ويرى فوكوياما أن الصور المروعة للأفغان اليائسين الذين كانوا يحاولون الخروج من كابول بعد انهيار الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة كانت بمثابة منعطف رئيسي في تاريخ العالم، “حيث ابتعدت أمريكا عن العالم” وأدارت ظهرها له، إلا أنه يعتبر أن التحدي الذي يواجه المكانة العالمية للولايات المتحدة بشكل أكبر في الوقت الراهن هو الاستقطاب السياسي في داخل أمريكا نفسها، وبناء على ذلك، فإن فوكوياما يرى أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى لسنوات عديدة قادمة، إلا أن مدى تأثيرها ونفوذها يعتمد على قدرتها على إصلاح مشاكلها الداخلية، فضلاً عن سياستها الخارجية.

فائض القوة

إن شعور الولايات المتحدة بالزهو واغترارها بقوتها بعد أن أصبحت القطب الأوحد في العالم عقب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، دفع أمريكا إلى التدخل الخشن لحل النزاعات، بدلاً من التفاوض والحوار. يقول  ديفيد هارلاند، المدير التنفيذي لمركز الحوار الإنساني (HD)6، إنه “على مدى السنوات العشرين الماضية، قادت الولايات المتحدة أو دعمت التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن. وقد أدى ذلك إلى خسائر فادحة في الأرواح في جميع تلك الدول، وكبّد الولايات المتحدة أيضاً خسائر فادحة في الأرواح والأموال – وبالطبع ينطبق ذلك على القوة والمكانة الأمريكية”. ومن أبرز الأسباب التي يرى هارلاند أنها تقف وراء تدخلات أمريكا الخارجية الفاشلة هو “الاغترار بالقوة وتصور أنه يمكن استخدام قوة الولايات المتحدة التي لا تُبارى لتخليص العالم من “المشاكل الجهنمية” التي تواجهه…”.

يرى هارلاند أن هذه العقلية قوَّضت جميع الحلول التفاوضية التي كان يمكن أن تسفر عن نتائج أفضل من تلك التدخلات التي قامت بها الولايات المتحدة. ويضرب على ذلك أمثلة أبرزها أن الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأمم المتحدة، كان قد عرض على الولايات المتحدة دعوة حركة طالبان وحلفائهم إلى  اجتماع موسع للتفاوض في عام 2002، عندما كان قادة طالبان أكثر استعداداً للتحدث وتقديم التنازلات. لكن الولايات المتحدة رفضت ذلك تماماً. وفي حرب البلقان، شجّعت الولايات المتحدة المسلمين، بحسب هارلاند، على التراجع عن الصفقة التي أبرموها مع الكروات والصرب في لشبونة، مما فتح الأبواب لاندلاع حرب مدمرة أدت إلى نتائج كارثية هناك. ويضيف هارلاند أنه في العراق، منعت الولايات المتحدة كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، من إجراء مزيد من المفاوضات بشأن أسلحة الدمار الشامل، غير الموجودة أصلاً؛ وفي ليبيا، عارضت الولايات المتحدة بشدة أي جهد أفريقي لإيجاد مخرج منظَّم للعقيد معمر القذافي.

وهارلاند عندما يتحدث بلسان الغرب عن التفاوض، فإنه يعني أن يكون ذلك من منطق القوة، دون امتلاك الطرف الآخر أي أوراق قوة تُذكر؛ وفي هذه الحالة، لا يتفاوض القوي مع الضعيف، بل يُجبره على تقديم التنازلات فقط، لكن عندما يأتي التفاوض بعد إحداث نوع من التوازن في القوة، كما حدث في حالة طالبان مؤخراً، نستطيع عندئذ أن نتحدث عن عملية تفاوضية متكافئة.

إن الثقافة الأمريكية في الاستخدام المفرط للقوة العسكرية يمكن التعبير عنها بمثل أمريكي شهير يقول: إذا كانت معك مطرقة، فكل شيء يبدو لك كمسمار (When you have a hammer, everything looks to you as a nail). وهذا بالضبط ما فعله المحافظون الجدد بغزو أفغانستان والعراق، انتهازا للفرصة التي أتاحها لهم ما أسموه “الحرب على الإرهاب”. وكانت أبرز رموزهم ديك تشيني، نائب الرئيس جورج دبليو بوش في الفترة من 2001 إلى 2009؛ ودونالد رامسفيلد، وزير الدفاع في الفترة من 1975 إلى 1977 في عهد الرئيس جيرالد فورد، ثم وزير الدفاع في عهد الرئيس جورج دبليو بوش في الفترة من 2001 إلى 2006؛ وبول ولفويتز، الذي يعتبر المهندس الأول لحرب العراق عام 2003 وكان مساعدا لوزير الدفاع في عهد بوش الابن، وآخرون. وكانت أفكارهم تدور حول الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد/ الكبير، وغيرها، هي الأساس لذلك.

يقول الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك، والذي تولى منصب القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي في أوروبا بين العامين 1997 و2000، في إحدى مقابلاته التلفزيونية وكذلك في محاضرات عامة أخرى، تحدث فيها عما قام به تيار المحافظين الجدد، أن هؤلاء أرادوا بالحروب التي شنّوها تقويض استقرار الشرق الأوسط عن عمد ثم السيطرة عليه، وذلك دون أي تفويض أو حوار وطني أو مناقشات داخل أروقة الكونجرس حول هذا الأمر، ووفقا لمذكرة من مكتب وزير الدفاع كشفها له أحد جنرالات هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الذين كانوا يعملون تحت إمرته، وذلك بعد بضعة أيام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قال “إننا سنهاجم وندمر الحكومات في سبع دول خلال 5 سنوات بدءا بالعراق ثم سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران!” وهو ما دعاه للقول بأن الولايات المتحدة قد تم السيطرة عليها بواسطة هذه المجموعة من مشروع القرن الأمريكي الجديد، وهو ما أطلق عليه “انقلاب في السياسات”.

يقول هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، في مقال كتبه مؤخراً في مجلة الإيكونوميست7 البريطانية حول أسباب الفشل الأمريكي في أفغانستان: “لقد مزقت أمريكا نفسها في جهود مكافحة التمرد بسبب عدم قدرتها على تعريف أهداف قابلة للتحقيق (و هذا فشل استراتيجي كما ذكر)، مع ربط هذه الأسباب بشكل قابل للاستدامة مع العملية السياسية الأمريكية” (و هذا فشل سياسي كما ذكر أيضا). ويقول “أن فشل هذا الربط ورط أمريكا في صراعات غير محددة نقاط النهايات”. وذكر كيسنجر أيضا أن بعض النجاح الأمريكي في طرد طالبان خارج أفغانستان تم مبكرا، لكن فقدت أمريكا التركيز الاستراتيجي وانتشر التصور أن الطريقة الأساسية لضمان عدم عودة “الإرهابيين” لأفغانستان تكون بتأسيس دولة “ديمقراطية حديثة” تحكمها مؤسسات دستورية. وشرح كيف أن هذا يعتبر هدفا وهميا غير قابل للتحقق هناك نظرا لأسباب كثيرة شرحها حول طبيعة أفغانستان.

يقول كيسنجر إنه بينما يُفترض في إقامة الدولة أن يكون هناك نوع من الالتزام المشترك ومركزية السلطة، إلا أن التربة الأفغانية، الغنية بالعديد من المكونات، تفتقر إلى هذه العناصر. ويضيف “إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامر الحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمناً أن يكون هناك إطار زمني يمتد لسنوات عديدة، بل عقوداً؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينية لأفغانستان.”

أما بخصوص مكافحة “الإرهاب” والحد منه والقضاء عليه، فيرى كيسنجر أن ذلك يكون من خلال تبني دبلوماسية خلّاقة مناسبة، وليس بمجرد استخدام القوة المسلحة والاستمرار في ذلك (يتناسى كيسنجر أنه كان من أهم داعمي توجيه ضربة عسكرية للعراق أيضا في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، وأنه قال وقتها “إن أفغانستان لا تكفي؛ ففي صراعنا مع الإسلام المتطرف، هم أرادوا أن يهينوننا، فيجب علينا أن نهينهم!”).

الأداء الأمريكي في أفغانستان

تحدّث كثير من المفكرين والسياسيين الغربيين عن فشل أمريكا، رغم كل ما أوتيت من قوة، في فهم طبيعة أفغانستان والتعامل معها على هذا الأساس. فعلى سبيل المثال، قال الجنرال المتقاعد دوجلاس لوت في مقابلة نشرت عام 2019، تبعها لاحقا مجموعة ضخمة من الوثائق حول الفشل في حرب أفغانستان فيما عرف بـ “أوراق أفغانستان” للكاتب والصحفي الاستقصائي بصحيفة واشنطن بوست كريج ويتلوك8 (صدرت أيضا مؤخرا في كتاب، وكشف فيها الإفادات الصحفية العسكرية المضلِّلة، والادعاءات الرسمية الخاطئة عن تقدم العمليات العسكرية بهدف تضليل الشعب الأمريكي والاستمرار في الحرب): “لم يكن لدينا أي فهم أساسي عن أفغانستان، لم نكن نعلم ما كنا نفعل!”. وهذا بالضرورة يفسر حالة الصدمة وعدم الاستعداد التي كانت عليها إدارة بايدن عند انهيار حكومة أفغانستان السابقة وجيشها حتى سقوط كابل. وكما يقول ويتلوك فإنه “على مدار عشرين عاما في حرب شارك فيها نحو 800 ألف مقاتل، فإن المرء يكاد لا يعرف أحدا في واشنطن يتحدث بأي من اللغات الأفغانية أو لديه أي علم بتاريخ أفغانستان ونسيجها الاجتماعي”!

يقول ويتلوك إنه “في البداية، كانت أهداف حرب أفغانستان واضحة ومباشرة: هزيمة تنظيم القاعدة، ومنع تكرار هجمات الحادي عشر من سبتمبر”. لكن بعد فترة قصيرة من نجاح الولايات المتحدة وحلفائها في تحقيق هذا الهدف، وطرد طالبان من العاصمة كابول، “انحرفت المهمة عن مسارها. وفقد المسؤولون الأميركيون أهدافهم الأصلية” (سنعود لقضية الأهداف لاحقا).

من الواضح لديّ الآن، بعد الرجوع للكثير من المصادر الغربية، أن من خاضوا الحرب في أفغانستان لم يكن لديهم علم عن: طبيعة الشعب الأفغاني واستحالة تغييره فوقياً، طبيعة تمسك الشعب الأفغاني بدينه وتقاليده، وطبيعة الدولة في أفغانستان والخطأ في محاولة التعامل معها كدولة قومية مركزية Nation State يمكن تسييرها عن طريق التوافق مع الحكومة المركزية، وإغفال العامل القبلي في إدارة الأمور، والطبيعة الريفية الغالبة على الشعب الأفغاني، في مقابل الأقلية التي تعيش في المدن، وتاريخ أفغانستان كمقبرة الإمبراطوريات، كما قال بايدن مؤخراً.

لقد كان هناك فشل جليّ في فهم طبيعة العدو (طالبان)، رغم أن بعض الدراسات الغربية نفسها تعرضت لهذا الأمر بشكل واضح. على سبيل المثال، نشر الباحث المتخصص في الشأن الأفغاني جيل دورونسورو منذ أكثر من عشر سنوات في دراسة مهمة في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي بعنوان “الاستراتيجية الرابحة لحركة طالبان في أفغانستان”9 قال فيها:

“إن سوء فهم التمرد في أفغانستان يشكل محور الصعوبات التي تواجه التحالف الدولي هناك، فغالبا ما كانت توصف حركة طالبان بأنها حركة جامعة لعدة فصائل ضعيفة الترابط فيما بينها، والتي هي بالأساس جماعات محلية غير منظمة. وخلاف ذلك، فإن تحليل هذا التقرير لهيكلية واستراتيجية المتمردين يكشف عن خصم مرن منهمك في التخطيط الاستراتيجي والعمل المنسق. إن حركة طالبان هي حركة تحرير ثورية معارضة بشدة للنظام العشائري الأفغاني ومرتكزة على إعادة بناء الإمارة الإسلامية. إن حملاتهم الدعائية واستخباراتهم فعالة، وكذلك فإن اللامركزية التي يتمتع بها قادتهم العسكريون في ساحة المعركة تمنحهم المرونة والتماسك. ولقد استغلوا بشكل ذكي التوترات العرقية ورفض الشعب الأفغاني للقوات الأجنبية، وكذلك عدم وجود الإدارة المحلية، في كسب دعم لهم بين السكان. لقد حققت حركة طالبان بفعل ذلك أهدافها في جنوب البلاد وشرقها بعزل التحالف الدولي، وتهميش الإدارة الأفغانية المحلية، وإقامة شبه حكومة قائمة على نشر عدالة الشريعة الإسلامية وجمع الضرائب بشكل أساسي”. كل هذا كتب منذ أكثر من 10 سنوات!

وكان من أوائل من استشرفوا مؤخرا سرعة سقوط كابول بأيدي طالبان، الصحفي الأمريكي المخضرم  كريس هيدجز، وذلك في مقال مهم له بعنوان “آلة الانتحار الجماعية وسقوط كابول10. بل إنه أكد أيضاً أن سقوط كابول وعودة طالبان للسلطة سيكون أحد العلامات على قرب نهاية الإمبراطورية الأمريكية.

يقول هيدجز: “لن يتم حساب أحد. فالكارثة التي تحدث في أفغانستان، والتي ستنتهي بشكل دراماتيكي إلى فوضى خلال الأسابيع القليلة المقبلة وتضمن عودة طالبان إلى السلطة، هي علامة أخرى على نهاية الإمبراطورية الأمريكية. فقد مر عقدان من الزمن على القتال هناك، وأنفقنا على تلك الحرب تريليون دولار (الحقيقة المنفق أكثر من ضعف هذا المبلغ)، وتم نشر 100 ألف جندي لإخضاع أفغانستان، بالإضافة إلى الأدوات عالية التقنية، والذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية، وطائرات ريبر المسيّرة المدججة بصواريخ هيلفاير، وقنابل جي بي يو-30، وطائرات جلوبال هوك المزودة بكاميرات عالية الدقة، وقيادة العمليات الخاصة المكونة من نخبة النخبة مثل نخبة الـ “رينجرز” وكوماندوز البحرية الـ “سيلز” والكوماندوز الجوية والمواقع السوداء والتعذيب والمراقبة الإلكترونية والأقمار الصناعية والطائرات الهجومية وجيوش المرتزقة، وضخ ملايين الدولارات لشراء ورشوة النخب المحلية بأفغانستان وتدريب جيش أفغاني قوامه 350 ألف جندي لم يُظهر أبداً إرادة للقتال، وفشل في هزيمة حركة مسلحة غير نظامية قوامها 60.000 فرداً، والتي قامت بتمويل نفسها من خلال إنتاج الأفيون والابتزاز في واحدة من أفقر الدول على وجه الأرض.”

وفي مقال نشرته مجلة الإيكونوميست مؤخراً، قالت المجلة البريطانية إنه على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت في أفغانستان 2 تريليون دولار. وفقدت أكثر من 2,000 جندي أمريكي، وعدد لا يُحصى من الأفغان، إلا أنه بعد الانسحاب عادت أفغانستان إلى المربع الأول، حتى لو كان الأفغان الآن أكثر ازدهاراً مما كان عليه حالهم عندما غزت فيه الولايات المتحدة بلادهم. فالآن تسيطر طالبان على البلاد بشكل أقوى مما كانت عليه عندما فقدت السلطة؛ وهم الآن أفضل تسليحاً، بعد أن استولوا على الأسلحة التي كانت أمريكا تُمطرها على الجيش الأفغاني، وقد حصلوا الآن على تأكيد نهائي بأنهم قد هزموا قوة عظمى11.

وترى المجلة أنه “ليس من المستغرب أن تفشل أمريكا في تحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية. حيث إن بناء الأمة أمر صعب، ولم يتخيل الكثيرون أن أفغانستان يمكن أن تصبح مثل سويسرا.” وترى أنه  من المنطقي أن يرغب جو بايدن في إنهاء هذا الصراع، حيث أمضت أمريكا عشرين عاماً في مكان أهميته الإستراتيجية متواضعة بالنسبة لأمريكا (أختلف مع هذا التقدير)… وأنه قد تم تحقيق السبب الأصلي لهذا الغزو – وهو تفكيك مركز العمليات الرئيسي لتنظيم القاعدة – إلى حد كبير، على الرغم من أن هذا الإنجاز يمكن أن ينقلب إلى العكس تماماً الآن.” وترى أنه مهما كانت الحجج التي يمكن أن تساق بهذا الشأن فإن ذلك لا يعفي أمريكا من مسؤولية الانسحاب بطريقة منظمة. وترى أن بايدن قد فشل في إظهار ولو قدر ضئيل من الرعاية لصالح الأفغان العاديين، حيث لم يكن من المفترض أن تهزم القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو الأخرى حركة طالبان، “لكنهم كان بإمكانهم أن يمنعوا انهيار الجيش الأفغاني، إلى حد كبير من خلال القوة الجوية، وبالتالي يجبرون طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات”.

وفي تعليق له على الفشل الأمريكي في أفغانستان، قال فيودور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي ورئيس تحرير مجلة “روسيا في الشؤون العالمية”، إن روسيا صُدمت لسرعة تفكك الحكومة التي نصّبتها الولايات المتحدة في كابول. وأضاف أن الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي دام عقداً من الزمن، وانتهى في عام 1989، يُذكر على نطاق واسع على أنه فشل، ولا يجعل روسيا مستعدة لإعادة الانخراط بشكل وثيق مع أفغانستان، لكنه أشار إلى أن الحكومة التي تركها السوفييت وراءهم استمرت على الأقل لمدة ثلاث سنوات بعد انسحاب قوات الجيش الأحمر. وقال “نحن نعتقد بأن فشلنا كان كبيراً، لكن يبدو أن فشل الأمريكيين كان أكبر”.12

قرأت مؤخرا ملخصا لكتاب عن ريتشارد هولبروك السياسي الأمريكي المخضرم الذي توفي عام 2010 بعنوان “رجلنا – ريتشارد هولبروك ونهاية القرن الأمريكي“. ونُشر الملخص أيضاً في مقال لمؤلف الكتاب جورج باكَر منذ نحو سنتين في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية تحت عنوان دالّ، “أطول الحروب – ريتشارد هولبروك وانحسار القوة الأمريكية”13، وفي نهاية المقال، يذكر باكَر بعض ما نقله هولبروك عن اجتماعات كانت تُعقد في غرفة تقدير الموقف في البيت الأبيض في عام 2009 (حيث كان وقتها مساعدا لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية)، وكيف كانت المناقشات تناقش الخيارات الأمريكية في أفغانستان بشكل عشوائي، من أناس لا يفهمون بدقة طبيعة ما يتحدثون عنه ويناقشونه، رغم أنهم المسؤولون عن اتخاذ القرارات الاستراتيجية (باراك أوباما، هيلاري كلينتون،…). بمعنى أخر، فإن خبراء التاريخ والجغرافيا وطبائع الشعوب لا يحضرون الاجتماعات التي تتخذ فيها القرارات المصيرية، كما أنه برغم توافر المعلومات الاستخبارية الدقيقة، فإن القادة السياسيين والعسكريين لا يلقون بالا لما لا يريدون أن يسمعوه من الكلام.

الباب الدوّار

بالطبع لم يتسبب هذا الأسلوب العشوائي في الفشل في أفغانستان فقط، ولكن في بداية اتضاح انحسار القوة الأمريكية، كما سيأتي لاحقا، فما يتكشف من معلومات ينم عن نهج متعمد للتصعيد العسكري واستمرار الحرب لفترات طويلة، فقط لتحقيق مصالح الشركات الكبرى لتصنيع السلاح في الولايات المتحدة، وبما يضر بالأهداف الاستراتيجية الأمريكية نفسها. وهناك عدد من الدراسات كشفت هذا الأمر وتحدثت عن قدر كبير من “الفساد القانوني والسياسي” من خلال ما اصطلح على تسميته بـ “سياسة الباب الدوار”.

هذه السياسة تتمثل في السماح لمسئولين سابقين في الإدارة أو الجيش الأمريكي في العمل لدى كبرى شركات السلاح الأمريكية، ثم يعودون مرة أخرى بعد سنوات في مناصب كبرى في الإدارة الأمريكية، وهذا يخلق شبكات معقدة من المصالح الهائلة سواء للشركات أو هؤلاء الأشخاص أو السماسرة، ممن يستخدمون جماعات ضغط هامة في واشنطن للدفع باستمرار الحروب والإنفاق العسكري الهائل.

و تعمل صناعة الدفاع في أمريكا بشكل أساسي كذراع تم خصخصته لصالح وزارة الدفاع، حيث يعتمد العديد من مقاولي الدفاع بشكل كبير على ميزانية الدفاع السنوية التي تدور الآن حول 800 مليار دولار سنويا.  فبحسب موقع “ذا بالانس” الأمريكي يُقدر الإنفاق العسكري الأمريكي بـ 934 مليار دولار من 1 أكتوبر 2020 حتى 30 سبتمبر 2021. ويُعتبر الإنفاق العسكري هو ثاني أكبر بند في الميزانية الفيدرالية بعد الضمان الاجتماعي. ويشمل هذا الرقم أكثر من 705 مليار دولار حددتها وزارة الدفاع وحدها، حيث لدى الولايات المتحدة العديد من الإدارات التي تدعم منظومة الدفاع14.

و تشير المعلومات أن أكبر مبالغ الاعتمادات المخصصة للحرب في أفغانستان ذهبت لشركات خاصة مثل: لوكهيد مارتن، وبوينغ، وجنرال دايناميكس، ورايثيون، ونورثروب جرامان، ويونايتد تكنولوجيز (بما يزيد عن 2.02  تريليون دولار على مدار 20 عاما للشركات الخمس الكبرى في الصناعات الدفاعية الأمريكية فقط).  تمول هذه المجموعات بدورها شبكات من مراكز الفكر والأبحاث مثل مركز الأمن الأمريكي الجديد، ومؤسسة أمريكا الجديدة، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومجلس العلاقات الخارجية، وبروكينجز، والتراث، ومراكز أخرى15. وهذا يعتبر وجه أخر لسياسة الباب الدوار، بمعنى أن معظم الأموال لا تخرج من الولايات المتحدة بل تبقى فيها ولم تذهب لأفغانستان، ليس للفوز بهذه الحرب، لكن باستمرارها إلى ما لا نهاية لتستمر أرباح هذه الشركات في التراكم على حساب أموال الضرائب الأمريكية.

ولذلك، فما يُعرف أمريكياً بـ “المجمع الصناعي العسكري”، وهو مجموعة من مصنعي الأسلحة ومقاولي الدفاع والمتعاقدين العسكريين الخاصين ومراكز الأبحاث ومجموعات المناصرة وجماعات الضغط التي لها مصلحة راسخة في السياسة الخارجية الأمريكية والمؤسسة العسكرية الأمريكية، لهذا المجمع مصلحة راسخة في الحفاظ على الإنفاق الدفاعي الأمريكي في المستوى الأعلى في العالم. كما يؤثّر مقاولو الدفاع ومراكز الفكر التي يدعمونها بشدة على اتجاه السياسة الخارجية الأمريكية من خلال الضغط من أجل التدخلات المتشددة والعسكرية على البدائل الدبلوماسية، وتدعو المؤسسات الفكرية التي تمولها صناعة الدفاع بشكل روتيني إلى التوسع العسكري وتخلق مبررات فكرية للتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، بل وتدمير البلدان التي تقصفها تماما ثم تخصص اعتمادات أخرى (على الحساب الأمريكي أو من خلال دول أخرى) لما يسمى بإعادة الإعمار بما يشكل بابا أخر للفساد ونهب الأموال.

ورغم التأثير الكارثي لذلك على استقلالية قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى حساب استخدام الوسائل الدبلوماسية وأدوات القوة الناعمة في حل النزاعات والخلافات، فإن الأغلبية في كلا الحزبين تستمر في رفع الميزانيات العسكرية، مع الغياب التام للمساءلة. وعلى سبيل المثال نجد الآن أن الجنرال الأمريكي الأسبق لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي الحالي، كان عضو مجلس إدارة شركة ريثيون حتى ترشيحه لشغل الحقيبة الوزارية، أيضا تلقى أكثر من عشرة من خريجي مركز الأمن الأمريكي الجديد بالفعل وظائف عليا كقيادات تنفيذية في إدارة بايدن، فضلاً عن أن ما لا يقل عن ثلث الفريق الانتقالي للوكالة الدفاعية المكلف من بايدن، والذي يدقق في السير الذاتية للتعيينات رفيعة المستوى، هم من المنظمات التي تمولها صناعة الأسلحة.

إن إدراك آليات سياسة الباب الدوار تجعلنا نفهم كيف تم إنفاق أكثر من 2.26  تريليون دولار على الحرب في أفغانستان، بمعدل 300 مليون دولار يوميا على مدار عشرين عاما! ومثل ذلك تجده في الحرب على العراق وغيره، فهل يمكن أن يتخذ بلد ما قرارات بالحرب واستمرارها وإحداث كل هذا الدمار بتحكم شبكات الفاسدين وأصحاب المصالح تلك ويستحق أن يكون في موقع ريادة العالم؟

و مع الأسف، فالموضوع ليس فقط إهدار نفقات عسكرية لا داعي لها من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين بدون طائل. إن مشاهد الفرار و”الباحثين عن الحرية” من الأفغان لا يجب أن تنسينا عشرين عاماً من الدمار والقتل الذي خلفه العدوان الأمريكي على أفغانستان. وبالتالي فهناك قدر كبير من الوحشية والكراهية والإذلال الذي ترك مرارات كثيرة تختلف عن الصورة الذهنية التي تروجها أمريكا عن السعي نحو حقوق الطفل والمرأة وبناء الدولة الحديثة…إلخ

و في مقال كتبه ديفيد هارلاند المدير التنفيذي لـ مركز الحوار الإنساني16، والذي أشرنا إليه سابقا، أكد هارلاند أنه على مدى السنوات العشرين الماضية، قادت الولايات المتحدة أو دعمت التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن. وقد أدى ذلك إلى خسائر فادحة في الأرواح في جميع تلك الدول، وكبّد الولايات المتحدة أيضاً خسائر فادحة في الأرواح والأموال –مما يؤثر بالطبع على المكانة الأمريكية. ويرى هارلاند أن هناك ثلاثة أسباب فلسفية رئيسية لاستمرار الولايات المتحدة في القيام بتلك التدخلات، رغم وضوح النتائج الكارثية لذلك أمام الجميع، وهي:

  • أن النظر لأمريكا، كمدينة فوق تلة عالية، وأن عليها أن تنقذ العالم، هي رؤية متعمقة للغاية في العقلية الأمريكية، رغم تحذيرات بعض قياداتهم من مغبة مواجهة ما لا يدركون عواقبه في الخارج، بحجة نشر الديمقراطية، كما قال جون كوينسي آدامز، الرئيس السادس للولايات المتحدة (١٨٢٥-١٨٢٩): “على الأمريكيين ألا يتوجهوا إلى الخارج ليذبحوا تنانين لا يفهمونها باسم نشر الديمقراطية”.
  • تقديم السياسة الخارجية للولايات المتحدة دائماً على أنها تتعلق بخيارات ثنائية: الخير والشر، الصواب والخطأ، معنا أو ضدنا. ’الحل جيد‘ و’التسوية سيئة‘.
  • الاغترار بالقوة وتصور أنه يمكن استخدام قوة الولايات المتحدة التي لا تُبارى لتخليص العالم من “المشاكل الجهنمية” التي تواجهه، مقارنة بالاستكانة والعجز عند الأوروبيين.

وكما يقول مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني السابق (2002-2004) ونائب رئيس الوزراء في الفترة (2004-2005)، في مقال له نشرته مجلة الإيكونوميست17، فإنه “كما حدث في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى، دأبت أمريكا على أن تتدخل وتفشل ثم ترحل على عجل – وتخلف وراءها الفوضى التي على الآخرين إما القيام بإصلاحها أو التعايش معها”.

كل ما سبق يُظهر كيف دخلت الدولة العظمى الأولى في العالم الحرب في أفغانستان (و في غيرها)، وكيف أدارتها على مدار عشرين عاما بشكل يحمل كل معاني الفشل، فضلا عن الفساد الدافع لاستمرار الحرب دون أهداف واضحة، اللهم إلا التدمير والخراب والضحايا لاستخدام القوة الغاشمة.

دلائل على الهزيمة الأمريكية الكبرى في أفغانستان وانعكاساتها على منظومة الهيمنة الغربية الاستعمارية

من المعروف أن هناك اتفاقية سلام تم توقيعها والاتفاق على بنودها عام 2020 بين الإدارة الأمريكية السابقة وحركة طالبان الأفغانية تضم جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الأمريكية وحلفائها من أفغانستان بحلول مايو 2021، تتشكل بعده حكومة مشتركة بين الحكومة السابقة وحركة طالبان. ولكن ما يعترف به الجانب الأمريكي نفسه وكثير من المحللين أن انهيار الجيش الأفغاني والقوات الأمنية التي أشرفت الولايات المتحدة على تدريبها وتسليحها على مدى قرابة العشرين عاماً، ومن ثم سقوط كابول في أيدي مقاتلي طالبان بشكل كامل، لم يكن مخططا له، وكان بمثابة صدمة للقوى الغربية ودليل فشل لأجهزة مخابراتها، وهو ما يُعدُّ بالضرورة انتصاراً كبيراً لحركة طالبان.

إن التصور بأن ما حدث في أفغانستان هو خطة أمريكية واتفاق مع طالبان بشكل أو بأخر، وأنه من المستحيل أن تكون التطورات الأخيرة قد حدثت رغما عن الإرادة الأمريكية، هذا التصور هو -للأسف- نتيجة طبيعية للعقليات المنهزمة أمام التطور المادي للحضارة الغربية، خاصة للآلة العسكرية والإمكانيات التقنية. إن هذه النفسية المنهزمة هي نتيجة لتجارب طويلة ومتعددة من الفشل وعدم القدرة على تحقيق إنجاز يُذكر، وهي بذلك لا تتصور إمكانية الانتصار على القوة العسكرية الأمريكية الجبارة.

ومما يؤسف له أن هذا الرأي يتبناه الكثيرون من الانهزاميين في العالم العربي والإسلامي، بما فيهم بعض الإسلاميين، فأمريكا -في نظرهم- أكبر من أن تُهزم، فهي بجيشها وخبرائها ومراكز الأبحاث ودوائر المخابرات، وهلم جرا من قائمة طويلة من أدوات القوة، لا يمكن أن يحدث شيء في العالم خارج إرادتها، أو خلاف ما خططت ودبرت ورسمت له، خاصة إذا كان في سياقٍ هي منخرطة فيه بشكل كامل.

وعلى العكس من ذلك، كانت كلمات الملّا محمد عمر، زعيم طالبان الراحل، منذ سنوات، والتي قالها ردا على تهديد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بالإطاحة بطالبان من حكم أفغانستان والقضاء عليهم إلى الأبد، حيث قال: “لقد وعدنا اللهُ بالنصرِ، ووعدنا بوشُ بالهزيمةِ، وسنرى أيَ الوعدين أصدقُ”18.

وعلّق فايز الكندري أحد معتقلي جوانتانامو السابقين على صورة للوفد المفاوض للأمريكان في الدوحة مشيرا إلى أحد أعضاء الوفد قائلا: (إنه المعتقل السابق في غوانتنامو الملا محمد نبي عمري، لا زلت أذكر حين قال لي ونحن في المعسكر السادس وهو يشير إلى الشمس: “يقيني بالفرج والنصر أعظم من يقيني أن هذه الشمس طالعة، إنها مسألة وقت، والعاقبة للمتقين”). وكان الملا محمد عمري قد احتُجز لما يقرب من اثني عشر عاماً في سجن خليج غوانتانامو سيئ السمعة، قبل أن يُفرج عنه ويصبح بعد ذلك أحد أعضاء وفد طالبان الذي التقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أثناء محادثات السلام الأفغانية19.

و مما يدل على حجم وطبيعة الهزيمة الأمريكية والغربية في أفغانستان، ردود الأفعال الضخمة في الغرب من عدد من القادة السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين لدول التحالف، والذين هالهم ما حدث. لقد قاموا بوضوح شديد وبلا مواربة بالاعتراف بالهزيمة في أفغانستان، وبعجزهم عن تحقيق أهدافهم، وأن الخطر لا يزال قائما في أفغانستان، وأن انسحابهم جاء نتيجة فشلهم في تحقيق أهدافهم على مدار عشرين عاما، واقتناعهم بعجزهم عن تحقيقها مهما طال بهم الزمن.

وأبرز ما قيل في هذا الصدد ما صرح به الرئيس الأمريكي بايدن نفسه في اليوم التالي لسيطرة طالبان على كابل في معرض تعليقه على قراره بالانسحاب العشوائي من أفغانستان: “إن الأحداث التي نراها الآن هي دليل محزن على أنه لا يمكن لأي قوة عسكرية أن تجعل أفغانستان مستقرة وموحدة وآمنة – وهي المعروفة على مرّ التاريخ بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”20، بعد أن كان يؤكد قبلها بشهر واحد أن طالبان لا يمكنها هزيمة الجيش الأفغاني.

و قد وصل الأمر بوزير الدفاع البريطاني بن والاس أن ينهار بالبكاء على الهواء، معترفاً بأن المملكة المتحدة قد لا تكون قادرة على إخراج جميع المواطنين البريطانيين المتبقين وحلفائهم المحليين من أفغانستان، ومتحسرا على قتلى وجرحى بلاده وما أنفقوه من مليارات في حربهم على أفغانستان، ثم هم اليوم يخرجون بدون تحقيق غايتهم21.

إن مقدار الهلع الذي تابعناه في تصريحات كبار المسئولين الغربيين وصناع القرار مثل ماكرون وميركل وغيرهما، فضلا عن ما امتلأ به الإعلام الغربي من كتابات المعلقين السياسيين، يكشف عن إدراكهم لحقيقة ما حدث، وأنه ليس انسحاباً في أعقاب احتلال تم بشكل معتاد بعد استنفاد أغراضه، ولكنه هزيمة يتعدى أثرها المنظومة الغربية بالكامل.

و لقياس مدى النجاح أو الفشل، ومدى تحقق النصر أو الهزيمة، ينبغي تقييم مدى تحقق الأهداف التي قامت من أجلها الحرب.

هل تحققت الأهداف؟

عندما غزت أمريكا وحلفاؤها أفغانستان أعلنوا أن على رأس أهدافهم الإطاحة بحكم حركة طالبان والقضاء عليها تماماً، وكذلك تفكيك تنظيم القاعدة والقضاء عليه، وإقامة حكومة ديموقراطية، ودولة حديثة بجيش قوي يحفظ الأمن ويحمي مصالح الغرب هناك. واليوم مع انسحابهم يأتي السؤال: ما الذي حققوه من هذه الأهداف المعلنة؟

يذكر تحليل مجلة الإيكونوميست البريطانية بعنوان “الفشل الذريع في أفغانستان هو ضربة قاصمة لمكانة أمريكا“، أن طالبان تسيطر الآن على البلاد بشكل أقوى مما كانت عليه عندما فقدت السلطة؛ وهم الآن أفضل تسليحاً، بعد أن استولوا على الأسلحة التي كانت أمريكا تُمطرها على الجيش الأفغاني، وقد حصلوا الآن على تأكيد نهائي بأنهم قد هزموا قوة عظمى. وترى المجلة البريطانية أيضاً أن أمريكا فشلت في تحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية، وأن الهدف الذي قد يكون قد تحقق جزئياً هو أنه قد تم تفكيك مركز العمليات الرئيسي لتنظيم القاعدة22.

ولكننا نرى أنه حتى هذا الهدف لم يتحقق بشكل كامل؛ فها هي طالبان تعود لحكم أفغانستان وتسيطر عليه بشكل منفرد، وما زال تنظيم القاعدة موجودا رغم مقتل زعيمه بن لادن، مع علاقات مهمة مع طالبان (حيث ساهمت القاعدة بالتشكيل الجهادي لطالبان بعد أن كانوا مجرد طلاب علم)، وتبخرت الحكومة “الديمقراطية” العميلة، وانتهت أحلام الدولة العصرية على الطراز الغربي التي تحمي مصالح الغرب، ورأينا كيف انهار الجيش الأفغاني.

أهداف غير معلنة

بالإضافة للأهداف الأمريكية المعلنة للحرب على أفغانستان، يمكن أن نستجمع أهدافا أخرى كانت تهم الولايات المتحدة كثيرا، فعلى سبيل المثال سعى الأمريكيون للحصول على حصة كبيرة من ثرواتها المعدنية النفيسة والتي تُقدر قيمتها بين واحد وثلاثة تريليون دولار، خاصة الليثيوم الذي يدخل في شتى الصناعات المتقدمة الحديثة، وبدلا من ذلك، فقد انتهى بهم الأمر إلى إنفاق ما يزيد عن تريليوني دولار بدلا من أن يربحوا هذا القدر من المال من الثروة المعدنية الهائلة، فضلا عن نحو 2,500 قتيل من الجيش الأمريكي و4,000 متعاقد (أي قوات مرتزقة)، والفرار تاركين أسلحة متقدمة تقدر بمليارات الدولارات. ورغم التقارير التي تشير إلى أن الأرقام التي ذكرها العديد من أعضاء الكونجرس الجمهوريين والرئيس السابق دونالد ترامب هي أرقام مبالغ فيها، إلا أن المؤكد أن طالبان استولت على ترسانة من المعدات العسكرية الأمريكية الصنع عندما اجتاحت الجيش الأفغاني، ولكن ليس بقدر ما ادعى العديد من الجمهوريين23.

و  من الأهداف الاستراتيجية للتواجد الأمريكي في أفغانستان ما ذكره الكولونيل الأمريكي المتقاعد لورانس ويلكرسون (و الذي شغل منصب مدير مكتب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولين باول، وكان المُحضّر الرئيس للعرض الذي قام به باول أمام مجلس الأمن لتبرير غزو العراق، ثم تقاعد وأصبح من أشد منتقدي السياسة الخارجية والتدخلات العسكرية للمحافظين الجدد في العراق وأفغانستان)، في محاضرة ألقاها في عام 2018 في معهد رون بول تحت عنوان: “ما هي إستراتيجية الإمبراطورية؟“، حيث ذكر أن التواجد في أفغانستان كان مخططا له بواسطة المؤسسة العسكرية الأمريكية (التي عمل فيها كما قال لمدة 31 عاما)  ليكون لمدة نصف قرن على الأقل، بما يشابه التواجد الأمريكي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية:

  • التواجد بالقوة الأمريكية الصلبة في قلب ممرات طرق التجارة الصينية المخططة، والتي أطلق عليها لاحقا مبادرة “الحزام والطريق”، والتي تشكل ألية التوسع الاستراتيجي للصين، وتمتد عبر وسط أسيا إلى القارات الأخرى، بحيث يمكنها التأثير فيها بالقوة العسكرية إذا أرادت.
  • التواجد بجوار أكبر قوة نووية مخزنة على وجه الأرض في باكستان لكي يمكن الوصول إليها وتحييدها إذا لزم الأمر.
  • التواجد بجوار 20 مليون من أقلية الإيجور بحيث يمكن للمخابرات الأمريكية استخدامهم إذا أرادت التأثير على استقرار الصين.

و يقول الكولونيل ويلكرسون في محاضرته، أن هذه الأهداف (و يمكن للمرء أن يضيف أهدافا استراتيجية أخرى بالتواجد في الجوار المباشر لإيران وفي مناطق النفوذ الاستراتيجي الروسي في دول الاتحاد السوفييتي السابقة) قد تكون مبرَّرة من الناحية العسكرية الاستراتيجية، إلا أنه قد تم تحديدها خارج نطاق السيطرة المدنية والطريق الدستوري السليم للعلاقات المدنية – العسكرية.  والمهم هنا في هذا السياق أن خروج أمريكا من أفغانستان وعدم قدرتها على البقاء للفترة التي حددتها يفقدها هذا الموقع الاستراتيجي، ويجعله بشكل أكبر في متناول القوى الرئيسية التي تنافسها: الصين وروسيا، وهو ما يمكن توصيفه كحالة فشل وهزيمة استراتيجية بامتياز. (مما ذكره ويلكرسون أيضا في محاضرته، وهو مهم لفهم بعض أسباب خوض أمريكا للحروب، أن الدراسة العميقة للحروب التي دخلتها أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية منذ عهد الرئيس لندون جونسون حتى الآن، تظهر أنه كانت هناك أسبابا شخصية لدى كل الرؤساء منذ ذلك الحين حتى الآن في خوض الحروب والاستمرار فيها).

الفشل الاستخباراتي وطريقة الخروج من أفغانستان

على مستوى الفشل الاستخباراتي، فإن التصريحات المتواترة أنه برغم توقع انتصار طالبان ودخولها كابل في نهاية المطاف، ما كان يتوقع أحد حدوث ذلك قبل أشهر أو في نهاية العام على الأقل. وقد أكد تقرير الإيكونوميست البريطانية المنشور في 21 أغسطس، أن التقارير الاستخباراتية كانت معيبة وأن التخطيط كان جامداً، وأن القيادات كانت متقلبة، وأن اهتمامها بالحلفاء كان ضئيلاً، وهو ما تجسد في هذا الانسحاب الفوضوي لأمريكا من أفغانستان الذي تضاءلت معه قوة أمريكا في ردع أعدائها وطمأنة أصدقائها.

فهل الانهيار السريع للمنظومة على الشكل الذي رأيناه ينم عن ترتيب مسبق مع طالبان لتحقيق أهداف أمريكية؟ هل يمكن أن تضحي أمريكا بهيبتها بشكل دائم، وتشجع الأخرين على تحديها في جبهات أخرى، مما يؤدي الى تراجع هيمنتها بل وهدم مشروعها، لمجرد تحقيق بعض الأهداف التكتيكية؟!

ولكي نستطيع الحكم على مدى نجاح عملية الخروج الأمريكي الكبير من أفغانستان، يجب أن ننظر إلى الطريقة التي تم بها هذا الخروج، وتوقيت الخروج، والترتيبات التي أعقبته، وتحديد الطرف الأكثر استفادة من عملية التفاوض.

إن مئات الصور ومقاطع الفيديو التي تعجّ بها وسائل الإعلام الغربية، لهي أبلغ من أي وصف يمكن أن يصور حقيقة هذا الانسحاب، فضلا عن مشاهد إتلاف الطائرات والمهمات الموجودة في مطار كابل قبل الهروب، وهي بكل تأكيد لا تنم عن صورة مرتبة لانسحاب منظم.

و بالنسبة للتوقيت، فقد كان الاتفاق مع ترامب على إتمام الانسحاب أول مايو، وعندما حاول بايدن التأجيل إلى 11 سبتمبر، رفضت طالبان واكتسحت البلاد عسكريا، وفرضت سرعة الخروج على الأمريكيين وحلفائهم. إذن، فتوقيت الخروج حددته طالبان من خلال الواقع العسكري الذي فرضته.

أما عن الوضع على الأرض، فمن الواضح أن طالبان هي المتحكمة فيه، وقد استلمت حركة طالبان منظومة الحكم بالكامل في أعقاب خروج القوات الأجنبية بعد فرضها سيطرتها التامة على البلاد، بدلا من تشكيل حكومة مشتركة بين أشرف غني وطالبان كان يجري التفاوض عليها.

وأخيراً، فإن طالبان هي التي فرضت رؤيتها في عملية التفاوض، حيث لم تقبل بأي أنصاف حلول، وكان التفاوض فقط على خروج قوات الاحتلال من البلاد.

وقد تطرق العديد من المحللين لنجاح الاستراتيجية المزدوجة للقتال والتفاوض التي انتهجتها طالبان لتنجح في النهاية في إخراج المحتل الأمريكي وهزيمة أعوانه بشكل ساحق كما ذكرنا سابقا، على سبيل المثال في الدراسة24 التي نشرها الباحث المتخصص في الشأن الأفغاني جيل دورونسورو .

وفي مقال لها نشرته صحيفة واشنطن بوست بعنوان “كما فعلت في ساحة المعركة، تفوقت طالبان على الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات”25 قالت كارين دي يونج: “بعد أقل من 18 شهراً، بعد ما وصفه الرئيس دونالد ترامب بـ “مفاوضات ناجحة للغاية”، أبرم عبد الغني برادار، المؤسس المشارك لحركة طالبان والزعيم البارز في الحركة؛ وخليل زاده، الدبلوماسي الأمريكي المولود في أفغانستان، اتفاقاً لإنهاء الحرب التي استمرت 20 عاماً في أفغانستان بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية. وبعد عام ونصف آخر، بموجب نفس الاتفاقية ولكن مع رئيس أمريكي مختلف، قامت القوات الأمريكية الأخيرة بخروج متسرع وفوضوي، وتركت طالبان تسيطر بشكل كامل على البلاد.”

وأضافت “لقد سيطرت طالبان على البلاد، ولكن لم تكن هذه هي النهاية التي أرادتها الولايات المتحدة. وفي أعقاب ذلك، تلاوم الجمهوريون والديمقراطيون على ما آلت إليه الأمور هناك. فالديمقراطيون والرئيس بايدن يتهمون ترامب بالمسؤولية عن إبرام تلك الصفقة السيئة. والجمهوريون وترامب يتهمون بايدن بإفساد الاتفاقية والتعجيل بالانسحاب. أما الحلفاء الدوليون فيشعرون بالضيق لما حدث، بينما يتأهب الخصوم للتعامل مع الواقع الجديد، ويشعر العديد من الأفغان بالخيانة من الولايات المتحدة.”

وأوردت كارين دي يونغ تصريحاً لتوماس روتيج، الخبير الألماني في شؤون طالبان والمدير المشارك لـ شبكة المحللين الأفغان، حيث قال “إن طالبان كانت تعلم منذ فترة طويلة أنها تلعب لعبة انتظار وأنه كان من المرجح أن تفوز بها”. وقال “هؤلاء ليسوا أفغان خارقين، سواء في ساحة المعركة أو على طاولة المفاوضات، ولكنهم كانوا أكثر اتساقاً، وقد فهموا السياسة الغربية وأنهم بحاجة إلى تحقيق شيء ما.”

هزائم متكررة

إن الهزيمة العسكرية لأمريكا في أفغانستان ليست بالشيء الجديد ولا المفاجئ بالنظر إلى تاريخ أمريكا الحديث في التدخلات العسكرية المباشرة. فقد هُزمت أمريكا في أغلب تلك التدخلات منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم وفشلت فشلا ذريعا، وأن أبرز علامات فشلها هو أنها بدلاً من إصلاح الأمور، فإنها تزيدها سوءاً؛ وأنها من خلال ذلك تتيح للتمرد بأن يصبح أكثر قوة، كما أنها تمهد الطريق لظهور خصوم جدد أكثر تصميماً وإرادة في مواجهة قوة وقدرة الولايات المتحدة.

. فقد هُزمت في فيتنام بعد حرب استمرت قرابة ١٥ سنة ضد الفيتناميين الشيوعيين، وهُزمت كذلك في التسعينات في الصومال، وهُزمت في أمريكا الوسطى، ثم هُزمت في العراق وانحسر نفوذها هناك لصالح التمدد والسيطرة الإيرانية، ثم هي اليوم تُهزم في أفغانستان على أيدي حركة طالبان. وبالتالي فإن التدخلات العسكرية الخارجية الأمريكية المباشرة للاحتلال وفرض التغيير بالقوة خلال السنوات الستين الماضية هي سلسلة متصلة من الهزائم، وشعارات ومقولات الجيش الأمريكي الذي لا يقهر يتم إطلاقها من باب الحرب المعنوية لكسر المعنويات والهمم للشعوب التواقة للحرية، ولتبرير استمرار الحروب أمام مموليها من دافعي الضرائب الأمريكيين.

عندما تدخلت أمريكا بشكل غير مباشر في أفغانستان إبّان احتلال الاتحاد السوفيتي لها أواخر عام 1979، عندما قامت إدارتي كارتر وريجان بتسليح وتدريب المجاهدين الأفغان للوقوف في وجه الغزاة السوفييت، هيّأ ذلك الأجواء لاحقا لنشأة تنظيم القاعدة، والذي وضع الولايات المتحدة في دائرة استهدافه الرئيسية. وهذا ما حدث أيضاً عندما تدخلت الولايات المتحدة في أفغانستان بشكل مباشر أواخر عام 2001، واستمرت هناك لعشرين عاماً، ثم خرجت تجر أذيال الهزيمة، وعادت طالبان التي كانت قد أطاحت بها من قبل لتصبح أكثر قوة وتصميماً لتحكم البلاد من جديد. نفس الأمر تكرر في العراق والذي أدى التدخل والاحتلال العسكري له إلى نشوء تنظيم الدولة، ثم آلت الأمور إلى وقوع العراق بالكامل تحت السيطرة الإيرانية من خلال حكم الميليشيات. إن هذا الفشل الكبير لهو دليل قاطع على إخفاق السياسة الخارجية الأمريكية التي طالما أعطت الأولوية للقوة والهيمنة العسكرية على الدبلوماسية والتعاون العالمي.

وكما يرى ديفيد هارلاند، فإن الاغترار بالقوة وتصور أنه يمكن استخدام قوة الولايات المتحدة التي لا تُبارى لتخليص العالم من “المشاكل الجهنمية” التي تواجهه، هذه العقلية قوَّضت جميع الحلول التفاوضية التي كانت تتاح لها قبل السقوط في تلك الأوحال والتي كان يمكن أن تسفر عن نتائج أفضل من تلك التدخلات الفاشلة التي قامت بها الولايات المتحدة في كل تدخلاتها العسكرية 26

ثانيا: مستقبل الهيمنة الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة

الحديث عن مستقبل الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية على العالم هو حديث قديم يتجدد كلما واجهت أمريكا هزيمة أو إخفاقا في أحد معاركها الكبرى، وعندما نتحدث عن الإمبراطورية الأمريكية فإننا لا نتحدث بالطبع عن الشكل القديم للإمبراطوريات التي تحتل الأراضي، ولكن النموذج الأمريكي يتمثل في السيطرة على المفاصل الرئيسية في العالم عن طريق المئات من القواعد العسكرية المنتشرة فيه، وتقدر تكلفة إدارتها مع تواجد أفراد الجيش المنتشرون في كل مكان بنحو 200 مليار دولار سنويا.

انحسار الدور القيادي العالمي الأمريكي

يمكن القول أن بوادر الانحسار الحقيقي في الدور العالمي للولايات المتحدة في قيادة العالم لم يبدأ في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكنه يرجع إلى عصر إدارة الرئيس باراك أوباما، بل إن البعض يُرجع ذلك التغيير أيضاً إلى أواخر عهد جورج بوش الابن، خاصة عندما امتنعت الإدارة الأمريكية آنذاك عن الرد بقوة على غزو روسيا لجورجيا عام 2008 واحتلالها جزء منها. ويشكل ذلك التغيير تراجعاً كبيراً عن القيادة العالمية للولايات المتحدة وتجاهلاً  للقيم الأمريكية التي طالما تغنى بها ساسة الولايات المتحدة ومنظروها.

ولم يكن القرار الذي أعلنه ترامب في 6 أكتوبر 2019 بسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وقرارات أخرى لتقليص الوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا وأفغانستان والعراق، لم تكن هذه القرارات هي الأولى من نوعها، فقد اتجهت إدارة أوباما إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي وإنهاء العمليات القتالية الأمريكية في العراق وأفغانستان لصالح التركيز بشكل أكبر على مبادرات إعادة البناء الأمريكية المحلية 27

ومع ذلك، فإن إدارة أوباما لم تنفض يدها من قيادة العالم بشكل كامل، حيث اتخذت قرارات مهمة مثل إعلان – وليس فرض-  “خط أحمر” فيما يتعلق بسلوك الحكومة السورية، خاصة في استخدام الأسلحة الكيماوية، وكذلك مثل ردها المحدود على الإجراءات الروسية في احتلال شبه جزيرة القرم، لكن محدودية أثر هذه الإجراءات وفعاليتها، يؤشر بالفعل لتراجع الدور القيادي الأمريكي العالمي.

وقد ظهر بوضوح في عهد ترامب، كنتيجة لهذا التراجع، انحسار الدور الأمريكي الخارجي وقدرة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشؤون الدولية في غياب الولايات المتحدة عن بعض القضايا الدولية، وتحويل مفهوم “أمريكا أولاً” الذي كانت تروج له إدارة ترامب إلى ما يمكن أن يُطلق عليه البعض “أمريكا وحدها”، وذلك من خلال، على سبيل المثال:

  • الحد من مشاركة الولايات المتحدة في المفاوضات والاتفاقيات السياسية والتجارية متعددة الأطراف، والانسحاب من بعض القائم منها،
  • تذبذب دور الولايات المتحدة كقوة فاعلة دولية، وظهورها بشكل أقل موثوقية في أعين الحلفاء والشركاء،
  • العمل على إضعاف النظام الدولي الذي من المفترض أن الولايات المتحدة هي من تقوده،
  • التلكؤ في نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل واحتضان الأنظمة الاستبدادية، وتسهيل عودة ظهور المزيد من أشكال الحكم الاستبدادي،
  • ترك فراغات في القيادة العالمية، خاصة في حل النزاعات والقضايا المختلفة، تتحرك لملئها دول وقوى أخرى.

ويشير المحلل الأمريكي المخضرم ريتشارد هاس إلى أنه على الرغم من التوجهات الرئيسية المعلنة لإدارة الرئيس جو بايدن، فإن الممارسة الحقيقية للسياسة الخارجية لا تختلف كثيرا عما كان يحدث في إدارة ترامب في القضايا الأساسية، بل أن العناصر الحرجة لهذه السياسة قد بدأت بالفعل في عهد أوباما قبل ترامب، ويوضح هاس بدقة أن التوجه الأمريكي الحالي هو “أن الأمريكيين في الواقع يريدون تحقيق المنافع من وراء النظام العالمي الذي أسسوه، ولكن بدون العمل الصعب الذي يكفل استمرار بنائه والمحافظة عليه،…….و أن هذا التوجه القومي المتنامي عبر الإدارات المتتالية والمتباينة واضح، أما أثر هذا التوجه على إنتاج سياسة خارجية تحقق التقدم والرخاء والقيم الأمريكية، فهذا شيء أخر،… وأنه كما في حال حدوث أي تحول نوعي كبير Paradigm Shift”” فإن التوجه الجديد لا يأتي إلا في ضوء الفشل الحقيقي أو المتصور في السنوات التي تسبقه”28.

ما بعد أفغانستان ومستقبل الهيمنة الأمريكية

يوضح القسم الأول من الدراسة أن حجم الهزيمة الأخيرة في أفغانستان وملابساتها لا يؤشر فقط لمجرد هزيمة تُضاف إلى سلسلة الهزائم العسكرية الأمريكية، لكن يمكن أن نقول بكل ثقة أن ما حدث هو علامة أو محطة على طريق تسارع انهيار منظومة الهيمنة الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

فلو تابعنا تعليقات وردود أفعال أهم مراكز التفكير الغربية، وما يكتبه كبار الكتاب والمفكرون الغربيون، ندرك بوضوح حجم ما يشعر به هؤلاء من كارثة حلت على المنظومة الغربية بما جرى في أفغانستان، حيث يشير كثير من الكتاب بوضوح إلى بدايات أفول الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم.

فها هو مثلا فرانسيس فوكوياما (كما أشرنا سابقا) الذي كتب منذ عشرين عاما عن نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية، يكتب الآن عن نهاية الهيمنة الأمريكية29 وتمزق المجتمع بمروره بحالة غير مسبوقة من الانقسام الداخلي كعامل أكثر أثرا تدميرياً! ويرى فوكوياما، أن الولايات المتحدة بالغت في تقدير فعالية القوة العسكرية في إحداث تغيير سياسي أساسي، سواء في أفغانستان أو العراق؛ وأنه مع نهاية العقد، خلّف ذلك “أزمة مالية دولية زادت من التفاوتات الهائلة التي أحدثتها العولمة التي تقودها الولايات المتحدة”. وفي النهاية، يستنتج فوكوياما بأنه “ليس من المرجح أن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها المهيمنة السابقة، ولا ينبغي لها أن تطمح إلى ذلك أبداً. ولكن كل ما يمكن أن تأمل في تحقيقه مع الدول التي تشاطرها نفس التفكير، هو الحفاظ على نظام عالمي يكون صديقاً للقيم الديمقراطية. ولا يعتمد مدى استطاعتها القيام بذلك على الإجراءات قصيرة المدى في كابول، بقدر ما يعتمد على استعادة الشعور بالهوية والأهداف”.

وفي المقال المشار إليه سابقا لكريس هيدجز بعنوان “آلة الانتحار الجماعية وسقوط كابول”30. استشرف هيدجز أيضاً أن سقوط كابول وعودة طالبان للسلطة سيكون أحد العلامات على قرب نهاية الإمبراطورية الأمريكية. وشرح بالتفصيل كيف يكون ذلك بقوله “تكون الإمبراطوريات في النهاية آلات انتحار جماعي. حيث يصبح العسكر في أواخر أيام الإمبراطورية غير خاضعين للتوجيه، وغير خاضعين للمساءلة، ويسعون لضمان الاستمرار إلى ما لا نهاية، بغض النظر عن عدد الأخطاء، والكوارث، والهزائم، التي تتكبدها الأمة بسببهم، أو مقدار الأموال التي ينهبونها، مما يؤدي إلى إفقار المواطنين وتآكل المؤسسات الحاكمة وتدهور البنية التحتية المادية. وهذا الحال هو الذي صاحب انهيار ما يقارب 70 إمبراطورية خلال الأربعة آلاف سنة الماضية، بما في ذلك الإمبراطوريات اليونانية والرومانية والصينية والعثمانية وإمبراطورية هابسبورج والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية اليابانية والبريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والسوفيتية، كلها انهارت بسبب نفس العربدة العسكرية الحمقاء”.

ثم تنبأ بسيناريوهات تبدو واقعية في كيفية حدوث السقوط السريع واستشهد بكتاب المؤرخ ألفريد ماكوي “في ظلال القرن الأمريكي: صعود وانحدار القوة العالمية للولايات المتحدة”31، حيث يقول: “في حين أن الإمبراطوريات الصاعدة غالباً ما تكون حكيمة، بل وعقلانية في استخدامها للقوة المسلحة للغزو والسيطرة على الملكيات بالخارج، فإن الإمبراطوريات المتلاشية تميل إلى تقديم عروض القوة غير المدروسة، وتحلم بضربات عسكرية جريئة من شأنها أن تعوض بطريقة ما هيبتها وقوتها المفقودة… وغالباً ما تكون غير عقلانية حتى من وجهة نظر إمبراطورية، ويمكن أن تؤدي هذه العمليات العسكرية الصغيرة إلى نزيف من النفقات أو هزائم مذلة تؤدي فقط إلى تسريع العملية بالفعل (الانهيار)”.

وتوقع هيدجز أن تكون الضربة القاضية للإمبراطورية الأمريكية، كما كتب ماكوي، “ستكون خسارة الدولار كعملة احتياطية للعالم. وستؤدي هذه الخسارة إلى إغراق الولايات المتحدة في كساد كبير وطويل الأمد. وسيؤدي إلى تقلص هائل في البصمة العسكرية (للولايات المتحدة) على مستوى العالم. ومع خسارة الدولار كعملة احتياطية، سوف يصبح الوجه القبيح للإمبراطورية مألوفاً في الداخل (في الولايات المتحدة). وسيسرّع المشهد الاقتصادي الكئيب، مع تدهوره واليأس الذي يسببه، ظهور مجموعة من الأمراض العنيفة والمدمرة للذات بما في ذلك إطلاق النار الجماعي، وجرائم الكراهية، والجرعات الزائدة من الأفيون والهيروين، والسمنة المرضية، والانتحار، والمقامرة، وإدمان الكحول. وستستغني الدولة بشكل متزايد عن خيال سيادة القانون بالاعتماد حصرياً على الشرطة العسكرية، وجيوش الاحتلال الداخلية بشكل أساسي، والسجون، التي تضم الآن بالفعل 25 بالمائة من سجناء العالم على الرغم من أن الولايات المتحدة تمثل أقل من 5 بالمائة من سكان العالم”.

ويضيف ماكوي أنه “من المحتمل أن يأتي زوال الإمبراطورية الأمريكية بسرعة أكبر مما يتخيل الكثيرون”. ويشير إلى أنه “عندما تنكمش الإيرادات أو تنهار، تصبح الإمبراطوريات “هشة”. وسيدخل الاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على الإعانات الحكومية الضخمة لإنتاج الأسلحة والذخائر بشكل أساسي، فضلاً عن تمويل المغامرات العسكرية، في حالة من الانهيار بسبب الانخفاض الكبير في قيمة الدولار. وتوقع أن ترتفع الأسعار بشكل كبير بسبب الزيادة الحادة في تكلفة الواردات وانخفاض الأجور، وسيؤدي تخفيض قيمة سندات الخزانة أن تكون تغطية هذا العجز الهائل مرهقة، وربما مستحيلة، مما سيؤدي إلى ارتفاع مستوى البطالة إلى مستويات عصر الكساد، وتقليص برامج الإعانات الاجتماعية أو إلغائها بشكل حاد، بسبب تقليص الميزانية”. واختتم بالقول “هذا الواقع البائس سوف يغذي الغضب والقومية المفرطة التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. سوف يفرز ذلك دولة استبدادية للحفاظ على النظام، وأتوقع أن تكون “فاشية مسيحية”.

وكتبت روبن رايت في مقال لها بعنوان: “هل يمثل الانسحاب الكبير من أفغانستان نهاية العصر الأمريكي؟” نشرته مجلة نيويوركر الأمريكية32 أن ذلك الانسحاب وتلك المغامرة “ليست مجرد هزيمة ملحمية للولايات المتحدة”، حيث ترى أن سقوط كابول قد يكون بمثابة نهاية لعصر القوة العالمية للولايات المتحدة. وتقارن رايت بين ما قامت به الولايات المتحدة في الأربعينيات من القرن الماضي عندما أطلقت مبادرة “الإنقاذ العظيم” للمساعدة في تحرير أوروبا الغربية من آلة الحرب النازية القوية؛ ثم استخدمت قوتها البرية والبحرية والجوية الشاسعة لهزيمة الإمبراطورية اليابانية الهائلة في شرق آسيا؛ وبين ما تفعله في أفغانستان بعد مرور ثمانين عاماً، حيث “الانسحاب الكبير” للقوات الأمريكية “هروباً من ميليشيا متهالكة ليس لديها قوة جوية أو مدرعات أو مدفعية كبيرة، في واحدة من أفقر دول العالم”.

ومع إبراز أوجه الشبه بين التقهقر الأمريكي من أفغانستان عام 2021 بمأساة القوات الأمريكية في فيتنام عام 1975؛ تقول رايت “إن العالم اليوم سينظر إلى الولايات المتحدة بشكل كبير على أنها خسرت ما أطلق عليه جورج دبليو بوش “الحرب على الإرهاب” – على الرغم من حشد حلف الناتو في أول انتشار له خارج أوروبا أو أمريكا الشمالية، بالإضافة إلى ستة وثلاثين دولة، لتقديم أنواع مختلفة من المساعدات العسكرية، وثلاث وعشرين دولة تستضيف القوات الأمريكية المنتشرة أثناء العمليات الهجومية. لقد ثبت الآن أن الأدوات والتكتيكات الأمريكية الهائلة غير مجهزة جيداً لمواجهة إرادة وصمود طالبان وداعميهم الباكستانيين”.

وتقارن الكاتبة بين الانسحاب الكبير لأمريكا من أفغانستان بشكل مهين على الأقل بقدر ما كان انسحاب الاتحاد السوفيتي من هذا البلد في عام 1989، وهو الحدث الذي ساهم في نهاية إمبراطوريته وانتهاء الحكم الشيوعي. لقد ظلت الولايات المتحدة في أفغانستان ضعف المدة التي قضاها الاتحاد السوفيتي هناك وأنفقت من الأموال أكثر من السوفييت بكثير. وفي النهاية تتساءل الكاتبة الأمريكية، “ما هي العواقب الأخرى التي ستواجهها أمريكا جرّاء حملتها الفاشلة في أفغانستان بعد عقود من الآن؟”

أما المؤرخ الاسكتلندي نيال فيرجسون، الباحث الأول في مؤسسة هوفر، وهو صاحب الكتاب الشهير: “الصنم – صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية33 والذي تحدث في هذا الأمر بشكل مبكر جدا وفي أوج صعود الاستخدام الباطش وليس في أعقاب هزيمة عسكرية (و قارن في كتابه ما يحدث في أمريكا مع مظاهر سقوط الإمبراطورية البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى)، والمعروف عنه أيضا أنه توقع أزمة أمريكا المالية في 2008، فيرى في مقال بعنوان “لماذا لن تكون نهاية الإمبراطورية الأمريكية سلمية؟” نشرته مجلة الإيكونوميست34، أنه في ظل حالة الفوضى التي آلت إليها الأوضاع في أفغانستان، فإن تراجع أمريكا يعكس الحالة التي وصلت إليها بريطانيا قبل قرن من الزمان، وحذر من أنه قد تؤدي هذه الحالة أيضاً إلى صراع أوسع في العالم. ويرى فيرجسون أن القرار الذي اتخذه الرئيس جو بايدن بشأن “الانسحاب النهائي” من أفغانستان غير حكيم وأنه كان “أحدث إشارة من رئيس أمريكي بأن بلاده تريد تقليص التزاماتها الخارجية.” ويرى فيرجسون أن تقليص أمريكا لالتزاماتها الخارجية كان قد بدأ منذ قرار باراك أوباما بالخروج على عجل من العراق، وخاصة عندما أعلن في عام 2013 أن “أمريكا ليست شرطي العالم”. وأن عقيدة “أمريكا أولاً” لدونالد ترامب كانت مجرد نسخة شعبوية من نفس الدافع، حيث كان شديد التعجل للخروج من أفغانستان واستبدال التعريفات الجمركية بمكافحة التمرد.

ويقول فيرجسون إن كارثة الانسحاب من أفغانستان تؤكد أن تراجع الهيمنة العالمية نادراً ما يكون عملية سلمية، وأن إعلان الولايات المتحدة عن تخليها عن الحرب الأطول التي خاضتها على مدى تاريخها هو اعتراف صريح  بالهزيمة، ليس فقط في نظر طالبان، بل في نظر الكثيرين، بما فيهم الصين وروسيا. ويلفت فيرجسون النظر إلى أن روسيا لم تتدخل عسكرياً في كل من أوكرانيا وسوريا إلا بعد شهور فقط من تخلي أوباما عن الاضطلاع بمهام الأمن العالمي. ولذلك فهو يتوقع أحداثاً مؤسفة ستحدث في العالم بعد انسحاب واشنطن من أفغانستان، على غرار ما حدث في سوريا وأوكرانيا. ويستدعي فيرجسون كارثة الخروج من فيتنام بذلك الشكل المهين، مما شجع الاتحاد السوفيتي وحلفاءه بعدها على إثارة المشاكل في أماكن أخرى – في جنوب وشرق أفريقيا، وأمريكا الوسطى وحتى أفغانستان، التي غزاها في عام 1979، مما ينذر بأن إعادة محاكاة سقوط سايجون في كابول سيكون له آثار سلبية مماثلة.

ويرى فيرجسون أنه لم يكن من الصعب توقع نهاية الإمبراطورية الأمريكية، حتى في ذروة غطرسة المحافظين الجدد بعد غزو العراق عام 2003. ويعدد أربع نقاط أساسية  ستؤدي باستمرار لضعف مكانة أمريكا العالمية في هذا الوقت: فهم يعانون من نقص في القوى البشرية (قلة من الأمريكيين لديهم الرغبة في قضاء فترات طويلة من الوقت في أماكن مثل أفغانستان والعراق)؛ وعجز مالي ناتج عن ارتفاعات ضخمة في مستويات الديون وأعبائها (و هو ما سيدفع بالضرورة لتقليل ميزانيات الدفاع في المستقبل) ؛ وغياب الاهتمام (ميل الناخبين إلى فقدان الاهتمام بأي تدخل واسع النطاق فيما يتعدى أربع سنوات تقريباً)؛ وعجز في استلهام عِبر التاريخ (إحجام صانعي السياسات عن تعلم الدروس من أسلافهم، ناهيك عن البلدان الأخرى). ويرى أنه من السهل جداً رؤية سلسلة من الأحداث تتكشف حالياً، يمكن أن تؤدي إلى حرب أخرى غير ضرورية، على الأرجح ضد تايوان، والتي يطمع فيها السيد شي، والتي تلتزم أمريكا (بشكل غامض) بالدفاع عنها ضد الغزو – وهو التزام يفتقر إلى المصداقية بشكل متزايد. ومع تحولات ميزان القوة العسكرية في شرق آسيا، وإذا فشل الردع الأمريكي وراهنت الصين على انقلاب رئيسي بهذا الصدد، فستواجه الولايات المتحدة خياراً قاتماً بين خوض حرب طويلة وصعبة – كما فعلت بريطانيا في عامي 1914 و1939 – أو تواجه الانسحاب، كما حدث مع بريطانيا في السويس عام 1956.

و لكن على الجانب الأخر، هناك وجهة نظر أخرى فيما يتعلق بمستقبل الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، حيث يعظّم المفكر الأمريكي روبرت د. كابلان في مقال بعنوان “لماذا تستطيع أمريكا التعافي من إخفاقات مثل أفغانستان والعراق” نشرته مجلة الإيكونوميست35 من أهمية أثر جغرافية الولايات المتحدة في الحفاظ على وضعها الإمبراطوري القوي مقارنة بمنافسيها، وعلى قدرتها على التعافي من إخفاقات مثل أفغانستان والعراق، أكد فيه أن جغرافيا الولايات المتحدة الملائمة تمنحها العديد من المزايا على منافسيها، بما في ذلك إمكانية ارتكاب أخطاء فادحة ثم القدرة على التعافي منها تماماً، فيقول: “كان أساس تلك القوة للولايات المتحدة في الأصل جغرافياً بشكل صارخ. فقد وصف هانز مورغنثاو، الأب المؤسس لـ “الواقعية” في العلاقات الدولية، الجغرافيا بأنها المكوّن الأكثر استقراراً للقوة الوطنية. فأمريكا قارة شاسعة وغنية مرتبطة بشكل كثيف بالأنهار الصالحة للملاحة، ولديها اقتصاد واسع النطاق، ويمكن الوصول إليها من خلال خطوط الاتصال البحرية الرئيسية، ولكنها في نفس الوقت محمية بالمحيطات من اضطرابات العالم القديم”.

و يقول: “وتلك الجغرافيا لا تزال مهمة، على الرغم من حقيقة أن التكنولوجيا قلّصت نطاق الكرة الأرضية. وفي ظل ابتلاء العالم بأشد الأمراض فتكاً  – كالإرهاب، والأوبئة الفيروسية، وبرامج الفدية – إلا أن أمريكا، على عكس الصين، تتمتع في ذات الوقت بالاكتفاء الذاتي في الهيدروكربونات، ولديها موارد مائية وفيرة، ولا يوجد لها جيران أقوياء يعادونها. أما الحدود الجنوبية، التي يبكي عليها المحافظون الأمريكيون، فهي تضم المهاجرين الفقراء فقط، وليس جنود لجيشين يواجه بعضهم البعض، كما هو الحال على الحدود الجنوبية للصين مع الهند. وتساعد هذه الجغرافيا في تفسير أسباب سوء تقدير أمريكا وفشلها في الحروب المتعاقبة، ومع ذلك فإنها سرعان ما تتعافى تماماً، على عكس الدول الأصغر والأقل أهمية من حيث الموقع، والتي يكون لديها هامش ضئيل لإمكانية الخطأ. وبالتالي، فإن الحديث عن التراجع الأمريكي أمر مبالغ فيه. لقد ورَّثت الجغرافيا الولايات المتحدة مثل هذه القوة والحماية؛ وفي ظل عالم قد أصبح يتضاءل بشكل متزايد، فإنه لا يمكن لهذه البلاد إلا أن تظل في وضع شبيه بالإمبراطورية، مع التزامات اقتصادية وعسكرية بعيدة المدى حول العالم.”

و يقول أيضا: “نعم، قد تنسحب أمريكا من التدخلات البرية الفاشلة في الشرق الأوسط، لكن قواتها البحرية والجوية لا تزال تحرس مساحات كبيرة من هذا الكوكب باعتبارها حصناً لأنظمة التحالف في أوروبا وآسيا. وهذا مستمر بغض النظر عن إخفاقاتها في العراق وأفغانستان. ورغم أن مشاهد الفوضى في مطار كابول مع انسحاب أمريكا مثيرة للقلق، إلا أنها من الناحية الإستراتيجية مشاهد صورية أكثر من كونها جوهرية. ولنتذكر أنه بعد سقوط سايجون عام 1975، واصلت الولايات المتحدة مسيرتها وانتصرت في الحرب الباردة”.

ولكن كابلان يقر بأن العوامل الداخلية السلبية في أمريكا أكبر أثرا على تراجع قوة الولايات المتحدة، ولكن مرة أخرى مقارنة بمنافسيها الرئيسيين يقول كابلان: “ومع الوضع في الاعتبار أن القوة نسبية، فإن التوترات الداخلية في أمريكا علنية، في حين أن التوترات الصينية و الروسيةأكثر غموضاً، والمناطق الجغرافية عندهم أقل حظاً مما هو الحال في أمريكا. ولدى الصين مناطق حدودية صعبة، وهي تلجأ إلى القمع الشديد لإدارة الأقليات العرقية والدينية. أما روسيا فهي قوة برية غير آمنة في ظل قلة الحدود الطبيعية، وبالتالي فقد كانت عرضة للغزو عبر التاريخ، وهذا هو السبب العميق غير المعلن للعدوانية التي تنتهجها روسيا. وبالإضافة إلى ذلك، فالصين وروسيا تعتمدان بشكل كبير على زعيم أوحد في قمة السلطة، كما أن الأنظمة الاستبدادية التي تتسم بعدم المرونة تخفي داخلها الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية العميقة على امتداد الظروف الطبيعية القارية الهائلة الخاصة بها. وبالتالي، فبينما نركز بشكل أكبر مما ينبغي على نقاط القوة لدى القوى العظمى الثلاث، إلا أن لكل منهم نقاط ضعفه الخاصة به، مما قد يخلق عالماً أكثر فوضوية”.

و ما يذكره كابلان قد يكون صحيحا بمقارنة الولايات المتحدة مع خصومها الرئيسيين، الصين، وبدرجة أقل روسيا، من ناحية تناسب موازين القوى، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الهيمنة الأمريكية الإمبراطورية المطلقة على العالم لن تتراجع، بإفساح المجال لعالم تتعدد فيه الأقطاب بدلا من هيمنة قطب واحد، كما أن إمكانية تجاوز السقطات العسكرية الأمريكية في عالم أحادي القطبية يختلف كثيرا عن هذه الإمكانية في حالة عالم يتشكل بطريقة ثنائية أو متعددة الأقطاب كما يبدو الآن.

وفي حقيقة الأمر رغم أن مقال كابلان يوحي بأنه متفائل بمستقبل الهيمنة الأمريكية، فإننا يمكن أن نُعزي هذا التفاؤل الظاهري لارتباط السؤال الموجه إليه من صحيفة الإيكونوميست بموضوع الانسحاب من أفغانستان، لكن المتابع لكتابات كابلان بشكل عام (فضلا عن موقفه الدافع للحرب على العراق ثم تحوله لانتقادها بشدة) يعرف أن مجمل كتاباته، مثل كتابات الأغلبية الساحقة من الكتاب والمفكرين، مؤداها أن استمرار الهيمنة الأمريكية المنفردة هو أمر مستحيل، وحتى في جانب الجغرافيا الذي تتفوق فيه أمريكا، فإن الصين تسعى الآن لتغيير وضعها الجغرافي بدءا بمحاولة السيطرة على بحر الصين الجنوبي، وانتهاء بمبادرة الحزام والطريق التي تتيح لها انتشارا واسعا في العالم.

و تتخذ آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة “أمريكا الجديدة”، والتي شغلت من قبل منصب مديرة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية (2009-2011)، في مقال لها بعنوان، “لماذا يُعد التنوع في أمريكا مصدر قوتها؟” نشرته مجلة الإيكونوميست36 أيضاً، موقفا وسطا يرى إمكانية حفاظ الولايات المتحدة على قوتها لكن بشروط، حيث ترى ضرورة أن تنتقل الولايات المتحدة من دور “شرطي العالم” إلى دور “الساعي لحل مشاكل العالم”، عبر السعي للتغلب على الخلل الوظيفي السياسي في الداخل الأمريكي أولاً. تقول سلوتر إنه “على الرغم من أن الصور القاتمة الآتية من أفغانستان تسلط الضوء على حدود القوة العسكرية لأمريكا وعلى عدم الاتساق بين أهدافها والأدوات المتاحة لتحقيقها؛ إلا أن مستقبل القوة والهيمنة الأمريكية يعتمد بدرجة أقل على القوة العسكرية عن اعتماده على التغيير الديموغرافي الذي يحدث حالياً داخل الولايات المتحدة.” حيث تتوقع الكاتبة الأمريكية أن تتحول أمريكا خلال العقدين المقبلين من دولة ذات أغلبية بيضاء إلى “أمّة تعددية”: حيث لا تُشكل فيها مجموعة عرقية أو إثنية أغلبية سكانها. وترى أن على أمريكا عندئذ “إما أن تكتشف كيفية استغلال الفوائد الهائلة لتمثيل العالم وتقوية ترابطه، أو السماح للتوترات الديموغرافية بتمزيقه”.

لكن المتابع عن قرب لما يحدث داخل الولايات المتحدة الآن يجد أن “التنوع” الذي تتحدث عنه سلوتر يتجه بقوة لإحداث الكثير من التوترات وتكريس حالة الاستقطاب، وهو ما يشي بالاتجاه الذي يسير إليه مستقبل القوة والهيمنة الأمريكية على العالم.

و في مقال لها بعنوان “القوة الأمريكية ما بعد أفغانستان” نشرته مجلة فورين أفيرز37 الأمريكية، سعت جيسيكا تي ماثيوز، الرئيسة السابقة لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إلى تقديم رؤيتها عن كيفية ضبط الدور العالمي للولايات المتحدة ما بعد الانسحاب من أفغانستان. تقول ماثيوز: “إن التهديد الوجودي الذي كانت تمثله الحرب الباردة غطى على خلافات عميقة حول توصيف الموقف العالمي المناسب للولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، احتدم الجدل دون حسم بين أولئك الذين يعتقدون أن المصالح الأمريكية عالمية ويطالبون بتبني قيادة عدوانية، وأحادية الجانب في كثير من الأحيان، في معظم القضايا؛ وبين أولئك الذين يرون تبني مفهوم أضيق للمصلحة الوطنية ولكن نهج أكثر تعاوناً في السعي لتحقيقها. ولكن يبقى السؤال الأصعب المتعلق بالعناصر التي تُشكّل المصالح الأساسية الحيوية للأمن القومي دون إجابة”.

ترى ماثيوز أنه بعد الانسحاب من أفغانستان، قد تكون هناك فرصة سانحة الآن للشروع في إنهاء هذا المأزق الذي تجد الولايات المتحدة نفسها فيه والخروج منه. “فبمجرد أن ينصرف انتباه الناس عن الأخطاء التكتيكية التي ارتُكبت في الأسابيع الأخيرة من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليتحول إلى النظر إلى انحراف الهدف وخداع الذات خلال السنوات العشرين الماضية، فإن صدمة الفشل التي مُنيت بها الولايات المتحدة في أطول حرب خاضتها قد توفر لحظة مفتوحة لإعادة النظر في القائمة الطويلة من التدخلات السابقة وإعادة النظر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة على نطاق أوسع.”

وتقترح الكاتبة تبني نهج أمريكي مختلف للسياسة الخارجية، على أن تكون الخطوة الأولى فيه هي إعادة النظر في فكرة “الاستثنائية” الأمريكية. فعلى الصعيد المحلي، هناك عدم المساواة في الدخول المرتفعة، ثبات أو تراجع التوارث بين الأجيال، السياسة شديدة الاستقطاب، الانقسام العرقي، تقشي تبني نظريات المؤامرة، تضاؤل الواجب المدني، وحتى علامة الاستفهام الكبيرة التي توضع الآن بجانب الشرط الذي لا غنى عنه للديمقراطية – وهو الانتقال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات – كل هذه الأمور مجتمعة تضع “قوة نموذجنا” الأمريكي، باستخدام عبارة بايدن، محل شك في أحسن الأحوال.

وترى ماثيوز أن سِجل الولايات المتحدة في القيادة الدولية محل شك أيضاً. فمنذ منتصف التسعينيات، عندما بدأت الولايات المتحدة في حجب التزاماتها القانونية تجاه الأمم المتحدة ثم الوكالات الدولية الأخرى، يمكن القول إن سياساتها الخارجية، بشكل عام، أضعفت قدرة العالم على حل المشكلات العالمية.

وترى ماثيوز أنه على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في العديد من الممارسات القديمة: وأولها إعادة النظر في الاعتقاد بأن تجاهل دولة أخرى – رفض الاعتراف بها رسمياً أو التحدث إلى ممثليها – هو شكل مفيد من أشكال القيادة. وترى أنه على العكس من ذلك، هناك دليل واضح – من كوبا وإيران وأفغانستان وأماكن أخرى – على أن هذه الممارسة تضر في الغالب بالولايات المتحدة، وتعيق الدبلوماسية حين تكون الحاجة إليها شديدة، وتستنزف القدر الأدنى من الثقة المطلوبة لتقريب الخلافات، وتستلزم أن يتم تسليم أصعب وأدق المفاوضات إلى وسيط. وبالمثل، فإن الإفراط في الاعتماد على العقوبات، وخاصة العقوبات أحادية الجانب، غير مفيد وينبغي تقليصه بشكل جذري.

ترى ماثيوز أن مثل هذه التحولات قد ترقى إلى مستوى التغيير الجذري في ممارسات الولايات المتحدة السائدة منذ نهاية الحرب الباردة. وطبقاً لذلك، فلن تنظر أمريكا إلى نفسها بعد الآن على أنها “الشرطي الذي يؤدي مهمة عالمية”، كما كان يود أن يفعل المحافظون الجدد، ولن تُقلّص مصالحها الأساسية للدفاع ضد تهديدات الصين وروسيا، كما اقترح بعض الواقعيين. ستؤدي هذه التغييرات إلى تبني سياسة إعادة التوازن بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية؛ بحيث تكون أكثر تحفظا في شن التدخلات العسكرية وأكثر حكمة في تنفيذها؛ وأكثر إدراكا للحاجة إلى الأدوات متعددة الأطراف وإمكانيتها؛ وأقل عرضة للأعمال أحادية الجانب – التي غالباً ما تدمر الذات؛ وأكثر عقلانية في موقفها تجاه الديمقراطية في أماكن أخرى. إنها تعني، باختصار، إنهاء فوضى الهيمنة التي طالما تمسّكت بها الولايات المتحدة. فهل ما تقول به ماثيوز قابل للتحقق؟

فقدان الثقة

تواترت الكتابات الغربية حول موضوع فقدان ثقة حلفاء الولايات المتحدة بها، فعلى سبيل المثال، كتبت ليز سلاي وجون هدسون في صحيفة واشنطن بوست38 الأمريكية تحت عنوان: “انهيار أفغانستان يشكك الحلفاء في صمود أمريكا على الجبهات الأخرى“، حيث أكدا أن حلفاء الولايات المتحدة يشتكون من أنه لم يتم استشارتهم حول مثل هذا القرار السياسي بالانسحاب السريع من أفغانستان الذي من شأنه أن يعرض مصالحهم الأمنية الوطنية للخطر، واعتبروا أن ذلك يمثل انتهاكاً لوعود الرئيس بايدن بإعادة الالتزام بالمشاركة العالمية. وإزاء ذلك، تساءل كثيرون حول العالم عما إذا كان بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة للوفاء بالالتزامات الأمنية طويلة الأمد التي تمتد من أوروبا إلى شرق آسيا. وعرض سلاي وهدسون تساؤلات الكثيرين من المسئولين حول العالم عما إذا كان بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة للوفاء بالالتزامات الأمنية طويلة الأمد التي تمتد من أوروبا إلى شرق أسيا، ومن المفيد استعراض أهم هذه التساؤلات:

  • قال توبياس إلوود، رئيس لجنة الدفاع في البرلمان البريطاني، “ماذا حدث لشعار ’عادت أمريكا من جديد‘”؟ مشيراً إلى وعد بايدن في إطار السياسة الخارجية بإعادة بناء التحالفات واستعادة هيبة الولايات المتحدة التي تضررت خلال إدارة ترامب. وقال إلوود “يشعر الناس بالذهول من أنه بعد عقدين من الزمان على تدخل هذه القوة الكبيرة عالية التقنية، فإنهم ينسحبون ويعيدون البلاد بشكل فعال إلى الأشخاص الذين ذهبنا جميعاً إلى هناك من أجل هزيمتهم”. ويضيف، “هذه هي المفارقة. كيف يمكنك القول أن أمريكا قد عادت من جديد بينما تمت هزيمتنا من قِبل تمرد تسليحه لا يزيد عن قذائف آر بي جي وألغام أرضية وبنادق كلاشنكوف؟”!
  • أما وزير التنمية الدولية البريطاني في حكومة تيريزا ماي المحافظة روري ستيوارت، فقال إنه على الرغم من قدراتها العسكرية الكبيرة، فإن دور الولايات المتحدة الذي امتد لعقود مضت كمدافع عن الديمقراطيات والحريات يتعرض للتهديد مرة أخرى. وأضاف بأن “الديمقراطية الغربية التي كانت تبدو وكأنها مصدر إلهام للعالم، ومنارة للعالم، تدير الآن ظهرها لهم”.
  • وتعليقاً على ذلك أيضاً، قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس “… من الناحية الاستراتيجية، سيتسبب ذلك في الكثير من المشاكل، وكمجتمع دولي، فإن ما نراه اليوم أمر صعب للغاية …”.
  • أما مديرة المجلس الألماني للعلاقات الخارجية كاثرين كلوفر أشبروك، فقد قالت “لقد دفعت طريقة وتنفيذ الانسحاب على هذا النحو الحلفاء للشعور بالخيانة… إن بعض المسؤولين والمشرعين الألمان يشعرون بالغضب من عدم قيام واشنطن باستشارة شركاء التحالف معها مثل برلين. وقالت أشبروك: “جاءت إدارة بايدن إلى السلطة ووعدت بإجراء حوارات مفتوحة وشفافة مع حلفائها. قالوا إن العلاقة عبر الأطلسي ستكون محورية”. “وكما هو الحال، فإنهم يتشدقون بالعلاقة عبر الأطلسي ولكنهم ما زالوا يعتقدون أن على حلفائهم الأوروبيين أن يتماشوا مع أولويات الولايات المتحدة.” وأضافت “لقد عدنا إلى العلاقة القديمة عبر الأطلسي، حيث يملي الأمريكيون كل شيء … ’نعم، نريد أن نتشارك معكم، ولكن في الواقع، نريد أن نستطيع أن نملي ما يجب عليكم القيام به ومتى؟”.
  • كما أعرب خصوم الولايات المتحدة أيضاً عن استيائهم. وكان من بين هؤلاء الصين، حيث قال الكولونيل وو تشيان، المتحدث باسم وزارة الدفاع الوطني الصينية، إن واشنطن “تتحمل مسؤولية حتمية عن الوضع الحالي في أفغانستان”. ولا يمكنها الرحيل وإلقاء العبء على دول المنطقة “.
  • وقال فيودور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي ورئيس تحرير مجلة “روسيا في الشؤون العالمية”، إن روسيا صُدمت لسرعة تفكك الحكومة التي نصّبتها الولايات المتحدة في كابول. وقال إن الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي دام عقداً من الزمن، وانتهى في عام 1989، يُذكر على نطاق واسع على أنه فشل، ولا يجعل روسيا مستعدة لإعادة الانخراط بشكل وثيق مع أفغانستان. لكن لوكيانوف أشار إلى أن الحكومة التي تركها السوفييت وراءهم استمرت على الأقل لمدة ثلاث سنوات بعد انسحاب قوات الجيش الأحمر. وقال “نحن نعتقد بأن فشلنا كان كبيراً، لكن يبدو أن فشل الأمريكيين كان أكبر”.
  • وفي تعليق موجَّه إلى هونج كونج، استشهدت صحيفة جلوبال تايمز الصينية الحكومية بأفغانستان في إشارة إلى نشطاء الديمقراطية بعدم الالتفات إلى الوعود الأمريكية المتكررة “بالوقوف إلى جانب” هونج كونج. وقالت جلوبال تايمز “لقد ثبت مرارا أن أيا كان من يدعي السياسيون الأمريكيون الوقوف بجانبهم سيواجهون نفس سوء الحظ وسيغرقون في اضطرابات اجتماعية وسيعانون من عواقب وخيمة”.

وفي محاولة لإلقاء الضوء على ما يمكن أن يعنيه الانسحاب من أفغانستان بالنسبة لسمعة الولايات المتحدة، كتب جوشوا د. كيرتزر، الأستاذ في جامعة هارفارد، مقالاً له بعنوان “المصداقية الأمريكية بعد أفغانستان” نشرته مجلة فورين أفيرز39 الأمريكية. حيث يقول كيرتزر إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والانهيار المفاجئ للحكومة في كابول دفع منتقدي الرئيس جو بايدن إلى القول بأن مصداقية الولايات المتحدة قد تلقت ضربة موجعة، وأن حلفاء الولايات المتحدة قد فقدوا الثقة في أنها يمكن أن تفي بالتزاماتها العالمية.

و يرى كيرتزر أنه من المرجح أن تكون عواقب الانسحاب الأمريكي على سمعة أمريكا أكبر بكثير من تأثر مصداقيتها بذلك، ويُرجع ذلك إلى حقيقة أن الانسحاب من أفغانستان كان مرتبكاً وفوضوياً، حيث سيطرت طالبان على أفغانستان بسرعة أكبر مما توقعته إدارة بايدن وأعلنته على الملأ؛ وكذلك لهجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالقنابل على مطار كابول بينما كان المواطنون الأفغان والأجانب يحاولون الخروج من البلاد؛ وانتشار صور حية لأفغان يتشبثون بالطائرات العسكرية الأمريكية لتجنب التخلف عن ركب الفارّين. ويستنتج كيرتزر من ذلك أن الضرر الذي ألحقته هذه الأحداث والصور بسمعة الولايات المتحدة – من حيث الكفاءة والالتزام بحقوق الإنسان ولعب دور قيادي في المجتمع الدولي – أمر حقيقي ومن المرجح أن يستمر أثره طويلاً.

ويرى كيرتزر أن على الولايات المتحدة ألا تتوقع أبداً أن الكُلفة العالية المرتبطة بسمعتها في العالم يمكن أن تتوقف عند إدارة جو بايدن. حيث من المرجح أن يؤثر الانسحاب على التقييمات ليس فقط لسمعة الإدارة الحالية ولكن أيضاً لسمعة الولايات المتحدة ككل، نظراً لأن الدولة بأكملها، وليس زعيماً واحداً، يُنظر إليها على أنها قد تخلت عن القتال في أفغانستان.

ويقول إن تصور العالم عن العزيمة والإرادة الأمريكية ليس هو الضرر الوحيد الذي قد يلحق بسمعة الولايات المتحدة بسبب الوضع في أفغانستان. فقد تترتب على صور المأساة الإنسانية على الأرض آثار ضارة بشكل أوسع على سمعة الولايات المتحدة في دعم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والموثوقية كحليف، والأهم من ذلك، على الكفاءة والجدارة.

ويستشهد كيرتزر بمقال سامانثا باور، مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي نشرته في مجلة فورين أفيرز في عام 2020، على أن إعادة بناء الثقة تتطلب استعادة “سمعة الولايات المتحدة فيما يخص الكفاءة”، والتي تعثرت خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الجمود الحزبي والمواجهة السيئة لجائحة كوفيد-19.

و يأتي في إطار أثر تدهور الثقة من حلفاء أمريكا في جديتها وقدرتها على تقديم الدعم اللازم، تصريح جوزيف بوريل40، مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في 2 سبتمبر 2021 أن “هناك حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لقوة دفاعية أوروبية، وأضاف “نطمح إلى تقديم الخطة الدفاعية للاتحاد خلال الأشهر المقبلة، وأحداث أفغانستان عجلت بالأمر”. وذلك رغم أنه من الصعب أن تتخذ أوروبا مواقف موحدة بهذا الشأن.

طالبان نموذج للصمود

لقد أعطت طالبان برهانا آخر على مدى قدرة حركات المقاومة في الصمود والثبات ثم تحقيق النصر على مثل هذه المنظومة المهيمنة، وعلى الحكومات العميلة التابعة لها، وهو ما تكرر في فيتنام والعراق وغيرهما، مما سيشجع حركات المقاومة في المستقبل في أي مكان على انتهاج نفس النهج، مما ينهي بالضرورة السيطرة الإمبراطورية الغربية على الدول المستضعفة ويشجع على تحديها.

في مقال روبن رايت الذي نشرته مجلة نيويوركر41 وأشرنا إليه من قبل، تؤكد فيه أن ذلك الانسحاب المهين والهزيمة الثقيلة جاء نتيجة صمود حركة طالبان وداعميها على مدى عشرين عاماً. بل إنها ترى أنها  “ليست مجرد هزيمة ملحمية للولايات المتحدة”، حيث تعتبر أن “سقوط كابول قد يكون بمثابة نهاية لعصر القوة العالمية للولايات المتحدة”.

وتؤكد رايت أنه “قد ثبت الآن أن الأدوات والتكتيكات الأمريكية الهائلة غير مجهزة جيداً لمواجهة إرادة وصمود طالبان وداعميها”. وترى رايت أن من أبرز تداعيات هذه الهزيمة المُذلّة، والتي ستستمر لفترة طويلة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، هو انتصار النزعة الجهادية في معركة رئيسية ضد الديمقراطية، وأن ذلك سيحفز طالبان مرة أخرى لتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في حكمها البلاد. وتقول أيضاً إن كلاً من أفغانستان والعراق أثبتتا أن “الولايات المتحدة لا تستطيع بناء دول أو إنشاء جيوش من الصفر. “فقد أنفقت الولايات المتحدة ثلاثة وثمانين مليار دولار على تدريب وتسليح قوة أفغانية قوامها حوالي ثلاثمائة ألف عنصر – أي أكثر من أربعة أضعاف حجم ميليشيا طالبان” ولكنها عندما جد الجد فروا جميعاً ودخل مسلحو طالبان كابول دون أي مقاومة تُذكر.” وترى أن هذا الانسحاب الكبير الذي اضطرت إليه أمريكا قد ساهم في إضعاف مكانة أمريكا في الخارج بشكل كبير، وأنه “من الصعب أن ندرك كيف يمكن أن تنقذ الولايات المتحدة سمعتها أو موقعها في أي وقت قريب”.

ويؤكد مقال مجلة الإيكونوميست42 أن الانسحاب الكبير من أفغانستان يعطي حركة طالبان تأكيداً بأنهم قد هزموا قوة عظمى، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت في أفغانستان 2 تريليون دولار. وفقدت أكثر من 2,000 جندي أمريكي، وعدد لا يُحصى من الأفغان، إلا أنه بعد الانسحاب عادت أفغانستان إلى المربع الأول، وأن طالبان تسيطر الآن على البلاد بشكل أقوى مما كانت عليه عندما فقدت السلطة؛ وهم الآن أفضل تسليحاً، بعد أن استولوا على الأسلحة التي كانت أمريكا تُمطرها على الجيش الأفغاني.

ويؤكد إيشان ثارور، الصحفي وكاتب العمود بواشنطن بوست، في سلسلة مقالات تحت عنوان “العالم الذي أوجدته 9 /11: الإرث المترامي والمظلم للحرب الأمريكية على الإرهاب” في صحيفة واشنطن بوست43، أنه يتعين على الخبراء الاستراتيجيين في واشنطن تحمل المسؤولية عن هذا الفشل المرير (أمام صمود طالبان). وبينما “ستحيي طالبان الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في نهاية هذا الأسبوع وقد عادت إلى سدّة الحكم، وضمن كبار الوزراء في حكومتهم الجديدة أحد المطلوبين لمكتب التحقيقات الفيدرالي”، يتلاوم الجمهوريون والديمقراطيون على هذا الفشل الذريع.

موقف الصين من الانسحاب من أفغانستان

من المهم إدراك أن الصين تنظر إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان على أنه يخلق مخاطر وفرصاً في نفس الوقت، ففي حين أن بكين تحافظ على علاقة جيدة مع طالبان، حتى قبل الانسحاب الأمريكي، إلا أن وزير الخارجية الصيني وانج يي اتصل بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكين بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان وأبلغه في مكالمة هاتفية أن المغادرة السريعة للقوات الأمريكية قد تسببت في إحداث “آثار شديدة السلبية”. كما حدد أيضاً تداعيات أوسع لهذا الانسحاب، بقوله إنه (أي الانسحاب من أفغانستان) قد أظهر عدم قدرة أمريكا على نقل نموذج حكم أجنبي إلى دولة ذات سمات ثقافية وتاريخية مختلفة، وذلك بحسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست44 بعنوان “الانسحاب من أفغانستان يجبر الحلفاء والخصوم على إعادة النظر في الدور العالمي لأمريكا“.

ويرى بعض المحللين الصينيين أن ما حدث لأمريكا في أفغانستان يثبت عدم قدرة المنظومة الغربية على فرض أسلوب الحياة والنظام الذي تريده، وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها عن طريق القوة العسكرية الباطشة، وذلك بالطبع في مقابل الأسلوب الصيني الذي يقترب من الشعوب من خلال الدعم المالي والتنمية الاقتصادية. وهذان العاملان – فشل محاولة الغرب فرض أسلوب حياته والأنظمة التي يريدها، وعدم قدرته على تحقيق أهدافه عبر القوة العسكرية الباطشة – يدلان بدون شك على تراجع المنظومة الاستعمارية الغربية (بصرف النظر عن نجاعة المنظومة التي تطرحها الصين). وهذا بكل تأكيد يصب في خانة المكانة الصينية في إطار المنافسة مع الخصم الأمريكي.

التراجع الأمريكي العام

في حقيقة الأمر، وكما يذكر د. وليد عبد الحي في مقال له بعنوان “التداعيات الشرق أوسطية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان“، نشره على موقع الخليج الجديد45، أن الباحثين في علوم المستقبليات لم يتفاجأوا بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حيث تنبأوا بهذه النتيجة في إطار نظرية التراجع الأمريكي العام، من شتى جوانبه العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنه توجد الكثير من الدراسات حول هذه النظرية لباحثين أمريكيين وأوروبيين وروس وصينيين ومن العالم النامي يشكلون ما يسمى بتيار Declinists، ويضيف د. وليد عبدالحي أنه كان هناك استبيان تم توزيعه في المؤتمر الذي عقد في عام 1989 في واشنطن على العلماء والباحثين في الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية وكان عددهم 189 باحثا، وجميع المشاركين أجابوا على سؤال: “هل تعتقد أن الولايات المتحدة تتراجع في مكانتها في النظام الدولي؟” بالإجماع بـ “نعم”.

وفي دراسة للدكتور وليد عبد الحي أيضا حول نظرية التراجع الأمريكي العام نشرها مركز الزيتونة للدراسات46، يقول إن فترة الخمسينيات من القرن العشرين تكاد تمثل نقطة البداية في أدبيات “تيار التراجع” في المكانة الأمريكية على المستوى الدولي، وأن جذور هذا التيار تمتد إلى تداعيات فترة الكساد الكبير التي امتدت حتى مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، ثم تنامي القوة الألمانية قُبيل الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى تنامي القوة السوفييتية لا سيّما بعد إطلاق القمر الصناعي سبوتنيك في الخمسينيات، ثم انتشار الأيديولوجية الشيوعية التي تتوّجت بالهزيمة الأمريكية الثقيلة في فييتنام، ثم عرفت فترة السبعينيات والثمانينيات تنامي متسارع للقوة والمكانة اليابانية، ثم تبع ذلك بداية توسع الاتحاد الأوروبي وصولاً لمؤسسات مشتركة وعملة واحدة، والآن تتركز أدبيات التراجع الأمريكي على التنامي في المكانة الصينية.

وبحسب د. عبدالحي أيضاً، فإن خصوم نظرية التراجع الأمريكي، يرون أن كل الأدبيات السابقة انتهت بفشل وانهيار القوى التي راهنت تلك الأدبيات عليها كبديل للمكانة الأمريكية، وهو ما يتضح في نهاية النازية، وانهيار الشيوعية، والتلكؤ الياباني، ثم التشقق في جدران الاتحاد الأوروبي، وهو ما أفرز أدبيات سياسية معاكسة تتحدث عن نهاية التاريخ، وانتصار النموذج الرأسمالي الذي تأتي على قمته الولايات المتحدة، مستندين في توجهاتهم إلى مؤشرات التفوّق العلمي الأمريكي، ثم دخول الولايات المتحدة مرحلة الاستقلال الطاقوي، بل ودخول أسواقه كمنافس مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تغيرات جيو-استراتيجية في بنية النظام الدولي القادم، كما أن القوى العسكرية الأمريكية لا يمكن مقارنتها من حيث الانتشار، والقوة النارية، والإنفاق الدفاعي مع أي دولة أخرى، بل إن بعض الدول مثل “إسرائيل” وتايوان موجودة نتيجةً لاتكائها الكامل على القوة والنفوذ الأمريكي.

ولكن النقطة التي يكاد أن يجمع عليها الباحثون هي أن الفجوة الفاصلة في أغلب المؤشرات بين الولايات المتحدة والصين تتقلص باستمرار نتيجة تسارع التطور الصيني قياساً للتسارع الأمريكي في المجال نفسه. وعليه، فإن تيار التراجع يركّز على سرعة التغيّر في كل من الدولتين؛ فالولايات المتحدة تعرف تطوراً في كثير من القطاعات، لكن سرعة إيقاع تطورها أقل بكثير من سرعة التطور الصيني، وعليه فإن نظرة تيار التراجع تمنحه القدرة على التنبؤ بنتائج السباق لكن التيار الآخر يسعى لتجاوز هذا الجانب الأهم.

والحقيقة أن تلك الإشارات الممتدة عبر السنين، في هذه الكتابات وغيرها، تؤكد هذه الاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون منذ سنوات طويلة حول التراجع الأمريكي العام، والذي تتسارع وتيرته مؤخرا، ولكن مع الأسف أصحاب النظرة الانهزامية لا يزالون يرون أن كل شيء بيد أمريكا وأنه لا تغيير يحدث في العالم بدون موافقتها، ولا حماية للأنظمة إلا تحت مظلتها، وذلك لأنها ستبقى في موضع القيادة والسيطرة العالمية للأبد!.

وبالطبع لا تعني نهاية العصر الأمريكي أن تتفكك الولايات المتحدة على غرار تفكك الاتحاد السوفييتي مثلا دفعة واحدة، أو أن تنهار الدولة الأمريكية، ولكن ما نعنيه هنا هو تراجع النفوذ الأمريكي والهيمنة المنفردة على مقدرات العالم وتراجع التواجد العسكري في مناطق العالم المختلفة. بالنظر مثلا إلى بريطانيا العظمى التي قادت العالم لقرون ثم انتهى دورها، هل تفككت أو زالت من الخريطة؟ بريطانيا لازالت دولة كبيرة وقوة نووية، لكنها فقدت مستعمراتها وتفككت إمبراطوريتها وفقدت صلاحيتها لتقود العالم، وحلت الولايات المتحدة محلها. ومثل هذا متوقع، أي فقدان الولايات المتحدة مناطق وجودها المؤثر الواحد تلو الأخر حتى تفقد القدرة على قيادة العالم والتأثير فيه لتحل محلها قوة أو قوى كبرى أخرى، أو على الأقل تزاحمها في مناطق نفوذها.

لكننا في هذا السياق، لا نستطيع أن نغفل أثر العوامل الداخلية التي تنخر في الجسد الأمريكي وتهدد بتقويض استقرار الدولة وقدرتها على البقاء على المدى الطويل، وأهم هذه العوامل الاستقطاب الحاد الذي وضعه فوكوياما في مقدمة أسباب التراجع الأمريكي، ويمكن أن نضيف إلى هذا قائمة طويلة من العوامل المدمرة مثل تصاعد دعاوى العنصرية وتفوق الجنس الأبيض، والعنف المرتبط بذلك، والتفاوت الحاد بين مستويات دخول الأفراد الأمريكيين، والظلم الاجتماعي وارتفاع معدلات الفقر، والانحلال الخلقي والتفكك الأسري، والفروق الديمغرافية الحادة، إلى غير ذلك من العوامل التي تنخر المجتمع الأمريكي من داخله.

و يرى مثلا الباحث والكاتب الأمريكي المخضرم من معهد بروكنجز روبرت كاجان47 أن الولايات المتحدة تسير قدما نحو أكبر أزمة سياسية ودستورية لها منذ الحرب الأهلية، مع احتمال وقوع حوادث عنف جماعي وانهيار للسلطة الفدرالية وتقسيم البلاد لجيوب متحاربة يتباين ولاؤها بين جمهوريين وديمقراطيين على مدى السنوات الثلاث إلى الأربع القادمة. ويبني كاجان هذا السيناريو على الشواهد القوية لارتفاع شعبية ترامب مؤخرا في استطلاعات الرأي على بايدن، وعلى ما يمكن أن يصاحب هذا الأمر من توترات كبيرة تفوق ما حدث إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفي ظل تصاعد الادعاءات داخل الحزب الجمهوري بالتلاعب في كل انتخابات يخسرونها، وحملات “أوقفوا السرقة” المتعلقة بالأصوات الانتخابية، وإمكانية حدوث ذلك في انتخابات الولايات في العام المقبل، مع وجود سلطة تحريك قوات الحرس الوطني من قبل إدارة بايدن، كل هذا سيؤدي في النهاية إلى أعمال عنف قد تخرج عن إطار السيطرة، وتكون أحداث السادس من يناير 2021 باقتحام مبنى الكابيتول، بالنسبة لها مجرد بروفة صغيرة.

و بالفعل فإن بعض استطلاعات الرأي48 المنشورة في الولايات المتحدة في أوائل سبتمبر 2021 يفيد أن الأمريكيين يدعمون بأغلبية ساحقة قرار الرئيس بايدن بإنهاء الحرب في أفغانستان، لكنهم يعترضون على الطريقة الفوضوية والمميتة للانسحاب والذي تضمن إجلاء عدة آلاف من المواطنين الأمريكيين وعشرات الآلاف من الأفغان. وبالتالي فإن شعبية بايدن انخفضت من نحو 52% في شهر إبريل إلى 44% في أوائل سبتمبر. وللدلالة على ذلك أيضا، فقد أظهر استطلاع رأي أخر49 لمؤسسات هارفارد – هاريس مؤخرا  أن التقييم الإيجابي لترامب أصبح الآن 48% مقارنة ب 46% لبايدن بعد ثمانية أشهر من تولي الأخير، بما يؤشر على أسف الكثيرين على انتخاب بايدن، وأن ذلك جاء بسبب عملية الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، فضلا عن عدد من القضايا الداخلية الأخرى التي لم يحقق بايدن فيها النجاح المأمول. وقال أيضا 55% من الذين استُطلعت آراؤهم أن مايك بنس كنائب للرئيس كان أفضل من كامالا هاريس.

ثالثا: التداعيات الدولية والإقليمية للهزيمة الأمريكية والتراجع في الدور الأمريكي

إن الغرض الرئيس من هذه الدراسة هو محاولة استشراف تداعيات الهزيمة الأمريكية في أفغانستان، وهو ما لا يمكن القيام به بشكل سليم إلا بتوصيف حجمها الحقيقي ثم وضع هذا الحدث الهام في سياقه الأكبر، والمتعلق بالتراجع الأمريكي بشكل عام والاتجاه نحو تقلص الدور الأمريكي الإمبراطوري خارج نطاق الولايات المتحدة لصالح تقاسمه مع أطراف أخرى. ومن هذا المنطلق، فإن القسم الأول من هذه الدراسة تطرق إلى حقيقة المشهد الأمريكي في أفغانستان طيلة العشرين عاما الماضية، وطبيعة الهزيمة الأمريكية المخزية هناك، ثم تعرض القسم الثاني إلى استكشاف مستقبل الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم في سياق الهزيمة في أفغانستان، وذلك بالأساس من واقع كتابات مجموعة من أهم الكتاب والمفكرين الغربيين الذين لا يمكن اتهامهم بالتحيز ضد الولايات المتحدة والغرب (بل منهم من هم معروف عنهم التحيز ضد العرب والمسلمين من أمثال هنري كيسنجر ونيال فيرجسون وروبرت كابلان)، ومن ثم يمكن استشراف بعض التحولات المتوقعة إقليمياً ودولياً بشكل موضوعي.

إن حجم المتغيرات المصاحبة للهزيمة الأمريكية في أفغانستان، ودلالاتها على مستقبل الهيمنة الأمريكية العالمية، يفرض تداعيات ضخمة على كافة المحاور الدولية والإقليمية، وهذا بالطبع ليس مستغربا حيث أن المرحلة الحالية هي تلك التي يحدث فيها الانتقال من النظام العالمي الذي فرضته الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتهت به إلى وضع أحادي القطبية، تتحكم من خلاله بشكل يكاد يكون منفردا في كافة متغيرات الساحة الدولية، وذلك إلى نظام عالمي جديد لازال في طور التشكل، ولمّا تتضح بعد ملامحه النهائية، وهذا بالضرورة سيفرض طبيعة حادة لما يحدث من متغيرات،  وقد يصاحبها درجة مرتفعة من الفوضى والاضطراب.

و إذا كانت تلك هي طبيعة المتغيرات المتوقعة، فضلا عن أن عملية الاستشراف تلك ليست بالأمر الهين، نظرا للطبيعة المركبة للعوامل المؤثرة عليها، وللحجم الهائل من المتغيرات المستحدثة العميقة المؤدية لها، فإن الأمر يحتاج جهدا جمعيا تقوم به مجموعة متعددة التخصصات والخلفيات، في إطار دراسات ومناقشات متعمقة، إلا إني في هذه الدراسة، أحاول فتح المجال لهكذا عمليات. ولعلنا نضطلع في المعهد المصري للدراسات بالقيام بهذا الأمر من خلال مشروع بحثي متكامل، نركز فيه، بالإضافة للمتغيرات الدولية المنتظرة بشكل عام، على المنطقة العربية والمنطقة المحيطة بها والمصطلح على تسميتها بالشرق الأوسط. وبالتالي فإنني سأحاول في الجزء الباقي من الدراسة مجرد رصد لملامح عدد من التغيرات التي تلوح في الأفق، وبدأت تتكشف فصولها في أعقاب الانسحاب الأمريكي مباشرة، ثم أقوم بطرح عدد من الأسئلة المتعلقة بالتغيرات المحتملة في ضوء ما تم رصده بالفعل، مع طرح بعض من التوقعات من واقع رؤيتي الشخصية للأحداث، وذلك تمهيدا لجهد أخر نقوم به من خلال المعهد المصري للدراسات، أو يقوم به أخرون، لمحاولة استشراف التداعيات والتحولات الدولية والإقليمية ذات العلاقة في المدى المنظور.

مستقبل الدور الأمريكي في أفغانستان وتداعياته الدولية

إن النتيجة المباشرة للانسحاب من أفغانستان (والذي تقرر في واقع الأمر في عهد الرئيس ترامب) هي عدم تحقق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، والتي كان العسكريون الأمريكيون يريدون بسببها المكوث في أفغانستان 50 عاما على الأقل كما قال الكولونيل المتقاعد لورانس ويلكرسون، فقد ترك الأمريكيون مكانهم الاستراتيجي المؤثر على قلب المبادرة الاستراتيجية الصينية، الحزام والطريق، وخارج نطاق التأثير المباشر في ملف الإيجور الذي يمكن أن يكون مؤلما للصين، وبعيدا عن الحدود الشرقية لإيران (بعد أن ابتعدوا أيضا عن حدودها الغربية بعد الخروج من العراق)، وبعيدا عن نطاق القوة النووية الباكستانية الكبيرة، وغير ذلك من المزايا الاستراتيجية بالتواجد في أفغانستان.

ويمكن القول إن مستقبل الدور الأمريكي في أفغانستان سيتحدد بناء على الإجابة على عدد من الأسئلة، مثلا: هل يمكن أن تدعم أمريكا مساعي التمرد على طالبان، وذلك بدعم تحالف الشمال (علما أن طالبان استطاعت بسرعة وقف الإرهاصات الأولى لتمرد هذا التحالف)؟ ما هي القوى الخارجية التي يمكن أن تسعى لتخريب استقرار أفغانستان؟ أم هل ستسعى الولايات المتحدة  إلى توظيف داعش والميليشيات الشيعية المناوئة للدخول في صراع، على غرار ما يمكن تسميته “سيناريو العراق”، أم ستلجأ الولايات المتحدة إلى مزيج من بعض التعاون مع طالبان على المستوى الرسمي، مع اضطلاع القوى الاستخبارية بعمليات مغطاة لزعزعة الاستقرار؟ هل يمكن أن تتصاعد الضغوط لدفع طالبان لتقديم تنازلات في مقابل اكتساب الشرعية الدولية، من خلال الملف الاقتصادي والتمويل والمساعدات وغيره؟

ولكن بشكل عام من الصعب تصور رضوخ طالبان لمثل هذه الضغوط وهي التي لم تتنازل بشكل عام في ظل الصراع العسكري الطاحن، فكيف وقد بدأت في السيطرة الكاملة على أفغانستان الآن؟ يحتاج الموضوع لبعض الوقت لرصد أهم المتغيرات لكي يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة.

و على الجانب الأخر يبدو أن التعاون الوثيق بين الصين وطالبان قد بدأت ملامحه تظهر بالفعل. فالصين مهتمة بأفغانستان لثلاثة أمور رئيسية: مبادرة الحزام والطريق، والثروات المعدنية الضخمة المتواجدة فيها، ولتجنب أي تهديد من قبل تنظيمات الإيغور المسلحة. وكانت طالبان قد التزمت بالفعل بعدم دعم الإيغور منذ عام 2016، رغم أن بعض تنظيمات الإيغور كانت تقاتل معهم. وقد صدرت بالفعل مؤخرا عن بعض قادة طالبان تصريحات واضحة بأن الصين هي التي ستقود جهود إعادة الأعمار في أفغانستان. وبدون شك، فإن خسارة النفوذ الأمريكي في أفغانستان التي تربطها علاقة جوار مباشر مع خصمين رئيسيين لأمريكا، الصين وإيران، هي خسارة استراتيجية للولايات المتحدة، مما يقلل كثيرا من نفوذها الدولي كقيادة عالمية مهيمنة.

كما أنه من المنتظر أن يكون هناك تعاون قوي أيضا لطالبان  مع باكستان، وهي التي دعمت حركة طالبان طوال الوقت، وبالتأكيد سترغب في استثمار هذا الدعم لتحقيق أهداف استراتيجية تتحقق بوجود حكم قوي مؤيد لها في أفغانستان، وتتمثل هذه الأهداف في منع الهند من الالتفاف على باكستان بالسيطرة على أفغانستان، حيث استثمرت الهند كثيراً في علاقتها بالنظام السابق في أفغانستان؛ وإيقاف استنزاف قواتها في متابعة النزاعات الحدودية شمالاً وغرباً (تُقدر بنحو 150 ألف جندي) والاستفادة بها في موقع أخر؛ ووجود قوة محلية لا تعارض باكستان وتعارض في الوقت نفسه النزعات الانفصالية للبشتون الباكستانيين، ممثلين في طالبان باكستان؛ ومحاصرة تنظيم الدولة (ولاية خراسان)؛ وفتح طريق التجارة إلى وسط أسيا، ومنها إلى تركيا وأوروبا، وهو ما يُنتظر أن يحقق عوائد هائلة لباكستان، وغير ذلك من الأهداف الهامة.

كما أن قادة طالبان كانوا قد أبدوا اهتماما بالتعاون الاستراتيجي مع تركيا (و لكن خارج إطار حلف الناتو)، وخاصة أن تركيا ترى أيضاً في أفغانستان قيمة استراتيجية كبيرة في موقع هام بجوار دول الاتحاد السوفييتي السابق من ذوي الأصول التركية، خاصة أوزبكستان، وتركمانستان، وتوفر فرصا اقتصادية كبيرة لتركيا في مشاريع إعادة الأعمار. وقد يكون من المفيد حدوث تعاون تركي-باكستاني للمساعدة في إعمار أفغانستان ومحاولة تقديم دعم حقيقي لتنمية الإنسان الأفغاني فيما يتعلق بالصحة والتعليم والبحث العلمي، فضلا عن مشروعات البنية الأساسية والتعدين وغير ذلك من مجالات التنمية والنهوض، بما يدفع لتحقيق الاستقرار المنشود. ويوضح د. محمد مكرم بلعاوي50 في مقال مهم نشره على موقع ميدل إيست مونيتور، الأسباب التي دعت تركيا لتغيير سياستها التي كانت أقرب للحكومة السابقة، إلى موقف يتقدم لدعم الوضع الجديد، مع بعض الحذر.

الخلاصة أن أفغانستان لديها الكثير من البدائل والمخارج التي يمكن أن تواجه عن طريقها الضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة مما يقلل من تأثير مثل هذه الضغوط ويجبر الولايات المتحدة على سلوك مسار مهادن للحركة.

و في نهاية الأمر، فإن أمريكا تدرك هزيمتها بالفعل، ومن واقع الخبرة بالنهج الأمريكي الواقعي، فإن كاتب هذه الدراسة يرى أن أمريكا ستحاول الالتفاف عليها وتقليل الخسائر والاستفادة من الوضع الحالي بشتى الطرق. وفي هذا الصدد، لا يستطيع المرء إلا أن يستحضر المثل الأشهر المتجذر في الذهنية الأمريكية وهو: (If you can’t beat them, join them)، أي إذا لم تستطع أن تغلبهم، فالتحق بهم. ومن الواضح أن التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في عمليات الإجلاء يشي بإمكانية التنسيق في أمور أخرى، كالحرب على تنظيم الدولة، على سبيل المثال.

وبصرف النظر عن تصريحات التهديد والوعيد من الغرب من أجل حفظ ماء الوجه، فإن تقديري أن المستقبل سيحمل تعاوناً وتنسيقاً مع طالبان، ولن تخاطر أمريكا بالابتعاد كثيراً عن الحركة والذي إن حدث سيدفع الأخيرة دفعاً لتصعيد التعاون الاستراتيجي مع الصين.

التنافس الأمريكي الصيني والنظام العالمي الجديد

ستساعد التطورات الأخيرة في أفغانستان على تسارع التقدم الاستراتيجي للصين وزيادة الجرأة على المصالح والنفوذ الأمريكي، وكسب مساحات جديدة باستمرار، فقد أعطى هذا الانسحاب بالفعل للصين مساحة جديدة للحراك الجيوبوليتيكي والاقتصادي، وفرض تغيرات في أجندة العلاقات الأمريكية الصينية؛ فالأمر لم يعد يتعلق بالتعاون وألياته، بل بالسعي لتقاسم النفوذ والتأسيس لنظام عالمي تعددي يراعي التحولات الحاصلة. وقد ظهر هذا بوضوح فيما قاله الرئيس الصيني شي شينبينج في محادثته التليفونية في أعقاب الانسحاب من أفغانستان مع الرئيس بايدن، والتي استمرت نحو الساعة والنصف، حيث قال”مستقبل العالم ومصيره يعتمدان على قدرة الصين والولايات المتحدة على إدارة علاقاتهما بشكل صحيح. هذا هو سؤال القرن الذي يتعين على البلدين الإجابة عنه”.

و بالتالي فمن المؤكد  أن تحاول أمريكا، على المستوى الدولي والإقليمي، تجميع ما تبقي لها من قوة وسمعة في مواجهة النفوذ الصيني في جوارها المباشر، في بحر الصين الجنوبي، وتايوان، وكوريا الجنوبية، والمحيط الهادي؛ والتواجد القوي في هذه المناطق، وتقوية التحالف مع الهند واليابان وأستراليا المعروف باسم “كواد” Quad، والذي عقد اجتماعا مؤخرا في 24 سبتمبر لأول مرة حضوريا على مستوى الرؤساء؛ إلى غير ذلك، بما سيؤثر حتما على توازنات النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية.

و قد تمثلت أحدث الخطوات الضخمة على هذا الطريق في الإعلان المفاجئ في منتصف شهر سبتمبر 2021 عن الشراكة الأمنية الجديدة بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا لحماية مصالح الدول الثلاث في المحيطين الهادي والهندي، والمسماة بـ أوكاس AUKUS، وبحسب البيان الصادر، “يعكس التحالف المستوى الفريد من الثقة والتعاون بين البلدان الثلاثة، التي تتشارك بالفعل معلومات استخبارية واسعة من خلال تحالف العيون الخمس” (في إشارة إلى التحالف الاستخباراتي بين دول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا).

وأضاف البيان أن المبادرة الأولى في إطار التحالف ستكون التعاون بشأن توفير غواصات تعمل بالطاقة النووية في المستقبل للبحرية الملكية الأسترالية. وقال إن “هذه القدرة ستعزز الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وسيتم نشرها لدعم قيمنا ومصالحنا المشتركة”. وقال وزير الدفاع الأمريكي: “مساعدة أستراليا على حيازة غواصات نووية ستساهم في خلق قوة ردع متكاملة في المنطقة. وللدلالة على أهمية هذا التحالف الجديد، ذكر الكاتب الأمريكي هنري أولسن في صحيفة الواشنطن بوست51: “إن احتواء الصعود الصيني هو الهدف الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة، واتفاق أوكاس إشارة أخرى إلى أن بايدن يتخذ خطوات هامة وإيجابية نحو تحقيق هذا الهدف.”

و تجدر الإشارة إلى وجود أكثر من نصف عدد الغواصات النووية في العالم[4] (حوالي 152 غواصة) لدى دول اتفاق أوكوس (الولايات المتحدة 70 غواصة، المملكة المتحدة 10 غواصات، وبعد الاتفاق أستراليا 12 غواصة). ويبدو أن واشنطن تحاول من خلال تبني استراتيجية نقل التكنولوجيا العسكرية وليس نقل القوات والمعدات، كما فعلت في اتفاقها الأخير مع أستراليا، إلى السعي للإحاطة بالمشروع الصيني، دون أن تضيف أعباء كبيرة على ميزانيتها العامة، كما فعلت من قبل في أفغانستان والعراق دون تحقيق انتصارات ذات قيمة كبيرة.

وقد قوبل هذا الإعلان المفاجئ بعاصفة من الاحتجاجات، ليس في الصين المستهدفة أصلاً بالتحالف، ولكن في أوروبا، وتحديدا في فرنسا، التي ألغت أستراليا فجأة اتفاقها معها ببناء غواصات في صفقة اختلفت التقديرات على قيمتها، ولكنها تتجاوز الخمسين مليار دولار على أقل تقدير، لصالح اتفاقها مع الولايات المتحدة لبناء الغواصات النووية في إطار التحالف الجديد. وقالت الخارجية الفرنسية في رد فعلها الأول: “إن اختيار الولايات المتحدة لاستبعاد فرنسا من شراكة مع أستراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يُظهر نقصاً في الاتساق لا يمكن لفرنسا إلا أن تلاحظه وتأسف له”. وأدلى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بتصريح أكثر حدة وعصبية: “إنها حقا طعنة في الظهر. أقمنا علاقة مبنية على الثقة مع أستراليا، وهذه الثقة تعرضت للخيانة، هذا القرار الأحادي والمفاجئ وغير المتوقع الذي اتخذه بايدن يشبه كثيرا ما كان يفعله ترامب”. وقال أيضا في مقابلة تلفزيونية أن “ما جرى سيؤثر على المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلنطي، الناتو”، ووصف بريطانيا صراحة بـ “الانتهازية الدائمة52 . وقال الرئيس الفرنسي ماكرون في أحد تصريحاته مؤخرا: “واشنطن تركز على مصالحها وعلينا كأوروبيين أن نستخلص العبر ونتولى مسؤولية الدفاع عن أنفسنا”. وانتهى الأمر بأن قرر الرئيس الفرنسي ماكرون استدعاء سفيريه في أمريكا وأستراليا للتشاور!

و من المفارقات الهامة أن الإعلان عن الاتفاق الجديد جاء في نفس يوم استعداد أوروبا لإعلان استراتيجيتها في ما يطلق عليه منطقة الإندو باسيفيك (المحيطين الهادي والهندي)، في ثاني خطوة استراتيجية في شهر واحد تتجاهل فيها الولايات المتحدة التشاور مع حلفائها الأوروبيين بعد خطوة الانسحاب المفاجئ من أفغانستان، وهذا يؤشر على تغير النظرة الاستراتيجية الأمريكية في التحالف مع شركائها الأصليين في أوروبا لتراجع ثقتها فيهم، فألمانيا تصر على الاستمرار في استيراد الغاز الروسي على غير رغبة أمريكا، وفرنسا أيضاً وقعت عددا من اتفاقيات الطاقة مع روسيا، فضلا عما تراه أمريكا من تردد الأوروبيين في العلاقة مع الصين التي تميل إلى التعاون في المجال الاقتصادي بشكل خاص، والولايات المتحدة تريد شريكا خالصا واضحا في عدائه للصين في المرحلة القادمة، وبالتالي فإن المرحلة القادمة ستشهد شروخا واسعة بين أمريكا وحلفائها الأوروبيون وخاصة فرنسا.

و قد دفعت هذه التطورات المتلاحقة العديد من الكتاب والمحللين لإثارة عدد من الأسئلة المتعلقة، بدون إجابة، فمثلا تساءل خبير السياسة الدولية الألماني أولريش سبيك في سلسلة من التغريدات الدالة “بالنسبة للقوى القارية الأوروبية الكبرى، فرنسا وألمانيا، يثير الاتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا أسئلة جيوسياسية جديدة: هل تتخطى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الإطار التقليدي عبر الأطلسي؟ إذا كان الأمر كذلك، فأين ستضع باريس وبرلين نفسها؟”

‏”هل هم مستعدون للانضمام إلى هذا التحرك نحو المحيطين الهندي والهادئ ومواجهة الصين؟ ما هو مستقبل “الحرب على الإرهاب” في الشرق الأوسط الكبير، ومن سيدافع عن “الجناح الشرقي” ضد العدوان الروسي؟”

“ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت فرنسا وألمانيا ستكونان على نفس الصفحة في هذه البيئة الجيوسياسية الجديدة والناشئة. ستهتم ألمانيا بالشرق، وستحاول فرنسا الاستمرار في لعب دور في الجنوب. كلاهما يحتاج إلى شركاء أقوياء”.

“بالنسبة لألمانيا، فإن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أكثر تشابهاً في التفكير عندما يتعلق الأمر بالاستقرار في وسط وشرق أوروبا. ولكن من أجل الحفاظ على مشاركتهم، سيتعين على ألمانيا تحمل جزء أكبر من العبء.”

“ستحاول فرنسا إبقاء الولايات المتحدة منخرطة في إفريقيا جنوب الصحراء، وستحاول جلب المزيد من الشركاء الأوروبيين إليها. ولكن بعد الفشل في أفغانستان، ومع كل المشاكل في مالي، فإن الرغبة في الانخراط في المنطقة عسكرياً يبدو أنه يتقلص.”

“وستبقى فرنسا منخرطة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ولكن إلى أي مدى ستشارك في الاتفاقية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، ومع الرباعية التي تقودها الولايات المتحدة؟ وإلى أي مدى ستكون فرنسا مستعدة لتحدي الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي؟”.

يرجح كاتب هذه الدراسة أن الولايات المتحدة ستسعى إلى إصلاح العلاقات مع فرنسا ومحاولة ترضيتها بإفساح المجال لشراكات جديدة تجمعهما تعطي فرنسا أدوارا هامة في مناطق أخرى (منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال، وهو ما بدأت إرهاصاته في الظهور بالفعل).

و يصل سبيك في النهاية إلى النتيجة التالية التي ستحكم علاقات القوى الكبرى في الغرب في المستقبل:  “ما يظهر داخل الغرب هو التنافس بين مراكز العمل الرئيسية الثلاثة في صراع القوى العالمي الجديد: أوروبا الشرقية، والشرق الأوسط وأفريقيا (الشمال وجنوب الصحراء الكبرى)، المحيطين الهندي والهادئ”. وهذه النتيجة الهامة تمثل تغيرا جوهريا في العلاقة بين القوى الغربية الرئيسية وتحالفاتها القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنها مثلا حلف الناتو الذي أصبح أمام بعض المحللين في حالة من التداعي التي توشي باقتراب نهايته، وسيكون مؤدى هذه النتيجة بكل تأكيد تغيرات جوهرية في التعامل مع المشكلات السياسية والعسكرية في المناطق المختلفة بما فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

و لكن بالأساس، فإن هذا التحالف الجديد قد نشأ من أجل كبح الطموحات التوسعية للصين للسيطرة والتمدد في منطقة الإندو باسفيك، وخاصة منطقة بحر الصين الجنوبي لتكون شبه “بحيرة صينية”، فضلا عن الهدف الإستراتيجي الأول للصين منذ عام 1949 باستعادة جزيرة تايوان، والتي نشر عنها المؤرخ نيال فيرجسون مقالاً هاماً بعنوان مثير “أزمة في تايوان يمكن أن تؤشر لنهاية الإمبراطورية الأمريكية”  في مارس 2021 في بلومبيرج53  قال فيه : “من يحكم تايوان يحكم العالم!”. ويعتبر بعض العسكريين الأمريكيين غزو الصين لتايوان مسألة وقت، والذي إن حدث سيعني نقلة نوعية كبيرة في موازين القوى بين الصين والغرب، ففضلا عن الميزات الاستراتيجية التي يتيحها ذلك للصين في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتهديدها الضخم لليابان وكوريا الجنوبية (حلفاء الولايات المتحدة) عسكريا واقتصادياً في هذه الحالة، توجد ميزات تكنولوجية غربية هائلة متوفرة في تايوان ولم تصل إليها الصين بعد (خاصة شركة TSMC التي تسيطر على 55% من سوق أشباه الموصلات في العالم، وشركة Foxcom للإلكترونيات التي تورد منتجاتها لجميع شركات الإلكترونيات في العالم تقريبا). هذا بالإضافة إلى سعي الصين للسيطرة على مضيق ملقا الذي تمر منه معظم التجارة الصينية مع العالم، وتسيطر عليه حاليا الولايات المتحدة، مما سيؤذن “بعصر صيني جديد”.

وعلى هذا الأساس فإن تحالف الأوكاس غرضه الأساس مواجهة الصين عسكريا وردعها بتوفير مستويات من الدعم الأمريكي العسكري لأستراليا بشكل غير مسبوق، وذلك على الرغم من أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لأستراليا على مستوى العالم، وبفارق كبير، (أكثر من 30% من صادرات أستراليا تذهب للصين وأكثر من 20% من وارداتها تأتي من هناك).

و أستطيع القول أن تحالف أوكاس الجديد يدشن لمرحلة جديدة من الدخول في حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، تشتعل فيها سباقات التسلح، وتعيد الأطراف المختلفة في العالم التموضع على أساسها، بما في ذلك القوى الإقليمية الكبيرة مثل الهند وباكستان وإيران وتركيا، فضلا عن التموضعات الروسية واحتمالات تحالفها مع الصين، وسيؤثر كل هذا بدون شك على منطقتنا العربية بشكل كبير. وستبدأ الخطوات المضادة من الصين في التبلور، تقابلها بعد ذلك خطوات من الولايات المتحدة وهكذا، وستكون احتمالات اندلاع نزاع عسكري بين أمريكا والصين أقرب من أي وقت مضى، خاصة إذا أقبلت الصين على خطوات عسكرية كتصعيد سعيها للسيطرة على منطقة بحر الصين الجنوبي أو غزو جزيرة تايوان، حيث لا تخفي الصين نواياها في السيطرة على الجزيرة، وتجري تدريبات ومناورات عسكرية تشارك فيها مئات السفن المدنية التي يكفل القانون الصيني منذ عام 2017 استخدامها للأغراض العسكرية، بهدف حشد قوات بمئات الآلاف تسطيع المشاركة في عملية الغزو!  ومنذ أوائل أكتوبر من هذا العام يتصاعد التوتر بشكل كبير، وأبلغت تايوان عن دخول قرابة 150 طائرة عسكرية صينية54 منطقة دفاعها الجوي، وتعهد الرئيس الصيني مؤخرا بالمضي قدما في “الوحدة” مع تايوان، لكن باستخدام “الوسائل السلمية”55.

و قد قام بالفعل الجانب الصيني بخطوة مهمة في إطار تقوية تحالفاته، فمن خلال قمة منظمة شنغهاي يوم 17 سبتمبر 2021 في دوشينبه عاصمة طاجيكستان بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس المنظمة، تمت مصادقة الأعضاء على انضمام إيران كعضو كامل، كما رحب الأعضاء بانضمام السعودية وقطر ومصر بصفة “شريك في الحوار”. وتضم “منظمة شنغهاي للتعاون” التي أسست عام 2001 كلا من روسيا والصين والهند وباكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان، وتتمتع أفغانستان وبيلاروس وإيران (حتى القمة الأخيرة) ومنغوليا بصفة الدول المراقبة فيها، فيما تحظى أذربيجان وأرمينيا وكمبوديا وتركيا وسريلانكا ونيبال بصفة الدول الشركاء للمنظمة. وقد أظهرت بيانات رسمية أن تجارة الصين مع الدول الأخرى الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون ارتفعت بواقع 20 ضعفا في الفترة من عام 2001 إلى 2020، وقالت وزارة التجارة الصينية أن حجم التجارة بين الصين وهذه الدول بلغ 245 مليار دولار أمريكي العام الماضي، ارتفاعا من 12 مليار دولار في عام 2001.

كما أوضحت الوزارة أنه حتى نهاية شهر يوليو الماضي، تجاوز إجمالي الاستثمارات الصينية في الدول الأخرى الأعضاء بمنظمة شنغهاي للتعاون 70 مليار دولار، وتجاوزت قيمة المشاريع المتعاقد عليها من قبل الشركات الصينية في هذه الدول 290 مليار دولار.

و قد صرح الرئيس الصيني أثناء انعقاد قمة منظمة شنغهاي:” لن نسمح للقوى الخارجية بالتدخل في شؤون منطقتنا بأي ذريعة”، كما صرح الرئيس الروسي بوتين: “علينا استخدام إمكانيات منظمة شنغهاي لدعم التسوية في أفغانستان ومواجهة التهديدات الإرهابية”. وتشي كل هذه التطورات بأن الصين في الأغلب بصدد تطوير منظمة شنغهاي لزيادة قدراتها على مواجهات التحالفات الأمريكية في المنطقة.

و في حقيقة الأمر، فإن الصين لا تسعى لتقوية علاقاتها التجارية في إطار منظمة شنغهاي فقط، ولكن هذا هو نهج الصين مع باقي العالم ككل. إلا أنه من المثير للاهتمام، كما ذكر د. وليد عبد الحي في بعض كتاباته الأخيرة، الإشارة إلى إزاحة الصين للولايات المتحدة عن مركز الشريك التجاري الأول لأوروبا واحتلال هذا المركز، فطبقا لبيانات مكتب الإحصاء الأوروبي بلغ حجم التبادل التجاري الصيني الأوروبي عام 2020 ما مجموعه 709 مليار دولار مقابل 691 مليار للولايات المتحدة، بل إن العجز التجاري لصالح الصين مع أوروبا ارتفع عام 2020 الى 219 مليار دولار  من 199 مليار دولار عام 2019. ذلك يعني انه في الوقت الذي تبذل واشنطن كل جهودها للجم التوسع الصيني في السوق العالمي، تزداد تجارة حليفها الاستراتيجي في أوروبا مع خصمها الرئيس في بكين، على حساب المكانة الأمريكية تحديدا في التجارة الأوروبية.

تأتي هذه التفاعلات لتؤشر على أن ملامح النظام الدولي الجديد، الذي لا تهيمن فيه الولايات المتحدة بمفردها على مقدرات العالم، ستزداد تشكلا ووضوحا. بالطبع لا أحد يستطيع الآن الجزم بشكل هذا النظام بدقة، وهذا بالضرورة من عوامل عدم الاستقرار الدولي والإقليمي الحاد في الوقت الراهن كما أسلفنا،

إلا أن جون ميرشايمر56، وهو من أهم رواد المدرسة الواقعية وأشهر المنظرين الحاليين في مجال العلاقات الدولية وأكثرهم تأثيراً في رأي الكثيرين، في دراسة نشرها عام 2019 بعنوان: “صعود وسقوط النظام الدولي الليبرالي“، يجادل بأن “النظام الدولي الليبرالي لحقبة ما بعد الحرب الباردة، كان مصيره الانهيار، لأنّ السياسات الأساسية التّي اتّكأ عليها مَعيبة ومُشوَّهة بشكلٍ عميق، وقال “إنّ عملية نشر الديمقراطية الليبرالية حول العالم والتّي تُعدّ مسألةً ذات أهميّة قصوى لأجل بناء هكذا نظام، لا تُعتبر عملية صعبة للغاية وحسب، بل إنّها تُسمّم في العادة العلاقات مع البلدان الأخرى وتقود في بعض الأحيان إلى حروب كارثية.”، وهذا بالضبط ما حدث نتيجة الممارسات الأمريكية ذات السياسات الخشنة خاصة في العراق وأفغانستان. ويتنبأ ميرشايمر بأن  “العالم الصاعد متعدّد الأقطاب سوف يقوم على نظام دولي مبني على أسسٍ واقعية، والتّي سوف تلعب دوراً مهمّاً في إدارة الاقتصاد العالمي، والتعامل مع مسألة الحدّ من التسلّح وكذا المشكلات العالمية المشتركة على غرار مشكلة التغيّرات المناخية. إضافة إلى هذا النظام الدولي الجديد، فإنّ الولايات المتحدة والصين ستقودان أنظمة محدودة (محصورة النطاق) والتّي سوف تُنافس بعضها بعضا في كلّ المجالات الاقتصادية والعسكرية.”

وفي مقال له بعنوان “هل صعود الصين يعني سقوط أمريكا؟” في مجلة الإيكونوميست57، أشار بول كينيدي، أستاذ التاريخ الشهير بجامعة ييل، أن التغييرات في السياسة العالمية، والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، تشير إلى أنه قد أصبح للولايات المتحدة منافس جديد على السيادة العالمية. يقول كينيدي “إن الأحداث الأخيرة في أفغانستان تُغذي التساؤلات عما إذا كانت الولايات المتحدة، كقوة عالمية، في حالة تدهور لا رجعة فيه، باعتبارها تشير إلى تراجع أمريكي آخر من آسيا”. ويطرح كينيدي عدة أسئلة، من أبرزها، “هل عصر السلام الأمريكي قد انتهى ليحل محله القرن الآسيوي؟”. يقول كينيدي إنه ربما يكون من غير الحكمة التسرع في الإجابة بـ “نعم” على هذا السؤال، قبل التفكير في ثلاث تحولات مهمة وطويلة المدى، وهي: العلاقات الدولية، القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية”.

“فالتحول الأول، وهو التحول في العلاقات الدولية، هو أن مجموعة القوى الاستراتيجية والسياسية قد تغيرت منذ عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية الذي كان سائداً قبل نصف قرن من الآن عندما كانت الولايات المتحدة تواجه فقط الاتحاد السوفيتي المتلاشي. أما النظام الدولي فيتكون الآن من أربع أو ربما خمس دول كبيرة جداً. حيث لا تستطيع أي منهم، سواء من خلال القوة الخشنة أو القوة الناعمة، إجبار الآخرين على فعل ما لا يريدون القيام به”. كما يقول كينيدي أنه “بالنسبة للتحول الثاني، وهو التحول في القوة العسكرية، فقد أصبح حجم القوات المسلحة الأمريكية أصغر وأقدم بكثير مما كانت عليه في الثمانينيات”. وعن التحول الثالث وعامل القوة الحاسم: وهو التحول في القوة الاقتصادية النسبية، يقول كينيدي “إن أكبر تحول عالمي منذ الثمانينيات كان في الحجم الهائل للاقتصاد الصيني اليوم مقارنة بالاقتصاد الأمريكي، وأن الحقيقة هي أن الاقتصاد الصيني لا يزال تنمو بوتيرة أسرع، سواء قبل أو بعد كوفيد-19، حيث أصبح الاقتصاد الصيني بالفعل يماثل اقتصاد أمريكا حجماً”.

ويخلص بول كينيدي إلى أنه في حال تجنب القيادة الصينية الوقوع في أي زلّات وتهيئة الظروف لنمو اقتصاد الصين وقدرتها العسكرية، فهذا من شأنه أن يمثل التحدي الأكبر الذي قد تواجهه أمريكا على الإطلاق: حيث تكون هناك على الساحة قوة أخرى تكافئها حجماً.

و على جانب أخر في مجال الحديث عن التغيرات المنتظرة في الساحة الدولية، فإن ما حدث في أفغانستان قد يكون عاملاً مهماً في عدم إعادة انتخاب بايدن، وإن كان الحكم على هذا الأمر لازال مبكراً، لكن يظل من الوارد حتى أن يُنتخب ترامب مرة أخرى (كما أشرنا من قبل)، أو أحد صقور معسكره ممن على شاكلة بومبيو أو نيكي هالي، مما سيكون له تداعيات كبيرة على الساحة الدولية في جميع الملفات، وهو ما سيؤكد ما ذهب إليه ميرشايمر في توقعاته.

قد لا يكون من العدل تحميل الرئيس بايدن بمفرده نتيجة الإخفاقات الأمريكية في أفغانستان على مدار العشرين عاما الماضية، وقد يكون وراء قراره بالتصميم على الانسحاب من أفغانستان في الوقت المحدد وبهذا الشكل مصلحة حقيقية أمريكية تتمثل في إيقاف نزيف الخسائر المستمر والتركيز على أماكن أخرى تشكل مصلحة أكبر من وجهة النظر الأمريكية، لكن بدون شك فإن المشاهد التي شاهدها العالم أجمع، والسرعة التي استطاعت بها طالبان السيطرة التامة بمفردها على كامل الأراضي الأفغانية، سيترتب عليها الإضرار البالغ بالمكانة الدولية للولايات المتحدة وعلى ثقة حلفائها في إمكانية الاعتماد عليها.

وسيكون من الصعب جدا على الولايات المتحدة الدخول في أية مغامرات عسكرية جديدة على غرار العراق وأفغانستان في المدى المنظور لما ستواجهه من معارضة داخلية، فضلا عن تشكك حلفائها في المشاركة معها في هذه الجهود بالنظر للتجارب المريرة السابقة. وبكل تأكيد ستتأثر درجة ثقة الأمريكيين في مؤسستهم العسكرية التي كانت تقليديا في المرتبة الأولى في درجة ثقة الأمريكيين في مؤسسات الدولة، فكيف سيثقون بعد ذلك في جنرالات مارسوا الكذب على مدار عشرين عاما، كما أظهرته مثلا أوراق أفغانستان58، فيما يتعلق بحرب استمرت لعشرين عاماً وخلّفت الأف الضحايا وتريليونات الدولارات، فضلا عن الدوافع غير الأخلاقية في الاستمرار في الحرب لخدمة شركات صناعة السلاح؟

المنطقة العربية والترتيبات الجديدة بعد التراجع الأمريكي

إن حجم وعمق التغيرات التي تمت الإشارة إليها في الأجزاء السابقة من الورقة يشي بكل تأكيد بما ينتظر المنطقة العربية من تغيرات بالتبعية. هذه المنطقة تعيش منذ قرون تحت هيمنة قوى كبرى، بريطانيا وفرنسا، ثم أمريكا والاتحاد السوفيتي بالتعاون مع أنظمة استبدادية نشأت عن حركات “التحرر من الاستعمار”، متحالفة مع أحد المعسكرين. في نهاية المطاف، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وقعت المنطقة تحت الهيمنة المنفردة للولايات المتحدة على معظم الدول، عدا عدد من الدول “المارقة” (العراق، سوريا، السودان، ليبيا، …إلخ)، أي الخارجة عن دائرة النفوذ الأمريكي.

و قد حدثت هزة كبيرة لهذه المنظومة بتراجع الأنظمة الاستبدادية في أعقاب الثورات العربية مباشرة، ثم ما واجهته المنطقة من مضادات الثورات التي أشعلت الاضطرابات والانقلابات والحروب الأهلية لإجهاض منجزات الثورات. والآن، وبعد تراجع الدور الأمريكي في المنطقة نتيجة عدم قدرة الولايات المتحدة على التمدد والسيطرة في كل مكان في العالم، ورغبتها في التركيز على الجبهة الصينية في الإندو باسيفيك (تجلى ذلك في مشهد الانسحاب المرتبك من أفغانستان وعودة طالبان)، يظهر بدون شك فراغ كبير في تماسك المنظومة الراهنة، وبالتالي فإن دول المنطقة والدول المعنية بدأت في عمليات تفاوضية لحماية مصالحها، حيث لم تعد أمريكا راغبة أن تكون هي القوة الأساسية المهيمنة الحافظة لتماسك المنطقة، ولذلك بدأت الدول العربية الأساسية في السعي لعقد شراكات وتحالفات فيما بينها، والأهم من ذلك التعايش مع خصومها وتهدئة التوترات.

و يبدو أيضا أن هذه رغبة أمريكية في ضوء تقليل تواجدها في المنطقة للحد الأدنى وتقلص اهتمامها بما يحدث فيها، كما يوضح الكاتب والمحلل الأمريكي ريتشارد هاس في مجال بيان أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات العشرين الماضية: “فقد خصصت إدارتي جورج دبليو بوش وأوباما نسبة مرتفعة من تركيز سياستهم الخارجية على منطقة تحوي فقط على 5% من سكان العالم، وبدون تواجد أية قوة عظمى، واقتصادات تعتمد فقط على الممتلكات المتناقصة من الوقود الأحفوري”59.

ومن الواضح أيضا أن التقييم الاستراتيجي الأمريكي قد عضد التوجه بتقليل التواجد في المنطقة في أعقاب الهزائم التي تعرضت لها فيها، وتصاعد التهديد الصيني في منطقة الإندو باسيفيك والذي يحتاج تعظيم التواجد الأمريكي لمواجهته، مع تراجع أهمية البترول بالنسبة للولايات المتحدة التي أصبحت أكثر دول العالم إنتاجا له، وبعد تنامي العلاقات التطبيعية المباشرة بين إسرائيل ومعظم الدول العربية دون الحاجة لفرضها قسرا، فضلا عن التراجع الواضح للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي وصلت للحكم في المنطقة في السودان ومصر وتونس والمغرب، وهو ما ظهر أيضا في انتخابات الجزائر والعراق مؤخرا، فضلا عن حالة التفكك الداخلي والخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين، بما يوقف تهديدا، ولو بشكل مؤقت، لمشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة.

و في هذا الإطار، من المنتظر أن يستمر تقليل التواجد العسكري الأمريكي المباشر في منطقة الشرق الأوسط، ليكون هذا التواجد من أجل حماية المصالح الحيوية فقط، دون الحاجة إلى التواجد الأمني والعسكري المؤثر، بما في ذلك في العراق وسوريا (بشكل جزئي)، حيث تم تركهما للنفوذ الروسي في سوريا والإيراني في العراق. إلا أنه لا يبدو أن الولايات المتحدة ستقلل من اعتمادها على قاعدتها الجوية (العيديد) في قطر، أو من تواجد الأسطول الخامس الأمريكي ومقره البحرين، بما يشكل حدا أدنى للتواجد الأمريكي في المنطقة، مع تواجد في بعض المناطق الأخرى، وذلك في المدى المنظور، لما لهذا التواجد من أهمية في الخطط الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بشكل عام.

و قد نشر المعهد المصري للدراسات مؤخرا دراسة للباحث وسام فؤاد حول التحولات في منهج الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط60، وعرضت تفاصيل وأرقام حول هذا الحضور، وتناولت بالتحليل وثيقة الأمن القومي الأمريكية التي أصدرتها إدارة بايدن في شهر مارس الماضي، والتي تضمنت أهدافا واسعة وأولويات للأمن القومي الأمريكي، واعتبرت هذه الوثيقة الصين المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، والقادر – بدرجة احتمال عالية – على توجيه موارده الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية من أجل تحدي النظام الدولي. ونظرت الوثيقة كذلك إلى روسيا بالنظر لتصميمها على تعظيم نفوذها العالمي، ولعب دور “مخرب” على المسرح الدولي. وعلاوة على ذلك، اعتبرت الوثيقة أن لاعبين إقليميين مثل كوريا الشمالية وإيران متمسكون بتطوير قدراتهم وتقنياتهم على نحو يتسبب في تهديد الاستقرار الإقليمي في محيطهما بما يستحق الاهتمام. وأخيرا، تمسكت الوثيقة ببقاء مخاطر الإرهاب وعنف القوى المتطرفة كتهديدات موضع اعتبار61.

و قد خلصت دراسة المعهد المصري إلى أن هناك ثلاث مصادر أساسية للتغير في الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة تحت إدارة بايدن هي الحاكمة لمساراته. المسار الأول يتعلق بالتوجه لاحتواء روسيا، وهو ما تعبر عنه تحركات ترتبط بالسعي لبناء ترتيبات أمنية إقليمية مؤطرة للتفاعلات الأمنية في منطقة البحر الأسود والبلقان (ومن ثم القوقاز)، وهي محاولة للاستجابة لمطالب تركية بعدم الزج بالمنطقة في آتون مواجهة مباشرة بين تركيا وروسيا.

المسار الثاني يرتبط جزئيا أيضا باحتواء روسيا، وذلك بالحضور الأمريكي في السودان عبر العمل على توهين الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السوداني السابق عمر البشير مع الروس والخاص بإقامة قاعدة عسكرية روسية شمال ميناء “بورتسودان”؛ علاوة على تعميق اعتمادية الجيش السوداني على الرؤية والسلاح الأمريكيين. وثمة كذلك تطويق للنفوذ الروسي في الجزائر من الشرق والغرب عبر اتفاقين إستراتيجيين مع كل من تونس والمغرب، علاوة على استمرار الحضور الأمريكي في سوريا من دون تخفيض لأعداد القوات هناك، وهو ما قد يكون في إطار رؤية تتضمن ضمان استقرار الشمال السوري عبر إشراك تركيا وإتاحة المجال أمامها للعب دور كبير في تحقيق هذا الاستقرار، علاوة على إحلال قوات عربية (السعودية والإمارات) محل القوات الأمريكية هناك. ولا يقف التحالف عند هذا الحد، بل يتجاوزه لدعم التعاون بين كل من السعودية والإمارات مع الكيان الصهيوني لمواجهة القوة الإيرانية ونفوذها المتناميين.

ومن ثمّ تجدر الإشارة إلى أنه، وبقدر ما تبدو المواجهة مع “المنافس” الصيني قائمة على قدم وساق على المسرح الأسيوي، وبخاصة في المحيط الهادي، فإن حظ المنطقة العربية منها – حتى الآن – يبدو ضعيفا، ومتمثلا في الاتجاه لمزاحمة الحضور الصيني في الشرق الأفريقي؛ عبر معاودة التمركز في الصومال، وتوثيق العلاقات الأمريكية بجيش الدفاع الوطني الصومالي، وربما توفير قدر من الضغط على تركيا في شرق المتوسط لإفساح المجال للولايات المتحدة – ربما من أجل الانفراد بالصومال، وتوسيع نطاق الحضور فيها؛ بما يوازن الحضور الصيني في جيبوتي، وهو ما من شأنه أن يؤدي لمواجهة تركية أمريكية.

أما المسار الثالث، والذي يبدو أكثر استنفادا للتحركات الأمريكية في المنطقة فيتمثل في المسار المؤسس على الباعث المتعلق بالطاقة، والذي ترغب في إطاره الولايات المتحدة في السيطرة على محور أليكساندروبوليس – كريت الذي سيكون مسار الطاقة المستقبلي من شرق المتوسط إلى جنوب وشرق أوروبا، وهو المسار الذي يمثل بؤرة التوتر الثانية بين الولايات المتحدة وتركيا التي سبق لها أن أفسدت خط “إيست ميد” اليوناني – “الإسرائيلي” – القبرصي عبر اتفاق تعيين الحدود البحرية بينها وبين ليبيا، وهو الخط الذي كانت الدول الثلاثة قد وقعت اتفاقية تدشينه بعد تهميش مركز الطاقة المصري.

و من المنتظر أن يستمر الدعم الأمريكي لتحالفات جديدة أو متجددة، بعد فشل التحالف الذي أطلق عليه “الناتو العربي” في تحقيق الاستهداف المطلوب لإيران وأيضا ما يطلق عليه “الإرهاب”، تحفظ لها مصالحها في المنطقة (على سبيل المثال التحالف الناشئ مؤخرا بين مصر والعراق والأردن، والذي أطلق عليه البعض “الشام الجديد”).

و  تظهر أحد الخطوات التي حاولت بعض دول المنطقة عن طريقها ترتيب الأوضاع فيما بعد تراجع الدور الأمريكي، القمة التي عقدت في بغداد بشكل مفاجئ يوم 28 أغسطس 2021 بحضور 9 دول منها 8 من المنطقة إضافة إلى فرنسا، وحضرها قادة خمس دول وهي فرنسا ومصر وقطر والأردن والعراق، بالإضافة إلى عدد من الدول الممثلة تمثيلا عال المستوى، وهي السعودية والإمارات وتركيا وإيران. بالطبع هذه القمة لم تكن أولى الخطوات على طريق اللقاءات ثنائية أو متعددة الأطراف، ولكن سبقتها خطوات وستتلوها خطوات أخرى بكل تأكيد.

لم تكن الأهداف  المعلنة من عقد هذه القمة واضحة بشكل كاف، وجاء البيان الختامي لها تقليديا وإنشائيا كما يحدث في الكثير من هذه المؤتمرات62، خاصة أنه لم يصاحب إصدار البيان أية إجراءات تنفيذية لتحقيق ما جاء فيه من أهداف فضفاضة. إلا أن التحليل الدقيق لملابسات عقد هذه القمة، والسياقات التي جاءت فيها يكشف بشكل كبير أهم الأهداف الحقيقية لها، وذلك في ظل غياب أمريكي واضح وذو دلالة:

  • كان من اللافت الحضور الفرنسي بمستوى رئيس الجمهورية، فضلا عن اضطلاع فرنسا بدور الراعي والداعي لهذه القمة مع العراق، مع غياب الولايات المتحدة، وهو ما يؤشر بوضوح إلى محاولة فرنسا ملئ الفراغ القيادي الذي بدأت الولايات المتحدة تتركه في المنطقة.
  • بالرغم من ذهاب البعض إلى أن الأغراض الانتخابية لرئيس الوزراء العراقي كانت وراء الدعوة لهذه القمة قبل نحو شهر من الانتخابات البرلمانية المبكرة التي تم إجراؤها لاحقا في شهر أكتوبر، إلا أنه يجب النظر إلى رغبة العراق في تصفية الخلافات بين الدول التي تتخذ من العراق ساحة للصراعات البينية بينها، خاصة السعودية وإيران، بما ينعكس إيجابيا على استقرارها كحافز لاستضافة هذا المؤتمر.
  • لقاء أمير قطر مع الرئيس المصري، لأول مرة بعد مشاركة مصر في المقاطعة الخليجية الثلاثية لقطر منذ 4 سنوات، جاء في إطار تكريس مسار تقوية العلاقات المصرية القطرية ومحاولة احتواء الخلافات والتناقضات في أقل مساحة ممكنة، والذي بدأ منذ عدة أشهر. ويبدو أن المستهدف من هذا المسار ليس فقط المصالحة بعد قطيعة، ولكن حدوث تقارب وتعاون في ملفات مشتركة مثل ملف غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام، فضلا عن إمكانية الدخول المصري على الملف الأفغاني، والذي ظهرت له بعض الإرهاصات، وذلك من خلال البوابة القطرية. ويجئ هذا التقارب بشكل عام في سياق المصالحة الخليجية مع قطر (و هو مسار أخر لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة)، وأيضا سعي مصر للتقارب مع الدولة التي ظهرت أهمية دورها الإقليمي كثيرا في الآونة الأخيرة.
  • الحضور الإيراني اللافت لمثل هذه القمة ثم اللقاء السعودي-الإيراني على مستوى وزراء الخارجية، والذي يؤشر على حدوث تقدم في مساعي التقريب بين البلدين، والذي بدأ بهدوء منذ عدة أشهر، وبوساطة عراقية كما ترشح المعلومات عن لقاء تم في بغداد أيضا في يناير 2021، وظهر عدد من التصريحات الرسمية للعاهل السعودي ولولي عهده بأن “إيران دولة جارة” تأمل المملكة أن تتمخض المباحثات معها إلى “تقدم إجراءات بناء الثقة وإرساء أسس التعاون المشترك”، وهذا يشكل خطوة هامة على طريق تهدئة أحد أهم الصراعات الساخنة الرئيسية المحتملة في المنطقة. ويأتي هذا في ظل تقارير لاقتراب إيران من إمكانية إنتاج سلاح نووي وعدم قدرة الولايات المتحدة على المناورة لتوسيع نطاق الاتفاق الأصلي الذي ألغاه ترامب، مما يضطر دول المنطقة للسعي على التهدئة معها.
  • لقاءات أخرى ثنائية ومتعددة الأطراف بين عدد من الأطراف الأخرى حاضرة في المؤتمر للتباحث حول القضايا ذات الاهتمام المشترك في وجود فرنسا وتركيا والإمارات وباقي الدول المشاركة.

و تؤشر هذه الجهود والتواصلات الكثيفة إلى سعي دول المنطقة، والدول المعنية بها مثل فرنسا، لتسوية الكثير من الخلافات فيما بينها والتفاوض حول أسس جديدة لترتيب العلاقات والمصالح في المنطقة بعد الغياب اللافت للولايات المتحدة.

و في نفس الإطار أيضا، تأتي المؤشرات الأخيرة على تغير الموقف الأمريكي الحقيقي من النظام السوري، عوضا عن الموقف المعلن السابق أثناء إدارتي أوباما وترامب بضرورة خروج الأسد من المشهد. ويبدو أن وجهة النظر الواقعية المتبناة أمريكيا الآن، ليس فقط للقناعة بعدم القدرة على تغيير نظام الأسد نظرا للدعم الروسي والإيراني المستمر له وعدم قدرة المعارضة السورية على تعديل الدفة، ولكن بالاقتناع أن الأسد هو الطرف الوحيد الآن الذي يمكنه الحفاظ على المصالح الأمريكية في سوريا إذا سيطر عليها بشكل شبه كامل، سواء بمقاومة بقايا داعش، أو عدم السماح للأكراد بالسعي لتأسيس كيان مستقل (و هي مصلحة تركية أيضا)، أو تقليل الحاجة للتواجد الروسي والإيراني الكثيف، أو تقليل التهديد نحو إسرائيل على غرار ما حدث طيلة فترتي حكم الأسد الأب والابن.

وهذا الموقف الجديد أصبح أيضا مطلوبا من عدد من الدول العربية التي كانت رافضة لبقاء بشار منذ سنوات وأصبحت الآن تدعم عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وخاصة الأردن والإمارات والسعودية (فضلا عن مصر التي لم تأخذ موقفا ضد نظام بشار منذ بداية رئاسة السيسي). وللدلالة على تغير الموقف الأمريكي يكفي فقط النظر لموافقتها على تصدير الغاز من مصر إلى لبنان مرورا بالأردن وسوريا عبر ما يعرف بخط الغاز العربي القائم بالفعل، حيث يمكن لسوريا أيضا أن تأخذ حصة من هذا الغاز الذي تحتاجه بشدة لسد احتياجاتها للطاقة، كل ذلك على الرغم من الخرق الواضح للقانون الأمريكي المسمى “قانون قيصر” الذي يفرض عقوبات على الدول والكيانات والشركات التي تتعامل مع نظام الأسد.

و من المتغيرات المهمة في المنطقة، والمتعلقة بتهدئة الخصومات وبناء علاقات جديدة، التوجه المصري مؤخرا لتحسين العلاقات مع قطر وتركيا، واللذان كانا يعتبران من جانب النظام المصري خلال السنوات الماضية الخصمان اللدودان الداعمان لمعارضي النظام بشكل واضح. وكما ذكرنا سابقا، جاءت قمة بغداد لتمثل تحولا هاما في علاقات مصر مع قطر بلقاء السيسي – تميم، مما يؤشر على تطورات إيجابية ومتسارعة في تطوير هذه العلاقات. أما فيما يتعلق بالعلاقات المصرية التركية فلا توجد مؤشرات مماثلة للعلاقة مع قطر، على الرغم من استجابة تركيا للطلب المصري بالضغط على الفضائيات المصرية الموجودة على أرضها بتقليل الانتقادات الكبيرة للنظام المصري، وعلى الرغم أيضا من تنامي العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وبالتالي، فيما يبدو الآن على الأقل، هناك سقف لن يمكن تجاوزه في عودة العلاقات المصرية – التركية لتكون طبيعية بالكامل، على المدى القصير على الأقل، وذلك بالنظر مثلا لاستمرار التعاون الاستراتيجي بين مصر واليونان وقبرص اليونانية في عدة ملفات، والاختلافات المصرية -التركية في الملف الليبي، فضلا عن الأنباء التي أفادت مؤخرا باتفاق تركيا مع إثيوبيا لبيع مسيرات متقدمة لها. لكن بالرغم من ذلك فمن المتوقع أن تستمر حدة التوترات في التراجع بين البلدين في ضوء الترتيبات الجديدة للأوضاع في المنطقة، وفي ضوء المصالح الاقتصادية المشتركة المتنامية، والتي يميل ميزانها لصالح مصر في الفترة الأخيرة طبقا لأحدث الدراسات حول الموضوع.63

ومن التطورات اللافتة أيضا في ضوء ترتيبات الأوضاع الإقليمية في الآونة الأخيرة ما قد يبدو للبعض بتراجع الإستراتيجية الهجومية التي كانت تعتمدها دولة الإمارات في كامل المنطقة، وخارجها أحيانا، ولو بشكل جزئي، لتكون أكثر تعقلا وواقعية.  يرى مثلا الكاتب البريطاني دافيد هيرست  في مقال له على موقع ميدل إيست آي أن هذا التراجع قد يعيد تشكيل الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد أمريكا، ويضرب مثالا بسعي الإمارات بشكل حثيث لإصلاح علاقتها بتركيا، إلى الدرجة التي تعهد فيه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في مكالمة تليفونية نادرة مؤخرا مع الرئيس أردوغان باستثمار عشرة مليارات من الدولارات في تركيا. وضرب مثالا أخر بالزيارة التي قام بها المسئول الأمني الأول في أبوظبي طحنون بن زايد إلى الدوحة في أعقاب زيارته لتركيا، وذلك لإصلاح العلاقة بين البلدين بعد أن ظهرت قطر كدولة اعتمد عليها بايدن بشكل كبير في تنفيذ الجلاء عن أفغانستان والتفاوض مع طالبان64.

ويقول هيرست أيضا في مقاله:” في العلن يومئ المحللون السياسيون المجازون من قبل الإمارات العربية المتحدة إلى مجموعة مختلفة من الأولويات الإقليمية. ومن ذلك ما غرد به الأكاديمي والمفكر السياسي عبد الخالق عبدالله من أن الرسالة الأساسية الواردة من واشنطن مفادها أن الولايات المتحدة لن تدافع عن الخليج”. وأضاف في تغريدته: “دول الخليج العربي على مفترق طريق: كيف ينبغي أن تتكيف لمرحلة ما بعد أمريكا في الخليج؟ ثم أجاب على تغريدته تلك بتغريدة أخرى بعد بضعة أيام قائلاً: “هذه هي البلدان التي قررت الإمارات العربية المتحدة منحها الأولوية في الاستثمار وفي تنمية العلاقات التجارية معها خلال السنوات العشر القادمة: الهند، إندونيسيا، تركيا، كينيا، كوريا الجنوبية، أثيوبيا، إسرائيل، بريطانيا.”من هم أبرز الغائبين عن القائمة؟ إنهما المملكة العربية السعودية ومصر، وكلاهما كانتا أقرب الحلفاء إلى الإمارات في عام 2013.”

و يرى أيضا دافيد اجناثيوس في مقال رأي على صحيفة واشنطن بوست أن تحول الإمارات لخفض التوتر الخارجي إلى الاهتمام بالأوضاع المحلية، هو صورة عن توجه ملاحظ في العالم كما في حال أمريكا في عهد بايدن. وعكس الخروج الأمريكي من أفغانستان والطريقة السيئة التي تم فيها إجماعا دوليا ضد “الحروب الدائمة” وهو ما بات يتفق عليه المسؤولون الأمريكيون والأجانب. ويرى أن انسحاب الإمارات من الحرب المدمرة في اليمن وليبيا كان إشارة عن هذا التوجه، حيث اكتشفت أبو ظبي أن الثمن يتفوق على المنافع. ونقل الكاتب عن أنور قرقاش، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية في الإمارات، أن السياسة الجديدة تقوم على “صفر مشاكل”. وقال إن عملية إعادة المراجعة بدأت عام 2019، بسبب المخاطر النابعة عن الحرب في اليمن والضربات الصاروخية والطائرات المسيّرة الإيرانية ضد السعودية والإمارات، والشعور بأن القوة الأمريكية بدأت بالتراجع في المنطقة. وقال قرقاش إن التوتر المتزايد في المنطقة يعني التورط في حروب طويلة. ولهذا قررت الإمارات تغيير مسارها والتركيز على التنمية الاقتصادية كوسيلة للأمن. ويرى المسؤولون الإماراتيون أن عصر النفط قارب على النهاية، حيث اعتمد البلد عليه في النمو65.

و قد نقلت وكالة رويترز أيضاً عن الوزير قرقاش تصريحات واضحة حول أهمية تهدئة الأوضاع وحدة التنافس مع إيران وتركيا، حيث قال أنه يجب مراقبة التواجد الأمريكي في المنطقة، لكن أفغانستان بالطبع كانت لها دلالة واضحة، كما قال أنه علينا إدارة منطقتنا بشكل أفضل، فهناك فراغ، وكلما زاد الفراغ تزداد المشاكل. وقال في ختام تصريحاته أننا جميعا قلقون بشأن حرب باردة تلوح في الأفق، فهي أنباء سيئة لنا جميعا66.

و لكن على الجانب الأخر، يرى بعض المحللين أن :”سياسة تدوير الزوايا أو حتى تقليص الوجود العسكري الإماراتي في مختلف المسارح الإقليمية لا يشير إلى أن أبو ظبي قد تخلت عن أهدافها في سياستها الخارجية مطلقاً، فلا تزال واحدة من هذه الثوابت منع صعود الإسلام السياسي إلى السلطة. ومع ذلك فمن الممكن أن تستخدم وسائل أخرى من الآن. في اليمن على سبيل المثال لا تزال الإمارات ملتزمة بدعم الانفصاليين بالجنوب وتسيطر على المليشيات والجماعات المسلحة هناك، وفي الوقت نفسه تتعاون مع الولايات المتحدة في المعركة ضد القاعدة بشبه الجزيرة العربية. إضافة إلى ذلك، على الرغم من تقليص الإمارات وجودها العسكري بليبيا فقد عززت تعاونها الأمني مع اليونان ضد طموحات أنقرة الإقليمية. وبالتالي فمن المرجح أن تواصل الإمارات جهودها لممارسة نفوذها على الأجندة الإقليمية باستخدام وسائل أخرى ولكن ضمن محددات السياسة الخارجية الأمريكية التي تفرضها إدارة بايدن، ما يعني أن الإمارات فقدت حرية تحركها السابقة التي منحها الرئيس السابق ترامب، ولكنها لم تتخلَّ نهائياً عن ثوابتها في السياسة الخارجية”.

و بطبيعة الحال، فإن تراجع الدور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط سيصحبه المزيد من الاعتماد على إسرائيل كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، تستعيد إسرائيل بموجبه دورها الحيوي في المنطقة، خاصة في ضوء التقارب المتعاظم من أغلب الدول العربية مع إسرائيل. وبالفعل، فقد أقر مجلس النواب الأمريكي مؤخرا في الثالث والعشرين من سبتمبر 2021 بأغلبية ساحقة منح إسرائيل مليار دولار إضافي لتحديث منظومة القبة الحديدية، وذلك بدعم قوي من الإدارة الأمريكية.

بالإضافة لما سبق، فإن هناك بعض الجهود المبذولة لتهدئة عدد من ساحات الصراع الأخرى المفتوحة في المنطقة، فهناك محاولات حثيثة لإجراء الانتخابات في ليبيا في الموعد المتفق عليه في ديسمبر من هذا العام، مع إقرار لمجلس النواب الأمريكي لقانون التسوية السلمية في ليبيا متضمنا إجراء الانتخابات وفرض عدد من الأليات الأخرى، وتم عقد مؤتمر وزاري دولي في طرابلس في الحادي والعشرين من أكتوبر 2021 تحت عنوان “دعم استقرار ليبيا” لإظهار التوافق الدولي والإقليمي لتحقيق هذا الهدف. وفي اليمن أطلقت السعودية مبادرة لوقف إطلاق النار بمراقبة أممية وأكّدت الرياض وواشنطن أثناء زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان على أهمية مشاركة الحوثيين “بحسن نية” في المفاوضات مع الحكومة الشرعية. وفي العراق تم إجراء الانتخابات النيابية المبكرة في أكتوبر 2021 ويجري الإعداد لتشكيل الحكومة الجديدة بعدما أظهرت النتائج تضاؤل نفوذ القوى السياسية الممثلة للمليشيات العسكرية المدعومة من إيران على حساب تنامي التيار الصدري الحاصل على الأكثرية.

سيناريوهات مستقبل المنطقة

إن التنبؤ بمستقبل المنطقة خلال السنوات القليلة القادمة هو أمر شديد الصعوبة، خاصة في ضوء التغيرات الدولية والإقليمية الحادة التي تحدث في الوقت الراهن، وقد يكون استعراض أغلب العوامل المؤثرة على المستقبل ودراسة التفاعلات المركبة بينها ثم تطوير سيناريوهات مترتبة على ذلك، أكثر ملاءمة لمحاولة استشراف المستقبل واتخاذ القرارات الملائمة بناء على ذلك.

وقد كان هذا الموضوع مثارا لنقاشات معمقة في الدوائر المختلفة في الآونة الأخيرة، خاصة في ضوء حالة التراجع الأمريكي التي تم الحديث عنها في هذه الدراسة. ومن أحدث الدراسات المعمقة حول هذا الموضوع الدراسة التي نشرها معهد الشرق الأوسط في أول مارس 2021 “كيف سيبدو الشرق الأوسط عام 2030 – وجهة نظر إسرائيلية”، وأعدها آري هايستاين ودانيال راكوف ويوئيل جوزانسكي، الباحثون بمعهد الأمن القومي الإسرائيلي، حيث قاموا باستخدام أساليب فنية مركبة لبناء 4 سيناريوهات محتملة. وقبل الخوض في هذه السيناريوهات، قاموا بتحديد العوامل الأساسية التي وجدت الدراسة أنها ستؤثر في مستقبل الشرق الأوسط خلال العقد القادم67، وهي كالتالي:

  • أفول أحادية القطبية لحساب عالم ثنائي القطبية (أمريكا – الصين) أو ثلاثي القطبية (أمريكا – الصين – روسيا).
  • التنافس بين القوى الإقليمية على النفوذ في البلدان الأخرى في المنطقة (ثلاث محاور رئيسية: التحالف الشيعي بقيادة إيران، التحالف التركي – القطري ذو التوجه “الإسلامي”، والمحور الإماراتي – السعودي الساعي للحفاظ على الوضع الراهن).
  • القابلية للاشتعال لأسباب أيديولوجية، حيث ترى الدراسة أن استمرار القمع وغياب أي أفق سياسي سيدفع الناس للقيام بتحركات تميل للعنف، وبسبب تقلص الدور الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين تقوم به تقليديا، سيفتح ذلك المجال لنشوء تيار “إسلامي متطرف” مقاوم، أو حتى تيار تجميعي متطرف مقاوم.
  • انتشار تكنولوجيا خطيرة مثل الصواريخ دقيقة التوجيه أو حتى السلاح النووي.
  • تزايد الضغوط الديمغرافية بزيادة عدد السكان، خاصة من الشباب، مع تناقص الاستثمارات الجديدة، بما سيؤدي لارتفاع نسبة البطالة بينهم.
  • تصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فلا سبب يؤدي لتوقع اختلاف هذه الأوضاع عما كان سائدا في 2010، وفي ضوء فشل النخب القائمة في علاج هذه الفجوات فمن الوارد ازدياد هشاشة الدول الموجودة، الهشة أصلا، وزيادة عدم استقرارها، مع احتمال انخراطها في صراعات داخل هذه الدول.
  • المشاكل البيئية وندرة الماء ونقص الغذاء والتغيرات المناخية التي يمكن أن تجعل بعض الأماكن في منطقة الخليج، مثلا، غير قابلة للسكن بحلول العام 2050.
  • التغيرات التكنولوجية السريعة، ومنها مثلا تطورات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن توظفها الأنظمة القمعية لتزداد قمعا وتحكما في حياة الشعوب.

وبالإضافة لهذا الاتجاهات الرئيسية، تحدثت الدراسة عن عدد من التطورات المؤثرة التي يطلق عليها Game Changers والتي يمكن أن تحدث من خلال هذه الاتجاهات أو بمعزل عنها، ومنها تغيرات في الأنظمة الحاكمة، تغير الشراكات والمنافسات، انتفاضات داخلية تؤدي إلى تغيير النظم، تدخلات عسكرية بواسطة قوى إقليمية أو دولية في النزاعات، نهاية الصراعات العسكرية وشروط تسويتها، الحصول على السلاح النووي لبلدان لم تكن تحوزها من قبل، تغيرات تكنولوجية درامية يمكن أن تحول التوازنات الاقتصادية أو العسكرية القائمة، والكوارث الطبيعية التي يمكن أن تتسبب في خسائر جسيمة بين البشر أو في البنية الأساسية.

قد استخدمت الدراسة بعد ذلك متغيرين رئيسيين في بناء السيناريوهات نظرا لتأثيرهما المباشر، أو لوجود علاقة قوية لهما، مع أغلب الاتجاهات السابق ذكرها:

  1. مدى استعداد الولايات المتحدة للعب دور قوي ومشكِّل في الشرق الأوسط، بما يحتاجه ذلك من استثمار للموارد البشرية والمادية لدعم حلفائها سياسيا وعسكريا، حيث أن غياب مثل هذا الاستعداد سيعطي مساحة للصين وروسيا للمناورة، ويقلل من القيود السياسية والعسكرية على الفاعلين الإقليميين مثل تركيا وإيران، ويؤدي إلى عدم كبح الصراعات والنزاعات، كما قد يفضي إلى ظهور قوى نووية أخرى، فضلا عن جماعات مسلحة جديدة عابرة للحدود في المنطقة.
  2. الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة، الذي كلما قل تزداد الفجوة بين الشعوب والنخب الحاكمة (في البلدان التي لم يحدث هذا فيها بالفعل!) مما يدفع الأنظمة لتزايد الاعتماد على القوة لكي تستطيع البقاء. وهذا العامل يمكنه أيضا أن يعيد رسم خرائط التحالفات داخل المنطقة أو حتى مع قوى من خارجها.

و بناء على التداخلات بين هذين العاملين قدمت الدراسة أربع سيناريوهات، أطلقت على كل منها اسما مجازيا لسهولة تصورها، وذلك على النحو التالي:

  • السيناريو الأول (لعبة الشطرنج متعددة المستويات Multi-level Chess)، تداخل أمريكي قوي مع وضع مستقر في المنطقة.
  • السيناريو الثاني (إناء الضغط Pressure Cooker)، تداخل أمريكي قوي في منطقة غير مستقرة.
  • السيناريو الثالث (المواجهات المكسيكية Mexican Standoffs، وهو التعبير الاصطلاحي الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر ويقصد به أنه لا أحد يخرج فائزاً في صراع ما)، تراجع أمريكي في منطقة مستقرة.
  • السيناريو الرابع (الجميع أحرار Free-for-all)، تراجع أمريكي في منطقة غير مستقرة.

و تجدر الإشارة أن تطوير هذه السيناريوهات قد تم في هذه الدراسة بغرض تحديد آثارها على الكيان الصهيوني وتوجيه صانع القرار بمقتضاها، إلا أن هذه السيناريوهات تبقى قائمة وشاملة بشكل عام إلى حد كبير. وتفصّل الدراسة في وصف أحداث محتملة ترتبط بهذه السيناريوهات، يُنصح القارئ بالرجوع لقراءتها بالتفصيل، ليس لصحة تنبؤاتها بالضرورة، لكن لإدراك مدى التعقيد المتعلق بتطور الأحداث في منطقة الشرق الأوسط ومدى الاعتماد المتبادل بين كم هائل من المتغيرات يمكن أن تأخذ مسارات الأحداث في أي اتجاه.

و تلمح الدراسة إلى أن السيناريو الرابع، يتيح للكيان الصهيوني فرصة جيدة استغلالا لحالة فراغ القوة القائم والتدهور الحادث في النظام الإقليمي، طبقا لهذا السيناريو، لإنهاء تهديدات عسكرية كبيرة بأقل تكلفة، أو لزيادة موضع أقدامه في المنطقة بتعميق تعاونه الإقليمي.

و بدراسة هذه السيناريوهات، وكذلك المتغيرات الحادثة في المنطقة وتم استعراضها في هذه الدراسة، يبدو لي أن الوضع القائم الآن يتراوح بين السيناريوهين الثاني والثالث، حيث أن الولايات المتحدة تجهز لتقليل تواجدها العسكري في المنطقة كما أوضحنا سابقا، ولكنها لم تتركها بعد بشكل كبير، كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، وإن كانت تبدو سيئة في أماكن كثيرة إلا أن النظام الإقليمي لازال متماسكا، خاصة أن أسعار النفط اتجهت مؤخرا للارتفاع بما يهيئ عوائد لا بأس بها للدول النفطية، كما أمكن أيضا التعامل مع بعض تداعيات كوفيد.

إلا أن هذا الوضع يمكن تصور استمراره، من وجهة نظري، على المدى القصير فقط، لكن مع استمرار التراجع الأمريكي المصاحب لاضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، يمكن أن تتجه المنطقة بسرعة لوضع ما بين السيناريوهين الثالث والرابع ويكون الحسم للوصول للسيناريو الرابع بشكل كامل مسألة وقت.

و طبقا لهذا التحليل، وفي ضوء المساعي الأمريكية، وكذلك مساعي عدد من دول المنطقة، لترتيب الأوضاع في أعقاب تراجع الدور العسكري الأمريكي في الوقت الراهن على النحو السابق توضيحه، يمكن الحديث عن ثلاث سيناريوهات فرعية محتملة لمسار مستقبل المنطقة، قام كاتب هذه الدراسة بتطويرها:

  1. أن تنجح المساعي الأمريكية في تسكين الأوضاع وكذلك تنجح مساعي إعادة التموضع لبعض دول وقوى المنطقة، على النحو الذي تم استعراضه سابقا، بما يخدم المصالح الأمريكية في حدها الأدنى على الأقل، لتستطيع التركيز على ملف الصراع المستقبلي مع الصين في منطقة الإندو باسيفيك، مع استقرار نسبي في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على الصورة الراهنة، بما يحفظ النظام الإقليمي متماسكا.
  2. ألا تنجح هذه المساعي فتجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للاستمرار في الانخراط العسكري الجزئي في المنطقة للحفاظ على مصالحها، وتحاول منع ازدياد النفوذ الصيني والروسي فيها، بحيث تستمر الأوضاع السائدة في المنطقة على الشكل الذي كانت عليه قبل ولاية بايدن مباشرة.
  3. أن تدخل المنطقة في حالة من الاضطراب وتنامي النزاعات القائمة وبروز صراعات جديدة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، مع سقوط بعض الأنظمة القائمة أو وقوعها في حالة ضعف شديد، فيتضاءل اهتمام القوى العظمى بالمنطقة، وتقرر الولايات المتحدة زيادة وتيرة تراجعها وعدم انخراطها في صراعات المنطقة، بما قد يدفع المنطقة لحالة من الفوضى الجزئية أو الشاملة.

و يرى كاتب هذه السطور أن إمكانية تحقق السيناريو الأول غير ذات حظوظ مرتفعة إلا على المدى القصير، على النحو الحادث حاليا، لكن نظرا للطبيعة الهشة للترتيبات الجديدة، ولأن أمريكا لا تبدو مستعدة الآن للعودة لنهجها القديم في التورط في الصراعات العسكرية في المنطقة لأسباب تتعلق بفشل سياساتها فيها على مدى الأعوام العشرين الماضية على الأقل بما سيقوي الأصوات المعارضة لأي تدخلات جديدة، فضلا عن التهديدات الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة بتنامي الدور الصيني بما يدفعها للتركيز على هذه الجبهة، إضافة إلى ما تم استعراضه باستفاضة من خلال هذه الدراسة والمتمثل في تراجع الدور الأمريكي الإمبراطوري المهيمن في العالم بشكل عام، وما هو متوقع أيضا من تصاعد وتيرة التنافس الصيني-الروسي لاستغلال حالة الفراغ القائم في المنطقة، بما يقلل أيضا من حظوظ السيناريو الثاني، فإن الأمور من المرجح أن تؤول، مع الأسف، للسيناريو الثالث: الفوضى والاضطراب، ما لم تقع متغيرات جوهرية مفاجئة أخرى تفرض سيناريوهات مختلفة.

إن مراقبة الوضع الإقليمي على جميع المستويات تشي بحالة شديدة السيولة، من الصعب التنبؤ بمساراتها ومألتها؛ فأسباب الصراعات وتفجر الأوضاع لازالت كامنة في جميع الملفات، ولا يبدو أن هناك أفقا واضحا لتسويتها بشكل عادل وداعم للاستقرار في المدى المنظور. وتبدو الشواهد لترجيح السيناريو الثالث متمثلة، فضلا عن حالة التراجع الأمريكي، فيما يلي:

  • الأوضاع في سوريا شديدة المأساوية، وهي تؤول إلى فرض استعادة سيطرة نظام الأسد على معظم التراب السوري، مع تواجد عسكري روسي دائم، وتصاعد نفوذ الميليشيات المدعومة إيرانيا، مع ظهور تعارض في المصالح بين روسيا وإيران في ترتيب الأوضاع النهائية. إضافة إلى ذلك فالمكون الكردي رغم تنامي قوته لم يستطع تحقيق أهدافه، كما أن الفصائل الإسلامية المناهضة لنظام الأسد لازال لها تواجد عسكري قوي على الأرض خاصة في إدلب، وبين البعض منها نزاعاتها الخاصة، فضلا عن إمكانية نشوب نزاع إيراني-إسرائيلي على الساحة السورية، كل هذا يصاحب انهيار آمال الشعب السوري في تحقيق أهداف ثورته، بالإضافة إلى المأساة الإنسانية الكبرى والمتمثلة في ملايين القتلى والجرحى والمهجرين والنازحين من أبناء الشعب السوري داخل سوريا وخارجها. هذه الأوضاع تؤشر لوجود قنابل موقوته قابلة للانفجار في أية لحظة في المستقبل.
  • تقع العراق حاليا تحت حكم الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانيا، مع وجود حالة من الفشل السياسي الكامل المصحوب بقدر غير مسبوق من الفساد، فضلا عن الأزمات الاقتصادية الحادة، وتنامي الرفض الشعبي، خاصة في أوساط الشباب (من السنة والشيعة على حد سواء)، للمنظومة السياسية القائمة بالكامل، مع تواجد موجات من الحراك الشبابي الرافض من وقت لأخر، وأيضا تصاعد دعوات الاستقلالية المناطقية التي يمكن أن تقود بالضرورة إلى وضع يصير فيه تقسيم البلاد حتمياً.

وزاد على ذلك تداعيات الانتخابات البرلمانية المبكرة التي تم إجراؤها مؤخرا في شهر أكتوبر، وتمخضت عن تغيرات كبيرة في الخريطة الانتخابية، من أهمها، فضلا عن التقدم الكبير للتيار الصدري، التراجع الكبير للمرشحين المدعومين من الحشد الشعبي والميليشيات المسلحة، مما دفع عددا من قادة هذه الميليشيات، فضلا عن مرشحين خاسرين أخرين، للتهديد بموجات من العنف نتيجة لعمليات التزوير الكبيرة التي تمت، على حد زعمهم، لإقصائهم عن المشهد. أيضا فإن العدد الكبير للكتل والتحالفات سيفرض عملية طويلة نسبيا من التفاوضات والتوازنات لكي يمكن تشكيل الحكومة، وهذا سيؤدي لاستمرار الشلل في المؤسسات الحكومية وعدم القدرة على مواجهة مشاكل الناس. كل هذه الأوضاع تؤشر لازدياد احتمالات تفجر الأوضاع في المستقبل دون كابح.

  • تستمر الأوضاع المأساوية في اليمن مع تراجع القوى الداعمة للشرعية على الجبهات المختلفة وانحسار بقاء معقلها الأساس في منطقة مأرب، وتكريس السيطرة الإماراتية والقوى الموالية لها على الجنوب، وعدم قدرة المملكة السعودية على حسم الأمور في ظل تنامي نفوذ الحوثيين وسعيهم للسيطرة الكاملة، وعدم وجود أي سعي أمريكي جاد لفرض تسوية عادلة، ويأتي كل ذلك في ظل مأساة إنسانية شديدة يعاني منها الشعب اليمني على الصعيد الصحي والاقتصادي وكافة مناحي الحياة، حيث أعلن منسق الأمم المتحدة للشئون الإنسانية مؤخرا أن 20 مليون شخص في اليمن بحاجة للمساعدة بينهم 5 ملايين على شفا المجاعة!. ولا يبدو أن هناك أي أفق حقيقي لتحقيق استقرار لليمن في المدى المنظور.
  • لاتزال هناك حالة من عدم التأكد حول ما ستؤول إليه الأوضاع في ليبيا، والتي تشكل هاجسا خاصا بالنسبة لأوروبا كونها محطة هامة للهجرة غير الشرعية من أفريقيا. فعلى الرغم من قوة الدفع وحالة الاستعداد للانتخابات المزمع إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر من هذا العام، فلا زال هذا الأمر من غير المؤكد بشكل نهائي، كما أن إجراء الانتخابات لا يعني بالضرورة الوصول لحالة من الاستقرار المنشود، فمن غير الواضح مثلا مأل الأوضاع إذا ما فاز الجنرال حفتر، أو إذا خسر، وكيف ستكون الخريطة السياسية في أعقاب الانتخابات، وما هي حظوظ سيف الإسلام القذافي، وإلى ماذا سيؤول وضع الإسلاميين، وما مدى نزاهة العملية الانتخابية، ومدى قبول الأطراف المختلفة، محليا وإقليميا ودوليا، بها كخطوة أولى على طريق تشكيل عملية سياسية تحتوي الجميع، وما هو مستقبل القوى المسلحة المحلية الداعمة للقوى المختلفة، وما هي احتمالات الصراع العسكري فيما بينها، ثم ماذا عن القوى الخارجية ومواقفها من مستقبل ليبيا، وبوجه خاص فرنسا وروسيا والإمارات ومصر وتركيا، وما هي إمكانيات التوافق فيما بينها، وإلى متى ستبقى القوات الأجنبية على أرض ليبيا وما هي درجة قبول الأطراف المختلفة بها، وماذا عن ميليشيات المرتزقة مثل فاجنر وغيرها؟ إلى أخر هذه العوامل ذات التفاعلات المركبة شديدة التعقيد بما لا يشي أيضا بإمكانية تكريس حالة من الاستقرار المستدام في المدى القريب في ليبيا.
  • و في السودان فإن حالة عدم الاستقرار السياسي تتصاعد، حيث تم مؤخرا الإعلان عن إجهاض محاولة انقلابية لم تتضح تفاصيلها بشكل واضح، وأثارت تصريحات رئيس المجلس السيادي ونائبه في أعقابها عاصفة من الاستهجان، وتم اتهام العسكر بانقلاب ثان على استحقاقات المرحلة المدنية بالسعي لعدم تسليم السلطة للمدنيين، وفرض الوصاية على الحياة السياسية، وإذا أضفنا المشاكل الناشئة عن احتجاجات شرق السودان، والمشكلات المزمنة التي تعاني منها السودان في شتى جوانب حياة الناس، والتشرذم السياسي، فضلا عن تهميش الفصيل الإسلامي الذي كان في السلطة طوال ثلاثين عاما ولا زالت له بعض الشعبية بين السودانيين، والمشاكل القائمة مع أثيوبيا في ملف سد النهضة والصراعات الحدودية، فإن ذلك يؤدي إلى الاستنتاج بأن السودان سيكون بعيدا عن الاستقرار لفترة ممتدة من الزمن.
  • لا يمكن اعتبار منطقة المغرب العربي، خاصة تونس والجزائر والمغرب، بمنأى عن حالة عدم الاستقرار المتوقعة في المنطقة، فالأوضاع في تونس أصبحت شديدة الاضطراب في أعقاب الانقلاب المدني الذي يقوده الرئيس قيس بن سعيد على المسار الدستوري والديمقراطي برمته، مع عدم وجود قوة سياسية متماسكة تواجهه، خاصة بعد المشاكل الداخلية التي تواجهها حركة (أو حزب) النهضة والتدهور الحاد في شعبيتها، في ظل وضع اقتصادي ومجتمعي شديد السوء. وفي الجزائر جرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ظل اتهامات بالتزوير مع حالة من الاحتقان الشعبي نظرا لتردي الأوضاع الاقتصادية، فضلا عن تصاعد التوتر بين الجزائر والمغرب وصولا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والمغرب ليست في وضع أفضل حالا بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدت هزيمة ساحقة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم وتراجعه إلى ذيل ترتيب الأحزاب، مع تشكيل حكومة جديدة من أحزاب شديدة القرب مع الملك، وتصاعد وتيرة التطبيع المرفوض شعبيا مع الكيان الصهيوني. وبأخذ حالة عدم الاستقرار في ليبيا المجاورة في الاعتبار، فإن بلدان المغرب العربي الثلاث لن تأمن من الوقوع في حالة الاضطراب المتوقعة.
  • أما في مصر، فالأوضاع تبدو في ظاهرها أكثر استقرارا من باقي المنطقة نظرا للسيطرة التامة للسيسي ونظامه على الأوضاع السياسية والأمنية، والقضاء على أية قوة معارضة يمكن أن تهدد استقراره، سواء من خارج أجهزة الدولة أو من داخل مؤسساتها بما فيها القوات المسلحة. إلا أن النظرة المتعمقة لتطورات الأوضاع في مصر تشي باحتمالات ليست بالقليلة لتهديد هذا الاستقرار على المدى المتوسط، وذلك لعدة أسباب. فالسيطرة الظاهرة على كافة مفاصل البلد راجعة بالأساس لمنظومة أمنية قمعية شديدة البطش، دون ترك أي مساحة لأي نوع من الحراك أو التعبير السياسي والمجتمعي، ومثل هذه المنظومة لا يمكن لها التماسك لفترات طويلة وتكون معرضة للانهيار في أي وقت، خاصة في ظل أوضاع اقتصادية متردية للأغلبية الساحقة من الشعب (راجع بيانات البنك الدولي التي كشفت منذ ثلاث سنوات أن نحو 60% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر أو يقتربون من ذلك). يضاف إلى ذلك الارتفاع الصاروخي للديون الخارجية (الأرقام الرسمية تتحدث عن أكثر من 8 مليار دولار في عام 2021)، وخدمة تلك الديون التي تبتلع (مع فوائد الديون الداخلية أيضا) نحو 40% من إجمالي موازنة الدولة، كما تواجه البلاد قنبلة موقوتة تتمثل في سد النهضة الإثيوبي إذا اكتمل بناؤه بما يمكن أن يدمر نحو نصف المساحة المنزرعة في مصر.

و يمكن أن تؤدي هذه الأوضاع مجتمعة إلى انفجار الوضع الداخلي، لا قدر الله، خارج نطاق السيطرة، خاصة في ضوء عدم ترك أي مساحة للتعبير، مع تردي حالة حقوق الإنسان بشكل غير مسبوق دون وجود أفق لحلحلة هذا الملف في المدى المنظور. بالإضافة للتحديات الداخلية، فإن هناك عددا من التحديات الأمنية ليست بالقليلة بالنظر إلى اضطراب الأوضاع في محيط مصر المباشر، وذلك في ليبيا والسودان وقطاع غزة، فضلا عن احتمالات النزاع العسكري مع إثيوبيا في حال عدم حلحلة ملف سد النهضة، مما يشكل، مع الوضع غير المستقر في سيناء لسنوات طويلة، تحديات أمنية كبيرة.

و هناك سؤال هام يجب طرحه فيما يتعلق بمستقبل مصر في المدى المتوسط، وهو كيف سيكون رد فعل نظام السيسي في حال تدهورت الأمور وبدأت في الخروج عن نطاق السيطرة، أو اتجهت في هذا الاتجاه؟ هل سيكون انقلابا داخليا في محاولة لضبط الأمور والتضحية بالسيسي؟ أم يمكن بروز قوى معارضة لديها القدرة على ضبط الأوضاع والسيطرة عليها واستلام الحكم ولو بالتنسيق مع بعض القوى السيادية في الدولة؟  أم يمكن أن تصير البلاد مرتعا للجماعات العنيفة عابرة الحدود مثل داعش والقاعدة وغيرهما على غرار الوضع الراهن في سيناء؟ وهل يمكن أن يلجأ السيسي لسيناريو بشار الأسد باستدعاء التدخل الروسي للحفاظ على نظامه، خاصة في ضوء نجاح بشار في البقاء حتى الآن بفضل هذا الدعم. وفي ضوء التواجد الروسي القائم بالفعل في القواعد العسكرية غرب البلاد، مع تراجع الدور الأمريكي وتصاعد الدور الروسي في المنطقة، والذي يمكن أن يتدعم بشكل أكبر في ظل ارتفاع أسعار البترول كثيرا كما حدث مؤخراً. أم أن الظروف في مصر مختلفة عنها في سوريا؟ هل يمكن أن تتدخل الصين بشكل كبير لدعم مصر اقتصاديا لاكتساب نفوذ كبير استغلالا للفراغ الحادث عن التراجع الأمريكي، ولتعويض نقص الدعم الاقتصادي الخليجي لمصر، بما يحافظ على استقرارها؟ وبأي ثمن يمكن أن يكون هذا التدخل؟ أسئلة كثيرة من الصعب الإجابة عليها بشكل حاسم، إلا أنها يجب أن تؤخذ في الاعتبار في ظل دراسة السيناريوهات.

  • و في فلسطين المحتلة، فحالة الاحتقان المستمرة منذ سنوات لا تنقطع، في ظل الحصار الخانق والمستمر على قطاع غزة، وحالة التوتر المتصاعدة في الضفة الغربية، والاعتداءات الصهيونية المتزايدة على المسجد الأقصى، وفشل السلطة الفلسطينية على جميع المحاور مع عدم وضوع الرؤية لمرحلة ما بعد محمود عباس، وغياب أي أفق لنجاح طرح حل الدولتين ودعمه بجدية من قبل الإدارة الأمريكية. كل هذه العوامل تنبأ بإمكانية تفجر الأوضاع على غرار ما حدث في نهاية شهر رمضان الماضي، وهو ما يمكن أن يضع المنطقة كلها على حافة فوهة بركان.
  • تدهورت الأوضاع في لبنان بشكل غير مسبوق تزامنا مع الفشل في تشكيل حكومة لعدة أشهر، وتصاعدت الأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ 2019، وازداد التضخم وأزمات الوقود بشكل جنوني، حتى وصل الحال لانقطاع الكهرباء عن كامل لبنان في التاسع من أكتوبر الجاري بعد نفاذ الوقود. هذه الأزمات تدفع عددا من المحللين لتوقع انهيار الأوضاع في لبنان بشكل كامل ووقوعها في حالة الفوضى في أية لحظة، فثلاثة أرباع اللبنانيين يصلون الآن بسرعة إلى ما تحت خط الفقر، وتشهد لبنان حاليا أكبر قدر من هجرة العقول للخارج منذ الحرب الأهلية في السبعينيات. كما لا يمكن استبعاد التوترات والصدامات العسكرية مع إسرائيل في حال نشوب خلافات خارج نطاق السيطرة، خاصة بالنظر لعلاقة ذلك الملف بملف الصراع الإسرائيلي-الإيراني. وتجدر الإشارة إلى أن لبنان يضم أكبر عدد من اللاجئين منسوبا لعدد سكانها في العالم، وهذا يشكل بمفرده عاملا هاما دافعا لعدم الاستقرار في لبنان، التي إن شهدت انهياراً ستدفع موجة ضخمة أخرى من اللاجئين إلى أوروبا.
  • أما في منطقة الخليج، التي تبدو في حالة استقرار نسبي خاصة بعد تسوية الخلافات مع قطر، مع تقدم المباحثات الإيرانية-السعودية، إلا أن توسع الدور الإيراني في المنطقة وعدم وجود رادع حقيقي له في ظل التراجع الأمريكي العسكري في المنطقة، فضلا عن اقتراب إيران من إنتاج السلاح النووي في ظل عدم الوصول لاتفاق سريع مع الولايات المتحدة، فضلا عن قدراتها الصاروخية المتنامية، يجعل المنطقة تقع تحت تهديد شديد، وهو ما دفع الدول الخليجية الرئيسية لمحاولة الاقتراب من إيران ونزع فتيل التوتر بينهما. إلا أنه على جانب أخر تزداد التوترات بين إيران والكيان الصهيوني على خلفية تقدم البرنامج النووي الإيراني، فضلا عن اتساع دوائر نفوذها بشكل شبه مستقر في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

كما أنه من غير المنتظر أن تتخلى الإمارات عن الدور الذي تسعى للقيام به منذ سنوات طويلة، حيث أن التراجع الظاهر حاليا هو على الأرجح تراجع تكتيكي وتغيير في بعض الأساليب بما يتناسب مع الموجة الحالية من التراجع الأمريكي، لكن أدوارها في ليبيا واليمن وغيرها لا تزال موجودة بشكل ملموس.

و من عوامل عدم التأكد أيضا في منطقة الخليج مستقبل المملكة العربية السعودية حال وفاة الملك سلمان، فهل سيحدث انتقال سلس في السلطة للأمير محمد، أم سيلقى مقاومة؟ فبكل تأكيد، يعتبر تماسك المملكة ودورها القيادي هو العامل الأهم في الاستقرار الداخلي لمنطقة الخليج.

و فضلا عن عوامل التوتر الكبيرة والكائنة بأشكال مختلفة في كل بلد طبقا لظروفها وما تمر به من تطورات، فإن الأزمات العالمية المنتظر تفاقمها في أواخر العام 2021 ستلقي بظلالها على المنطقة العربية بشكل ضخم، خاصة أزمتي الطاقة والاقتصاد المتصاعدتين بقوة. وتنذر، بشكل خاص، المشاكل الاقتصادية العالمية المتنامية بأثار كارثية على المنطقة العربية، فنسبة التضخم في الغرب ترتفع بشدة وتفوق بمراحل معدلات الفائدة، في الوقت الذي تتفاقم فيه الديون بشكل غير مسبوق مما يجعل العالم كما يعتقد البعض متجها إلى الإفلاس!

إن الولايات المتحدة تستطيع تحمل مثل هذا الوضع لبضع سنوات دون انهيار الدولار، العملة العالمية، نظرا لقدرتها الكبيرة على طباعة تريليونات الدولار لتغطية العجز في نفقاتها دون غطاء يذكر، بينما في بلدان مثل بلداننا العربية فلن تستطيع الإفراط في طباعة النقد حيث لا تستطيع تحمل التضخم المتعلق بذلك، فلا بديل لديها لتغطية عجزها المالي إلا المزيد من الاقتراض، لكن في ضوء بدء البنوك المركزية الغربية في التخلي التدريجي عن سياسات التيسير الكمي المتعلقة بفترة ما بعد الكورونا، فستقل الأموال المتاحة للاقتراض، وسترتفع أسعار الفائدة على الاقتراض بشكل كبير، كما سيسهل خروج الأموال الساخنة التي كانت تستثمر في تجارة أدوات الدين استفادة بفرق سعر الفائدة الكبير نسبيا عن السعر العالمي . وبالنظر لارتفاع حجم القروض في كثير من البلدان العربية، فإن الوصول إلى نقطة عدم قدرتها على السداد ستكون فقط مسألة وقت، وسيصبح من الوارد تكرار سيناريو لبنان في بلدان عربية أخرى.

وفي ظل الأدوار التي تأمل أمريكا من حلفائها القيام بها لتعويض غيابها ولو جزئيا، سيصعب تصور قيامها بضغوط جدية أو مؤثرة في ملفات مختلفة على بلدان مثل إسرائيل ومصر والسعودية (في القضية الفلسطينية وقضايا حقوق الإنسان وغيرها، عدا بعض الخطوات التي لا تتعدى الأثر الإعلامي الذي لا يمكن أن يغير من الأوضاع على أرض الواقع)، بل إن التدخل لفرض الديمقراطية أو التبشير بها سيتقلص كثيرا في ظل نظام دولي يتغير من الليبرالية في ظل عالم أحادي القطبية إلى “نظام واقعي –Realist Order ” ثنائي أو متعدد الأقطاب، كما يحاجج ميرشايمر، والذي يقول بوضوح “إنّ الأنظمة التّي ستكون مهمّة في المستقبل المنظور هي الأنظمة الواقعية والتّي يجب صياغتها لخدمة المصالح الأمريكية”. وقد ظهر ذلك بوضوح مؤخرا من خلال الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان في أواخر سبتمبر 2021 تحديدا إلى السعودية والإمارات ومصر، وهي الدول الثلاث التي يثار عنها في الكونجرس وفي الإعلام الأمريكي أكبر قدر من الانتقادات فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، حيث بحث مع قادة هذه الدول الثلاث شتى القضايا التي تهم الولايات المتحدة في المنطقة، وبالتأكيد تم بحث كيفية متابعة هذه الدول لأداء دورها الوظيفي المستمر في الإطار الذي يحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة.

واستمرار هذه الأوضاع سيؤدي بالضرورة لتصاعد حالات الاحتقان الداخلي في ظل استمرار حالة القمع الشديد وعدم القدرة على حلحلة ملفات حقوق الإنسان، مما يجعل تحول المنطقة إلى حالة من الاضطراب قد تصل إلى العنف متصورا، وذلك لغياب أي أفق سياسي للإصلاح أو المعارضة بطرق سلمية.

ولا يجب إغفال أثر تصاعد الجرأة على تحدي أمريكا بعد التدهور المستمر في الصورة الذهنية عنها، وعن منظومة الهيمنة الاستعمارية الغربية بشكل عام، بإمكانية مواجهتها وهزيمتها، خاصة في أعقاب الهزيمة الأمريكية في أفغانستان، وذلك في ضوء حالة “التراجع الأمريكي العام” التي يتحدث عنها علماء المستقبليات، ونراها تتحقق بالفعل على أرض الواقع. هذه الجرأة ستشجع بعض التنظيمات “الجهادية”، المحلية أو العابرة للدول، للتخطيط في تحدي الولايات المتحدة في مواقع نفوذها، وتحدي “الحكومات الفاسدة” المتواطئة معها (على غرار حكومة أفغانستان السابقة) مما سيضفي بعدا مهما يساهم في إذكاء حالة عدم الاستقرار في المنطقة بشكل عام.

باستعراض الصورة الكلية على النحو السابق، وطبقا للواقع الراهن كما هو دون إضفاء نظرة تشاؤمية إضافية عليه، وفي ظل ازدياد تقلص الدور الأمريكي في المنطقة، تتصاعد احتمالات السيناريو الثالث الذي بحثه كاتب هذه الدراسة، سيناريو الفوضى والاضطراب، سواء بشكل جزئي في بعض البلدان، أو بشكل شامل في معظم أرجاء المنطقة، ويبقى سؤال “متى” هو السؤال الأكثر منطقية. ومع الأسف لا تبدو، طبقا للمعطيات الراهنة، إمكانية كبيرة لتجنب هذا السيناريو الكارثي مع استمرار الأوضاع التي تؤدي إليه دون تغيير يذكر.

الخلاصة

عمدت هذه الدراسة إلى استعراض حجم هزيمة الولايات المتحدة مؤخرا في أفغانستان، وما يعنيه ذلك في سياق حالة التراجع الأمريكي العام وتقلص الهيمنة الإمبراطورية للولايات المتحدة وبدء مرحلة جديد من ثنائية/ تعددية القطبية في أعقاب فترة السيطرة أحادية القطبية للولايات المتحدة، بما سمح لها بخوض غمار مغامرات وصراعات وحروب، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، انتهت جميعها بالفشل في تحقيق أهدافها. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في الهزائم الأمريكية في العراق وأفغانستان، وتكبد الولايات المتحدة خسائر باهظة على الصعيدين المالي والبشري، وتزامن كل ذلك مع تصاعد التهديد الصيني بالتوسع وتحدي الهيمنة الأمريكية، بما فرض على الولايات المتحدة في النهاية تبني استراتيجية تقليص التواجد العسكري في منطقة الشرق الأوسط، وذلك تزامنا مع تناقص الاهتمام بها، والتركيز على التموضع القوي في منطقة الإندو باسيفيك لكي يمكن مواجهة الطموحات التوسعية الصينية بشكل فعال.

وقد اعتمدت الدراسة بشكل أساس على كتابات وتحليلات عدد من كبار الكتاب والمفكرين الغربيين، وذلك لتلافي ما يحلو للبعض تسميته :”التفكير الرغائبي” عند المحللين العرب والمسلمين، وظهر من الدراسة بشكل واضح أن ما تعرضت له الولايات المتحدة في أفغانستان كان هزيمة مُذلّة بكل المقاييس، وذلك بناء على معطيات كثيرة امتدت لسنوات، وانتهت بالصورة الفوضوية التي جرت خلال الانسحاب بعد اكتساح حركة طالبان كافة المعاقل وسيطرت على كابل وكامل التراب الأفغاني في زمن قياسي. وقد أكدت هذه الهزيمة استمرار التراجع الأمريكي وانحسار الهيمنة الإمبراطورية على مدار سنوات، إلا أن وتيرة هذا الأمر قد تصاعدت بشكل كبير مؤخرا، ليس فقط لعوامل تتعلق بالصراعات الخارجية، ولكن، وبشكل كبير أيضا، لما يعانيه المجتمع الأمريكي من الانقسام والاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد، ومن الكثير من مظاهر تهديد سلامة واستقرار الدولة الأمريكية نفسها.

و قد تطرّقت الدراسة لرصد أهم التغيرات في النظام العالمي الجديد، وبالتالي أثر ذلك على المنطقة العربية تحديدا، ورصدت العديد من المحاولات، الأمريكية وغيرها، لترتيب أوضاع المنطقة في أعقاب تراجع الدور الأمريكي، بما يضمن لها الاستقرار، مع تسوية بعض النزاعات، ومحاولة بناء بعض التحالفات الجديدة، وذلك لضمان الاستمرار في تحقيق المصالح الأمريكية.

واستعرضت الدراسة عددا من السيناريوهات المحتملة لتطور الأوضاع في المنطقة بناء على هذه المتغيرات، كما تطرقت إلى الحالة الراهنة والسائدة في أغلب البلدان العربية، واحدا تلو الأخر. وانتهت الدراسة إلى ترجيح سيناريو تدخل فيه المنطقة، مع الأسف، لحالة من الاضطراب، قد تصل إلى حالة فوضى، سواء جزئية أو شاملة، إذا لم يتم معالجة المشاكل الكبرى التي تواجهها بلدان المنطقة كافة، أو لم تحدث متغيرات جوهرية أخرى، ولم تبرز قوى جديدة تضطلع بكبح جماح هذا السيناريو السوداوي.

وفي نهاية هذه الدراسة، من المهم أن نؤكد على نتيجة أساسية ظهرت واضحة من استعراض كل ما سبق، وهي أن أمريكا الآن ليست إلهاً لا يقهر، وأن هزيمة النظام الدولي حين يتجبر ويستبيح إرادة الشعوب هو أمر ممكن، وأن تحرر الشعوب والأمم من حظيرة العبودية الدولية ليس بالأمر المستحيل، وأن تطورات التداعيات المترتبة على المتغيرات الدولية والإقليمية الأخيرة من خلال السيناريوهات المختلفة لن تعتمد على حركة القوى الدولية وصراعاتها وخططها ودينامياتها فحسب، ولكن أيضا على مدى استيعاب الشعوب المستضعفة للدروس وقدرتها على العمل بمقتضاها، وبالتالي تحقيق الانتصارات.


الهامش

[1] Alfred W. Mccoy, Jacobin, The US’s Failure in Afghanistan Shows the Hubris of American Empire, 10 May 2021, link.

[2] William Hartung, Failure In Afghanistan, Over 40 Years in the Making, Forbes, 18 August 2021, link.

[3] The Economist, American Power – A special series on America’s changing geopolitical standing, link.

4 Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man, Free Press, 1 March 2006, link

5 Francis Fukuyama, The End of American Hegemony, The Economist, 18 August 2021, link.

6 David Harland, Afghanistan: A Lesson in How Not to Negotiate, Center for Humanitarian Dialogue, 23 August 2021, link.

7 Henry Kissinger, Why America failed in Afghanistan, The Economist, 25 August 2021, link.

8 Craig Whitlock, Leslie Shapiro and Armand Emamdjomeh, The Afghanistan Papers, A Secret History of the War, 9 December 2019, link

9 Gilles Dorronsoro, The Taliban’s Winning Strategy in Afghanistan, Carnegie Endowment, 29 June 2009, link

10 Chris Hedges, The Collective Suicide Machine and the Fall of Kabul, Scheer Post, 26 July 2021,  link

11 The Economist, The fiasco in Afghanistan is a grave blow to America’s standing, 21 August 2021, link

12 The Washington Post, Afghanistan’s Collapse Leaves Allies Questioning US Resolve On Other Fronts, 15 August 2021, link

13 George Packer, The Longest Wars – Richard Holbrooke and the Decline of American Power, Foreign Affairs, May/June 2019, link

14 The Balance, US Military Budget, Its Components, Challenges, and Growth, 3 September 2020, link

15 The Revolving Door Project, The Industry Agenda: Military-Industrial Complex, 17 March 2021, link

16 David Harland, Afghanistan: A Lesson in How Not to Negotiate, Center for Humanitarian Dialogue, 23 August 2021, link

17 Marwan Muasher, America’s declining influence in the Arab world, The Economist, 26 August 2021, link

18 Kabir Tanija, The Taliban has trumped the US in Afghanistan, The Observer Research Foundation, 4 March 2020, link

19 TRT World, Former Guantanamo detainee now sits across the table from Trump team, 16 September 2020, link

20 The White House, Remarks by President Biden on Afghanistan, 16 August 2021, link

21 The Independent, Defense secretary breaks down in tears and admits ‘some won’t get back’ from Afghanistan, 16 August 2021, link

22 The Economist, The fiasco in Afghanistan is a grave blow to America’s standing, Op. Cit.

23 Robert Farley, Republicans Inflate Cost of Taliban-Seized U.S. Military Equipment, Fact Check Posts, 3 September 2021, link

24 Gilles Dorronsoro, The Taliban’s Winning Strategy in Afghanistan, Carnegie Endowment, Op. Cit.

25 Karen DeYoung, As they did on the battlefield, the Taliban outlasted the U.S. at the negotiating table, The Washington Post, 4 September 2021, link

26 David Harland, Afghanistan: A Lesson in How Not To Negotiate, Center for Humanitarian Dialogue, Op. Cit.

27 Congressional Research Service, U.S. Role in the World: Background and Issues for Congress, 19 January 2021, link

28 Richard Haass, The Age of America First – Washington’s Flawed New Foreign Policy Consensus, Foreign Affairs, November/December 2021, link

29 Francis Fukuyama, The End of American Hegemony, The Economist, 18 August 2021, Op. Cit.

30 Chris Hedges, The Collective Suicide Machine and the Fall of Kabul, Op. Cit.

31 Alfred W. McCoy, In the Shadows of the American Century: The Rise and Decline of US Global Power, Haymarket Books, September 12, 2017, link

32 Robin Wright, Does the Great Retreat from Afghanistan Mark the End of the American Era?, The New Yorker, 15 August 2021, link

33 Niall Ferguson, Colossus: The Rise and Fall of the American Empire, Penguin Books, 3 June 2009, link

34 Niall Ferguson, Why the end of America’s empire won’t be peaceful, The Economist, 20 August 2021, link

35 Robert D. Kaplan, Why America can recover from failures like Afghanistan and Iraq, The Economist, 23 August 2021, link

36 Anne-Marie Slaughter, Why America’s diversity is its strength, The Economist, 24 August 2021, link

37 Jessica T. Mathews, American Power After Afghanistan – How to Rightsize the Country’s Global Role, 17 September 2021, link.

38 The Washington Post, Afghanistan’s collapse leaves allies questioning U.S. resolve on other fronts, Liz Sly, John Hudson, 15 August 2021, link

39 Joshua D. Kertzer, American Credibility After Afghanistan, Foreign Affairs, 2 September 2021, link

40 Reuters, EU says Afghanistan shows need for rapid-reaction force, 2 September 2021, link

41 Robin Wright, Does the Great Retreat from Afghanistan Mark the End of the American Era?, Op. Cit.

42 The Economist, The fiasco in Afghanistan is a grave blow to America’s standing, Op. Cit.

43 Ishaan Tharoor, The world 9/11 created: The sprawling, dark legacy of U.S. counterterrorism, The Washington Post, 8 September 2021, link

44 The Washington Post, Withdrawal from Afghanistan forces allies and adversaries to reconsider America’s global role, 17 August 2021, link

45 د. وليد عبدالحي، التداعيات الشرق أوسطية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، 3 سبتمبر 2021، الرابط

46 د. وليد عبدالحي، تيار التراجع الأمريكي في المكانة الدولية ومأزق الخيارات الاستراتيجية العربية والإسرائيلية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4 نوفمبر 2020، الرابط

47 Robert Kagan, Our constitutional crisis is already here, The Washington Post, 23 September 2021, link.

48 The Washington Post, Americans support Afghanistan pullout — but not the way it was done, a Post-ABC poll finds, 3 September 2021, link

49 David Charter, Donald Trump tops opinion poll as US voters ‘regret’ supporting Joe Biden, The Sunday Times, 23 September 2021, link.

50 Dr. Mohammad Makram Balawi, A Turkish Policy Shift towards the Taliban?, Middle East Monitor, 6 October 2021, link

51 Henry Olsen, Biden’s new defense agreement with Britain and Australia is a masterstroke against China, The Washington Post, 16 September 2021, link.

52 الحرة، لعبة الغواصات النووية.. ست دول تحتكرها وأخرى تحاول، 4 نوفمبر 2019، الرابط

53  أزمة الغواصات تتصاعد: فرنسا تتهم أستراليا والولايات المتحدة بالكذب وتصف بريطانيا بالانتهازية، القدس العربي، 18 سبتمبر 2021، الرابط

54 Niall Ferguson, A Taiwan Crisis May Mark the End of the American Empire, 22 March 2021, link

55 Brad Lendon, 5 things to know about China’s record surge of warplanes near Taiwan, CNN, 5 October 2021, link

56 Wayne Chang, Yong Xiong and Ben Westcott, Chinese President Xi Jinping vows to pursue ‘reunification’ with Taiwan by peaceful means, CNN, 9 October 2021, link

57 John J. Mearsheimer, Bound to Fail – Bound to Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order, International Security, Vol. 43, No. 4 (Spring 2019), pp. 7–50, link

58 Paul Kennedy, Does China’s rise mean America’s fall?, The Economist, 1 September 2021, link

59 Craig Whitlock, The Afghanistan Papers, A Secret History of the War, Op. Cit.

60 Richard Haass, The Age of America First – Washington’s Flawed New Foreign Policy Consensus, Foreign Affairs, Op. Cit.

61 وسام فؤاد، التحولات في منهج الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، المعهد المصري للدراسات، 6 مايو 2021، الرابط

62 Sandra Erwin, Biden’s first strategic guidance sets broad national security priorities, Space News,

3 March 2021, link

63  صحيفة الدستور الأردنية، النص الكامل للبيان الختامي لقمة بغداد، 28 فبراير 2021، الرابط

64 Amr Adly, How Egypt and Turkey Trade Amid Tensions, Carnegie Middle East Center, 19 October 2021, link

65 David Hearst, MBZ is performing a U-turn that could reshape the Middle East, 15 September 2021, link

66 David Ignatius, The UAE’s Machiavellian journey from ‘Little Sparta’ to ‘Little Singapore’, 14 September 2021, link

67 Reuters, UAE official says time to manage rivalry with Iran and Turkey, 3 October 2021, link

68 Ari Heistein, Daniel Rakov, Yoel Guzansky; What will the Middle East look like in 2030? An Israeli Perspective, Middle East Institute. 1 March 2021, link

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%b2%d9%8a%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%81%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%a8%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b7%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M