أظهرت عملية تكذيب التسريبات التي بثها أحد عناصر الجماعة الإرهابية الهاربة مدى قدرة أجهزة وزارة الداخلية المصرية على تفعيل أقصى درجات إجادة الأمن السيبراني Cybersecurity في زمن أصبحت فيه الحروب الحداثية أو ما بعد الحداثة هي الحروب الجارية على الساحات الرقمية والتطبيقات الذكية.
وتتضمن تقنيات حروب ما بعد الحداثة استراتيجيات خلق رأي عام مضلل عبر افتعال تسريبات ومحاولة توظيفها في خطاب سياسي مغرض؛ من أجل تحريض الرأي العام ضد الدولة الوطنية، وبث الإحباط داخل المجتمع، والادعاء بأن الفساد ينتشر، وأن هناك صراعًا بين أركان الدولة الوطنية، وأن المواطن هو آخر بند في اهتمام الإدارة الحاكمة.
وفى حالة تنظيم الإخوان وظهيره المدني الهارب للخارج، فإن السردية التي يسعى إليها التنظيم المنحل دائمًا هي الادعاء بان هناك خلافات داخل مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، والادعاء بأن “النظام يترنح”، وأن سقوطه هو مسألة أيام. وقد دأبت عناصر التنظيم الهاربة منذ عام 2013 خارج مصر على أن تخدم تلك السردية بالأكاذيب المكتوبة أو المسموعة أو المرئية.
ونظرًا لأن اليد الطولى للأمن المصري قد بسطت سيطرتها على الجغرافيا المصرية، ولم يعد لهذه العناصر وجود يذكر داخل جمهورية مصر العربية، فإن التحدي الأكبر لدى أجهزة الدولة المصرية هو خوض معركة الساحات الرقمية والتطبيقات الذكية، خاصة في ظل القدرات المادية والتقنية التي وفرها “العدو” للعناصر الهاربة، من أجل تشكيل فرقة من صناع المحتوى الإعلامي ينتشرون عبر منصات YouTube وتيك توك وفيس بوك وحتى تويتر؛ من أجل محاولة صناعة جيل من المؤثرين يصبح بمثابة الجيل الثاني من “النشطاء”، تلك الظاهرة السياسية التي قامت بتلغيم ثم تفجير الوسط السياسي المصري عام 2011 وأصبحت مرادفًا لكل ما هو ساعٍ إلى الحصول على تمويل أجنبي من أجل تنفيذ أجندات خارجية داخل الأراضي المصرية.
وعلى ضوء وجود كافة تلك العناصر خارج مصر، وأيضًا قدرتهم على صناعة المحتوى الكاذب خارج مصر وبتمويل مفتوح، طورت الدولة المصرية من قدراتها في الأمن الرقمي أو السيبراني؛ من أجل حسم الحروب الرقمية الجارية، بعد أن أصبحت الجيوش اليوم لجانًا إلكترونية بمثابة جيوش رقمية تصنع رأيًا عامًا تحت مسمى “ترند”، وتجتاح الوعي الجمعي للشعوب، وتغزو المرجعيات الثقافية والحضارية للأمم من أجل تزييفها بسرديات كاذبة.
وفى هذا المضمار، نجحت الأجهزة الأمنية المصرية منذ اللحظة الأولى في اختراق منظم للأجهزة الرقمية ووسائل الاتصال التي يتبادل عليها صناع المحتوى المزيف تلك المواد. ولم تكن تلك هي المرة الأولى؛ إذ برهنت أجهزة الدولة المصرية منذ عقد كامل من الزمان أن لديها القدرة على الوصول إلى بيانات صناع المحتوى الإخواني خارج مصر واتصالاتهم التي يظنون أنها عبر منصات رقمية مؤمنة مع عناصر داخل مصر، وكذا الرسائل النصية ونصوص المحادثات الكاملة بين تلك العناصر خارج مصر.
هذه الضربة الرقمية في عالم حروب ما بعد الحداثة شكلت زلزالًا عنيفًا داخل فلول الجماعة الهاربين للخارج، وأكدت أن للأمن المصري اليد الطولى داخل أجهزتهم الرقمية، بل والأهم أن لدى الأمن المصري القدرة على تفكيك السردية الإخوانية، ومعرفة أصول وخفايا تلك السردية، والرد بالحقائق والتفاصيل دون مبالغة أو نقصان.
إن هذه الاحترافية التي قدمها الأمن المصري طيلة سنوات الفوضى ثم سنوات الاستقرار والتعمير لا يمكن فصلها عن حقيقة أن مصر تمتلك كيانًا علميًا فريدًا من نوعه بالشرق الأوسط هو معهد الحرب الالكترونية التابع للقوات المسلحة المصرية، وأن حرب 6 أكتوبر 1973 هي أول حرب إلكترونية في التاريخ أجمع؛ حينما شلّت الدولة المصرية القدرات الإلكترونية للفريق الآخر في الساعات الأولى للحرب كما أوضح المؤرخ العسكري الأستاذ محمد عبد المنعم في كتابه “6 أكتوبر.. الحرب الإلكترونية الأولى”.
إن الدولة المصرية تمتلك تاريخًا عريقًا أمنيًا وعسكريًا في فنون الحروب الالكترونية والرقمية، بينما تتباهى الأقطاب الدولية عبر الأفلام السينمائية بهذه الألعاب، فإن مصر تمتلك سجلًا حقيقيًا، بدءًا من سنوات ما قبل العالم الرقمي في السبعينات، وصولًا إلى الثورة الصناعية الرابعة اليوم وعمادها التطبيقات الرقمية التي ظن البعض أنها سهلت لعبة “تزييف التسريبات” وصناعتها وبثها، فإذا بالدولة التي شنت أول حرب إلكترونية في التاريخ هي ذاتها صاحبة اليد الطولى في الحروب السيبراني والرقمية في زمن ما بعد الحداثة.
.
رابط المصدر: