الأزمة الروسية الأوكرانية: خلفياتها ومحدداتها

حذيفة حامد

 

في خطوة بدت وكأنها قد تُشعل صراعًا دوليًا بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، والاتحاد الروسي من جهةٍ أخرى؛ أعلن الجيش الأوكراني في الثالث من نيسان/ أبريل 2021 عزمه عقد مناورات عسكرية في الأشهر القادمة مع منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وقد أثارت هذه التحركات حفيظة روسيا المتاخمة لحدود أوكرانيا.

تزامن هذا الإعلان مع مرور سبع سنوات على اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية (الضمّ الروسي لشبه جزيرة القرم، والحرب الأوكرانية مع الانفصاليين المدعومين روسيًا في شرق البلاد)؛ فأثيرت الأزمة السياسية والدولية مجددًا بين موسكو وكييف وزادت من تفاقم حدة التوتر في مسار العلاقات الثنائية، والتي شهدت -منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى الوقت الراهن- حالات مد وجزر في مراحل عدة؛ كعاميْ 2004 و2014، فمنذ تطبيع العلاقات بينهما، في عام 1999 وحتى تاريخه، كانت الأزمة هي السمة الرئيسة في علاقاتهما.

تشهدُ العلاقات الروسية – الأوكرانية حاليًا تعقيدًا وتوترًا في مسارها. إذ إن لأوكرانيا أهمية تاريخية في منطقة “البوابة الشرقية”، تنازعت على أراضيها إمبراطوريات عريقة؛ ففي القرن التاسع عشر، اندلعت حرب القرم بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية بين الأعوام 1853 و1856. وبعد انتهاء الحرب الباردة (1947 – 1989) بين الكتلتين: الغربية والشرقية، أعلن انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهورياته في العام 1991، لكن لم يستسغ القادة الروس استقلال أوكرانيا (ذات الأهمية التاريخية والجيوسياسية للأمن القومي الروسي) عن مناطق نفوذ الاتحاد الروسي.

فكما هو معهود في العلاقات الدولية؛ فإن الأزمات بين الدول تأتي نتيجةً لصراع أو نزاع أو تناقض في المصالح الاستراتيجية لدى الطرفين المعنيين، أو عندما يمس أمنها القومي خطرٌ محدقٌ، أو كما في سياق الحرب الباردة وانقسام اللاعبين الدوليين للمعسكر الغربي أو الشرقي. لكن في الحالة الأوكرانية – الروسية دائمًا ما يكون للحدث الداخلي في أوكرانيا ارتداد على العلاقة مع روسيا، وبما قد يؤدّي إلى اندلاع النزاعات بينهما.

خلفيات الأزمة

تعود خلفيات الأزمة الراهنة والمتجددة بين روسيا وأوكرانيا إلى العام 1991 (انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا)، إذ ظهرت أوكرانيا لأول مرة في تاريخها السياسي كدولة ذات سيادة، بعد أن كانت أراضيها تشهد نزاعًا مستمرًا طيلة قرون بين عدة دول وإمبراطوريات (العثمانية، الروسية، النمساوية، البولندية، السوفيتية).

ولذلك تعددت الأعراق والطوائف الدينية والاتجاهات السياسية في البلاد، وبرزت طبقتان سياسيتان متناقضتان في الرؤى؛ فمنها من يرى بضرورة التقارب مع روسيا الاتحادية (لاعتبارات تاريخية سوفيتية، وعرقية روسية). وطبقة ذات توجه قومي ينحو اتجاه الاستقلالية والانفتاح على المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

لم تستطع النخب الأوكرانية من الاتفاق على بناء دولة مستقرة، والتغلّب على الأزمات الاقتصادية المتراكمة التي حلّت بها في عقد تسعينيات القرن الماضي؛ خاصةً مع صعود طبقة أوليغارشية (حكم الأقلية) بانتخابات رئاسية وبرلمانية أُجريت في العام 1994، فانتشر الفساد في الدولة.

يمكن القول: إن بوادر الأزمة المُعاصرة بين روسيا وأوكرانيا قد نشبت في العام 2004، ففي ذلك العام أُجريت في البلاد انتخابات رئاسية تمخض عنها فوز فيكتور يانكوفيتش (ذو التوجهات الروسية) وحزبه، وتصاعدت في الأثناء الاحتجاجات الشعبية، والتحفظات السياسية من فئات عدة داخل المنظومة الأوكرانية. إضافةً لاحتجاجات إعلامية وسياسية منددة بوصوله، تدّعي بأن جولة الانتخابات قد شابها التزوير. فبدأت في ذلك حملة احتجاجات شعبية في الشارع الأوكراني تطالب بضرورة إعادة إجراء الانتخابات. وقد تركّزت تلك الاحتجاجات في ميدان الاستقلال وسط العاصمة كييف، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004. ووصل عددهم إلى 500 ألف متظاهر؛ فاصطلح إعلاميًا وأوكرانيًا وغربيًا على تسمية تلك الأحداث بـِ”الثورة البرتقالية” التي نجحت في إسقاط فُرص يانكوفيتش بالوصول لرئاسة الدولة.

كان لروسيا دورٌ رئيس في دعم إحدى أطراف الأزمة الأوكرانية، سياسيًا وإعلاميًا، وهم الرافضون لإجهاض نتائج الانتخابات، وما استُجد في تطورات التدخل الروسي في الشأن الأوكراني هو وجود الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين، الطامح لأن يكون لروسيا مكانة دولية وإقليمية تُراعي متطلبات صعودها، وتحديدًا في مناطق قريبة من دائرة نفوذها، كأوكرانيا.

وما زاد من إثارة حفيظة موسكو، هو الدعم الغربي والأميركي الواضح والعلني لـ”الثورة البرتقالية”، وإبعاد يانكوفيتش عن الوصول إلى السلطة، خاصةً في ظل توسع انضمام دول شرق أوروبا لمنظمة حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، وشعور روسيا بأن تلك الانضمامات بمثابة ناقوس خطر لأمنها القومي، ومحاولة غربية وأميركية لتطويق مجالها الجيوسياسي، وابتزازها مستقبلاً في فرض الرؤى الغربية بجوارها.

إضافةً لتلك الأسباب الداعية لاهتمام روسيا في واقع ومستقبل أوكرانيا، أفرزت تلك الاحتجاجات، عن وصول المنافس الانتخابي ليانكوفيتش، ذي التوجهات الغربية، فيكتور ياشينكو،  (والذي رفض الاعتراف بهزيمته في جولة الانتخابات) لرئاسة الدولة بعد قرارٍ قضائي (المحكمة الدستورية) دعّم من إمكانية فوزه في جولة إعادة الانتخابات. فأُلغيت نتيجة الانتخابات، (التي عُقدت في نوفمبر)، وأُعلن عن إعادتها في 26 كانون أول/ ديسمبر من العام ذاته (2004)، بين المرشحين الرئيسين: يانكوفيتش ويوشينكو، ففاز فيها الأخير بنسبة 52% من الأصوات. وتفيد تحليلات عن وجود تدخلات غربية لإعادة الانتخابات وإبعاد موالي روسيا عن مراكز صنع القرار في كييف.

طفى على السطح في الفترة السابقة لأزمة القرم (2005 – 2014) ملفٌ هامٌ لمستقبل أوكرانيا الاقتصادي والسياسي، وهو مسألة انضمامها إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي، بتزعّم روسي لهذا التكتل الاقتصادي الهادف لاندماج دول محيطة بروسيا (كازاخستان وبيلاروسيا) له، وخشية من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.

ظلت أوكرانيا تناور طيلة سنوات تبحث في أيّ الخيارين هو الأنسب لتطلعاتها السياسية والاقتصادية: الأوروبي أم الروسي؟ فهي من جهة تطمح للاندماج بالعالم الغربي، أي الاتحاد الأوروبي، (فترة يوشينكو 2005 – 2010). لكن دون أن تخسر الشراكة الروسية في التزويد الروسي لها بالغاز بأقل الأسعار (مقارنةً بسعر السوق العالمي)، إلا أن فُرص الخيار الأوروبي لاحت في الأفق، قبل سقوط يوشينكو في انتخابات العام 2010.

ومن جهة أخرى، أدى وصول يانكوفيتش إلى رئاسة الدولة، بانتخابات رئاسية العام 2010، إلى تشعّب الملف، حين أقدم بعد مدٍ وجزر على تعليق اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013. وما زاد من تعقيد المسألة، إقدامه على عقد اتفاقية شراكة اقتصادية مع روسيا، ما يعني، اختياره (من جانب أحادي) لـ”الخيار الروسي” بمعزل عن إشراك الشعب الأوكراني، متعدد الأعراق والأديان والتوجهات، في استفتاءٍ على مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي. 

في ظل التحولات والتغيرات التي شهدها النظام الدولي منذ العام 2011 (انكفاء الولايات المتحدة عن الشؤون الدولية بشكل ملحوظ، وصعود روسيا والصين دوليًا)، أدت روسيا دورًا هامًا في مجرى سير الأحداث الأوكرانية منذ بداية العام 2014. ففي الأثناء، اندلعت احتجاجات منددة بخطوة ياكوفيتش، وكانت أكثر عنفًا من سابقتها (2004)، فقد قرر البرلمان الأوكراني عزل الرئيس، فهرب يانكوفيتش إلى روسيا، التي عدت عزل يانكوفيتش محاولة انقلابية بدعمٍ غربي لإزاحته، وإزاحة موسكو عن كييف.

تمثلت ردة الفعل الروسية في إرسال الرئيس بوتين قواته العسكرية إلى شبه جزيرة القرم (مركز الأزمة بين روسيا وأوكرانيا)، بذريعة حماية الأقلية الروسية هناك. وفي 16 آذار/ مارس العام 2014، استولت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم، والتي تتمتع بحكمٍ ذاتي من الدولة الأوكرانية. فضُّم القرم إلى موسكو باستفتاء أجرته روسيا في شبه الجزيرة. عدا عن ذلك، دعمت روسيا حركات انفصال في شرقي أوكرانيا وجنوبيها، لتقاتل وتحاول الانفصال عن الحكومة المركزية في كييف.

ومنذ آذار/ مارس 2014 وحتى تاريخه، تمُر العلاقات الروسية الأوكرانية بتوتر عسكري على جانبي الحدود بينهما، وأزمة دبلوماسية، فمؤخرًا، في نيسان/ أبريل 2021، تجددت الأزمة (الإعلامية) إثر إعلان أوكرانيا إجراء مناوراتٍ عسكرية في محيط مدينة خاركيف قرب الحدود مع روسيا.

محددات الأزمة

  1. المحدد الجيوسياسي

يُعتبر المحدد الجيوسياسي (الجيوبوليتيكي) أحد الأبعاد المحورية في أزمة العلاقات الروسية- الأوكرانية، وأهم المنطلقات التي تُحدد وترسم استراتيجية موسكو إزاء أوكرانيا، كونْ الأخيرة تعد منطقةً فاصلة بين الغرب (حلف الناتو والاتحاد الأوروبي) وبين روسيا من بوابتها الغربية.

وبعد تعافي روسيا من أزماتها في التسعينيات، أدركت بقيادة فلاديمير بوتين، بأن المحيط الجغرافي لها يشكل منطقة التهديد من الدول الغربية، عبر توسيع حلف واتحاد بروكسل (مقر الناتو والاتحاد الأوروبي) للدول المجاورة لها في شرق أوروبا. ويرى منظرون جيوبولتيكيون روس كألكسندر دوغين، بأن أوكرانيا كدولة كاملة السيادة وفيها حرية اتخاذ القرار السياسي للانضمام لحلفٍ ما؛ يُشكل تهديدًا جيوبولتيكيًا لروسيا، وإعلان “حرب جيوبولتيكية” عليها. 

وباختصار، فإن تحركات روسيا تجاه أوكرانيا والتدخل في شؤونها، واحتلال أجزاء من أراضيها (القرم 2014)، يُمثل إدراكًا روسيًا لأمنها القومي، ويعزى صراحةً إلى تصديها لمحاولات الغرب بتطويقها ولجمها جغرافيًا، وحرمانها من ممارسة دورها كدولة عظمى في المنطقة المتاخمة لأوروبا غربيًا. ولعل وجود دولتين فقط هما: بيلاروسيا وأوكرانيا، من دول شرق أوروبا لا تتبعان، إلى الوقت الراهن، لبروكسل، يفسّر تخوّف القادة الروس من وصول قواعد “الناتو” لـ”عقر دارهم”.

  1. 2. المحدد السياسي

يلاحظ من خلال تتبع مسار الأحداث التي أثّرت على علاقة روسيا بأوكرانيا (2004 و2014)، بأن القراءة الروسية للمجريات ارتكزت على سعيها لتثبيت أو إبعاد من لا يواليها عن مراكز الحكم في كييف، ودعم فيكتور يانكوفيتش في العامين المذكورين، وامتعاضها الشديد من التدخل الغربي والأميركي في الشأن الأوكراني، وتحفظها الشديد على وصول قيادة أوكرانية قومية تسعى لإبعاد الدولة عن النفوذ والفلك الروسي، والاتجاه إلى الغرب أولاً.

راقبت روسيا منذ العام 2003 وحتى الوقت الراهن، محاولات الغرب الهادفة لاحتوائها مجددًا عبر دعم ثورات سُميت بـ”المخملية” و”البرتقالية” في عددٍ من الدول المجاورة لها؛ كجورجيا وأوكرانيا (تحركت استباقيًا في جورجيا، آب 2008)، واستنتجت بأن تلك الثورات سُتشكل تهديدًا للنظام الروسي وللقيادة برئاسة فلاديمير بوتين. ولهذا فإن التدخلات الروسية في الشؤون الأوكرانية جاءت لمنع محاولات غربية من تهديدها، أي أن تحركات موسكو اتخذت من البُعد الدولي والاستقطاب الغربي استراتيجية ترى من خلالها أن أوكرانيا ستكون مركزًا جديدًا للأزمة الدولية بين روسيا والغرب. كما أنها رأت في تدخلات الغرب؛ محاولة لتنصيب حكومات قومية موالية له بجوار الدولة الروسية.

  1. 3. المحدد التاريخي/الاجتماعي

ترتبط روسيا وأوكرانيا بعلاقة تاريخية منذ قرون مضت؛ ففي العام 1654، وقّعت معاهدة “بيرياسلاف” الهادفة لإدماج أوكرانيا بالإمبراطورية الروسية. وفي القرون اللاحقة جرت محاولات لضم أجزاء من أوكرانيا إلى إحدى القوى في حينه؛ كروسيا وبولندا والنمسا والدولة العثمانية.

 وفي العام 1939 ضُمّ غرب أوكرانيا (ذو التوجهات الغربية) إلى روسيا السوفيتية، مع الإشارة إلى أن سكان الجزء الغربي الأوكراني، قد ساند جيوش ألمانيا النازية ضد جيوش ستالين في الحرب العالمية الثانية؛ في محاولة للانسلاخ عن الاتحاد السوفيتي. وبعد انتصار الجيش الأحمر، ظلت أوكرانيا جمهوريةً سوفيتيةً مهمةً بعد روسيا في اتحاد الجمهوريات السوفيتية حتى قرارها بالاستقلال عنه في خِضم انهياره العام 1991 .

إضافةً للبعد التاريخي للأزمة، فإن للعامل الاجتماعي دورًا رئيسًا في محدداتها. إذ إن الأوكرانيين في المناطق الشرقية والشرقية الجنوبية والموجودين في شبه جزيرة القرم؛ هم ناطقون باللغة الروسية، وينتمون للطائفة الأرثوذكسية الشرقية، ويعتبرون أنفسهم شعبٌ روسي، كونه جرى اختلاط تاريخي في وجود شعبين روسي وأوكراني، في الدولة الأوكرانية.

ومازال النزاع الداخلي (منذ 2014 وحتى الآن) مستمرًا في شرقي البلاد وجنوبها بين “الأوكران الروس” الطامحين للانفصال عن الدولة والانضمام إلى السيادة الروسية (كما في حالة القرم) وتدعمهم روسيا، وبين القوات الحكومية الأوكرانية.

يلاحظ من مسار العلاقة المتأرجحة والمتأزمة بين روسيا وأوكرانيا منذ 1991 وحتى تاريخه، بأن روسيا تتدخل دائمًا عندما يحدث تغيير في رئيس الدولة الأوكرانية إذا ما كان يواليها، كما أن تدخلاتها تأتي ردّ فعل على تدخل الغرب الأوروبي والأميركي في الشؤون الأوكرانية، وترى في ذلك تهديدًا لأمنها القومي، خاصةً وأن صعودها الدولي والإقليمي يتطلب فرض النفوذ في أماكن الجوار القريب. إن توتر العلاقات بينهما ناجم عن مقاربة سياسية وجيوسياسية ترى بها موسكو محاولة الغرب تطويقها وتقيدها من خلال أوكرانيا، ولذلك فإنّها تسعى لاحتواء كييف في مقابل مسعى الغرب لاحتوائها بقضايا أوكرانيا. كما أن عدم اتفاق النخب الأوكرانية المختلفة قد أغرى من محاولات الآخرين بالتدخل في بلادهم واستقطابهم لمصالحهم السياسية.

.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M