بين الإصلاح والتفرد.. معارك الانتقال السياسي في تونس

محمد عبد الرازق 

 

تعج السياسة التونسية في الوقت الراهن بالعديد من المعارك الأساسية والفرعية على مختلف المستويات. تنطلق هذه المعارك من دوافع تتمحور حول رغبة الرئيس التونسي قيس سعيّد–بإرادة منفردة- في إتمام مساره الانتقالي الذي بدأ بقرارات 25 يوليو 2021، وما يواجهه هذا المسار من اعتراضات شكلية في بعض الأحيان وجوهرية في أحيان أخرى، تفرز في مجملها معارك تطفو على السطح، وتجعل من المشهد الراهن في تونس بيئة خصبة للشد والجذب المصحوب بتوترات شعبية في كافة الأنحاء. وآخر هذه المعارك هو إعلان سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء كنتيجة لشهور من الاتهامات التي يوجهها الرئيس التونسي للمجلس.

معركة قضائية

أعلن الرئيس التونسي (مساء 5 فبراير) أثناء زيارته لمقر وزارة الداخلية حل المجلس الأعلى للقضاء وأنه على المجلس أن يعتبر نفسه في عداد الماضي، معللًا ذلك بأنه “بات مجلسًا تُباع فيه المناصب ويتم وضع الحركة القضائية بناءً على الولاءات، وليس هذا بالقضاء، هؤلاء مكانهم ليس المكان الذي يجلسون فيه، ولكن المكان الذي يقف فيه المتهمون”. مفيدًا أنه سيعمل على وضع مرسوم مؤقت للمجلس الأعلى للقضاء.

وهو القرار الذي جاء بعد قرار سعيّد بإلغاء المنح والامتيازات الممنوحة لأعضاء المجلس (19 يناير) والذي أثار ردود فعل غاضبة ومعارضة من جهات عدة في مقدمتها المجلس نفسه الذي أعلن رئيسه يوسف بوزاخر أن قرار الحل غير قانوني “ومحاولة لوضع القضاء في مربع التعليمات”، وأن “القضاة لن يسكتوا، والمجلس ليس من الماضي بل هو من الحاضر والمستقبل”. وذلك في ضوء نص الدستور التونسي -الذي علّق سعيّد العمل بأغلب نصوصه- على أن المجلس “يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي، ويضمن حسن سير القضاء واحترام استقلاليته”.

وكان الرئيس سعيّد قد وجه اتهامات عدة طيلة الشهور الماضية للقضاء، أهمها تأخير تحريك بعض القضايا أو إصدار الأحكام فيها، وخاصة بعد أن وضعت وزارة الداخلية القيادي بحركة النهضة ووزير العدل الأسبق نور الدين البحري والمسؤول السابق بوزارة الداخلية فتحي البلدي تحت الإقامة الجبرية لاتهامها في جرائم “تدليس جوازات سفر لمن كانوا موضوعين في لوائح الإرهاب” حسبما صرح سعيّد الذي أكد أنهما من المفترض أن يوضعها في السجن وتصل عقوبتهما إلى الإعدام، “لكنا لسنا قضاة لوضعهم هناك، وهناك وثائق تثبت تورطهم”.

وتُضاف هذه القضية إلى عدة قضايا أخرى ترتبط كذلك بحركة النهضة، مثل قضية الجهاز السري للحركة والتي صدر من أجلها قرار بإيقاف القاضي بشير العكرمي المحسوب على “النهضة” عن العمل وإحالة ملفه إلى النيابة العامة بتهم ارتكاب “إخلالات في المسار القضائي في ملفي اغتيالي بلعيد والبراهمي والتستر على جرائم إرهابية”. ذلك فضلًا عن قضية التمويل الأجنبي خلال الانتخابات التي تُتهم فيها حركة النهضة وحزب قلب تونس.

وتشير هذه الملفات إلى حجم الخلاف القائم بين سعيّد والسلطة القضائية التي يحملها المسؤولية عن تحريك مثل هذه القضايا وإصدار أحكام بشأنها، ولكن دون أن يحدث ذلك، وهو ما يبدو أن الرئاسة التونسية تفسره بأنه ناجم عن التأثير الإخواني داخل السلطة القضائية الممتد منذ سنوات، وخاصة خلال فترة تولي البحيري وزارة العدل. ولذلك يدفع مراقبون بأن حل المجلس يمثل امتدادًا لمسار 25 يوليو وما أكده الرئيس سعيّد من تفكيك المنظومة السابقة ومحاربة الفساد وملاحقة الفاسدين حتى داخل القضاء “فالقضاء هو قضاء الدولة وعليه أن يطبق القانون” حسب وصف سعيّد.

سياقات خلافية

يأتي قرار الرئيس التونسي بحل المجلس الأعلى للقضاء في سياق ملتبس من المعارك الأخرى التي تجعل منه إضافة خلافية جديدة في المشهد التونسي، في وقت يطمح فيه التونسيون إلى إتمام خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس سعيّد (13 ديسمبر 2021) وبدأ تطبيقها بالاستشارة الوطنية الإلكترونية التي تستمر (15 يناير – 20 مارس 2022) وشارك فيها حتى تاريخه نحو 155 ألف تونسي وأظهرت مشاركاتهم أن الشأنين السياسي والاقتصادي يحتلان قمة أولوياتهم للفترة المقبلة.

  • محاولة احتواء اتحاد الشغل

على صعيد العلاقة مع الاتحاد العام للشغل، وصل الخلاف قمته بالبيان الذي أصدره الاتحاد (14 يناير) في ذكرى الثورة والذي أكد فيه أن “الواقع يشير إلى انعدام الإرادة في تغيير حقيقي، أو تردّد في إنجازه، ويتجسّد ذلك في مواصلة تهميش القوى الوطنية الحيّة في البلاد وفي اتخاذ قرارات أحادية اقتصادية ومالية غير شعبية في ميزانية 2022”. وأن “هناك نزعة تفرّد في أغلب القرارات المصيرية، ومنها التفاوض مع الدوائر المالية العالمية، فضلًا عن نزعة متنامية من العداء للعمل النقابي ووضع العراقيل أمامه”.

الأمر الذي دفع سعيّد إلى طلب لقاء الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي (15 يناير) مؤكدًا فيه أهمية دور الاتحاد وعدم وجود خلاف معه، واستعداداه “للعمل مع الأطراف المستعدة للنقاش وللمفاوضة ولصنع تاريخ لتونس”. وهذا اللقاء هو اللقاء الأول بين سعيّد والطبوبي منذ نحو ستة أشهر، مع تصاعد للتصريحات المناوئة بينهما إثر إصرار الرئيس على أن يسلك مسلكًا منفردًا في إدارة المرحلة الانتقالية، وتجاهل التنسيق والتشاور مع الاتحاد. ما دفع الاتحاد إلى صف التمايز عن توجهاته.

  • مظاهرات شعبية

على المستوى الشعبي، إن مظاهرات إحياء ذكرى الثورة (14 يناير) -والتي وُصفت بأنها شهدت أحداث عنف من جانب قوات الأمن أثناء تفريق المتظاهرين، واعتقالات لبعضهم، فضلًا عن وفاة متظاهر- أسهمت في تصاعد حدة رفض شعبي، لا سيّما وأن هذه المظاهرات قد جرت رغم قرار الحكومة (13 يناير) بمنع التظاهر والتجمعات وفرض حظر تجوال ليلي بسبب انتشار كورونا.

الأمر الذي أنذر باحتمالات التصعيد، مما دفع الرئيس سعيّد إلى زيارة مقر وزارة الداخلية (5 فبراير) مؤكدًا “أن من حق التونسيين التظاهر السلمي للتعبير عن موقفهم ولإحياء ذكرى الذين سقطوا شهداء من أجل الوطن”، وذلك قبيل المظاهرات التي دُعي إليها في ذكرى اغتيال الناشط شكري بلعيد (6 فبراير 2015). خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية قد تضطر الحكومة التونسية إلى اتخاذ قرارات صعبة تستلزم تماسك الجبهة الشعبية؛ إذ صرح ممثل صندوق النقد الدولي في تونس جيروم فاشيه بأن على تونس الساعية إلى الحصول على مصادر تمويل دولية القيام بإصلاحات عميقة جدّا، بما في ذلك خفض حجم قطاع الوظيفة العمومية الذي يعتبر أحد أعلى المستويات في العالم”.

  • تراجع داعمين

بالنظر إلى خريطة القوى المؤيدة لقرارات 25 يوليو ومسارها نجد أنها شملت طيفًا واسعًا من القوى المدنية والسياسية ذات الثقل في الشارع التونسي، أما الآن نجد أن بعض هؤلاء الحلفاء إما تراجعوا تمامًا عن تأييد الرئيس التونسي وقراراته، وإما يتخذون مواقف متباينة من بعض هذه القرارات، أغلبها يقف في خانة الرفض والمناوءة. ذلك بالتوازي مع تنامي الجبهات الرافضة لقرارات سعيّد، ومحاولة البرلمان العودة مجددًا إلى المشهد من خلال دعوة رئيسه راشد الغنوشي إلى اجتماع افتراضي (27 يناير) لم يحضره سوى أعضاء من حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة حليفي النهضة.

وجاء في هذا السياق إعلان مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة (24 يناير) استقالتها من منصبها بسبب “اختلافات جوهرية في وجهات النظر المتعلقة بمصلحة البلاد” لتمثل سببًا إضافيًا من أسباب الخلاف التي قد تؤثر أو تربك مسار الرئيس التونسي، أو يجري استغلالها من قبل المعارضين.

انعكاسات محتملة

يفتح قرار الرئيس قيس سعيّد بحل المجلس الأعلى للقضاء الباب أمام العديد من الانعكاسات التي قد تؤثر على المشهد التونسي خلال الفترة المقبلة، وتتطلب تعاملًا دقيقًا:

  • ضغوط دولية

منذ 25 يوليو 2021 كانت المواقف الدولية مؤيدة لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد، خاصة بعدما أعلن خارطة الطريق (13 ديسمبر) التي تنتهي بتنظيم انتخابات تشريعية نهاية العام الجاري؛ وذلك لعدة أساب يأتي في مقدمتها الحرص على استقرار تونس كدولة مهمة جنوب البحر المتوسط، وتلعب دورًا مهمًا في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. إلا أن قرار حل المجلس الأعلى للقضاء يعيد فتح باب الضغوط الدولية والمنظمات الحقوقية المعنية باستقلالية القضاء على القيادة التونسية في الوقت الذي تبدو فيه في حاجة ماسة لهذا الدعم الدولي ولا سيّما المالي.

فنجد أن الولايات المتحدة أعربت على لسان المتحدث باسم خارجيتها نيد برايس (8 فبراير) عن قلقها الشديد من القرار، مكررة طلبها بإجراء إصلاح سياسي سريع في تونس. وكذا أعرب مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل (7 فبراير) عن قلقه إزاء حل المجلس، مشددًا على أهمية استقلال القضاء والفصل بين السلطات بوصفهما عنصرين أساسيين لديمقراطية تونس واستقرارها وازدهارها.

  • توسيع دائرة المعارضين

يضيف الرئيس التونسي بقراره حل المجلس الأعلى للقضاء إلى لائحة معارضيه خصومًا جدد هم أعضاء المجلس بوجه خاص، وقضاة تونس بوجه عام الذين قد يصطفون مع تيارات معارضة بدأت في التشكل والتكتل خلال الفترة الماضية للتصعيد ضد سياسات الرئيس التونسي وقراراته، مما يزيد من مناخ عدم الاستقرار في البلاد، خاصة لو لجأ القضاة إلى ما قاموا به من قبل من العصيان المدني أو الاعتصامات.

وذلك الأمر الذي تعمل حركة النهضة على إذكائه واستغلاله بشتى السبل لجر القضاء إلى المواجهة مع الرئيس سعيّد، وكسب محاربين جدد في معركتها الرامية إلى العودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021، ولذلك سارعت هذه التيارات وفي مقدمتها البرلمان المجمدة أعماله إلى رفض قرار حل المجلس والدعوة إلى “التصدي” له.

إجمالًا، أضاف قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء خلافًا إضافيًا للمشهد التونسي المحمّل بخلافات عدة، تستوجب أن يعمل الرئيس على تهدئتها واحتوائها للخروج من الأزمات الراهنة التي تعيشها تونس سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، والوصول إلى حد أدنى من التوافق لإدارة المرحلة الانتقالية حتى الاستفتاء على الدستور الجديد (25 يوليو 2022) وإجراء الانتخابات التشريعية (17 ديسمبر 2022). وتبدو الحاجة إلى ذلك ملحة في ضوء عمل حركة النهضة على استغلال هذه الخلافات لخلق مناح ومساحة حركة للعمل مع القوى الأخرى لتحقيق مآربها، فضلًا عن أن هدف محاصرة النهضة يتطلب توافقًا مع القوى الأخرى.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67201/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M