تُمثل الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة ومآلاتها المحتملة على شرق أوروبا خاصة في ضوء ملف الطاقة، معادلة صعبة للجزائر في ضوء التشابكات والتقاطعات المختلفة الرابطة بين الجزائر وروسيا وما اتسمت به العلاقات من شراكة استراتيجية من ناحية، وبين الجزائر وأوروبا -لسد احتياجات تلك الدول من الغاز- من ناحية أخرى.
ولعل تطورات الأزمة والتي بلغت ذروتها بالتدخل العسكري الروسي يوم 24 من فبراير 2022 وفقًا لكلمة بثها الرئيس “بوتين”، وذلك استجابة لطلب كل من “دونيتسك” و “لوهانسك ” الجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا؛ فرضت مخاوف عالمية من تداعيات ليس فقط على السلم والأمن الدوليين وإنما على الصعيد الاقتصادي والتجاري، وكذلك على أسواق الطاقة العالمية، خاصة في ظل الاعتماد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسي، الأمر الذي يستدعى البحث عن مصادر بديلة للطاقة والتي تتمثل في الجزائر، وهنا يكمن التساؤل.. إلى أي محور ستنحاز الجزائر في ضوء تبعات الصراع الراهن؟
أبعاد وتداعيات متباينة
ألقت الأزمة الروسية الأوكرانية بظلالها على أسواق النفط العالمية، حيث شهدت أسعار النفط ارتفاعات قياسية على مدار الشهر الحالي وكسرت حاجز 100 دولار للبرميل، علاوة على تأثر الأمن الغذائي العالمي وتحديدًا في السلع الاستراتيجية كالقمح، كما يؤثر بصورة كبيرة على إمدادات الحبوب، علاوة على صعود أسعار بعض المعادن في ضوء ما تحظى به موسكو من سيطرة على عدد من المعادن المهمة كالألومنيوم حيث تحتل روسيا ثاني أكبر منتج للألمنيوم في العالم، إلى جانب كونها أكبر مصدر للنيكل والبلاديوم، الأمر الذي يفاقم الارتفاع المتواصل لأسعار الطاقة على الصعيد العالمي.
وتربط أطراف الصراع مصالح كبيرة بشمال إفريقيا، خاصة على مستوى الأمن الغذائي؛ إذ إن أوكرانيا تُعد واحدة من أهم مصدري الحبوب والزيوت واللحوم للدول في شمال إفريقيا عبر البحر الأسود، في حين تأتي روسيا لتُشكل المزود الرئيس للقمح إلى الجزائر وبعدها أوكرانيا.
ولعل تلك الحرب الدائرة ستدفع الجزائر إلى انتهاج سياسات تعزيزية إما برفع الدعم عن السلع الاستراتيجية أو عبر ضخ مزيد من الإنفاق المالي بها لمعالجة الخلل الناجم عن وقف عمليات الاستيراد من القمح وغيرها، وفي كلا الحالتين سوف تُمثل ضغطًا مضاعفًا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي بها، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الاستقرار الداخلي، خاصة في ظل الوضعية الصعبة للاقتصاد الجزائري.
الأمر الثاني وثيق الصلة يتجلى في وقف عمليات التصدير للأسلحة الروسية للجزائر –تُعد روسيا المصدر الأول للسلاح للجزائر- حيث تُخصص الجزائر نحو 10 مليارات دولار لصالح استيراد السلاح الروسي، وهو الأمر الذي يخلق مساحة لإحداث خلل في ميزان القوى العسكرية في تلك المنطقة وتحديدًا بين المغرب والجزائر لصالح الأولى. أما التأثير الثاني فهو التأثير على عمليات مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، خاصة في ضوء تزامن تلك الحرب مع إعلان فرنسا سحب قواتها من مالي وتخفيض الوجود العسكري في عدد من دول التماس الجغرافي للجزائر، مما يُتيح الفرصة لإعادة انتشار الجماعات الإرهابية والمسلحة داخل العمق الإفريقي، وبما يؤثر على الأمن القومي الجزائري.
ورقة الغاز والمعادلة الصعبة
إن انعكاس الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا تمتد آثارها على العمق الأوروبي خاصة فيما يتعلق بإمدادات الغاز الروسي للدول الأوروبية، وهو الأمر الذي يتطلب البحث عن أسواق بديلة للاستيراد منها، وبرز ذلك في توجه واشنطن للضغط على العديد من الدول وعلى رأسها الجزائر التي تتماس جغرافيًا مع الدول الأوروبية، فالجزائر تُعد على قمة البدائل المطروحة لتمويل أوروبا من الغاز، خاصة وأنها تُعد المورد الرئيس للغاز لكل من إيطاليا وإسبانيا، وتُعد ثالث دول العالم مصدرة للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج.
ومن ثٌم فإن معالجة الاضطرابات في سوق الطاقة داخل أوروبا سينصب بالتركيز على الجزائر، وهو الأمر الذي يُمثل معادلة صعبة بين الانحياز للجانب الأوروبي عبر ورقة الغاز مقابل العائدات المالية الكبيرة التي تسهم في تعزيز الوضع الاقتصادي داخل الجزائر، وما يقابله من افتقاد روسيا الحليف الاستراتيجي للجزائر.
واتصالاً بالسابق؛ فإن الجزائر تشهد تقاربًا استراتيجيًا مع روسيا يتجاوز فكرة التسليح فقط لينخرط بصورة كبيرة في التعاون في قطاع الطاقة. وفي هذا الشأن فقد تم الاتفاق في سبتمبر 2021 بين شركة سونطراك الجزائرية وشركة غازبروم الروسية للعمل في مجال إنتاج ونقل الغاز وذلك عبر تطوير بعض حقول الغاز، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا بين التجاوب مع التطلعات الأوروبية لسد احتياجاتها مع الغاز من الجزائر وما بين الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية الروسية.
وتوصيفًا للوضع الحالي، فإن الجزائر توقفت نسبيًا عن تصدير الغاز إلى إسبانيا عقب الخلل الواقع في العلاقات مع المغرب، ولعل الاحتياج الأوروبي -حال استمرارية الأزمة الأوكرانية الروسية للغاز الجزائري- سيدفع تلك الدول للعب دور الوسيط بين الرباط والجزائر لإعادة استئناف العلاقات بينهما (حيث شهدت الدولتين قطعًا للعلاقات الدبلوماسية وما تبعها من تصعيد مستمر خاصة في ظل التقارب المغربي الإسرائيلي) ومن ثٌم إمكانية الحصول على الغاز الجزائري عبر الأراضي المغربية من خلال خط غاز “المغرب العربي وأوروبا” والذي يمر عبر المغرب، والذي تم تنفيذه في ضوء اتفاقية بدأت عام 1996 ولمدة 25 عامًا من حقل حاسي الرمل في الجزائر إلى إسبانيا والبرتغال عبر المغرب بسعة تصديره نحو 390 مليار قدم مكعب سنوياً.
وفي التقدير؛ فإن الجزائر والتي باتت تعتمد بصورة كبيرة على نهج التحالفات الجديدة وتعدد جبهات التعاون؛ فمن المحتمل أن تخلق مجالاً متزنًا في الحفاظ على علاقاتها مع موسكو، خاصة في إطار سياسة المحاور التي باتت تتشكل في الشمال الإفريقي ما بين الجزائر وموسكو وإيران في مواجهة محور المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وما بين إحداث اختراق في العمق الأوروبي نظير الحفاظ على التعاون الأمني بينهما في مجال مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وتعزيز وضعيتها في مواجهة المغرب خاصة فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية.
وهو ما يحقق لها مكاسب متعددة، خاصة وأنه في حال تحقيق تلك المعادلة وتوجه الجزائر إلى تصدير الغاز والنفط لأوروبا سيساعد على تحسين إيراداتها من ذلك المورد بما يحسن الوضع الاقتصادي الداخلي هذا على المستوى المنظور (ويمكن توصيف ذلك بالمكسب الظرفي) واستغلال حالة ارتفاع أسعار النفط الحالية لتغطية عجز الموازنة بالجزائر. وعلى المستوى الاستراتيجي فهي يمكنها أن تكتسب دعم الجزائر في ملف الصحراء، وكذا يمكن أن تلعب تلك الدول دورًا في إعادة تحسين العلاقات بين الرباط والجزائر، ولكن دون التأثير على مسار علاقتها بموسكو.
.
رابط المصدر: