يزخر التاريخ المعاصر بالعديد من القرارات السياسية التي اتخذها بعض الرؤساء والزعماء وكانت لها نتائج “سلبية” ممتدة وطويلة الأمد على دولهم وشعوبهم. الاتحاد السوفيتي السابق يعد من الأمثلة المهمة في هذا الصدد؛ إذ تسببت سلسلة من القرارات السياسية والاقتصادية للقيادات السوفيتية المتعاقبة منذ أواخر سبعينات القرن الماضي في نهاية الكيان السوفيتي الذي كان أحد طرفي المعادلة الدولية الكبرى خلال حقبة الحرب الباردة.
أحد هذه القرارات كان “تصديق” موسكو للوعود الأمريكية، التي تعهد بها وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر خلال لقائه مع آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي -ميخائيل جورباتشوف- في فبراير 1990، والتي كان على رأسها التعهد بعدم العمل على توسيع سيطرة غرب أوروبا نحو شرق أوروبا ولو لـ “بوصة واحدة”.
تصديق هذا التعهد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية كلّف موسكو خسائر معتبرة على المستوى الاستراتيجي والجيوسياسي؛ فقد توسع نفوذ حلف الناتو حثيثًا نحو الحدود الروسية، بداية من توحيد ألمانيا عام 1990، مرورًا بانضمام دول حلف وارسو السابق تباعًا إلى حلف الناتو، مثل التشيك وبولندا والمجر “1999” وبلغاريا ورومانيا “2004” وألبانيا “2009”، بجانب انضمام دول أخرى في شرق أوروبا خلال العقدين الماضيين إلى الحلف، تقع جميعها حاليًا ضمن الطوق الدفاعي الأساسي للحلف تجاه الحدود الغربية لروسيا، مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا.
نتائج “عدم إيفاء” الولايات المتحدة بتعهداتها السابقة لموسكو في هذا الصدد ربما ترتبط بشكل أساسي بالمشهد الحالي على الحدود الروسية-الأوكرانية؛ إذ لجأت روسيا إلى نفس التكتيك الذي استخدمته سابقًا في التعامل مع جورجيا عام 2008، وهو اللجوء إلى التدخل العسكري تحت ستار تلبية طلب “جمهوريات صديقة”، كانت في الحالة الجورجية ممثلة في جمهورية “أوسيتيا الجنوبية” و”أبخازيا”، وفي الحالة الأوكرانية جمهورية “لوهانسك” و”دونيتسك”، في تطبيق للسيناريو الذي كانت أغلب التحليلات “المنطقية” تشير إلى إمكانية تنفيذه، بالنظر إلى الظروف الميدانية والسياسية والاقتصادية المحيطة بالملف الأوكراني حاليًا. ولهذا يصبح من الضرورة مقارنة الوضع القائم حاليًا في دونباس، بما حدث سابقًا في جورجيا.
أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا … بداية “الاستفاقة” الروسية
نستطيع أن نعد حرب “أوسيتيا الجنوبية” بين جورجيا وروسيا عام 2008 بمثابة شرارة انطلاق المساعي الروسية نحو العودة إلى حقبة سابقة كانت تعد فيها قوة عظمى، تمتلك من الأدوات العسكرية والاستراتيجية ما يسمح لها التدخل في أي منطقة في العالم، دون النظر إلى أية اعتبارات دولية او إقليمية. استشعرت موسكو عام 2008، محاولات حلف الناتو ضم جورجيا إليه، وهو ما ظهر واضحًا خلال قمة الحلف التي انعقدت في شهر أبريل من نفس العام في رومانيا، عندما قدّم أعضاء حلف الناتو وعدًا بضم جورجيا إلى الحلف.
لذا بدأت موسكو في ذلك التوقيت في التجهيز للتدخل الميداني في جورجيا للحيلولة دون انضمامها للحلف، لكن كانت المعضلة تكمن في كيفية “تأطير” هذا التدخل، وجاء الحل في تفعيل ملف إقليم “أوسيتيا الجنوبية” شمالي جورجيا، وإقليم “أبخازيا” شمال غربها، اللذين أعلنا استقلالهما من جانب واحد، وشرعت تبليسي في الهجوم العسكري على كلا الإقليمين في أغسطس 2008.
في ذلك التوقيت أشارت تقديرات الولايات المتحدة إلى أن روسيا لن تتدخل عسكريًا في كلا الإقليمين لحمايتهما من الهجوم العسكري الجورجي. هذا التقدير تم بناء على الأداء الروسي في أزمات سابقة مشابهة منذ نهاية الحرب الشيشانية الثانية، على رأسها الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي فقدت بسببه روسيا حليفًا مهمًا ظل على مدى عقود يعد من الحلفاء الطبيعيين لها في الشرق الأوسط.
التقديرات الغربية في هذه الأزمة كانت خاطئة بشكل فادح، إذ ظلت تراهن على قدرة القوات الجورجية على اكتساح القوات الانفصالية الموجودة في أوسيتيا وأبخازيا، ألا أن الجميع فوجئ بدخول القوات الروسية على الخط، ما تسبب في فشل نحو 120 ألف جندي حشدتهم جورجيا من أجل إعادة السيطرة على المنطقتين اللتين كانتا تتمتعان بشبه حكم ذاتي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، في تحقيق أهدافهم الأساسية. ومنيت القوات الجورجية بخسائر فادحة.
واتضح من خلال هذه الخسائر ضلوع أطراف غربية وإقليمية، منها إسرائيل، في تشجيع جورجيا على خوض هذه المغامرة الميدانية، فانتهي بالجيش الجورجي الحال إلى خوضه معارك للدفاع عن مناطق تقع في العمق الجورجي، مثل مدن “غوري” وكاسبي”، ومن ثم اضطر إلى قبول وقف إطلاق النار بعد اندلاع المعارك بشهرين، والقبول بالوضع القائم لكل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، حيث اعترفت بهما موسكو كجمهوريتين مستقلتين في نفس العام.
دونباس … العودة إلى التكتيك القديم
تبدو تشابهات عديدة بين الحالة الانفصالية الجورجية والحالة الانفصالية في أوكرانيا، أهمها كون كلا الحالتين إحدى نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك استغلال موسكو لهما من أجل فرض أمر واقع ميداني وسياسي عبر تقديم الدعم العسكري أولًا ثم الاعتراف بالجمهوريات الانفصالية بشكل يسمح لموسكو في أي وقت بالوجود ضمن أراضي هذه الجمهوريات في حالة ما إذا دعت الضرورة لذلك، وهو ما حال -في الحالة الجورجية- دون انضمامها إلى حلف الناتو، وقد يكون حائلًا أو حتى معطلًا لانضمام كييف إلى الحلف.
التشابهات بين الحالتين تمتد إلى الواقع الميداني العسكري، ففي الحالة الجورجية انخرطت موسكو في معارك شرسة مع القوات الجورجية، في حين كان إقليم دونباس، منذ عام 2014، بمثابة خط مواجهة عسكري لمعارك مستمرة بين القوات الانفصالية المدعومة من موسكو والجيش الأوكراني، وهي معارك استمرت بشكل متغير الوتيرة حتى بعد توقيع اتفاقية “مينسك” في فبراير 2015، والتي كانت تستهدف وقف إطلاق النار في الإقليم، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وهو ما لم يحدث فعليًا.
لجوء موسكو إلى ورقة دونباس كان محصلة طبيعية للمعادلة الصفرية التي نتجت عن عدم تجاوب الكتلة الغربية مع المطالب الروسية بشأن “الضمانات الأمنية”، والتي بدأت موسكو في حشد القوات منذ أوائل العام الماضي من أجلها. منطقيًا كان اللجوء إلى هذه الورقة هو الأجدى على المستوى التكتيكي والاستراتيجي؛ فقوات دونباس الانفصالية -التي تصاعد مستوى تسليحها خلال السنوات الأخيرة ليشمل منظومات ذاتية الحركة للدفاع الجوي بجانب العربات المدرعة والدبابات ومدافع الميدان- توفر لموسكو هامشًا للمناورة تستطيع من خلاله الرد ميدانيًا على رفض الغرب التعاطي معها، وقد تكون من أهم أدوات فرض قبول الأمر الواقع على كييف، كما حدث سابقًا في الحالة الجورجية.
يضاف إلى ذلك، أن تفعيل هذه الورقة سيضع القيادة الأوكرانية بين خيارين مرهقين سياسيًا وميدانيًا، ما بين القبول بالأمر الواقع، أو الانخراط في معارك استنزافية يومية ستعطي لموسكو أفضلية تكتيكية واستراتيجية لا تمتلكها كييف حاليًا، رغم تعزيز حلف الناتو للمقاتلات العاملة ضمن مهام الشرطة الجوية في دول البلطيق والبحر الأسود، وتدفق أعداد من جنود الحلف على دول مثل بولندا ورومانيا.
حقيقة الأمر أن موسكو قد عكفت منذ سنوات على تكريس الوضع القائم في إقليم دونباس، ليس فقط عبر الدعم العسكري للقوات الانفصالية الموجودة في الإقليم والتي راكمت خبرات عسكرية ميدانية عديدة على مدار السنوات الماضية، بل أيضًا عبر وجود وحدات عسكرية روسية نظامية داخل هذا الإقليم، وإن كان هذا الوجود بشكل غير رسمي.
فتشير التقديرات المتاحة إلى ان موسكو كانت تحتفظ بشكل دائم في مدينتي “لوهانسك” و”دونيتسك” بوحدات عسكرية مساندة للقوات الانفصالية، إذ تمركز في مدينة لوهانسك وفي مدن “إلشيفسك” و”بريانكا” و”كاديفكا” الواقعة جميعها شمال غرب لوهانسك فيلق تابع للجيش الروسي الثاني كقوة داعمة للكتائب الثلاث التابعة للقوات الانفصالية. أما في دونيتسك فيتمركز داخلها وفي مدينتي “ماكيفيكا” و”هورليفكا” الواقعتين شمالها فيلق تابع للجيش الروسي الأول.
منذ عام 2015، شهدت خطوط التماس داخل إقليم دونباس اشتباكات مدفعية متقطعة بين القوات الانفصالية والقوات الأوكرانية، ضمن واقع ميداني جعل خط التماس بين الجانبين يقع على تخوم القسم الجنوبي من إقليم لوهانسك الذي يضم أربع مناطق من إجمالي ثماني مناطق إدارية يتشكل منها هذا الإقليم، والقسم الشرقي من إقليم دونيتسك، الذي يضم ثلاث مناطق من إجمالي ثماني مناطق إدارية يتشكل منها هذا الإقليم.
بات التراشق المدفعي بين الجانبين يتم على طول خط التماس، وبشكل خاص حول المحاور الأربعة المؤدية إلى المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، وهي محور مدينة لوهانسك ومحور “كاديفكا” ومحور “هورلفكا”، بجانب محور مزدوج يؤدي إلى مدينة دونيتسك.
الأوضاع الحالية للحشود العسكرية الروسية
لتحديد ماهية الخطوات التالية لموسكو على المستوى الميداني في إقليم دونباس، لابد أولًا من تناول التغيرات التي طرأت على الحشد العسكري الروسي في المحيط الشرقي والشمالي لأوكرانيا؛ فبجانب بقاء معظم القوات الروسية التي كانت موجودة في بيلاروسيا في مواقعها، بات واضحًا أن الوحدات التي انسحبت من هناك اتجهت إلى نقطة تجميع أساسية وهي مثلث “فورونيز – كورسك – بيلوجراد” الذي يقع قرب الحدود الأوكرانية مباشرة.
الحشد العسكري الأكبر يمكن رصده في منطقة بيلوجراد، حيث تم توزيع قطاعات عسكرية كبيرة في عدة مناطق حولها مثل منطقتي “سولوتي” و”سيرتينو” التي تم تجميع وحدات الدفاع الجوي ذاتية الحركة فيها، ومنطقتي “أفنيا” و”شيبيكينو” التي تم تجميع وحدات المدفعية فيها، علمًا أن “شيبيكينو” تقع على بعد 5 كيلو مترات فقط من الحدود الأوكرانية، بجانب تجميع الدبابات في منطقتي “توماروفكا” و”بلياهكا”.
منطقة “كورسك” كذلك تعد من المناطق المهمة التي تتدفق عليها الحشود الروسية، إذ تم رصد وجود منظومات متنوعة للدفاع الجوي من بينها منظومة “إس-300” في منطقة “بافلوفكا”، بجانب رادارات للإنذار المبكر ومدرعات في منطقة “لاجو” الواقعة على بعد 40 كيلو مترًا من الحدود الأوكرانية. وقد وصلت الحشود الروسية في هذا النطاق إلى مناطق تقع على بعد كيلو مترًا واحدًا فقط من الحدود المشتركة، مثل منطقة “كامارين”. جدير بالذكر هنا أن منطقة “ليبيتسك” الواقعة شمال شرق كورسك تعد نقطة تجميع أساسية لكتائب الصواريخ الباليستية التكتيكية “إسكندر-إم” التي تعد من الأسلحة النوعية الأساسية التي تم الدفع بها نحو الحدود الأوكرانية
تضاف إلى هذه النقاط نقاط أساسية أخرى استمر حشد القوات فيها، مثل منطقة روستوف والنطاق الشمالي لشبه جزيرة القرم، بجانب المناطق الجنوبية لبيلاروسيا، وخاصة منطقة “جوميل” القريبة جدًا من الحدود الشمالية لأوكرانيا. اللافت في هذا الصدد هو أن موسكو قامت خلال الأيام الأخيرة بتجميع عدد كبير من الوسائط الجوية القتالية، سواء كانت مروحيات أو طائرات قاذفة في ثلاثة مطارات رئيسة محيطة بأوكرانيا، وهي مطار “لونانتس” جنوبي بيلاروسيا، ومطار “فاليوكي” جنوب شرق مدينة بيلوجراد الروسية قرب الحدود مع أوكرانيا، ومطار “نوفوزيرنا” شمال غرب شبه جزيرة القرم.
من النقاط اللافتة في التحركات العسكرية الروسية أنها ارتبطت بنصب مستشفيات ميدانية في عدة مناطق محيطة بمسرح العمليات الأوكراني، بواقع مستشفى رئيس شمال شبه جزيرة القرم، ومستشفيين في روسيا البيضاء، وعدة مستشفيات تم نصبها في نطاق منطقتي “بيلوجراد” و”كورسك”. هذا النمط “الاستعراضي” في التحركات الروسية، يمكن فهم أهدافه بالنظر إلى تجربة مارس 2021، والتي فيها كان الهدف الأساسي للحشد العسكري الروسي هو سياسي ضاغط في المقام الأول.
مازال يمكننا القول إن التحركات الروسية تشي بإمكانية بدء هجوم واسع على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يخدم الأهداف التكتيكية الروسية التي حرصت على إظهار كافة التحركات العسكرية التي تقوم بها في هذا النطاق بأوضح صورة ممكنة، ولم تحاول حتى إخفاء او تمويه أنواع الأنظمة القتالية الجاري نقلها، خاصة أن هذه التحركات صاحبتها عدة أمور تدفع في نفس هذا الاتجاه.
من بين هذه الأمور، ظهور الوحدات المدرعة الروسية ممهورة بعلامات تعريفية معينة يمكن منها الإيحاء بأن هذه الوحدات قد تلقت بالفعل أوامر عملياتية وأنها بدأت في التحرك لتنفيذ هذه المهام، ومن ثم تم تمييزها بهذه العلامات من أجل أن تتعرف الوحدات على بعضها البعض أثناء الاشتباك، وكي يتم تمييزها من جانب الطائرات الصديقة. ناهيك عن تزويد بعض هذه الدبابات بدروع رأسية تغطي قمة البرج، ما يعطي إيحاءً بأن هذا الإجراء لمكافحة الصواريخ ذات الهجوم السقفي، مثل صواريخ “جافلين” الأمريكية وذخائر “مام-إل” التركية.
مسألة الجسر الذي ظهر بشكل مفاجئ على نهر “بريبيات” جنوبي بيلاروسيا قرب الحدود مع أوكرانيا كانت أيضًا وسيلة من وسائل ما يمكن أن نعده حربًا نفسية من جانب روسيا ضد الطرف الآخر، خاصة وأن هذا الجسر يقع قريبًا من منطقة تشيرنوبل التي تعد بوابة كييف الشمالية.
هذه التحركات شملت حتى التنقلات الخارجية التكتيكية، بما في ذلك التوزيع الواسع النطاق لسفن البحرية الروسية في عدة بحار، وصولًا إلى توزيع بعض الوسائط القتالية النوعية في عدة مواقع تشكل تهديدًا جديًا لحلف الناتو، مثل صواريخ “كينزال” الأسرع من الصوت، والتي يبلغ مداها الأقصى 2000 كيلو متر، وتم نشرها على متن مقاتلات “ميج-31” مؤخرًا في سوريا، بجانب تمركز بعض هذه المقاتلات في منطقة “كالينجراد” الواقعة بين بولندا وليتوانيا. كذلك نشرت موسكو صواريخ “باستيون” المضادة للقطع البحرية في شبه جزيرة القرم وسوريا بالإضافة إلى جزيرة “ماتوا” شمال غرب المحيط الهادئ، التي وصلت إليها هذه الصواريخ في نوفمبر الماضي.
إذًا، من تطورات الأيام الأخيرة يمكن القول إنه وإن كان التركيز الروسي الحالي هو على إقليم دونباس، إلا ان موسكو ما زالت تناور بورقة التلويح بغزو عسكري واسع للأراضي الأوكرانية، من أجل إدامة الضغط على الغرب. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن ورقة دونباس تعد هي أهم أوراق روسيا في هذه المرحلة، ناهيك عن أن استخدام هذه الورقة يحمل في طياته تحديات عديدة، أهمها ما يتعلق بحدود التدخل الميداني الروسي – المعلن – في دونباس.
بداية المعارك التمهيدية في دونباس
لا يمكن اعتبار الوضع حاليًا على خطوط التماس في إقليم دونباس بمثابة معركة حقيقية؛ فهي حتى الآن لم تتعد كونها تراشقًا متقطعًا بالمدفعية والمدفعية الصاروخية بين الجانبين، بدأ فعليًا في السابع عشر من الشهر الجاري، عبر قصف متبادل على معظم مناطق خط التماس، وبشكل محدد في التخوم الشمالية لمدينة لوهانسك، خاصة منطقة “ستانيتسيا لوهانسكا”، مع تفجير لخط الغاز الطبيعي الموجود في منطقة “فيرهونكا” قرب مدينة لوهانسك.
محور “هورلفكا” شهد الاشتباك الميداني الوحيد بين القوات الانفصالية والقوات الأوكرانية خلال الأيام الماضية، وتضمن هذا الاشتباك استخدام الانفصاليين لصواريخ “كونكورس” المضادة للدبابات. جدير بالذكر هنا أن بعض العمليات التخريبية تم رصدها خلال هذه الاشتباكات، من بينها سقوط صاروخين على مقاطعة “روستوف” الروسية، بجانب العثور على عربة مفخخة تحت جسر للسكك الحديدية يقع على الطريق الرابط بين مدينتي “لوهانسك” و”إيزفارينو”، وانفجار عبوة ناسفة على الطرق الرابط بين مدينتي “دونيتسك” و”هورلفكا”.
إذًا لم تختلف طبيعة الاشتباك بين الجانبين بين المراحل السابقة ومرحلة ما بعد اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي إقليم دونباس، وهو ما يطرح تساؤلًا مهمًا حول طبيعة الخطوات الروسية، بالنظر إلى التصريحات الروسية حول أن حدود جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك هي الحدود الإدارية الأساسية لهما في التقسيم الإداري الأوكراني، وليست الحدود الحالية المحددة بخط وقف إطلاق النار بين الجانبين.
ويفتح ذلك الباب واسعًا أمام احتمالات تدخل موسكو في مراحل لاحقة لدعم تحركات القوات الانفصالية التي تستهدف السيطرة على كامل مناطق إقليم دونباس، بما في ذلك مدينة “ماريوبول” الساحلية على البحر الأسود، وبالتالي قد يتم -في حالة حدوث هذا التدخل- طرح إمكانية تنفيذ سيناريوهات أخرى تم الحديث عنها سابقًا، مثل سيناريو تحقيق الاتصال البري بين شبه جزيرة القرم ودونباس، أو سيناريو المُضي قدمًا نحو الشرق في اتجاه نهر “دنيبر”.
وعلى الرغم من التفوق العسكري الواضح لصالح روسيا، إلا أن دخول موسكو بريًا بشكل رسمي إلى إقليم دونباس قد يجعل القوات الروسية في مرمى الأسلحة المضادة للطائرات والدبابات التي تدفقت على أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة، ناهيك عن دخول هذه القوات ضمن مدى الصواريخ الباليستية الأوكرانية من نوع “توشكا”، وبالتالي تبدو الحاجة ماسة إلى انتظار بدء التدخل الروسي في إقليم دونباس في حال حدوثه لتحديد مدى هذا التدخل ونمطه، علمًا بأن توسيع الدعم العسكري المقدم للقوات الانفصالية يبدو في هذه المرحلة هو الخيار الأكثر منطقية.
.
رابط المصدر: