لفت السلوك التصويتي للدول الإفريقية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا الانتباه إلى المواقف الدبلوماسية الإفريقية، في سياق التنافس الاستراتيجي الدولي، وأهمية الكتلة التصويتية الإفريقية التي تعد أحد محددات تدافع الدول الكبرى في النظام الدولي على القارة. وأعاد تصويت الدول الإفريقية إلى الأذهان حالة الاستقطاب والانقسام التي كانت سائدة خلال فترة الحرب الباردة، وانقسام الدول الإفريقية ما بين المعسكرين الشرقيّ والغربيّ أو اللجوء إلى خيار عدم الانحياز لأيّ منهما؛ كخيار آمن لتجنب تكلفة الانحياز.
ورغم ما تعكسه التحليلات الغربية من دهشة واستغراب لنمط التصويت الإفريقي، مع امتناع ما يقرب من نصف الدول الإفريقية عن التصويت، وإيعاز الأمر إلى أسباب متعلقة بسياسات المحاور خلال فترة الحرب الباردة، أو تلك الأسباب المتعلقة بتنامي النفوذ الروسي في القارة وصعود الديكتاتوريات الإفريقية من جديد، بعد فترة شهدت فيها القارة تنامي تيار التحول الديمقراطي خلال التسعينيات؛ إلا أن تلك المبررات لا يجب أن تنفي حقيقة تصاعد التنافس الاستراتيجي في القارة الذي بدت ملامحه تتشكل خلال السنوات القليلة الماضية، وهو الأمر الذي أثار المخاوف الأمريكية من التغلغل الصيني والروسي في القارة.
على ذلك، يمكن إسناد المواقف الإفريقية لمجموعة من الأسباب التي تأتي في سياق استراتيجي تطغى عليه مؤشرات التراجع الغربي في القارة، لصالح الصعود الصيني الروسي، فضلًا عن تلك الأسباب المتعلقة بخصوصية الأنظمة الإفريقية نفسها، ويمكن التعرض لتلك الأسباب على النحو التالي:
- الإرث التاريخي
تستند تبريرات الغزو الروسي لأوكرانيا إلى اعتبارات تاريخية وحضارية وجيواستراتيجية، وهي الاعتبارات التي تتقاطع بدورها مع جوهر أزمات الدول الإفريقية، التي ورثت حدودًا مصطنعة، تسببت في حروب ونزاعات إفريقية ممتدة حتى يومنا هذا؛ نظرًا إلى التداخل العرقي والقبلي الذي لم تراعه حدود الجغرافيا.
وقد عكست كلمة مندوب كينيا الدائم لدى الأمم المتحدة حرص كينيا على رفض سلوك الهيمنة والإمبراطوريات القديمة، ذلك على الرغم من الخسائر الاقتصادية الفادحة التي حتمًا ستطال الاقتصاد الكيني الذي يعتمد على واردات القمح الروسي وصادرات الشاي، لكن يبدو أن المخاوف الكينية من “نزاعات الحدود” تسيطر على عقلية الأنظمة الحاكمة أكثر من سيطرة المصالح الاقتصادية.
- عدم الانحياز
رغم أن المواقف الإفريقية تبدو منطقية من خلال رفض سياسات المحاور والاستقطاب بين معسكرين، وبدت من خلال تأييد أكثر من نصف الدول الإفريقية لصالح قرار إدانة روسيا، والجزء الآخر الذي امتنع عن التصويت رغم ما أثاره من استفهامات حول التصويت الإفريقي، إلا أنه لا يعد إنصافًا لروسيا ولا تأييدًا للغرب، بقدر ما يعد رغبة في البقاء بعيدًا عن الاستقطاب، والحفاظ على علاقات متوازنة مع كافة الشركاء.
ويعيد هذا الموقف مبادئ حركة عدم الانحياز التي نشأت خلال الحرب الباردة، وتضمنت أغلب الدول الإفريقية الرافضة للانضمام لأي من المتنافسين، ويأتي هذا المشهد على خلفية انعقاد مؤتمر لحركة عدم الانحياز في صربيا عام 2021، في محاولة لإعادة إحياء الحركة، في ظل سياقات التنافس الدولي الذي دفع دول الجنوب إلى البحث عن مخرج استراتيجي من معضلة الانحياز، مع ظهور بوادر الاستقطاب والتنافس الدولي خلال السنوات الماضية.
- تنوع الحلفاء
في سياق التنافس الدولي وعودة التدافع على القارة من جديد، فإن بحث الأفارقة عن خيارات وبدائل متعددة يزيد من حدة التنافس ويفرض ضغوطًا على الشركاء الدوليين، وقد أظهرت القمم الإفريقية صعود جاذبية إفريقيا وتوافر بدائل استراتيجية أمام دولها، بما يمكنها من التحرر من المشروطية الغربية.
وتعكس التحركات والتفاعلات للدول الكبرى في القارة خلال الفترة الأخيرة استحواذ الصين وتنامي روسيا في القارة على حساب المساحات التقليدية للغرب، ويتضح ذلك بشكل جليّ مع اتجاه روسيا إلى ملء الفراغ الأمني، بالتزامن مع التراجع الغربي عن توفير الدعم والتعاون مع الدول الإفريقية في مكافحة الإرهاب.
وخلال الفترة الأخيرة، كثّفت الصين من تحركاتها الدبلوماسية في القرن الإفريقي، بعد تعيين مبعوث لها للمنطقة، ويتزامن ذلك مع التغلغل الروسي الهادئ، بما يؤكد أهمية تحالفات الجنوب، بغض النظر عن محاولات تفسير التصويت الإفريقي.
- تهميش إفريقيا
على الرغم من الصعود الإفريقي دوليًا، وتصاعد جاذبية القارة بالنسبة للشركاء التجاريين، بما يدحض مقولات هامشية إفريقيا في النظام الدولي، فضلًا عن الأهمية النسبية لإفريقيا بالنسبة للنظام الدولي، وما أدت إليه من عودة التنافس الدولي على القارة؛ إلا أن المزايا الاقتصادية للدول الإفريقية لم تساعدها على تحقيق الاستقلال الاقتصادي ومن ثمّ التعامل كشريك ندّ، بدلًا من استمرار حالة التبعية الاقتصادية.
وأدت تبعية الاقتصادات الإفريقية وهشاشتها، علاوة على ما تعانيه الدول من أزمات غذائية وتصاعد حالة الفقر والجوع في القارة، واعتمادها على المساعدات الإنسانية من الشركاء والدول المانحة، وحالة الانشغال الدولي بالحرب، إلى إثارة مخاوف تراجع الاهتمام الدولي بالأجندة الإنسانية، وتراجع الالتزامات الدولية تجاه القارة.
- تحمل الكلفة
لا ترغب الدول الإفريقية في اتساع نطاق وأمد الحرب التي تدور بعيدًا عنها، لكنها حتمًا ستؤثر على اقتصاداتها بشكلٍ كبير، وقد انعكس ذلك بشكلٍ رئيس على توتر سلاسل الإمداد، وحركة الصادرات والواردات، وتأثر قطاعات الغذاء والطاقة، الذي انعكس على حركة ارتفاع الأسعار والتضخم عالميًا.
وتأتي تلك التبعات الاقتصادية في وقت لا تزال تعاني فيه الدول الإفريقية من تبعات جائحة كورونا، وأزمات في توافر وتمويل توفير اللقاح، علاوة على ما سببته أزمة كورونا من أزمات في سلاسل الإمداد، بما يزيد من أعباء الدول وكذلك المانحين والمنظمات الدولية، في تقديم الدعم للدول الإفريقية، التي لا تزال تطالب وتتفاوض على مساعدات تمويل اللقاح.
ويبدو في الأخير، أن المواقف الإفريقية، ليست خارج السياق على النحو الذي يثير كل هذا الزخم في محاولة تفسير سلوكها، لكن ما هو مثير للانتباه حقًا هو تصاعد الاستقطاب الدولي، واتساع نطاق ومساحات المناورة أمام الدول الإفريقية، بما يرجعنا إلى علاقات إفريقية دولية شبيهة بتلك التي كانت قائمة خلال فترة الحرب الباردة.
.
رابط المصدر: