سياق ضاغط: رسائل ودلالات زيارة الرئيس الجزائري لأنقرة

عبد المنعم على

 

تُعد زيارة الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” إلى أنقرة، في الخامس عشر من مايو 2022، محطة حيوية في خضم العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة في ظل ما شهدته العلاقات الجزائرية التركية من تنامٍ ممتد على الجوانب السياسية والاقتصادية بصورة رئيسية، وكذا في ضوء تأزم الأوضاع الاقتصادية لدى البلدين الناجمة عن التصعيد الروسي الأوكراني، وتعد تلك الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها رئيس جزائري منذ 17 عامًا، فقد كانت آخر زيارة للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة والتي تمت في فبراير 2005. ومؤخرًا شهدت العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين تطورًا شاملًا يعكس التوافق المتبادل، وتحقيقًا للمصلحة المتبادلة بين الجانبين، ولم تقتصر التفاعلات على هذين البعدين، بل هناك تطور مماثل في الصناعات العسكرية والذي تمخض عن تلك الزيارة.

سياق ضاغط

جاءت زيارة الرئيس “تبون” لتركيا في ظل سياق متأزم داخليًا في كلا البلدين في ضوء تردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية والأزمة الروسية الأوكرانية، ومن ناحية أخرى في ضوء تذبذبات الملفات المتشابكة والجامعة لكلٍ من الجزائر وتركيا. ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

  • تصدعات المشهد الليبي والعودة إلى المربع صفر: تأتي الزيارة في ظل التعقيدات التي برزت على الساحة الليبية من ناحية التناقضات والاختلافات بين الأطراف الليبية حول القانون الانتخابي ومن ثم تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، أو من ناحية أخرى في ضوء أزمة ممارسة حكومة “فتحي باشاغا” المكلفة برلمانيًا بممارسة مهامها في العاصمة طرابلس، واستمرارية “عبد الحميد الدبيبة” في ممارسة سلطاته من العاصمة، وهو ما يعيد المشهد مرة أخرى لما كانت عليه ليبيا في السنوات الماضية. ولعل هذا الأمر من شأنه أن يُعيد ليبيا إلى دائرة الصراع الأهلي المسلح كما حدث في السابع عشر من مايو 2022 بين أنصار رئيس الحكومة الليبية المنتهية ولايته “الدبيبة” وبين رئيس الحكومة المُكلف “فتحي باشاغا”، وهو الأمر الذي يُعيد فتح الحسابات مرة أخرى لإيجاد توازنات سياسية تُحقق المصالح التركية والجزائرية في المعادلة الليبية، لا سيما وأن كلا الدولتين لا تزالان تدعمان “الدبيبة” رئيسًا للحكومة وهو ما أعلن عنه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في الرابع والعشرين من أبريل من العام الجاري على هامش لقاء إعلامي بأن “الجزائر تدعم الشرعية الدولية لذلك هي تدعم حكومة الدبيبة”، وهو ذات المسار الذي تنتهجه تركيا التي ترى أن حكومة الدبيبية هي التي تتمتع بالأسس القانونية في ليبيا.
  • اضطرابات متزايدة في الساحل وتراجع الدعم العسكري: تأتي تلك الزيارة أيضًا في ضوء تفاقم الأوضاع في منطقة الساحل مما ينذر بوجود مخاطر السيولة الآمنية المحتملة في منطقة الساحل والصحراء في ضوء تأزم المشهد في مالي، وكذلك تراجع بعض التمويلات الخاصة بالقوات المشتركة لمكافحة الإرهاب في تلك المنطقة مع اتخاذ الحكومة التشادية قرارًا للحد من الوجود الأمني على طول منطقة الحدود الثلاثة من 1200 إلى 600 جندي (في أغسطس 2021) من شأنه أن يعزز من تمركزات الجماعات الإرهابية، وهو بمثابة تهديد واضح وصريح للأمن القومي الجزائري، ولعل التباحث حول التعاون العسكري بين الجانبين وكذا تصريح الرئيس التركي لتعزيز التعاون الثنائي في مجال الصناعات الدفاعية يحقق توازنًا في معادلة الأمن الإقليمي في هذا النطاق.
  • اضطراب الوضع العالمي على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية: حيث تُعد تلك الأزمة محطة ضاغطة على اقتصاديات الدول خاصة في ضوء تأثيرها على قطاع الطاقة والغذاء، واستخدام سلاح الطاقة “الغاز والنفط” في تلك الأزمة والضغوطات التي باتت تمارس من قِبل الدول الغربية على الدول العربية والخليجية والأفريقية المنتجة للنفط لزيادة إنتاجها لمعالجة التأثيرات السلبية جراء تلك الأزمة، ووضعية الضغط الموازي من روسيا لمنع زيادة الصادرات الطاقوية لأوروبا، مما يضع الجزائر في مأزق وترغب في البحث عن أسواق بديلة، خاصة وأن الرئيس تبون قد أبدى خلال زيارته لأنقرة في تطلع بلاده لمراجعة العلاقات غير المتوازنة وغير المتكافئة مع الدول الغربية وخاصة فرنسا والاتحاد الأوروبي، والخروج من الأحادية القطبية والهمينة الغربية إلى حالة من الانفتاح وتعدد الشراكات الإقليمية والدولية.

أهداف متباينة

إن زيارة “تبون” لأنقرة تأتي لتحقيق جملة من التطلعات والأهداف الجزائرية على المستوى الثنائي سواء في إطار العلاقات السياسية والدبلوماسية أو تحت مظلة اقتصادية وتطلعات لمزيد من تنشيط التبادلات التجارية والاستثمارات المشتركة، وكذلك في ضوء سياسة التطابق المنتهجه حيال الملفات الإقليمية، كالآتي:

  • تنشيط سياسة المحاور: هناك تطلعات جزائرية لتنشيط سياسة المحاور التقليدية لتحقيق توازنات إقليمية فيما يتعلق بالملفات العالقة وعلى رأسها الملف الليبي، فالتقارب في وجهات النظر التركية الجزائرية حيال الموقف الراهن في ليبيا، يدفعهما للتنسيق والتعاون الثنائي من أجل السيطرة مرة أخرى على المشهد الليبي دون التنسيق مع كافة الدول المعنية بذلك الملف، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي لحالة من التحشيد العسكري مرة أخرى ويُنذر بقدر من الإطاحة بمسارات التفاهم السياسية والعسكرية، ويؤدي إلى العودة لمربع التجاذبات مرة أخرى، وهو ما يؤول في نهاية المطاف إلى تفجير الأوضاع العسكرية مجددًا.

من زاوية أخرى؛ هناك تطلعات جزائرية لموازنة التحرك المغربي الإسرائيلي في العمق الإفريقي، خاصة وأن تركيا أبدت رؤيتها فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية، والذي تركز حول أهمية إيجاد حل سياسي لذلك الملف في إطار قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، لذا يمكن القول إن الجزائر تبحث عن داعمين لرؤيتها فيما يتعلق بالصحراء المغربية، وتتطلع إلى توسيع دائرة الشركاء الإقليميين والدوليين بعيدًا عن الدائرة التقليدية التي دارت في فلكها العلاقات الجزائرية، عقب حالة الاصطفاف الأوروبي الأخيرة مع الرباط في هذا الشأن ودعم أطروحتها الخاصة بمبادرة الحكم الذاتي. واتصالًا بذلك الهدف تتطلع الجزائر لفك الارتباط المغربي التركي خاصة في ظل التنامي الملحوظ في التعاون العسكري وصفقات الأسلحة التي تبرمها الرباط مع أنقرة كما هو الحال بالنسبة لحصول المغرب على الطائرات التركية بدون طيار طراز “بيرقدار تي بي 2” عام 2021، ويجري منذ مطلع العام الجاري (2022) التفاوض حول صفقة أسلحة بين البحرية الملكية المغربية وتركيا، وتدليلًا على ذلك الهدف فقد جاء تأكيد الرئيس تبون على هامش الزيارة حول التشاورات الراهنة في الصناعات العسكرية مع تركيا لتبرهن مساعي الجزائر لإعادة التوزان العسكري مع المغرب من ناحية، ومن ناحية أخرى الرغبة في تنويع مصادر تسليح الجزائر في ضوء الاحتمالات المختلفة حيال اضطراب وتجميد الصفقات المبرمة مع روسيا –التي تحتكر السوق الجزائرية- على هامش الحرب في أوكرانيا.

  • تفعيل التعاون الأمني: في أعقاب تأزم الوضع السياسي الداخلي في الجزائر وتفاقم وتيرة الانتقادات والمعارضة الداخلية وبروز حركات مناهضة لسياسة الرئيس “تبون” كما هو الحال بالنسبة لحركتي “ماك” و”رشاد” الإسلامية والانفصالية في منطقة القبائل وتورطهما في أعمال الحرائق التي شهدتها الجزائر نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري، وكذلك بعض الشخصيات المعارضة الهاربة إلى تركيا، لذا تستهدف الجزائر توسيع مظلة التعاون لتمتد إلى الجانب الأمني والاستخباراتي من أجل تسوية ملف المطلوبين الهاربين لتركيا.
  • تعزيز الشراكة الاقتصادية: جاءت التفاعلات الاقتصادية والتجارية الثنائية بين الجزائر وأنقرة على رأس أجندة العمل المشتركة خلال زيارة “تبون” لأنقرة” وذلك لتعزيز التعاون الثنائي المدعم بمعاهدة الصداقة والتعاون الموقعة عام 2006، والعمل على تعزيز الاستثمارات التركية في الجزائر وتوسيع حجم المبادلات التجارية والتي بلغت عام 2021 نحو 4.2 مليار دولار، وتحقيقًا لذلك فقد تم تشكيل لجنة مشتركة برئاسة وزير خارجية كلا البلدين لمعالجة التحديات التي تواجه المستثمرين، ولعل تلك الزيارة أفرزت عن توقيع 16 اتفاقية تعاون ومذكرة تفاهم ثنائية في العديد من القطاعات الاقتصادية، وهو ما يصب في مصلحة الجانبين في ضوء الحاجة الاقتصادية المتبادلة بين الجانبين لتسويق المنتجات المختلفة، علاوة على الرغبة في توطيد الشراكة فيما يتعلق بملف الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي عبر التفاعل بين شركة سونطراك للنفط والغاز وشركة رونيانس التركية، وهو تطلع للجانبين من أجل توسيع مظلة التعاون لمواءمة المتغيرات العالمية في سوق الطاقة. وتجدر الإشارة إلى أن الجزائر قد جددت عقود توريد الغاز الطبيعي المسال لتركيا عبر شريكها “بوتاش” حتى عام 2024، وتصل كميات التصدير إلى قرابة 5.4 مليارات متر مكعب، ولعل هذا الأمر يحقق عوائد مالية للجزائر تساهم في معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، وتمثل تلك الرغبة الجزائرية في التقارب مع تركيا وتعددية تفاعلاتها معها هدفًا تكتيكيًا لتركيا من أجل ضمان مصالحها الاقتصادية في العمق الأفريقي.
  • التسويق للمبادرة الوطنية “لم الشمل“: إن سياق الزيارة التي قام بها “تبون” يأتي بالتزامن مع إطلاق مبادرة “لم الشمل” التي ترغب من خلالها الجزائر في معالجة وضعية التأزم السياسي الداخلي، وطي الخلافات السياسية، وفتح المجال أمام المعارضة للانخراط، وذلك لتكوين جبهة داخلية متماسكة، وقد برز ذلك التسويق للمبادرة من خلال اللقاء الذي عقده “تبون” مع الجالية الجزائرية بتركيا، لشرح أبعادها وأهدافها المختلفة وخلق زخم حيالها.

وفي التقدير؛ تُعد التحركات الجزائرية في سياق إقليمها العربي والإفريقي ودول الجوار الإقليمي، رغبة في استحداث محاور تفاعل تتواءم مع تطلعات الجزائر في فك الارتباط بالدول الأوروبية على وجه العموم وفرنسا على وجه الخصوص، والعمل على تنوع شركائها إلى جانب الخروج من سياق العلاقات التقليدية التي انتهجتها الجزائر طوال السنوات الماضية، هذا من جانب، وعلى صعيد آخر وفي ضوء توازنات القوى في منطقة المغرب العربي فإن الجزائر تستهدف فك الارتباط العسكري التركي المغربي عبر الخروج من مظلة التفاعل السياسي والاقتصادي فقط إلى التعاون العسكري في مجالات الصناعات العسكرية بما يحقق لها تنوعًا في مصادر التسليح، خاصة في ضوء الوضع المتأزم لدى روسيا –المصدر الأساسي للتسليح للجزائر- وكذلك بما يوجد وضعية متوازنة عسكريًا مع المغرب في خضم الصراع الدائر بينهما.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19582/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M