استعادة النفوذ: الموقف البريطاني من الأزمة الأوكرانية

الشيماء عرفات

 

قام رئيس الوزراء البريطاني” بوريس جونسون” بزيارة ثانية لكييف يوم 17 يونيو الجاري، والتي سبقتها زيارة في إبريل الماضي كانت الأولى لممثل عن الدول السبع الكبار، وصرّح خلالها “جونسون” إن بريطانيا ستمنح أوكرانيا “القدرة على الصمود الاستراتيجي” للانتصار على الغزو الروسي. وعرّض فيها عمل بلاده مع أوكرانيا على تحرير الحبوب للتصدير عبر البحر الأسود، وكذلك عرض إطلاق برنامج تدريب كبير للقوات الأوكرانية يمكن أن يشمل تدريب ما يصل إلى عشرة آلاف جندي كل 120 يوماً. تلك العروض واللهجة البريطانيتين والذي يمثل ملمحًا من ضمن ملامح متراكمة قامت بها الحكومة البريطانية لمواجهة الجانب الروسي، حتى استغرب الكثيرون مثل تلك النبرة القوية التي لا تتناسب وحجم القوة البريطانية الحقيقية.

ولهذا؛ سيتم السعي لتوضيح ملامح هذه المواجهة البريطانية لروسيا في الحرب الحالية التي يتم شنها، والوقوف على أبرز دوافعها، في إطار السعي لتوضيح مآلاتها وتأثيراتها المستقبلية.

محاور التحرك البريطاني 

أولًا- تقديم الدعم المباشر لأوكرانيا:

على مدار أكثر من مائتي عام، نشأت كل حرب أوروبية شاركت فيها بريطانيا في النصف الشرقي من القارة؛ ولهذا كانت إحدى القواعد الحديدية للتاريخ البريطاني الحديث أن الأزمات العسكرية في أوروبا تأتي دائمًا من هذه الأراضي الشرقية. ولهذا ركّزت الإدارة البريطانية المتعاقبة على دعم وتعزيز تواجدها بهذا الجانب الشرقي للقارة الأوروبية، لهذا الغرض. وبهدف منع أي قوى أوروبية تهيمن على القارة، وهو ما جعلها في أغلب المحطات التاريخية، مناوئة للجانب الروسي. وقامت بذلك في الوقت الحديث إما من خلال الناتو، أو من خلال تعاونها العسكري الثنائي مع تلك الدول الواقعة بشرق أوروبا.

من الناحية العسكرية

بالنسبة لأوكرانيا؛ بعد احتلال شبه جزيرة القرم، أنشأت المملكة المتحدة عملية ORBITAL)) لتعزيز الفاعلية القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية من خلال التدريب المكثف، ابتداءً من عام 2015. وقد ساعد هذا البرنامج في تدريب أكثر من 18000 جندي. بالإضافة إلى ذلك، واصلت المملكة المتحدة تقديم أسلحة ودعم مالي للبنية التحتية الأوكرانية، بما في ذلك حزمة بقيمة 1.25 مليار جنيه إسترليني للمساعدة في تنشيط البحرية الأوكرانية. وفي غضون ذلك، تعاون البلدان من خلال تدريبات مشتركة لقوات من المظلات البريطانية مع القوات البرية الأوكرانية في أوكرانيا.

وفي الوقت ذاته؛ عززت تواجدها من خلال الناتو بدول البلطيق ورمانيا بعد غزو شبه جزيرة القرم. فقادت واحدة من المجموعات القتالية الثلاث التي تأسست في دول البلطيق منذ عام 2017؛ والتي تتمركز في إستونيا حاليًا. وساهمت المملكة المتحدة بأربع طائرات من طراز تايفون إلى رومانيا في مهمة الشرطة الجوية الجنوبية لحلف شمال الأطلسي بين عامي 2017 و2021.

ومنذ بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، تحرّكت المملكة المتحدة بنشاط لتعزيز تواجدها بالمنطقة، ولم تكتف بتركيز مساعداتها على أوكرانيا فقط. فأثناء زيارة إلى الناتو في 10 فبراير، قال رئيس الوزراء البريطاني إن المملكة المتحدة ستضاعف وجودها في إستونيا، وسترسل مقاتلات تايفون التابعة لسلاح الجو الملكي وسفن حربية تابعة للبحرية الملكية إلى قبرص والبحر الأبيض المتوسط. وسترسل وزارة الدفاع البحرية الملكية والمهندسين الملكيين إلى بولندا على أساس ثنائي.

وبنهاية مارس، قدّمت المملكة المتحدة أكثر من 10 آلاف صاروخ سواء من صواريخ (NLAW) المضادة للدبابات، وصواريخ (Starstreak) المضادة للطائرات، والتي ساهمت بشكل كبير في مساعدة المقاتلين الأوكرانيين، بعد صواريخ جافلين الأمريكية. فوفقًا لمجلة “فاينشيال تايمز” كانت قدرة الجيش الأوكراني على استهداف المركبات وتدميرها أكبر، مما تسبب في خسائر فادحة وتأخيرات كبيرة للقوافل المتقدمة، والتي كانت أساسية لإحباط خطة روسيا الأولية للتقدم بسرعة والاستيلاء على المدن الكبرى. وقد كان للاستخدام الواسع النطاق للصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، مثل Javelin الأمريكية الصنع، وNLAWs  المقدمة من المملكة المتحدة، أمرًا بالغ الأهمية لهذه التكتيكات.

وفي لقاء بين وزيري الدفاع الأمريكي والبريطاني في 13 مايو، نجد أن وزير الدفاع البريطاني “بن والاس” أعلن عن تقديم 1.3 مليار جنيه إسترليني كتمويل إضافي للعمليات العسكرية والمساعدات لأوكرانيا، تُضاف إلى 1.5 مليار جنيه إسترليني من الدعم البريطاني الحالي بما في ذلك المساعدات الإنسانية والمنح، وكذلك المعدات العسكرية مثل المركبات المدرعة والصواريخ المضادة للدبابات وأنظمة الدفاع الجوي.

وعلى المنوال نفسه من توقيع الاتفاقات الدفاعية والعسكرية كاتفاقاتها مع فنلندا والسويد الأخيرة، نجد أن المملكة المتحدة قد سبقت هذا التوقيع، في منتصف فبراير الماضي، وقد أعلنت عن تحالف ثلاثي مع بولندا وأوكرانيا، من خلال مذكرات تعاون دفاعية، والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر وفقًا للبيان المشترك الصادر عن وزراء خارجية الدول الثلاث، العمل على مجالات مثل الأمن الإلكتروني، وأمن الطاقة، والتصدي للتضليل الإعلامي. وعلى إثر تلك المذكرة بذلك الوقت، اعتبر “أولكسندر ميريزكو” رئيس لجنة الشئون الخارجية بالبرلمان الأوكراني، أن بولندا والمملكة المتحدة هما الشريكان الاستراتيجيان الأكثر موثوقية لأوكرانيا في الوقت الحالي.

ومن الناحية الإنسانية

وفقًا لتقرير صادر عن مجلس العموم البريطاني بمنتصف مارس الماضي، فإنه من عام 2010 إلى عام 2020، قدّمت المملكة المتحدة ما مجموعه حوالي 173 مليون جنيه إسترليني من المساعدات الثنائية لأوكرانيا. وفي فبراير ومارس 2022، تعهدت المملكة المتحدة بتقديم حوالي 395 مليون جنيه إسترليني لأوكرانيا، ما بين دعم الطاقة، والمساعدات الطبية والضروريات الأخرى للسكان الأوكرانيين واللاجئين في البلدان المجاورة، بالإضافة إلى دعم ميزانية الحكومة الأوكرانية لدعم رواتب القطاع العام والحماية الاجتماعية والخدمات الأساسية. وأعلنت المملكة المتحدة استعدادها لضمان ما يصل إلى 500 مليون دولار في شكل قروض لدعم الاقتصاد الأوكراني.

ثانيًا- العمل على تحجيم النفوذ الروسي:

تحجيم نفوذ الأوليجارشية الروسية

وفقًا لخبير الجرائم المالية “أوليفر بولوغ” تدفّق نحو 68 مليار جنيه إسترليني من روسيا إلى الأراضي البريطانية فيما وراء البحار ومحميات التاج مثل جزر فيرجن البريطانية بين عامي 2008 و2018، ومن المعروف أن تلك المناطق وجهة لتدفق الأموال غير المشروعة. وقالت منظمة الشفافية الدولية التي تكافح الفساد: “إن روسًا متهمين بالفساد أو بعلاقات لهم مع الكرملين، يمتلكون نحو 1.5 مليار جنيه إسترليني (1.8 مليار يورو، ملياري دولار) بشكل عقارات في بريطانيا. بالإضافة لوجود أدلة جوهرية على تعرّض حزب المحافظين للأموال والروابط الروسية منذ سنوات. فقد كان حزب المحافظين أكبر متلقٍّ للمال من المانحين الروس، وفقًا لتحقيق أجرته منظمة الديمقراطية المفتوحة. وعلى الرغم من الدعاية السيئة، رفض المحافظون إعادة الأموال ذات الصلة بالروسية حتى في أعقاب محاولة قتل الجاسوس الروسي “سكريبال” مسممًا بأسلحة كيماوية محرمة دوليًا على الأراضي البريطانية في مارس 2018.

إلا أن التصعيد الروسي تجاه أوكرانيا، والذي انتهى بالغزو، غيّر تلك السياسة البريطانية المتراخية تجاه النخبة الروسية بشدة. ففي 17 فبراير، أعلنت الحكومة الإغلاق الفوري لتأشيرة الفئة 1 (للمستثمرين) أمام المتقدمين الجدد. حيث عرضت التأشيرة سابقًا تصريحًا لمدة تصل إلى خمس سنوات للبقاء في المملكة المتحدة وطريقًا إلى الإقامة الدائمة، مقابل استثمار 2 مليون جنيه إسترليني كحد أدنى. وتم الإعلان كذلك عن مراجعة جميع تأشيرات المستثمرين الممنوحة بين عامي 2008 وأبريل 2015 في عام 2018، وقالت الحكومة إن النتائج ستُنشر “في الوقت المناسب”. ويُعد الروس هم ثاني أكثر الجنسيات شيوعًا التي تُمنح تأشيرات المستثمرين منذ عام 2008، على الرغم من أنهم يمثلون نسبة أقل بكثير من المتقدمين منذ عام 2015.

وقدّمت الحكومة لاحقًا مشروع قانون الجرائم الاقتصادية (الشفافية والإنفاذ) في 1 مارس 2022، وسرّعت مساره من خلال البرلمان، وحصل القانون على الموافقة الملكية في 14 مارس. ويقوم القانون بفرض وضع سجل جديد يطالب الشركات الأجنبية بالكشف عن اسم “المالك المستفيد” من الممتلكات المحتفظ بها في المملكة المتحدة، وسيسمح هذا للمملكة المتحدة على الفور بتعيين الأفراد الخاضعين لعقوبات بالفعل من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاء آخرين.

وأعلنت وزارة الخارجية عن فرض عقوبات على أكثر من 1000 شخص من الأوليجارشية الروسية وأكثر من 100 شركة ذات صلة بروسيا منذ غزو بوتين لأوكرانيا. مما رفع عقوبات المملكة المتحدة على أولئك الذين مكّنوا حرب بوتين إلى أكثر من 500 مليار جنيه إسترليني من الأصول المصرفية و150 مليار جنيه إسترليني من صافي الثروة الشخصية.

توقيع عقوبات واسعة النطاق

كانت المملكة المتحدة من أوائل الدول التي قادت حملة دولية بغرض حصار الجانب الروسي، إلى جانب الولايات المتحدة بالطبع. فكانت من أوائل الدول الداعمة والداعية باستمرار لاستبعاد روسيا من نظام المدفوعات الدولي SWIFT. وهو ما دفع إلى الوصول لإعلان المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا في 26 فبراير بأنه سيتم حذف بعض “البنوك الروسية المختارة” من نظام SWIFT، هذا القرار الذي سينطبق أيضًا على أي شركات تابعة مملوكة بنسبة تزيد على 50٪، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لجهات روسية، ودخل هذا الحظر حيز التنفيذ في 12 مارس 2022، بغرض شل نظام بوتين عن الوصول إلى تمويل حربه على أوكرانيا.

ولم تكتفِ بذلك، بل عمدت للانخراط في حملة عقوبات الغرض منها تأخير النمو الروسي مستقبلًا اقتصاديًا وعسكريًا. ففرضت عقوبات على الجهات المنتمية لقطاع الدفاع الروسي، وحظرت تصدير التقنيات الحيوية مما سيؤدى إلى شل التطور الصناعي العسكري في روسيا لسنوات قادمة. كما منعت الطائرات الروسية عن الطيران أو الهبوط في المملكة المتحدة وحظرت سفنها من موانئنا، مما أدى إلى عزل روسيا عن المجتمع الدولي.

وقد كرّر رئيس الوزراء دعوته لحظر استيراد النفط والغاز الروسي، باعتبار أن هذا القطاع هو الممول الأكبر للميزانية الروسية. وفي 8 مارس، أعلن رئيس الوزراء أن المملكة المتحدة ستوقف واردات النفط الروسية تدريجيًا بحلول نهاية عام 2022. إلا أن هذا الحظر يعتبر رمزيًا إلى حد ما نظرًا للاعتماد البريطاني الضئيل على النفط الروسي، فوفق تصريح وزير الدولة للأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية ” كواسي كوارتنج” فإن المعروض الروسي من النفط يُشكل 4٪ من المعروض في المملكة المتحدة فقط. إلا أن هذا لا يعني عدم معاناة المملكة المتحدة من هذا القرار، نظرًا لزيادة الضغط على الجهات الموردة الأخرى للمملكة المتحدة كالنرويج وقطر وغيرهم، لتغطية جزء من الاستيراد الذي يتم وفقه من روسيا، وبهذا فلن تستطيع المملكة المتحدة تغطية احتياجاتها بسهولة، بل إن هذا سيأتي بتكلفة كبيرة على الميزانية البريطانية.

ثالثًا- استقبال اللاجئين الأوكرانيين:

يُعد هذا البند هو الأضعف في استجابة المملكة المتحدة، مقارنة باستجابة الاتحاد الأوروبي لأزمة اللاجئين الأوكرانيين. حيث لجأ الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل آلية الطوارئ المسماة “الحماية المؤقتة” لأول مرة، والتي أُنشئت في عام 2001 في أعقاب النزاعات التي حدثت خلال التسعينيات في البلقان. وتوفر آلية الطوارئ “الحماية المؤقتة” للأشخاص النازحين نفس الحقوق في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك حقوق الإقامة لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، والتوظيف، والإسكان، والمساعدة الطبية، والوصول إلى التعليم للأطفال. وقد اقترحت المفوضية الأوروبية تفعيل الحماية المؤقتة في 27 فبراير. وفي 4 مارس، صوت المجلس الأوروبي بالإجماع لتنفيذها، مع اقتراح بالتمديد حال اقتضت الحاجة لذلك.

وتأتي هذه الاستجابة على العكس تمامًا من استجابة المملكة المتحدة. فكان رد فعل حكومة المملكة المتحدة الأول هو توجيه الأوكرانيين إلى طرق الهجرة التقليدية، مثل مخطط العمال الموسمي والتأشيرات العائلية لمن لديهم أفراد عائلات موجودون بالفعل في المملكة المتحدة. ولكن بعد ضغوط على الحكومة من المجتمع والمعارضة، تم وضع سبل أخرى لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين.

أولها، تأشيرة مخطط الأسرة الأوكرانية الجديدة لأفراد أسر الرعايا البريطانيين، أو أولئك الأوكرانيين الذين لديهم وضع مستقر في المملكة المتحدة، أو ممن لديهم الإقامة الدائمة، أو أولئك الذين يتمتعون بوضع اللاجئ أو الحماية الإنسانية من الأوكرانيين. وتعّهد رئيس الوزراء “بوريس جونسون” بالسماح لـ 200000 لاجئ أوكراني بالقدوم إلى المملكة المتحدة بموجب المخطط.

وثانيها، مسار الرعاية الإنسانية. بموجب هذا المخطط، ستكون الكنائس والسلطات المحلية والمنظمات المجتمعية قادرة على رعاية الأوكرانيين وإقرانهم بعائلة في المملكة المتحدة، بغض النظر عما إذا كانت لديهم روابط سابقة بالمملكة المتحدة. وعليه، أعلنت حكومة المملكة المتحدة أنها ستقدم للبريطانيين الذين يفتحون بيوتهم أمام اللاجئين الأوكرانيين الفارّين من الغزو الروسي لبلادهم، مبلغ “شكر” مقداره 350 جنيهًا إسترلينيًا (455 دولارًا أمريكيًا) كل شهر. وسيتعيّن على الأشخاص الذين يرعون اللاجئين، بموجب هذا المسار الجديد الذي لم يتم وضع إطار محدد له بعد، أن يلتزموا بالمخطط لفترة زمنية لا تقل عن 6 أشهر، لكن يتم تشجيعهم على مواصلة الاستفادة من هذا العرض لأطول فترة ممكنة.

إلا أن هذين المسارين، لم يترتب عليهما استقبال المملكة المتحدة لأعداد كبيرة من اللاجئين الأوكرانيين التي تجاوزوا الملايين على سبيل المثال بدولة مثل بولندا. فحتى 17 مايو، أعلنت وزارة الداخلية عن إصدار 107.400 تأشيرة، من أصل 128.100 طلب. واعتبارًا من 16 مايو، وصل 53800 من حاملي التأشيرات إلى المملكة المتحدة فقط.

دوافع التصعيد البريطاني 

تتنوع الدوافع البريطانية بخصوص موقفها التصعيدي من روسيا على خلفية غزوها لأوكرانيا، ما بين دوافع راسخة لدى الحكومات البريطانية المتعاقبة، أو دوافع متعلقة بالداخل البريطاني، وأبرز تلك الدوافع هو التالي:

التوجس المتوارث:

وفقًا لتقرير صادر عن مركزي “تشاتام هاوس” و”المعهد الملكي للشئون الدولية” البريطانيين. تتوافق الطبيعة العدائية للعلاقة بين المملكة المتحدة وروسيا منذ عام 2000 مع النمط التاريخي الأطول. فقد لاحظ سفير بريطاني سابق لدى الاتحاد السوفيتي “أنه في بعض نقاط التحول في التاريخ الأوروبي وجدت البلدان نفسها في تحالف، ولكن كانت هناك فترات طويلة من الاحتكاك المنخفض المستوى، والنفور المتبادل والعداء في بعض الأحيان”. وبالرغم من أن المواجهة بينهم ليست حتمية دومًا، لكن هذا الإرث التاريخي يعني أن صانعي السياسة في المملكة المتحدة وروسيا ينظرون إلى بعضهم بعضًا بحذر وشك.

وأرجع التقرير تعقّد العلاقات كذلك إلى وجهات نظر الطرفين المتعجرفة عن أنفسهما، وفقًا لتعبيره. فبالنسبة للقادة في موسكو، تعتبر روسيا قوة عظمى إلى جانب الولايات المتحدة والصين في عالم “متعدد الأقطاب” أو “متعدد المراكز”. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى المملكة المتحدة على أنها قوة من المستوى الثاني لا تعامل روسيا بالاحترام الواجب. ومن لندن، تُعد روسيا هي قوة كبيرة، ولكنها خطرة وأقل تأثيرًا مما تعتقد عن نفسها.

ووفقًا لدورة التقارب والصدام المتقلبة بين الطرفين، فقد بدأت دورة جديدة من التدهور منذ عام 2006 بعد اغتيال الجاسوس الروسي السابق “ألكسندر ليتفينينكو” في لندن ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وساهم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 في دفع العلاقات نحو الأسوأ، وجاء تسمم جاسوس سابق آخر “سيرجي سكريبال” في مارس 2018 في ساليسبري وطرد 153 “دبلوماسيًا” روسيًا كخاتمة لنهاية أي أمل في عودة العلاقات لطبيعتها.

ولهذا فإن الأهمية الجيوستراتيجية لأوكرانيا مدفوعة لحد كبير بهذا العداء لروسيا. ويرجع ذلك إلى أن روسيا مصنفة في المراجعة المتكاملة على أنها “التهديد المباشر الأكثر حدة” للمملكة المتحدة، وكذلك لحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظرًا لوقوعها على الحدود الشرقية للناتو في أوروبا. بالإضافة لاعتبار المملكة المتحدة أوكرانيا كحصن جيوسياسي قادر على دحر النفوذ الروسي وحائط صد عن الاشتباك بين الناتو وروسيا بشكل مباشر.

التشويش على أزمة “بارتي جيت”:

يواجه رئيس الوزراء “بوريس جونسون” منذ مطلع العام الحالي تداعيات ما سمُي بفضيحة الحفلات “بارتي جيت”، والتي أطلق على إثرها تحقيق من قبل المسئولة الحكومية “سو جراي”، وانتهى يوم 25 مايو بتحميل رئيس الوزراء مسئولية إشرافه وتساهله مع ثقافة عمل، أقيمت على إثرها حفلات خرقت قواعد الإغلاق الرامية لمكافحة كوفيد، وتخلل أحدها عراك بين موظفين ثملين، وفق التحقيق. وكان “جونسون” من بين عشرات الأشخاص في داونينج ستريت الذين فرضت الشرطة غرامات عليهم لخرقهم قواعد كوفيد منذ عام 2020 و2021.

إلا أنه وقبل تزايد تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بشهر مارس الماضي، فإن رئيس الوزراء “بوريس جونسون” أوشك على أن يواجه غضبًا كاد يطيح بحكومته بشأن فضيحة “بارتي جيت”، فكان على بعد خطوات من إجراء تصويت لسحب الثقة منه بعد أن اتهمه نواب وقادة المعارضة بأنه مخترق للقواعد وكاذب وغير لائق للبقاء في الحكومة. إلا أن الحرب قلبت الوضع لصالح رئيس الوزراء حينها، وشبّه مراقبون حينها الوضع بما حدث لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة “مارغريت تاتشر”، إذ استطاعت قلب استطلاعات الرأي لصالحها وتعزيز حكومتها عام 1982 من خلال خوض حرب مع الأرجنتين بشأن السيادة على جزر فوكلاند.

فبعد حملته المحمومة ضد الرئيس “بوتين” وتواصله شبه اليومي مع الرئيس الأوكراني “زيلنيسكي” بهدف الدعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وغيرها من تحركات أشرف عليها لاحتواء الجانب الروسي، وتحجيم قوته، والذي ترتب عليه أن الساسة البريطانيين من الأحزاب المختلفة أبدوا تضامنًا مع “جونسون” في مواجهته روسيا. وعندما سُئل حينها عما إذا كان لا يزال يعتقد أن “جونسون” يجب أن يرحل، قال زعيم حزب العمال المعارض السير كير ستارمر: “في الوقت الحالي، من الواضح أن رئيس الوزراء يركز على الوظيفة التي يتوجب عليه القيام بها، ونحن نقف متحدين مثل المملكة المتحدة في هذه القضية”. وأدت الحرب كذلك إلى سحب “دوغلاس روس” زعيم حزب المحافظين الأسكتلندي، رسالته التي دعا فيها رئيس الوزراء إلى الاستقالة. وأوضح “أنه في ظل حدوث أزمة دولية، فإنه ليس الوقت المناسب لمناقشة الاستقالات، إلا إذا تم عزل فلاديمير بوتين من منصبه”.

ولكن هل ستظل الحرب الروسية-الأوكرانية حائط صد لفترة طويلة لرئيس الوزراء في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة بالمملكة المتحدة بسبب تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد، وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية؟. يبقى هذا التساؤل محل شك؛ وبخاصة أنه قد نجا بمشقة من إجراء سحب للثقة في 7 يونيو الجاري، بعد أن دعم 211 من نواب حزب المحافظين بقاء “جونسون”، مقابل 148 نائبًا طالبوا بتنحيه. وهو ما سيخلق صعوبات أمام الحزب في الانتخابات التشريعية القادمة، ولهذا ما لم يقم “جونسون” بخطة دعم للشعب البريطاني تخفف عنه وطأة الضغوط الاقتصادية الخانقة حاليًا.

وقد ظهرت إرهاصات هذا الدعم بتقديم الحكومة البريطانية حزمة جديدة بـ 15 مليار جنيه إسترليني لدعم الأسر. وتلا خطابه الذي أعلن فيه مسئوليته عن نتائج التحقيق، إعلانه عن التحضير لخطة مساعدة جديدة سيتم الإعلان عنها خلال الأسابيع المقبلة، حيث ستتبنى فيها الحكومة إصلاحات لمساعدة الناس على الحد من التكاليف في كل مجالات الإنفاق المنزلي، من الغذاء إلى الطاقة ورعاية الأطفال والنقل والسكن. وأشار أيضًا بيان صادر عن داونينج ستريت إلى أن “جونسون” سيعلن كذلك مساعدة جديدة تهدف إلى تشجيع البريطانيين على أن يصبحوا مالكين، وهو موضوع من شأنه اجتذاب الناخبين المحافظين التقليديين. وبهذا ما لم تؤت تلك الخطط ثمارها، فإن حزب المحافظين بقيادة “جونسون” سيكون مهددًا وبقوة الانتخابات التشريعية القادمة في 2024.

تعزيز التحالف عبر الأطلسي:

أتت الحرب الروسية الأوكرانية في ظل وقت كانت تواجه العلاقات الأمريكية البريطانية بعض الضغط، بسبب الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان بأغسطس الماضي دون تنسيق مع حلفائها، وبخاصة المملكة المتحدة، صاحبة عدد الضحايا الأكبر بأفغانستان بعد القوات الأمريكية. وترتب على إثر تلك الأزمة؛ الإطاحة بوزير الخارجية “دومينيك راب” من منصبه في 15 سبتمبر 2021. وقبلها انتقد رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس العموم “توم توجندهات” حكومة المملكة “لفشلها الذريع” بشأن أفغانستان؛ قائلا إن المملكة المتحدة “غير قادرة على الاحتفاظ بخط منفصل إلى الولايات المتحدة”.

ولم يكن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فقط، عامل الضغط الأوحد على العلاقات بين البلدين. بل مسار التشدد التي اتخذته الإدارة الأمريكية من نظيرتها البريطانية بسبب البريكست وبرتوكول أيرلندا الشمالية، بعكس الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس “ترامب”، وهو ما أنبأ بتراجع أهمية الحليف البريطاني للولايات المتحدة، وسعي الإدارة الجديدة للاعتماد على القوى الأوروبية الأخرى كألمانيا أو فرنسا، بشكل أكبر، بغرض تنويع تحالفاتها، وتقليل الاعتماد الكبير على الدور البريطاني في أوروبا.

إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا أتى ليُرجع العلاقات بين البلدين لزخمها المعتاد. فلاحظنا منذ ما قبل الغزو الروسي، التنسيق بين المخابرات الأمريكية والبريطانية في إطلاق التقارير التي توضح استعداد روسيا لغزو أوكرانيا، مخالفين بذلك تصريحات القوى الأوروبية الأخرى، وعلى رأسها فرنسا. وبعد الغزو، لم تتوقف عملية التنسيق، فعمل الطرفان على قيادة حملة دولية، لدعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا. وبالوقت ذاته، الضغط من أجل توقيع حملة عقوبات واسعة النطاق ضد روسيا.

ولم يتوقف التنسيق عند حدود الحرب الروسية الأوكرانية. فأثناء ما كانت روسيا تُمطر أوكرانيا بضرباتها، ويعمل الغرب على تقديم دعمه لصد تلك الضربات. أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في بداية شهر إبريل، أنها ستتعاون لتطوير أسلحة فرط صوتية و”إمكانات حربية إلكترونية”. وأوضحت الدول الثلاث، في بيان مشترك، أن هذا التعاون يندرج في إطار تحالف “أوكوس” الثلاثي الجديد، الهادف إلى مواجهة الصين. غير الإجراءات التي اتخذها البلدان بالفترة الأخيرة، لتعزيز وجودهما بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي، سواء بزيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة لليابان وكوريا الجنوبية، أو بتوقيع رئيس الوزراء “بوريس جونسون” لاتفاق دفاعي واسع النطاق مع الهند، وهو ما يعني بالتبعية مزيدًا من تعميق العلاقات بين البلدين.

ختامًا، إن الحرب الروسية الأوكرانية قد أتت لتعميق مسارات كان بعض إرهاصاتها موجودًا، كالعداء بين المملكة المتحدة وروسيا. وأرجعت الزخم لمسارات كان الاهتمام بها يقلّ لعدد من العوامل، مثل العلاقات بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وكذلك العلاقة بين لندن وبروكسل، التي واجهت عراقيل كبرى بسبب البريكست؛ إلا أن التزام المملكة المتحدة بالأمن الأوروبي، وانخراطها في دعم دول أوروبا الشرقية، أعاد بعض تلك الثقة المفقودة. غير أن استمرار الحرب وما يتبعه من زيادة التكاليف المعيشية على المواطنين البريطانيين، لا ينبئ إلى أي مدى ستتغير تراكيب السياسة الداخلية البريطانية للتواؤم مع تلك التداعيات.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19778/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M