فريدمان: تطور مفهوم القوى العظمى

 عادل رفيق

 

نشر مركز جيوبوليتيكال فيوتشرز الأمريكي في 21 يونيه 2022 مقالا لجورج فريدمان، الخبير في الشؤون الدولية ومؤسس المركز، بعنوان: “تطور القوى العظمى”، تناول فيه تطور مفهوم القوى العظمى، التي من أهم عناصرها القوة العسكرية، حيث انتهى إلى أنه بحسب المفهوم الجديد للقوة العسكرية غير التقليدية، فـ “بإمكان الدول الصغيرة أن تصبح قوى عظمى، وأن تكون حاسمة وخطيرة” أيضاً. وقد جاء مقال جورج فريدمان على النحو التالي:

يُعد تطور القوة العسكرية أحد أهم التغيرات الجيوسياسية التي تحدث في العالم اليوم، مهما حاول البعض التقليل من شأنها. وقد كانت القوة العسكرية طوال القرن العشرين محصورة فقط في الدول الكبيرة. حيث كانت الآلات والمعدات العسكرية تُحكم سيطرتها على ساحة المعركة، وهو ما تطلّب بالضرورة إنتاج هذه الآلات وتوفير المواد التي تغذيها والذخائر التي تستخدمها من خلال إنشاء المصانع المعقدة واستهلاك كميات هائلة من المواد الخام.

وقد كان هذا بدوره يتطلب تشغيل أعداد كبيرة من الأيدي العاملة – وبالتالي توفير السكن والطعام الذي يحتاجه هؤلاء العمال للقيام بوظيفتهم. ومن أجل إنتاج أعداد كبيرة من السفن والطائرات والدبابات وجميع أنواع العتاد في زمن الحرب كان يقتضي وجود اقتصاد ضخم يتناسب مع تلك المتطلبات، بالإضافة إلى توفير الضروريات الأساسية للحياة، والحفاظ على الروح المعنوية الوطنية، كما ينبغي أن يقوم به الاقتصاد بطبيعة الحال خارج زمن الحرب.

لقد ظلت ساحات القتال هي الثقوب السوداء لاستهلاك الموارد. فرغم أنه بإمكان أي دولة أن تصنع الطائرات أو الدبابات أو ترسل محاربين ليلقوا حتفهم في ساحات القتال، إلا أن من ينتصر في الحروب هو من يمكنه صناعة أعداد هائلة من الطائرات والدبابات، حتى يستطيع استبدال تلك الطائرات والدبابات التي دمرها العدو بأخرى جديدة واستكمال القتال – ناهيك عن تجديد التدفق البشري للجيوش باستمرار، لتغطية النقص في عدد القوات كنتيجة للخسائر في الأرواح من الجنود الذين يلقون حتفهم على جبهات القتال.

أما الدول الصغيرة فلم تكن تستطيع الدخول في حرب طاحنة ممتدة لأنها ببساطة تفتقر إلى الموارد اللازمة للقيام بذلك.

وبناء على ذلك، فقد كان تعريف القوة العظمى أنها دولة تتمتع بتعداد سكاني كبير وتمتلك نظاماً زراعياً يضمن إمدادها بالغذاء إبان الحروب، بالإضافة إلى حيازتها للموارد المعدنية التي تمكنها من تسليح قواتها.

إن مفتاح القوة العسكرية هو حجم السكان التي تتمتع به، ووفرة الموارد التي تمتلكها، حيث يمكنها ذلك من تعويض ما قد يُلحِقه العدو بتلك القوة من خسائر بشرية وأضرار مادية أثناء القتال. ومن الناحية المثالية، فينبغي أيضاً أن تمتد ساحات القتال لتغطي مساحات شاسعة، مع انتشار الموارد وتوزعها في تلك المساحات، بحيث لا يعني انتصار العدو في منطقة ما انتصاراً في جميع المناطق.

وبنفس القدر من الأهمية، فدائما ما كانت الدول الناجحة في زمن الحرب بحاجة إلى توفر الخبرات الفنية. حيث كانت الحاجة إلى التخطيط وتصميم وبناء الطائرات والسفن الحربية والدبابات، وكانت تلك التصميمات بحاجة إلى تحديث مستمر، استجابة للتطورات التقنية للعدو. وهذا يعني ضرورة أن يكون لدى القوى العظمى آنذاك أعداد كبيرة من الفنيين النادرين بطبيعة الحال.

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي – بعد نهاية الحرب العالمية الثانية – هما الدولتان الوحيدتان اللتان كانت لديهما القدرة على شن الحرب كقوى عظمى (ثم انضمت إليهما الصين لاحقاً).

وقبل اندلاع تلك الحرب، كان من الممكن اعتبار قوى أصغر حجماً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة أو فرنسا أو اليابان، قوى عظمى أيضاً؛ ولكن انتهى بهم الحال إلى أنهم إما خسروا في الحرب، أو كانوا مجرد جزء من أحد التحالفات.

تطور تكنولوجيا الدفاع

في السنوات اللاحقة على ذلك، حدث تطور كبير في تكنولوجيا الدفاع.

ففي السابق، كان يلزَم إحضار دبابة تزن 40 طناً على مسافة 2,000 ميل لإيصال حوالي 40 أو 50 رطلاً من المتفجرات إلى مواقع العدو. ويُذكر أن أول هجوم لقاذفة القنابل البريطانية كان غير دقيق، لدرجة أن الألمان لم يتمكنوا أن يعرفوا الأهداف التي كان يصوب عليها البريطانيون.

لم يكن بإمكان السفن أن ترى أبعد من حد الأفق، حيث يمكن أن يكون أسطول العدو متربصاً. وكان لابد من إطلاق طائرات خاصة لرؤية عمق العدو. ومن المفارقات في ذلك، أنه كلما كان النظام الذي تستخدمه أكثر بدائية، كلما زادت الموارد المطلوبة للحفاظ عليه. وكلما زاد الوعي والدراية بنطاق استهداف هذا النظام، وزادت دقة التوجيه فيه، كلما انخفض معدل استنزاف الموارد.

وعلى سبيل المثال، فالقمر الصناعي يمكنه توفير معلومات هامة عن مواقع العدو، ويمكن أن تقوم أنظمة التوجيه الداخلية الآلية للذخائر بتوجيه الضربات بدقة شديدة. كما أن هناك أيضاً أطوار جديدة من الأقمار الصناعية التي ظهرت حديثاً. ونتيجة لهذه الدقة، فإن القوات تحتاج إلى عدد أقل من الذخيرة. وفي نفس الوقت، ينتقل تركيز القوى البشرية من ساحة المعركة النشطة إلى إدارة الذكاء واستحداث التقنيات بسرعة شديدة.

وبذلك لم تعد الحرب تتطلب عدداً هائلاً من السكان، كما أنها لا تتطلب استهلاكاً هائلاً للمواد الخام.

وبالطبع، فإن لهذا الوضع عواقب جيوسياسية كبيرة. إذ تستطيع الدول الصغيرة، وحتى الصغيرة جداً، أن تشن حرباً ما، لا سيما ضد الجيوش النظامية من الطراز القديم التي تفتقر إلى الدقة ومدى الاستهداف الواسع الذي تتمتع به الفئات الجديدة من تلك الدول. فقد تحولت هذه الدول الصغيرة من الاعتماد على العمق إلى الاعتماد على الوقت. وكلما زادت مساحة الدولة، زادت بالتبعية المناطق التي يجب أن تنتشر فيها وتوزع فيها قدراتها العسكرية.

وطبقاً للنموذج الناشئ للحرب، فكلما زاد الوقت المتاح لك للرد على الأخطار المحيطة، كلما زادت الفاعلية في الأداء. إنه ليس تطوراً واحداً بقدر ما هو مجموعة من التطورات، من الاستخبارات الفضائية إلى الأسلحة الموجهة ذاتياً بعيدة المدى إلى الأنظمة الآلية المضادة للصواريخ.

ويمكننا أن نرى هذا التطور بوضوح تام، على سبيل المثال، في إسرائيل.

حيث تأسس الجيش الإسرائيلي في البداية معتمداً على أسلحة فرنسية ثم أسلحة أمريكية، ولكنه أصبح يمتلك الآن قدرات محلية يمكنه (من المفارقات العجيبة) بيعها للآخرين. وهذه القدرات مصمَّمة على قاعدة أن تعريض القوات للخطر هو أمر ممكن حدوثه، لكنه لابد أن يكون نادر الحدوث؛ خصوصاً في ظل استخدام القوة غير المأهولة كعنصر مهيمن في إستراتيجية الحرب الجديدة.

وعلى الرغم من أن إسرائيل قد وصلت إلى أبعد نقطة في هذه الاستراتيجية، إلا أنه يمكن رؤية مثل هذه الاستراتيجيات أيضاً في أماكن أخرى من العالم، على سبيل المثال في الإمارات وسنغافورة. ونتيجة لذلك، فإن كلاً منهم يمتلك سلطة سياسية دولية قد تتجاوز بكثير ما كان متوقعاً لهم خلال الحقبة السابقة.

وتُمكّن التقنيات الجديدة القوى الصغيرة من الدخول في نطاق قوى أكبر بكثير. ويمثل التقنيون أهم العناصر في هذه القوات، حيث يحافظون على الأنظمة البرمجية ويقومون بترقيتها – وهم جزء بسيط فقط من القوى البشرية التي يتحدث عنها التعريف القديم للقوى العظمى.

وبالطبع، لا تزال الجيوش المأهولة لا غنى عنها في الحروب. لكن التحول إلى أسلوب فكري جديد لاستراتيجيات الحروب يجري في الحقيقة على قدم وساق.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تمتلك قدراً مذهلاً من النفوذ الإقليمي، إلا أن تقنيتها لا تستطيع الدفاع عنها بشكل كامل ضد قوات هائلة لقوة عظمى في الحقبة الماضية.

إن المحافظة على ثقافة واحدة في الوقت الذي تتخلق فيه ثقافات جديدة هو ما يثير الأزمات بين مختلف الثقافات – كما هو الأمر في حدود الميزانيات.

ورغم أن التكنولوجيا الجديدة جيدة وجاهزة للتشغيل، لكنها في حد ذاتها لم تثبت جدارتها بعد. ومع ذلك، فإن التطوير يجري على قدم وساق، وهذا يعني أن تعريف القوة العظمى يجب أن يتغير.

لقد توقعت روسيا هزيمة أوكرانيا باستخدام أسلحة قديمة. ولكن هذا لم يحدث، على الأقل حتى الآن.

على روسيا أن تطور جيشها. وكذلك ستفعل القوى العظمى الأخرى إذا أرادت أن يكون لها بالفعل قوى فاعلة على الأرض. لا يوجد أي سبب وجيه لعدم تمكنهم من تحقيق هذا التطور، لكن حجم القوات لم يعد أمراً حاسماً في الحروب. وبحسب المفهوم الجديد للقوة العسكرية، فبإمكان الدول الصغيرة أن تصبح قوى عظمى، وأن تكون حاسمة وخطيرة.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%81%d8%b1%d9%8a%d8%af%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d8%b7%d9%88%d8%b1-%d9%85%d9%81%d9%87%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b8%d9%85%d9%89/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M