هل تستأنف دولة جنوب السودان العمل في مشروع قناة جونجلي ؟

اعداد : السفير بلال المصري – المركز الديمقراطي العربي

 

نشر موقع Yale Enviroment360 في 28 يونيو مقالاً مُسهباً بقلم  FRED PEARCE وهو صحفي له مؤلفات عن قضايا المناخ ومقاله هذا بعنوان ” هل سيؤدي مشروع قناة النيل إلى تجفيف أكبر الأراضي الرطبة في إفريقيا ؟ ويقصد بالأراضي الرطبة منطقة السدود بجنوب السودان التي تهطل عليها أمطار كثيفة وهي منطقة بها حياة برية متنوعة وكبيرة وبها مستنقعات كثيرة , وكشفت المقالة النقاب عن أن جنوب السودان يمضي قدمًا في خطط إنشاء قناة (إستئناف العمل بقناة جونجلي) بطول 240 ميلًا لتحويل المياه من النيل الأبيض أحد الفرعين الرئيسيين لنهر النيل وإرسالها إلى مصر , لكنه أشار إلي أن النقاد يحذرون من أن المشروع الضخم سوف يجفف ثاني أكبر أراض رطبة في العالم ، مما يؤثر على الحياة البرية الغنية بها والأمطار التي تعتمد عليها المنطقة وبها عدد لا يحصى من القنوات الخلفية التي غالبًا ما تكون مغطاة بالنباتات العائمة التي تحتل أكبر أراضٍ رطبة بالمياه العذبة في إفريقيا بشكل دائم ما يقرب من 3500 ميل مربع في منطقة جافة في جنوب السودان وتتسبب في حدوث فيضانات تصل إلى 10 مرات أكثر في موسم الأمطار , وأشار الكاتب إلي إحياء هذا المشروع الهندسي الضخم المشؤوم ونصف المكتمل من شأنه تحويل نهر النيل بعيدًا عن الأراضي الرطبة وتقصير طريقه شمالًا إلى البحر الأبيض المتوسط , وأن الوزراء في حكومة جنوب السودان يأملون في أن تقلل القناة أيضًا من الفيضانات حول المستنقع ، والتي أجبرت مئات الآلاف من الأشخاص على الفرار من منازلهم العام الماضي , ومع ذلك وكما يقول السيد FRED PEARCE تحارب وزارة البيئة في جنوب السودان تحارب بصفة مُستترة ضد القناة فأعلنت في يونيو2022 أنها “لن توافق على استئناف أو استكمال القناة بسبب خدمات النظام البيئي التي توفرها Sudd لأمتنا والمنطقة والعالم” , ويُذكر في هذا الشأن أن مستنقع Sudd يُحافظ على واحدة من أكبر هجرات الثدييات في العالم حيث يتحرك 1.3 مليون من الظباء الذين يتحركون عبر الأراضي العشبية حتي منطقة جامبيلا في إثيوبيا المجاورة , وأن دعاة الحفاظ على البيئة يقولون إن الخسارة الجزئية للقناة ستكون كارثة بيئية حيث سيتم تجفيف ثاني أكبر مستنقع في العالم وإنهاء الفيضانات الموسمية للمراعي المحيطة والتي تشكل أكبر منطقة سليمة من السافانا في إفريقيا , و يقول علماء الهيدرولوجيا إنه في حين أن قطع التبخر من المستنقع قد يوفر المياه لمصر ، فإنه سيقلل من هطول الأمطار على المزارع والغابات المطيرة في جميع أنحاء جنوب السودان والبلدان المجاورة , وفي الآونة الأخيرة تبنى العديد من البدو السابقين بالمنطقة أنماط حياة أكثر استقرارًا في منازل مبنية في أماكن معرضة للتقلبات بمنطقة السد  , فقداضطر ما يصل إلى نصف مليون شخص إلى مغادرة منازلهم عام 2021 بسبب التدفقات العالية لنهر النيل ما أدي لاحتقان المستنقعات , لذلك تعالت الدعوات كانت في الحكومة لترويض الفيضانات وتسخير مياه الأمطار بمنطقة السد من أجل التنمية الاقتصادية .

هذه الرؤية المواتية لمصر بشأن إستناف العمل في مشروع قناة جونجلي سبق وأن أشارت إليها وزارة الري المصرية في إحدي نشراتها بتاريخ أغسطس 1999وورد فيها ” أن وزارة الأشغال العامة والموارد المائية تتوقع زيادة كمية المياه المتاحة بين عامي 1990 و2017 من خلال تنفيذ مشروعات أعالي النيل مثل قناة جونجلي حيث أنها ستوفر لمصر سنويا 2 مليار متر مكعب ” , وقد عبرعن هذا الموقف الجديد لحكومة جنوب السودان إزاء إستئناف العمل في إستكمال حقر قناة جونجلي وزير المياه آنذاك Manawa Peter Gatkuoth في عرضه للموضوع على مجلس الوزراء في ديسمبر 2021 – والذي اطلع  عليه FRED PEARCE Yale Environment 360 – ،فقال الوزير أن القناة يمكن أن توفر المياه لري ما يصل إلى 7.5 مليون فدان بمنطقة السدود وهي منطقة بحجم ولاية Maryland  الأمريكية وقال أن “ترقية النهر ستنمي قطاعات النقل والسياحة والتجارة والصناعة والتنمية الاجتماعية “، وتؤدي إلي تحسين الأمن الغذائي للبلاد إضافة إلي زراعة محاصيل التصدير وتنمية المزارع السمكية (توفي Gatkuoth   فجأة بسبب مرض في القلب في 19 يونيو) بالإضافة إلي Manawa Peter Gatkuoth وفي فبراير 2022 أصبح نائب رئيس جنوب السودان للبنية التحتية  Taban Deng Gai ، والذي جاء من منطقة تعرضت للفيضانات الأخيرة أول وزير يدعو علنًا إلى استكمال القناة وقال “حتى لا تغمر أرضنا الفيضانات ، دعونا نسمح لهذه المياه بالتدفق لمن يحتاجونها في مصر” , ويُشير مُؤيدي القناة إلى أن منطقة المُستنقعات لن تجف تماماً ، بل ستتقلص فحسب , ومع ذلك ، كم هو أمر غير مؤكد فالتقديرات عن هذا الجفاف تتراوح من 7 % إلى 40 %  وفقاً لما اقترحته مريم علام من معهد MIT  وجامعة القاهرة , كما أن تجفيف السدود سيطلق غازات الدفيئة التي تحتويها المستنقعات وتُقدر بنحو 6200 ميل مربع من النباتات المتفحمة تحتوي على أكثر من 10 أضعاف كمية الكربون التي تحتويها مساحة مكافئة للغابات المطيرة , ويمكن إطلاق الكثير منها إذا اكتملت القناة , كما كان لعلماء الهيدرولوجيا أيضاً وجهة نظر ترد علي مؤيدي ومعارضي المشروع فتشير إلي أن الفرضية المركزية لمشروع القناة وهي أنه يمكن أن يوفر المياه عن طريق تقليل “خسارة” التبخر في السدود  مضللة فيقولون أن الماء المتبخر لا يضيع إنه يرطب الهواء ويعمل علي هطول الأمطار في اتجاه الريح مما يحافظ على الغابات والمحاصيل  .

معارضة قطاع من الجنوبيين لإستئناف المشروع ؟

في مُقابل المؤيدين لإسئناف العمل بمشروع قناة جونجلي , هناك كذلك المعارضين له , فقد قام تحالف فضفاض من أعضاء الهيئة التشريعية الوطنية والأكاديميين والمسؤولين الحكوميين والمنظمات غير الحكومية المهتمين بالبيئة في جنوب السودان لمقاومة مواصلة المشروع وشكلوا حملة Save The Sudd منهم نائب رئيس جامعة جوبا John Akec , وفي أبريل 2022 عرض Akec لعريضة تهدف إلى الحصول على 100000 توقيع لتقديمها إلى رئيس البلاد يقول Akec إنه كان من بين الطلاب قبل نصف قرن الذين احتجوا على مشروع حفر قناة جونجلي والتي وصفها بقوله أنها “لديها القدرة على استنزاف وتدمير النظام البيئي لمنطقة Sudd مع عواقب وخيمة على التنوع البيولوجي لهذه المنطقة  وسبل العيش والثقافة والدورة المائية” , كذلك يوافق Jacob Lupai  الأستاذ المشارك في الأمن الغذائي في نفس جامعة Akec  ويقول: “ستؤدي القناة إلى الاختفاء التام للعديد من البحيرات … وتحول البحيرات الأخرى إلى بحيرات موسمية مع خسارة كبيرة للأسماك على مدار العام”. إلى جانب آثارها البيئية ، ستجفف القناة الأراضي العشبية التي يعتبر فيضانها السنوي “موردًا موسميًا أساسيًا خلال الأشهر الأكثر جفافاً في العام” , وكتب Lupai في صحيفة  Sudan Post في أبريل2022 يقول :  : “لم يخض جنوب السودان حربين مكلفتين ومدمرتين … لمجرد أن يكون في الطرف المتلقي للمشاريع المفترسة التي فرضها الغرباء والسماح بنهب موارده الطبيعية الثمينة” , ووصف Joshua Dau Diu عضو مجلس حكماء  Jieng- وهي مجموعة من سياسيي الدينكا البارزين – مشاريع التنمية التي تقول وزارة المياه إنها يمكن أن تكون ممكنة من خلال القناة  بأنها :”خيالية ومضللة , كذلك وجدت دراسة نمذجة هيدرولوجية مفصلة نُشرت في عام 2010 من قبل Ruud van der Ent  من جامعة Delft للتكنولوجيا أن نصف هطول الأمطار المحلية على الأقل يتغذى في نهاية المطاف عن طريق التبخر من الأرض , ويقول John Akec من جامعة جوبا إن المياه التي تتبخر من المستنقعات وتنتقل جنوباً بفعل الرياح هي المسؤولة عن الحفاظ على “الحزام الأخضر” عبر معظم جنوب السودان وإلى جمهورية الكونجو الديمقراطية وأوغندا المجاورتين , يقول إن تقليص الفجور يمكن أن يقضي على الأمطار طوال العام في جميع أنحاء هذه المنطقة  , وفي الوقت الحالي تقف وزارة البيئة إلى جانب المعارضين للمشروع وفي ظل الخلاف بين الوزارات المختلفة دعا Salva Kiir Mayardit رئيس جنوب السودان خبراء أجانب إلى اجتماع في يوليو لمناقشة إدارة نهر النيل ومشروع قناة جونجلي بمنطقة السد .

هناك من يقف في منطقة وسطي فيوضح فوائد ومضار مشروع قناة جونجلي فيقول  Hannes Langالذي شارك بصفته خبيرًا اقتصاديًا بيئيًا في الجامعة التقنية في ميونيخ في عام 2016 ، في تأليف دراسة عن القيمة الاقتصادية والثقافية والبيئية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: “يوفر مشروع Sudd قائمة رائعة من الفوائد” ,  وقال إنه يحد من الفيضانات والمناخ المحلي ويحافظ على المياه الجوفية الواسعة ، ويلتقط الكربون ، ويعمل كملاذ للحياة البرية , وقدر Hannes Lang تقييم عام 2020 لمبادرة حوض النيل ( شراكة حكومية دولية بين الحكومات على طول نهر النيل) ، القيمة الاقتصادية الإجمالية لمشروع القناة بمنطقة السد للموارد الطبيعية التي تنظم النهر والمنافع الثقافية والتنوع البيولوجي بمبلغ 3.3 مليار دولار وقال :” لكن كل ذلك يمكن أن يضيع بسهولة  بمجرد وجود القناة وتجفيف مستنقعات السد جزئيًا فعندئذ سيكون من المستحيل العودة إلى حالتها السابقة ولا يمكن ملء النظام البيئي مرة أخرى.”

من جهة أخري أشار FRED PEARCE أن وزارتي الري في مصر وجنوب السودان سبق وان اتفقتا على تنفيذ مشاريع مشتركة على نهر النيل في عام 2020 , وأنه وفي وقت سابق من هذا الصيف وفيما يعتبره الكثيرون تمهيدًا للقناة , أعلنتا عن خطط لعمليات تجريف واسعة النطاق في منطقة السد للتخفيف من الفيضانات , و تسلمت وزارة جنوب السودان هذا الشهر عددًا من آلات التجريف المصرية الكبيرة لإزالة الغطاء النباتي من 20 ميلًا من الممرات المائية في شمال المستنقع من أجل صحة نظام النهر , وقال وزير مياه جنوب السودان في رحلة إلى القاهرة عام 2021  إن الجرف سيؤدي أيضًا إلى زيادة تدفق المياه عبر نهر النيل  , ولكن وزارة البيئة بجنوب السودان والمُناوئة للمشروع أصدرت بيانً مع بدء الجرف في يونيو 2022 قالت فيه : “إنه ما لم يتم الانتهاء من التقييمات البيئية والاجتماعية ، وحتى ذلك الحين ، فإن “أي تجريف للنهر غير قانوني” , وبعد الاستماع إلى طلب من محامٍ محلي أصدرت محكمة عدل شرق إفريقيا ، التي لها ولاية قضائية على جنوب السودان أمرًا تقييديًا يمنع التجريف في الوقت الحالي قائلة إنه “غير مقبول بيئيًا” و “سوف يجتاز منطقة محمية … فيما يتعلق بسبل العيش ، “القانون البيئي الدولي ، وحقوق الإنسان , ويرى – وهي رؤية لكاتب المقال في الغالب – البعض أن ترويج مصر لقناة جونجلي أمر مثير للسخرية ، حيث من المقرر أن تستضيف مؤتمر المناخ القادم للأمم المتحدة في وقت لاحق من هذا العام “مصر ليست مضيفًا موثوقًا لمؤتمر COP27 عندما تقترح مخطط قناة جونجلي هذا والذي من شأنه أن يقوض بشكل دائم مقاومة المناخ في المنطقة” ، وحسب قول Jane Madgwick الرئيس التنفيذي لمجموعة البيئة Wetlands International التي تعارض القناة”يحتاج  مشروع إستئناف العمل بقنة جونجلي بمنطقة Sudd إلى الاعتراف به كأصل طبيعي هائل وحيوي للسلام والازدهار في المستقبل” .

يرى البعض أن ترويج مصر لقناة جونجلي أمر مثير للسخرية ، حيث من المقرر أن تستضيف مؤتمر المناخ القادم للأمم المتحدة في وقت لاحق من هذا العام “مصر ليست مضيفًا موثوقًا لمؤتمر COP27 عندما تقترح مخطط قناة جونقلي هذا ، والذي من شأنه أن يقوض بشكل دائم مقاومة المناخ في المنطقة” ، حسب قول جين مادجويك ، الرئيس التنفيذي لمجموعة البيئة Wetlands International ، التي تعارض القناة. “يحتاج Sudd إلى الاعتراف به كأصل طبيعي هائل ، وحيوي للسلام والازدهار في المستقبل”   .

ومع ذلك قال FRED PEARCE  : ” أنه لا يزال الضغط على مصر من جنوب السودان مستمر للقيام بأعمال التجريف واستئناف حفر القناة آخذًا في الازدياد ” , وعلى الرغم من التحذيرات يقول السيد أن المشروع مدمر لكنه يمضي قدمًا.

قال متحدث رئاسي بدولة جنوب السودان : “أرادت الحكومة أن تعرف بالضبط تأثير مياه النيل ، لا سيما تطهير النيل وحفر القناة والتأثير البيئي على جنوب السودان … حتى تتمكن الحكومة من منح الموافقة أو رفض المشروع ”   .

الــــتـــعـــلـــيـــق  :

ظل الجنوبيين في الفترة الإنتقالية المترتبة علي إتفاق السلام الشامل مع حكومة السودان الموقع في نيروبي عام 2005 متحفظين ومُترددين إزاء إستئناف العمل في مشروع قناة جونجلي , فقد أدلي السيد / Joseph Dawyer  وزير الري في الحكومة الإنتقالية لجنوب السودان بتصريح لجريدة الشرق الأوسط الصادرة في لندن في 6 أغسطس  2009 أشار فيه إلي ” أن تحفظاتنا ( علي مشروع قناة جونجلي التي وضع دراستها لأول مرة لأول مرة البريطانيون عام 1904) يتركز في آثارها السياسية والإقتصادية والبيئية , ونحن بإستطاعتنا التغلب علي هذه المسائل بمزيد من الفهم بين الجانبين ” مُوضحاً قوله” إن الإتفاق بشأن مشروع القناة وُضع بمعرفة الحكومة المركزية في الخرطوم ومصر , ولم يكن لجنوب السودان كلمة بشأنه , وأن هذا المشروع كان أحد أسباب نشوب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1983 , ثم أن المشروع بحاجة إلي دراسة جدوي حديثة وأن ذلك يجب أن يتم بمعرفة وزارته ” ونفي الوزير في مابلته الصحفية أن يكون هناك ثمة وفد مصري سيأتي لزيارة موقع قناة جونجلي وذلك رداً علي تقارير تشير إلي أن وزارة الري المصرية كونت لجنة للنظر في إمكانيات إستئناف العمل بالمشروع .

حاولت مصر في إطار دبلوماسيتها المائية hydro-diplomacy التحرك صوب جنوب السودان والتي كانت تعد نفسها للإنفصال عن السودان بناء علي نتيجة إستفتاء تقرير المصير في 9 يناير 2011 حين إختار شعب الجنوب الإنفصال , وكان هذا تحدياً عقد من القضية المائية لمصر لذا قام ثاني رئيس للوزراء لمصر ما بعد ثورة يناير 2011 د . عصام شرف بزيارة لجنوب السودان في 27 مارس 2011 إلتقي فيها مسئوليين جنوبيين وناقش معهم مسائل متعلقة بمياه النيل وفقاً للصحافة المصرية , لكن لم يكن للزيارة أثر ملموس في تحريك ملف قناة جونجلي , ومع هذا تواصل الحكومة المصرية  الدبلوماسية المائية أو الـ hydro-diplomacy بوتيرة أعلي خاصة بعد بدء إثيوبيا لمشروع سد النهضة والترويج للإتفاقية الإطارية للتعاون بين دول النيل Comprehensive Framework Agreement  والتي ترفضها مصر , لإسقاطها من نصوصها مبدأ الحق التاريخي في مياه النيل .

كان لإنفصال جنوب السودان بإعلان إستقلاله في 9 يوليو 2011وفقاً لنتيجة إستفتاء تقرير المصير نتيجة كارثية علي إستراتيجية مصر المائية التي كان مشروع قناة جونجلي أحد أهم مكوناتها حيث كان سيساهم المشروع بمرحلتيه بإضافة 8 مليار متر مكعب / عام من فواقد مياه بحر الجبل تُقسم مناصفة بين مصر , فوزارة الري المصرية كانت تعول علي مشروعات الإنتفاع من فاقد مياه منطقة السدود في أعالي النيل في بناء إستراتيجيتها المائية وكانت إتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل التي وقعتها مصر والسودان هي الحاضن القانوني والسياسي لهذه المشروعات ورغم أن إنفصال السودان لا يعني بالضرورة تخليه أو إنكاره للإتفاقيات الموروثة عن دولة السودان قبل إنفصاله عنها فإنه يجب القول أن قدرة مصر علي تحريك المشروع للأمام ومواصلته كانت ومازالت محكومة بإعتبارات أخري أهمها  موقف العلاقات الثنائية بين الخرطوم وجوبا وهي للأسف متدنية فمازال النزاع الحدودي مع السودان الشمالي في مناطق التماس خاصة في Abyei قائماً بالإضافة إلي موضوع رسوم عبور البترول السوداني وتداعياته والعلاقات القائمة بين خصوم رئيس جنوب السودان / Salva Kiir Mayardit وخاصة Riek Machar وحكومة السودان وأمور أخري خلافية كلها تعمل في عكس الإتجاه الذي تستهدفه مصر في جنوب السودان , لكن مصر حافظت علي إتخاذ موقف الدعم الثابت لنظام الرئيسSalva Kiir Mayardit   ضد خصمه Riek Machar في الحرب الأهلية التي نشبت في جنوب السودان في 15 ديسمبر 2013 وإستمر تصاعد وتيرتها وتداعياتها التي من أهمها  نشوء أزمة للاجئيين من جنوب السودان للدول الأخري المجاورة , وفي هذه الآونة لقد حدث أن خاطب محافظ جونجلي الجديد – آنئذ- Philip Aguer أهالي الولاية في حشد شعبي في31 يناير 2016 بعاصمة الولاية BOR ولم يتطرق لمشروع إستئناف شق قناة جونجلي مطلقاً بل تناول الوضع الأمني الحاد والمتوتر بين قبيلتي Nuer و Murle من جانب وقبيلة Dinka من جانب آخر ولم تكن الظروف السياسة ولا العسكرية تسمحان في هذه الآونة لأي حديث عن إستناف حفر قنة جونجلي .

كما لم تؤد جهود التسوية السياسية التي بُذلت بواسطة الجهود المضنية التي بذلتها الولايات المتحدة والسلطة عبر الحكومية للتنمية IGAD والحكومة الإثيوبية مع طرفي الحرب الأهلية لتوقيع إتفاقية إديس أبابا لإحلال السلام بجنوب السودان في 17 أغسطس 2015 إلي إستعادة السلام في جنوب السودان بسبب إفتقاد طرفي هذه الحرب للإرادة السياسية والأخلاقية لإنهاءها , وقد دعمت مصر إبان تلك الحرب الأهلية موقف الرئيس في مواجهة خصومه سواء بتوفير جزء من السلاح الذي كان في أمس الإحتياج له أو تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي له خاصة في الأمم المتحدة وقت أن كانت مصر عضو غير دائم بمجلس الأمن حين صوتت ضد مشروع قرار قدمه المندوب الأمريكي بمجلس الأمن في نوفمبر 2016 يدعو إلي حظر السلاح عن أطراف الحرب الأهلية بجنوب السودان وكانت كلا من الصين وروسيا تعارضانه ومعهما دول أخري غير دائمة العضوية بمجلس الأمن منها إلي جانب مصر كل من أنجولا وفينزويلا (أدان مجلس الأمن الدولي وبقوة في بيان صدرعنه في 10 فبراير 2017 تجدد القتال في جنوب السودان خاصة في ولايتي أعالي النيل حيث تقع بها ولاية جونجلي وبها قناة جونجلي والولاية الإستوائية) , فأخفقت الولايات المتحدة في تمريره , مما أدي ميدانياً مع عوامل أخري لإنهيار إتفاقية أديس أبابا , من جهة أخري فإن جنوب السودان لابد وأن يوازن بين إنخراطه في إتفاق جامع مع دول حوض النيل مدعوم من البنك الدولي أعني الإتفاق الإطاري للتعاون Comprehensive Framework Agreement (إتفاق عنتيبي) وبين إتفاق كالإنتفاع الكامل من مياه النيل لعام 1959( ولا تعترف به جنوب السودان حتي الآن) والذي صيغ ليتناسب مع العلاقات الثنائية متميزة بين مصر والسودان , ولكن الأمور أستقرت نسبياً في جنوب السودان حيث أدت إتفاقية   12 سبتمبر 2018 بين الرئيسSalva Kiir Mayardit والجناح المنشق عن الحركة الشعبية “شمال” والتي يقودها  Riek Machar النائب الحالي لرئيس البلاد وبها نص عن إحياء إتفاق أديس أبابا لعام 2015 وكان لإستمرار الدعم المصري لنظام  الرئيس Salva Kiir Mayardit دور في تمكينه من الثبات في السلطة من خلال بنود هذه الإتفاقية , وعليه يمكن القول أنه بمعطيات الواقع الراهن فإن مستقبل وأمن مصر المائي أصبح بإفتراض إستئناف العمل في قناة جونجلي تعيض قدر من الضرر الذي يسببه سد النهضة الخرساني (ويحجز نحو 14 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق إضافة لسد السرج الركامي (الذي يحجز 64 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق) ويؤدي كلاهما إلي الإضرار بأمن مصر المائي الذي تسببه هذه الإستراتيجية الهجومية الإثيوبية التي تتحرك علي محورين :-

المحور الأول : قانوني من خلال طرح إتفاقية إطارية للتعاون تستهدف الإستخدام المُنصف والعادل لمياه النيل بين دول الحوض بحذف مبدأ الحق التاريخي الذي تستند عليه مصر في تحديد حصتها من مياه نهر النيل من نصوص هذه الإتفاقية   .

المحور الثاني : تطبيقي حيث بدأت إثيوبيا في 2011 في بناء سد النهضة بهذه القدرة التخزينية البالغة 74 مليار متر مكعب في سنوات ملأ مُتتابعة غير مُحددة وغيرمعلومة سلفاً  .

في إطار محاولتها إقناع حكومة جنوب السودان بأن هناك مساحة للتعاون مع مصر في مجال مياه النيل – خاصة وأن جنوب السودان لم يُوقع بعد الإتفاقية الإطارية للتعاون لدول حوض النيل CFA –  فقد توجه في 25 فبراير 2015 وفد مصري عالي المستوي لجنوب السودان وتوجه من جوبا إلي واو Wau  بولاية بحر الغزال لتقديم تقرير دراسة جدوي بشأن تنمية المنطقة بإقامة سد Sue في  Wau وذلك أمام الحاضرين في ورشة عمل نُظمت لهذا الغرض , وهذا يدل أن مصر حريصة علي تطبيق مبدأ التعاون الفني فيما يتعلق بمياه النيل وحريصة أكثر علي وصول التنمية لسكان جنوب السودان بغض النظر عن إنتماءاتهم القبلية  .

في لقاء تم في جوبا بجنوب السودان في 2 أبريل 2021بين وزير الري والموارد المائية في جنوب السودان Manawa Peter Gatkuoth  وبين سفير إثيوبيا لدي جنوب السودان نبيل مهدي أشار الوزير الجنوب سوداني إلي أنه سيتم  التصديق قريباً على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل بمجرد افتتاح البرلمان , وأشار إلي دعم بلاده لحقوق إثيوبيا الكاملة في مواردها الطبيعية وخلال هذا اللقاء أطلع السفير نبيل الوزير Manawa Peter Gatkuoth  على إجراء مفاوضات ثلاثية حول سد النهضة الإثيوبي الكبير والتزام إثيوبيا بحل القضية من خلال الحوار السلمي , وقبل هذا اللقاء في أبريل 2021 قالت وزارة الخارجية الإثيوبية في 22 مارس 2013 : أن دولة جنوب السودان في طريقها الى الانضمام الى الاتفاقية الاطارية لدول حوض النيل المعروفة باسم “اتفاقية عنتيبي” , وحتي الأن لم توقع أو تُصادق جنوب السودان علي الإتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل التي لم توقعها أو تصادق عليها مصر والسودان لتحفظهما علي مادتي الحق التاريخي والإتفاقيات السابقة ومنها إتفاق مايو 1929ومبدأ الإبلاغ المُيكر الذين لم تتعرض لهما الإتفاقية التي صادقت عليها كل من إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا والتي بحاجة الي مصادقة برلمانات ست دول تدخل حيز التنفيذ بعد تصديق ست دول وتُودع لدى الاتحاد الأفريقي  , ويعد موقف جنوب السودان من الإتفاقية الإطارية موات حتي الآن لمصر والسودان اللتان تعارضانها فلم توقع او تصادق علي هذه الإتفاقية بعد .

كان لدي حكومة السودان قبل إنفصال جنوب السوادان عنها في 9 يوليو 2011رغبة في إستئناف العمل في مشروع قناة جونجلي بالرغم من حالة الإختناق التي عانت منها العلاقات الثنائية بين مصر والسودان ففي لقائي بالسيد / كمال علي رئيس الجانب السوداني في الهيئة الفنية المُشتركة الدائمة لمياه النيل (وزير الري فيما بعد) بالخرطوم وبمناسبة قرب إستناف إنعقاد أجتماعها في 16 فبراير 1989 بعد تعليقها لخمس سنوات , أوضح لي أن أجندة الإجتماع القادم ستتناول جميع الموضوعات والمسائل التي كانت تُناقش قبل وقف الإجتماعات عام 1992 بما فيها بحث مشروعات تقليل الفاقد من مياه النيل وخص بالذكر مشروع قناة جونجلي الذي أكد أنه يمكن البدء فيه بمجرد إستقرار الأحوال الأمنية هناك وأشار إلي عدم القدرة علي تشغيل محطات الري في جوبا وملوط وغيرهما بسبب إنعدام الأمن وتمني أن تعمل السياسة في مصر والسودان معاً علي تحييد أثر العوامل السياسية علي عمل الهيئة مستقبلاً خاصة وأن لديهم علي الجانب السوداني الآن الضوء الأخضر للعمل .

نشرت وكالة الأنباء الليبية عن مسعي القذافي لإسئناف العمل في مشروع قناة جونجلي وكان السودان آنذاك ينظر لعلاقاته مع ليبيا علي أنها بين الإنخفاض والتوتر ذلك أن تقييم الخارجية السودانية آنئذ لعملية التكامل السوداني / الليبي التي وُقع ميثاقها في سبتمبر 1990 أنها متواضعة المستوي , كما أن الوحدة بين الدولتين لم تتحقق رغم أن مدي تحقيقها المُتفق عليه كان عامين من تاريخ توقيع هذا الميثاق , بل أن ليبيا رفعت أسعار البترول منذ الأشهر الأولي من عقد الميثاق بالرغم من إدراكها لصعوبة موقف إمدادات الطاقة بالسودان , كما أن العلاقات الثنائية مرت بمواقف متوترة عديدة منها إشتباكات بمناطق حدودية نتج عنها ترحيل مئات من السودانيين العاملين بليبيا مع أسرهم , ووصل وفد أمني سوداني لليبيا لتسلم عدد من المطلوبين أمنياً وأخفق في مهمته , يُضاف إلي ذلك أن الدكتور / حسن الترابي رئيس المجلس الوطني السوداني وقتذاك لا يحمل أي شعور بالثقة أو التقدير للعقيد / القذافي ويري أن حساباته بشأن السودان مؤسسة علي تقييم خاطئ للوضع السوداني , يؤكد ذلك ما ذكره في لقائي بسيادته بالخرطوم في مساء 29 ديسمبر 1997 بمنزله حيث أشار إلي ” أن ليبيا والعقيد القذافي تحديداً ينقل معلومات غير سليمة عن التوجهات السودانية إزاء مصر , وأن لنا ( يعني السودان) أن نتعامل مباشرة مع مصر , فالعقيد القذافي مثلاً يتصور خطأ ويبني علاقات غير صائبة بين أمور وأمور أخري بالسودان , ومثالها أنه يعتقد بأن مجرد إنتماء د. مصطفي إسماعيل واللواء الزبير محمد صالح ( نائب الرئيس وقتها والذي لقي مصرعه في حادث طائرة) لمدينة دنقلا يكفي لتحقيق تصوره الخاص عن مناطق شمال السودان وإمتدادها في دارفور المُتاخمة لليبيا ” .

لكن التحرك الليبي من أجل إستئناف العمل في مشروع جونجلي كان في تقديري آنئذ يعكس رغبة لدي القذافي للعب دور رئيسي في الأزمة السودانية خاصة مع الجنوبيين بإستقطاب بعضهم لتحقيق هذا المشروع بتأمينه , وهو أمر لا يتم إلا من خلال شراء بعض القيادات العسكرية المُتمردة , وإن تم ذلك فقد تتآكل مصفوفة التمرد الجنوبي التي بينها خلافات ميدانية أدت إلي نوع من التحالف بين قوات المتمرد Riek Machar وهو من النوير مع الحكومة السودانية التي كُلفته آنئذ بتأمين منشآت البترول السوداني في مناطق الوحدة وهجليج وعدرائيل بجنوب السودان , وبطبيعة وضع العلاقات السودانية الليبية التي قاعدتها عدم الثقة في مصداقية النظام الليبي فقد فشل التحرك الليبي بشأن قناة جونجلي كما فشلت الوساطة التي قام بها القذافي بين الحكومتين السودانية / الأوغندية عام 1995 .

إتصالاً بالمسعي الليبي لدي الأطراف الجنوبية لإستئناف مشروع قناة جونجلي تجدر الإشارة إلي أن ليبيا / القذافي كانت تتبني إستراتيجية مائية توسعية تصطدم إلي حد كبير بالإستراتيجيتين المائيتين لمصر والسودان وأتخذت ليبيا خطوات فعلية في هذا الشأن  .

بعد ذلك حدث أن نشر موقع RT الروسي نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرية ووكالات الأنباء في 29 يناير 2018 وهو نفس يوم لقاء الرئيس المصري مع الرئيس السوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي خبراً تحت عنوان ” تستعد مصر  لمفاجأة في جنوب السودان تُحدث تحولاً في قضية سد النهضة ” , وأشار الموقع إلي أن مصادر عسكرية مصرية “كشفت عن قيام القاهرة بمشروع ضخم في جنوب السودان بحفر قناة في جنوب السودان تسمى مشروع قناة “جونجلي” وقالت هذه المصادر أن هذا المشروع سيوفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنويا (وهو رقم غير دقيق), وأن هذه القناة تستقطب جزءاً من مياه المستنقعات بجنوب السودان مما سيفيد السودان ومصر أيضا , وأشار الموقع أن RT تحرت الدقة عن حقيقة هذا المشروع حيث أكدت مصادر لها أن مشروع قناة جونجلي بدأت مصر العمل فيه فعليًا في سبعينيات القرن الماضي حيث تم حفر حوالي 260 كيلومترًا بواسطة الشركة الفرنسية التي فازت بعطاء تنفيذ الحفر لكنها توقفت عند قرية الكونقربسبب نشوب الحرب الأهلية عام 1983 بين الحركة الشعبية بقيادة جارنج وحكومة الخرطوم آنذاك .

في الواقع أن  حكومتي مصر والسودان وقعتا  في 8 نوفمبر 1959 إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل وتضمن هذا الإتفاق في البند “ثالثاً ” وعنوانها ” مشروعات إستغلال المياه الضائعة في حوض النيل ” ما نصه “تتولي جمهورية السودان بالإتفاق مع الجمهورية العربية المُتحدة(مصر) إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل بمنع الضائع من مياه حوض النيل في مُستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الجمهوريتين بحيث تُوزع بينهما مُناصفة ويُساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً …” ,  وفي الواقع أيضاً فإن ما يفقده نهر النيل سنوياً في المُستنقعات ومنطقة السدود بجنوب السودان نتيجة ضعف سعة الأنهر وإنبساطها وقلة إنحدارها , لذا فقد تبلورت عدة مشاريع هدفت إلي تقليل هذا الفاقد لأقصي درجة ممُكنة بزيادة إيراد نهر النيل منها , وأتضح وفقاً لدراسات مُختلفة أن أقصي ما يمكن إسترداده من هذه الفواقد يبلغ حوالي18 مليار متر مكعب / عام , وذلك علي النحو الآتي :

الــمُــوقـــع                              جُـــــمــــــلة الـــفـــاقــــد                              مـــا يُــــمكــن إســـتــرداده

الـسوباط ومـشار                     19 مليار متر مُكعب/عام                              4 مليار متر مُكعب/عام

بـــــحـــر الـــغــزال                  12 مليار متر مُكعب/عام                               6 مليار متر مُكعب/ عام

الــــجــــمـــلة                         24 متر مُكعب/ عام                                    18 متر مُكعب/عام

تبنت الهيئة الفنية الدائمة لمياه النيل المُنبثقة عن إتفاقية الإنتفاع الكامل بمياه النيل عدة مشزوعات معنية بإستغلال فواقد مياه نهر النيل  كان أولها مشروع تقليل الفاقد من مستنقعات بحري الجبل والزراف المعروف باسم قناة جونجلي ويبلغ متوسط الإيراد السنوي لبحر الجبل عند بلدة منجلا حوالي 30 مليار متر مُكعب/ عام بينما لا يصل من هذا الإيراد إلي النيل الأبيض عند ملكال عن طريق بحري الجبل والزراف إلا نحو 15 مليار متر مُكعب أو أقل , وهذه الفواقد تزيد بزيادة التصرف في منجلا وتقل مع إنخفاض هذا التصرف مما يدل علي أن الفاقد في هذه المنطقة مرجعه عدم كفاءة مجري بحري الجبل والزراف , لذلك إتجه التفكير منذ عشرينات القرن الماضي إلي معالجة هذا الموقف حتي يمكن  تمرير جانب من هذه التصرفات إلي أن تصل للنيل الأبيض , فبدأت دراسة هذا المشروع عام 1921, وفي مايو 1947 رُفعت مُذكرة للحكومتين تضمنت الخطوط العريضة لتنفيذ هذا المشروع تضمنت :

1- إستخدام البحيرات الإستوائية (فيكتوريا – كيوجا- ألبرت) للتخزين المُستمر واسع المدي لمُعادلة التصرفات الخارجة منها   .

2- تحسين كفاءة بحر الجبل شمال منجلا وكذلك بحر الزراف ليمكنها مواجهة التصرف في حدود 75 مليون متر مُكعب/ يوم محسوبة عند منجلا بما في ذلك إستكمال دراسة خور العلياب وتحسين كفاءته بإعتباره يحمل جزءاً هاماً من تصرف بحر الجبل   .

3- إنشاء قناة جديدة تبدأ من جونجلي عند نهر أثيم بمنطقة الدينكا بالقرب من بور عاصمة ولاية جونجلي إلي النيل الأبيض لتحمل تصرفاً في حدود 43 مليون متر مُكعب/ يوم , علي أن يُنفذ شق هذه القناة أو المشروع علي مرحلتين الأولي مرحلة لا تتوقف علي التخزين في البحيرات الإستوائية ويكفي أن تشمل هذه المرحلة علي ما يلي :

– حفر قناة جونجلي بقطاع يتسع لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب / يوم , وكان اسم المشروع :-

THE EXECUTIVE ORGAN FOR THE DEVELOPMENT PROJECTS IN THE JONGLEI AREA

الهيئة التنفيذية لتطوير المشروعات في  منطقة جونجلي , وكان المفوض علي هذه الهيئة السيد عبد الله محمد إبراهيم , كما أن مرسوماً جمهورياً صدرعن الرئيس السوداني في أكتوبر 1974 قضي بتأسيس المجلس الوطني لتنمية منطقة جونجلي علي أن يساعد المجلس التنفيذي لتطوير المشروعات في منطقة جونجلي هذا المجلس , بالإضافة إلي لجنة التنسيق الفني والتي عقدت أولي إجتماعاتها في 13 أكتوبر 1976 .

2- الأعمال الصناعية الآتية :

* قنطرة فم قناة جونجلي لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب / يوم مُجهزة بهويس .

* قنطرة مصب قناة جونجلي لتمرير تصرف قدره 20 مليون متر مُكعب/ يوم .

* لا تحتاج هذه المرحلة إلي إنشاء قنطرة علي بحر الجبل إلا إذا ثبت ذلك من الناحية الموفولوجية , وذلك إلي حين الإنتهاء من دراسات النموذج الطبيعي الذي أُعد في هولندا لهذا الغرض .

وقد قُدرمتوسط الفائدة المائية لهذا المشروع عند أسوان جراء تنفيذ مرحلته الأولي من واقع الدراسات حوالي 3,8 مليار متر مُكعب/ عام , علي أن يتم إقتسام هذه الكمية بين مصر والسودان (قبل إنفصالجنوب السودان في 9 يوليو 2011) وذلك طبقاً لنصوص الإنتفاع الكامل بمياه النيل  .

أما المرحلة الثانية من هذا المشروع فتشمل :

1- إتمام أعمال التخزين في البيحيرات الإستوائية .

2- تعديل وتجسير بحر الجبل لإعداده لإستقبال التصرفات المُقابلة لنحو 75 مليون متر مُكعب / يوم عند منجلا .

3- إستكمال حفر قطاع قناة جونجلي علي الأورنيك النهائي لتتسع لتمرير تصرف قدره 43 مليون متر مُكعب/ يوم وهو المُقابل لتصرف 45 مليون متر مُكعب/ يوم عند منجلا .

بدأ العمل في مشروع قناة جونجلي المائي بولاية أعالي النيل عام 1980 (وهناك من يشير إلي أن الحفر بدأ جدياً عام 1978) بهدف تغيير مجري النيل الأبيض في المنطقة المليئة بالمُستنقعات والمعروفة باسم منطقة السد Sudd , ويبلغ طول هذه القناة 360 كم تم حفر 260 كم قبل توقف العمل بها بعد تدمير التمرد للحفار العملاق المُستخدم بالمشروع  وتبلغ تقديرات الفائدة المائية منه بعد تنفيذ مرحلتيه عند أسوان حوالي 7 مليار متر مُكعب / عام تُقسم مُناصفة بين مصر والسودان .

كان مشروع قناة جونجلي تطبيقاً أميناً لإتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان في 8 نوفمبر 1959, ولولا الوضع غير المستقر بجنوب السودان وتحوله إلي ساحة حرب بين حكومة السودان وقوي التمرد الجنوبي التي تطالب بانفصال الجنوب بدعم غربي وأمريكي تحديداً , لولا ذلك لكان هذا المشروع مصدراً لفوائد مختلفة لمصر والسودان وأهل جنوب السودان , وبتوقفه ثم إنزواءه في طي النسيان بعد إعلان إنفصال ثم إستقلال جنوب السودان في 9 يوليو 2011 لم يعد من الممكن إستنزال النص الوارد بإتفاقية الإنتفاع الكامل من مياه النيل علي الواقع المائي لمصر والسودان , وتحاول مصر الإقتراب تدريجياً من حكومة جنوب السودان من خلال نهوضها بمشروعات مائية ( سد واو) وبعض المشروعات الأخري علي أمل التوصل لإطار أشمل للتعاون يفيد البلدين معاً قد يكون إستئناف حفر قناة جونجلي مُدرجاً فيه , وتبقي بين مصر والسودان مشروع آخر لكنه يقع خارج إطار هذه الإتفاقية تماماً وهو  مشروع الهيئة المُشتركة لإستغلال خزان الحجر النوبي والذي يضم إلي جانبهما كل من ليبيا وتشاد ولأهميته ولطبيعته المُشتركة ولكونه رابطة أخري تجمع مصر والسودان وله حيز في سياستهما المائية بذرجة أو بأخري لكنه تُعثر بسبب عدم حماس الجانب الليبي إبات عهد القذافي وبسبب الأوضاع غير المُستقرة الآن في ليبيا التي يعاني عدة مشروعات منها مشروع النهر الليبي العظيم من عثرات جمة منها صيانته ومردوديته غير المُنتظمة عموماً  .

تسعي مصر جاهدة لتنفيذ مشروع قناة جونجلي لأنه سيعوض ما سيسببه جزئياً سد النهضة الإثيوبي , حيث سيوفر لمصر حوالي 2 مليار متر مكعب سنوياً من مياه النيل في مرحلته الأولي , مع ضرورة العلم بأن هذه الزيادة لن تكون كافية لمواجهة الطلب المُتزايد علي المياه في المدي المتوسط علي أقل تقدير ,   وقد حاولت الحكومة المصرية دعوة الحكومة السودانية لإستئناف الحفر في قناة جونجلي وقد كانت مصر والسودان قد أتمتا حفر 60%من هذه القناة حتي عام 1983 قبل تفجير عناصر التمرد الجنوبي في فبراير 1984وتدمير الحفار العملاق المُستخدم في حفر القناة مما أدي ليوقف العمل نهائياً بالمشروع , وخلال إجتماعي اللجنة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل عامي 2005 و2006 كنت قد أوضحت وقتها تقديري للموقف ومؤداه أن أي طرح لإستئناف العمل في قناة جونجلي من جانب مصر سيكون إما غير فعال أو غير مُنتج في السنوات الأولي من إنفصال جنوب السودان بسبب أن القائد التاريخي لجنوب السودان والقائد الأعلي للجيش الشعبي لتحرير السودان جون جارانج كان ضد تنفيذ مشروع قناة جونجلي وتضمنت رسالة الدكتوراة التي حصل عليها من جامعة  Iowaالأمريكية معارضته لمشروع حفر القناة لأسباب بيئية ولأنها ستعمل علي تناقص الحياة البرية , كذلك تؤدي التطورات الحالية بالسودان حتي الآن  في الغالب إلي عدم قدرة نظام الحكم العسكري في السودان إلي مشاركة مصر في تنفيذ مشروع إستمال حفر قناة جونجلي فالأوضاع السياسية قد تكون غير مواتية لمصر في هذا الشأن ,  فالأولوية العظمي في شمال السودان الآن هي كيفية إحتفاظ المكون العسكري هناك بالسلطة , وهو في نفس الوقت يواجه مخاطر في قضيتي دارفور والشرق اللتان تضيفان عائقاً جديداً أمام مصالح مصر النيلية فهي قد أجبرت الحكومة السودانية علي تبديل أولوياتها بحيث أصبح الحفاظ علي كيان الدولة وسيادتها أهم من مصالحها المادية الأخري , ومن الأفضل لمصر – إن كانت بحاجة إلي مشاركة تمويلية من حكومة ما بالخرطوم – التريث حالما تسفر التحولات الواقعة بالسودان عن ما قد يجدد آمالنا في إستئناف مُشترك في هذا المشروع خاصة وأن هناك فريق بالسودان لا تتطابق آراءه مع آراءنا في شأن قضية مياه النيل برمتها كما أنه من غير المُتيقن منه أن الأوضاع ما بين قبيلتي الدنكا والنوير المتواجدتين في نطاق المشروع ستكون غير عدائية مثلما هي الآن  , وعلي وجه العموم أعتقد أن حاجة مصر لتحقيق الأمن المائي ماسة أكثر من السودان بكثير وعلي مصر تتوقع أن يتحرك أي نظام حكم في الخرطوم بنفس قوتها وسرعتها خاصةً إن كان هناك ميل حقيقي من نظام الرئيس Salva Kiir Mayardit  لإسئناف العمل في حفر قناة جونجلي .

الــتــقــــديــــر :

لوصح عزم دولة جنوب السودان علي إستئناف الحفر في مشروع قناة جونجلي بالرغم من دعاوي الرافضين لإستئناف حفرها بناء علي أسباب بيئية بحتة معظمها مردود عليه تحت عنوان عريض هو : أن غالبية المشروعات الهندسية بالعالم بإسره عملت علي تغييرات بيئية في محيطها ومشروع حفر قناة جونجلي ليس إستثناء منها , وأن لهذا المشروع مزايا بيئية أيضاً لا شك فيها منها أنها ستوفر ارض جديد مساحتها كمساحة ولاية  Marylandالأمريكية يمكن أن تتاح لأغرض الزراعة المنتظمة وسكني الأهالي الدائم بعد كان مؤقتاً بسسب الفيضانات التي تخلف وراءها تكوين مستنقعات عظيمة تمنعهم من السكني الآمنة , كما أنها ستحرم أي قوي للتمرد علي الدولة من إستخدام مثل هذه الأراضي لمجابهة الحكومة ,  وسيُؤدي أسئناف وإستكمال مشروع حفر قناة جونجلي إلي تخفيف أضرار سد النهضة الإثيوبي علي السودان وبنسبة أكبر علي مصر ويدني من الإتجاه إلي الإعتماد علي تقنية تحلية المياه سواء ماء البحر أو غيره , وفي النهاية سيعني ذلك أن جزء مهم من أمن مصر في شقه الأخطر وهو الأمن المائي مصدره جنوب السودان لا إثيوبيا مما يوجب علصر الإعتناء بجنوب السودان في معركته من أجل التنمية فهذا والحالة هذا سيكون واجب أخلاقي كما هو ضرورة أمنية وسياسية مصرية .

 الــــسفير : بلال المصري

حصريا المركز الديمقراطي العربي – القاهرة تحريراً في 30 يونيو 2022

 

.

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=83074

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M