تايوان .. ” الرقم الصعب ” في معادلة التحول نحو نظام عالمي جديد

د. أيمن سمير

 

دخلت الخلافات الصينية الأمريكية مرحلة جديدة من التلاسن والتهديد باستخدام القوة ،  وذلك لأول مرة منذ اعتراف الولايات المتحدة بالصين عام 1979 ، كما أن مساحات الخلاف باتت أكبر بكثير من فرص التعاون حيث يختلف البلدين بشدة حول ملفات مثل هونج كونج وشينجيانج ” تركستان الشرقية ”  وبحر الصين الجنوبي وجزر سينكاكاو  وجزر المحيط الهادئ والتبت والملكية الفكرية ، ناهيك عن الخلافات التجارية التي لا تنتهي ، لكن يظل الخلاف حول جزيرة تايوان هو جوهر التنافس والصراع بين واشنطن وبكين ، الأمر الذي يهدد باندلاع صراع شامل  يرى البعض أنه سوف يكون العامل الفاصل والحاسم في ترتيب القوى العظمى في سلم القيادة العالمية ، وأن الطرف الذي سوف ينتصر في هذه المواجهة المصيرية حول تايوان سيعتلي رأس هرم القيادة الدولية ، وهو ما يطلق عليه ” فخ ثيوسيديدس ” .

وثوسيديدس هو مؤرخ الحروب اليونانية الذي عايش الحرب بين اسبرطة وأثينا عام 400 قبل الميلاد وكتب كتابه الشهير ” تاريخ الحرب البلوبونيزية” الذي يؤرخ فيه لنحو 26 عاماً من الصراع بين أثينا واسبرطه حيث كانت أثينا هي القوة البرية ” الصاعدة ”  ، بينما كان نجم إسبرطة ” القوة الأولى ” البحرية  آخذا في التراجع، و”فخ ثوسيديدس”، الذي تحدث عنه علانية الرئيس شي جين بينج في كلمة له بالمؤتمر المركزي للعمل الاقتصادي في 18 ديسمبر 2015، استخدمه جراهام أليسون مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق عام 1017  ، عنوان لكتابه: ” الاتجاه نحو الحرب: هل يمكن لأمريكا والصين أن يهربا من فخ ثوسيديدس؟”، وكان واضحاً من خلال كتاب ألسون أن الصدام قائم وقادم بين الصين كدولة صاعدة على كافة المستويات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية مع الولايات المتحدة التي كانت أحد قطبي العالم في الحرب الباردة ، وتحولت للقطب الواحد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991

75 % للحرب

وتقوم نظرية ” فخ ثيوسيدس ” على أن أي”  قوة صاعدة  مثل الصين ” عليها التفوق على  ” القوة المهيمنة ” كالولايات المتحدة ، لكي تحل محلها على الصعيد الدولي ، وخلال أخر 500 عاماً حلت 16 قوة صاعدة محل 16 قوة كانت مهيمنة ، في 12 مرة منها انتهي الأمر بين الطرفين بالحرب، بينما وصلت في 4 مرات فقط دول صاعدة إلى قمة العالم دون حرب ، وهو ما يعني أن احتمال نسبة الحرب بين الصين والولايات المتحدة تصل إلى 75 % ، بينما خيار عدم الحرب بينهما لا يتجاوز نسبة 25 % فقط ، ولذلك قال الجنرال الصيني الكبير ” شو كي ليان”  ، الذي يحتل المنصب الثاني  في الجيش الصيني أن بلاده مستعدة لمواجهة ” فخ ثيوسيديدس” ، ورسم كي ليان ” خريطة طريق”  لتجاوز هذا الفخ عندما قال ” في مواجهة فخ ثيوسيديدس والمشاكل الحدودية، يجب على الجيش زيادة قدرته بسرعة، ويجب أن نحقق اختراقات في أساليب القتال والقدرة، وأن نرسي أساسا سليما للتحديث العسكري”

وتجدد الحديث عن اقتراب واشنطن وبكين من الصدام المباشر والوقوع في فخ ” ثيوسيدس ” عندما تبادل وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن التهديدات مع نظيرة الصيني وي فنغي في سنغافورة الشهر الماضي حيث قال وزير الدفاع الصيني ” أن بلاده ستقاتل بأي ثمن، وستقاتل حتى النهاية، هذا هو الخيار الوحيد للصين لمنع تايوان من إعلان الانفصال …هذا هو الخيار الوحيد للصين”

فكيف تحاول كلا من الصين والولايات المتحدة تجنب تداعيات ” فخ ثيوسيديدس ” على مكانتهما في مستقبل قيادة العالم؟ وهل بالفعل التزام البيت الأبيض بالدفاع ” عسكرياً عن تايوان الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الشهر الماضي في طوكيو ، ثم حديث وزير الدفاع الصيني وي فنجي في مؤتمر شانجريلا عن ” الحرب حتى النهاية ” دفاعاً عن تايوان يمكن أن يكون ” فخ ثيوسيديدس ” الذي لا تستطيع واشنطن وبكين الهروب منه ؟ والى أي مدي يمكن للتحالفات الجديدة في آسيا أن تغير المعادلة لصالح هذا الطرف أو ذاك؟

 محفزات الصدام

رغم إقرار الطرفين الصيني والأمريكي بأن الصراع بينهما ليس في صالح أي منهما إلا أن هناك مجموعة من العوامل يمكن أن تشكل دوافع للصدام والحرب حتى لو كانت ” الحرب بالخطأ ” ، ومن هذا العوامل ما يلي :

أولاً: الاستدارة شرقاً

عندما قامت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 انتقلت الحكومة الصينية القومية من البر الصيني إلى جزيرة تايوان ، ورفضت الولايات المتحدة الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية في بكين حتى عام 1979 رغم زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين في 21 فبراير 1972  بترتيب من وزير خارجيته ومهندس العلاقات الصينية الأمريكية في ذلك الوقت هنري كيسنجر ، ومنذ عام 1979 حتى عام 2009 كانت الولايات المتحدة تساعد الصين في الانفتاح على العالم،  وفي نفس الوقت نجحت واشنطن  في خلق المشاكل بين الشيوعية الصينية والشيوعية السوفيتية ، لكن تغيرت النظرة الأمريكية للصين عندما  كتبت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون مقالها الشهير ” الاستدارة شرقاً ”  في عدد مايو 2010 من مجلة ” فورين بولسي ” ، والذي كان عنوان للتحول الأمريكي نحو شرق أسيا والتركيز  على الصين ، وتحدثت هيلاري كلينتون وقتها عن ” مغانم ” تتعلق بالطبقة الوسطى الآسيوية التي تصل لنحو 800 مليون مستهلك، وأن هؤلاء  يمكن أن يكون زبائن محتملين للبضائع الأمريكية الأكثر جودة والأعلى سعراً، كما تحدثت عن”  مغارم ”  تبدأ وتنهي عند الخوف من تصاعد نفوذ الصين في شرق وجنوب شرق آسيا ، لكن التحول الرئيسي في العلاقات الصينية الأمريكية جاء عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 18 ديسمبر 2017 ” إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي”  التي وصفت لأول مرة ” الصين وروسيا ” كمنافسين استراتيجيين ” للولايات المتحدة على الساحة الدولية بعد أن كانت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي  منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وحتى 18 ديسمبر 2017 تعتبر ما يسمى ” بالإرهاب الراديكالي” هو  الخطر على الولايات المتحدة ، كما أن ” الدليل المبدئي”  للأمن القومي الأمريكي الذي أعلنه البيت الأبيض في 3 مارس 2021 تحدث 18 مرة عن خطر الصين بينما تحدث 7 مرات فقط عن خطر روسيا على الأمن القومي الأمريكي ، وهو ما يعكس الهاجس الأمريكي من اعتلاء الصين لمكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية

ثانيا: تنامي ” الأبعاد القومية” لدى الصين والولايات المتحدة الأمريكية معاً

فالخطاب السياسي والاقتصادي الصيني يركز على البعد القومي، ويرى أن القضايا القومية تشكل ” المنصة ” التي يمكن من خلالها إطلاق توافق صيني ليس فقط في القضايا الداخلية بل أيضاً لمواجهة التحديات الخارجية، ومنها تحدي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وعلى الجانب الأخر تعهد الرئيس جو بايدن بأن تظل أمريكا على قمة العالم والقطب الأوحد طالما هو رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا عمل الرئيس بايدن على اتخاذ سلسلة من القرارات ضد الصين ومنها :

1-تشكيل تحالف ” الاوكوس ” في 15 سبتمبر 2021، والذي يضم مع الولايات المتحدة كلا من أستراليا والمملكة المتحدة، وهو تحالف عسكري يهدف لمجابهة التفوق الصيني البحري في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ

2- تعزيز قدرات تحالف” الكواد” الرباعي الذي يضم مع الولايات المتحدة كلا من اليابان والهند واستراليا، وينظر إليه على نطاق واسع أنه جبهة اقتصادية قوية لنقل الصناعات الإستراتيجية التي تنتجها الصين ويعتمد عليها الغرب  مثل ” أشباه الموصلات ” إلى خارج الصين

3- تكثيف تبادل المعلومات الاستخبارية حول الصين في مجموعة ” العيون الخمس ” وهي التي تضم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة واستراليا ونيوزيلاندا، وتتهم الصين هذه المجموعة بأنها وراء ” الصورة النمطية ” السلبية عن الصين مثل الترويج بأن الصين تسيطر على قرارات الدول الفقيرة عن طريق إغراقها بالديون، أو اتهام الصين بأنها ” أمة مقلده ” تسرق الأفكار وتتجسس على الشركات، وليس ” أمة مبتكرة ” مثل الدول الغربية

4- تشكيل ” الإطار الاقتصادي ” لمنطقتي المحيطين الهندي والهادئ وهو الذي يضم 12 دولة أسيوية في المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين اقتصاديا في محيطها التقليمي الآسيوي

ثالثا: الغموض الاستراتيجي

تقوم السياسة الأمريكية تجاه تايوان على مبدأ ” الغموض الاستراتيجي” الذي يتجلى في سلسلة من الإجراءات ومنها:

1-تعترف الولايات المتحدة بمبدأ ” الصين واحدة ” والتي تنظر الى كلا من تايوان وهونج كونج باعتبارهما جزء من الأراضي الصينية، وهو مبدأ يقول بـ ” دولة واحدة ونظامان “، بمعنى أن تايوان لها طريقتها في تدبير شئونها الداخلية وتقوم على النظام الانتخابي الغربي لكنها تحت السيادة والحكم الصيني

2- رفض أي محاولة من جانب الصين لاستعادة تايوان ” بالقوة المسلحة” ، ولهذا هدد الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء قمة ” كواد ” الرباعية التي عقدت في 24 مايو الماضي في طوكيو بالدفاع ” عسكريا”  عن تايوان، ووصف هذا التصريح بأنه أخطر تصريح أمريكي حول تايوان منذ عام 1979

3- رغم عدم الاعتراف الأمريكي باستقلال تايوان إلا أن علاقات واشنطن مع تايبيه على أعلى المستويات السياسة والعسكرية والأمنية، وكان أبرزها تلقي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ” التهنئة بالفوز ” بالرئاسة من رئيسة تايوان في نوفمبر 2016 ، وهو أمر احتجت عليه الصين، كما يقوم كبار أعضاء الكونجرس من مجلسي النواب والشيوخ وعدد لا يحصى من المسئولين الأمريكيين بزيارة تايوان ، لعل كان أبرزها زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب بزيارة تايوان في أبريل الماضي

4- تقديم كافة أشكال ” الدعم العسكري والتدريب” إلى جزيرة تايوان التي تضم نحو 20 مليون نسمة، ووفق المتحدث باسم الخارجية الصينية فإن الولايات المتحدة وافقت خلال العقد الأخير على بيع أسلحة لتايوان بنحو 70 مليار دولار

5- تصر الولايات المتحدة على ” حرية الملاحة ” في بحر الصين الشرقي الذي يفصل بين البر الصيني وجزيرة تايوان، وذلك بإرسال السفن والبوارج الحربية للمرور هناك للتأكيد أن بحر الصين الشرقي مياه دولية يحق للسفن المدنية والحربية من جميع دول العالم أن تمر به ، ويخشى الطرفين أن تقع حوادث تتطور الى اشتباكات عسكرية بين البلدين سواء في بحر الصين الشرقي أو بحر الصين الجنوبي

6- تنظر الولايات المتحدة إلى جزيرة تايوان التي لا تزيد مساحتها عن 37 آلف كلم باعتبارها جزء من ” تحالف القيم ” الغربية والذي يضم نحو 100 دولة حول العالم أبرزهم دول الاتحاد الأوربي السبع والعشرين، بالإضافة إلى كندا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلاندا والهند

7- رغم العلاقات الاقتصادية المتميزة بين الولايات المتحدة وتايوان إلا أن الرئيس بايدن رفض ضم تابييه إلى ” الإطار الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والهادئ، والذي أعلنه في نهاية جولته الأسيوية الوحيدة في مايو الماضي، وذلك حتى لا ينظر للأمر باعتباره نوع من الاعتراف باستقلال تايوان

رابعاً ” الصين والرسائل الخشنة

نتيجة للثقة بالنفس والتقدم الكبير في الاقتصاد الصيني، وتحقيق نجاحات ضخمة في المجال العسكري كان أخرها الشهر الماضي عندما أضافت الصين حاملة الطائرات الثالثة ” فوجيان ” التي صنعتها بالكامل بتكنولوجيا صينية، نتيجة لكل ذلك بدأت الصين تتحول في التعامل مع تايوان من ” الدبلوماسية الناعمة ” القائمة على تشجيع الجزيرة للعودة لحضن الدولة الأم إلى ” الرسائل الخشنة ” ومنها:

1-التأكيد الدائم بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، وأن دعم الولايات المتحدة لتايوان سياسياً وعسكرياً يدفعها لمزيد من التمرد على الدولة الأم، وأن بكين تفضل عودة تايوان بالطرق السياسية والدبلوماسية، لكنها في نفس الوقت لن تستبعد الوسائل العسكرية لو تجاوزت تايوان أو حلفائها ما تسمية الصين ” بالخطوط الحمراء “، وهي إعلان الاستقلال أو اعتراف الولايات المتحدة بها

2- تأكيد المسئولين الصينيين في الاجتماعات الأخيرة مع نظرائهم الأمريكيين وأخرها لقاء وزيري الدفاع من البلدين في سنغافورة الشهر الماضي بأن ” مضيق تايوان” الذي يفصل الصين عن تايوان هو ” مضيق صيني” بامتياز ومياه صينية خالصة، وليس مياه دولية كما تقول واشنطن وحلفائها.

3- إرسال أسراب من الطائرات العسكرية الصينية للتحليق قرب المياه الإقليمية لتايوان خاصة تلك التي تتزامن مع زيارات مسئولين أمريكيين للجزيرة، وترسل الصين رسالة واضحة من خلال اقتراب الطائرات العسكرية بشكل مكثف وصل في بعض الطلعات إلى 30 طائرة عسكرية ، وهي رسالة تقول بأن بكين تستطيع الوصول لأي مكان فوق تايوان رغم الدعم الأمريكي غير المحدود للجزيرة

4-ترفض الصين أي نوع من التمثيل الدبلوماسي بين تايوان وأي دولة أخرى في العالم، وقامت الصين على سبيل المثال بطرد سفيرة ليتوانيا اعتراضاً على فتح تايوان ممثليه لها في  ليتوانيا في يوليو 2021 حتى لو كان  تحت مسمى ” مكتب تايبيه التمثيلي” ، كما ترفض الصين أي علاقة دبلوماسية أو تمثيل دبلوماسي رسمي مع تابييه حتى من جانب الدول التي تعترف بمبدأ ” الصين واحدة “.

تجنب فخ ثيوسيديدس

المؤكد أن كلا من الصين والولايات المتحدة في حاجة ” للتواضع السياسي ” والعمل على مساحات جديدة من المصالح المشتركة،  وهي كثيرة ، ويكفي الإشارة هنا إلى أن معدلات التجارة بين بكين والولايات المتحدة وصلت عام 2021 إلى 750 مليار دولار ، وبين بكين والاتحاد الأوربي 850 مليار دولار ، ولو أضفنا حجم الميزان التجاري بين الصين وحلفاء واشنطن الأسيويين مثل أستراليا ونيوزيلاندا واليابان وكوريا الجنوب سوف نكون أمام أكثر من 2 تريليون دولار بين الصين من جانب ، والولايات المتحدة وحلفائها من جانب أخر ، وكلها عوامل تشجع على السلام والاستقرار وعدم اللجوء للغة البندقية والرصاص

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20087/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M