لماذا تُعارِض إيران محاولات تغيير الحدود الجغرافية لمنطقة القوقاز؟

محسن باك آئين

تُظهِر التجربة التاريخية الإيرانية وجود فجوة بين أولويات السياسة الخارجية للحكومة الإيرانية، والسياسات التي ترسمها مؤسسات الدولة العميقة المرتبطة ببيت القائد الأعلى، علي خامنئي. واتسعت هذه الفجوة بشكل واضح خلال آخر أعوام حكومة روحاني؛ ما أدى إلى تأكيد خامنئي على أن “أولويات السياسة الخارجية الإيرانية لا ترسمها أجهزة وزارة الخارجية، والمؤسسات الدبلوماسية الرسمية، وإنما هي شأن من “المؤسسات العليا” التي تضع الأولويات والخطوط العريضة، كما ترسم الخطوط الحمر للسياسة الخارجية، وإن وظيفة وزارة الخارجية بهذا الصدد لا تتجاوز حدود التطبيق”.

وبرزت هذه الفجوة بشكل خاص في سياسات الملف النووي الإيراني والسياسات الإقليمية. ولا يزال الخلاف بين الحكومة والمؤسسات السيادية متواصلاً في هذين الملفين إلى الآن بالرغم من تولي حكومة المحافظين مهامها منذ عام كامل. إلا أن ملفات أخرى شهدت مثل هذا التباعد أيضاً، منها ملف العلاقات مع القوى الشرقية، وملف التطورات في القوقاز.

ويمكن رؤية معالم الأولويات التي ترسمها تلك المؤسسات العليا، مما تنشره مراكز التفكير المقربة منها، وعلى رأسها موقع القائد الأعلى الذي يديره نجله، إلى جانب عدد من الوجوه المقربة من الحرس الثوري. ويقوم هذا الموقع بنشر بعض الأوراق والتقارير التي يمكن اعتبارها تمثيلاً للرؤية التي تتبناها الدولة العميقة حيال الملفات العالقة.

وحظي ملف الخلافات الحدودية في القوقاز باهتمام خاص من دوائر صنع القرار الإيراني منذ اندلاع الحرب على الحدود الشمالية الغربية لإيران بين جمهورية أذربيجان وأرمينيا، والتي انتهت بوساطة روسية، بعد انتزاع أذربيجاني لبعض الأراضي من أرمينيا. وقادت الحرب إلى تدخل تركي واضح، أثار حفيظة طهران، وأدى إلى حشد عشرات الآلاف من جنودها، وعتادها العسكري قرب حدودها مع جمهورية أذربيجان، فيما أمكن اعتباره تلويحاً باستخدام القوة. ووجدت إيران نفسها أمام تعثُّر في مواكبة على الأحداث الجارية، ناتج عن عدة أسباب، منها: الفجوة بين مؤسسات صنع القرار السياسي والدبلوماسي. وبطبيعة الحال، كان الموقف المهيمن في نهاية المطاف، هو ذلك الذي انتهجته مؤسسات الدولة العميقة، واتبعته الحكومة.

وأشار خامنئي بعد نحو 20 شهراً من نهاية الحرب، وخلال لقائه الرئيسين الروسي والتركي في يوليو الماضي، إلى تلك الأحداث، مؤكداً أن طهران ترفض بشكل نهائي تغيير الحدود على حدودها الشمالية الغربية، وأنها ستواجه أية محاولة بهذا الصدد بقوة؛ بما يظهر أهمية الملف لدى صانع القرار السيادي في إيران.

يشير هذا المقال الذي كتبه محسن باك آئين، ونشرهُ موقع القائد الأعلى ضمن زاوية آراء الخبراء، بشكل عابر إلى عدّة زوايا، تعكس أهمية هذا الملف، وأسباب أهميته تلك، من منطلق الرؤية الإيرانية. وكاتب المقال كان سفير إيران في باكو، ويعتبر من الوجوه الدبلوماسية المقربة من مؤسسة القائد الأعلى الإيراني.

ويُشير المقال بشكل ضمني إلى أن إيران ترفض تغيير الحدود باعتباره خطوة قد تؤدي إلى محاصرتها جغرافياً؛ إذ يقضي على ممرّ تعتبره إيران مهماً لاتصالها بروسيا عبر أرمينيا. ويُشير الكاتب إلى قلق طهران من اتساع نفوذ تركيا في المنطقة على حساب الوجود الإيراني. ويعتبر أن الخطوة التركية تعكس أكثر من مجرد إرادة تركية؛ بل هي خطوة، ترى إيران أن إسرائيل هي من تقف ورائها، وتستهدف الاقتراب من حدود إيران للعبث بأمنها. كما ترى إيران خلف هذه الخطوة أيضاً، يد الناتو الذي يريد الوصول برّاً إلى مياه بحر قزوين عبر تركيا الدولة العضو في الناتو، وعبر أذربيجان حليفة تركيا والغرب. ويمكن ملاحظة كيف تحاول الدولة العميقة في إيران في هذه الحالة، أن تحشر نفسها ضمن نظام أولويات روسيا التي تتحسّس من وجود حلف شمال الأطلسي قرب حدودها.

وبعيداً عن لغة المقال المُغرَقَة بالتمجيد والمديح، إلا أنه مفيدٌ من حيث دلالته على أولويات السياسة الخارجية الإيرانية، وهواجسها، ومواطن قلقها من وجهة نظر الدولة العميقة. وكونه يُسلِّط الضوء على دور مؤسسة بيت القائد في رسم حدود السياسة الخارجية بكل تفاصيلها، بما يضع الحكومة خارج إطار رسم معالم السياسة الخارجية، وخارج إطار الصلاحيات في اتخاذ القرارات السياسية والدبلوماسية الإقليمية.

 

نصّ المقال 

كانت المعارضة الصريحة لتغيير الحدود الجغرافية والجيوسياسية لإقليم القوقاز أحد الموضوعات المهمة في لقاء رئيسي روسيا وتركيا مع قائد الثورة الإسلامية في إيران. وناقش الموقع الإعلامي لقائد الثورة الإيرانية KHAMENEI.IR هذا الأمر في مذكرة كتبها الدبلوماسي الإيراني السابق، محسن باك آئين:

أعرب آية الله خامنئي، زعيم الثورة الإسلامية، في لقاء مع السيد رجب طيب أردوغان رئيس تركيا، في 28 يوليو 2022، عن ارتياحه لعودة قرة باغ إلى أذربيجان، وقال: “إذا كانت هناك سياسة لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا، فإن الجمهورية الإسلامية ستُعارض ذلك؛ لأن هذه الحدود هي أداة للتواصل فيما بين البلدين منذ آلاف السنين”. كما قال في لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “إن الجمهورية الإسلامية لن تتسامح أبداً مع السياسات والبرامج التي تؤدي إلى إغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا”. ولشرح موقف المرشد الأعلى للثورة في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى عدة نقاط:

بدأت حرب قرة باغ الأولى في عام 1988، وطالب أرمن قرة باغ بضم هذه الجمهورية المتمتعة بالحكم الذاتي، والتي تقع في وحدة أراضي جمهورية أذربيجان، إلى أرمينيا. وأدت هذه الحرب إلى إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في عام 1994؛ بينما احتلت أرمينيا سبع مدن في جمهورية أذربيجان دعماً لاستقلال قرة باغ. وبدأت حرب قرة باغ الثانية في 27 سبتمبر 2020 بهجوم جمهورية أذربيجان على أرمينيا لتحرير الأراضي المحتلة، ومع بداية هذه الحرب دأبت جمهورية إيران الإسلامية على دعمها وحدة أراضي جمهورية أذربيجان. وشدد قائد الثورة في خطابه على أن مرارة هذه الحرب التي تشكل تهديداً إقليمياً ملحاً، وقال: “هذه الحرب حادثة مريرة وتهدد المنطقة، ويجب أن تنتهي في أسرع وقت ممكن، وبالطبع، يجب تحرير أراضي أذربيجان التي تحتلها أرمينيا وإعادتها إلى أذربيجان [لأنها] ملك أذربيجان”. واستكمالاً لهذه التصريحات بتاريخ 2020/11/03، أكد القائد الأعلى الإيراني على ضرورة الحفاظ على الحدود الجغرافية المقبولة من الجانبين.

 

الحفاظ على السيادة الأرمنية على سيونيك

وانتهت حرب قرة باغ الثانية بعد 44 يوماً في 10 نوفمبر بوساطة روسية، ونتيجة لاتفاق موسكو تم الإفراج عن سبع مدن تابعة لجمهورية أذربيجان احتلتها أرمينيا. وكانت عودة المناطق المحتلة إلى جمهورية أذربيجان بشرى سارة وأسعدت الحكومة والأمة الإسلامية في إيران. ووفقاً للفقرة 9 من اتفاق وقف إطلاق النار، كان من المفترض أن تضمن جمهورية أرمينيا مواصلات النقل بين الأراضي الرئيسية لجمهورية أذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي من خلال الحفاظ على سيادتها على مقاطعة سيونيك، التي تسميها أذربيجان زنغزور. وبعد حوالي شهر، زعمت صحيفة “يني مساوات” في جمهورية أذربيجان، أن أرمينيا ليس لديها الحقوق لمراقبة حركة المرور في هذا الممر وأن باكو، في اتفاق موسكو، حددت فتح ممر زنغزور شرطاً أساسياً من أجل ووقف إطلاق النار لأرمينيا، وقد وافق رئيس الوزراء الأرمني، نيكول باشينيان أيضاً على هذا الشرط.

ورغم نفي السلطات الأرمينية هذا الخبر؛ إلا أن رئيس جمهورية أذربيجان، إلهام علييف، ومن خلال ادعاء تاريخي، في ديسمبر 2021، اعتبر بشكل ضمني مقاطعة سيونيك الأرمينية جزءاً من أراضي جمهورية أذربيجان، وقال: “لقد شهدت أرمينيا والعالم بأسره طيلة فترة الحرب أنه ليس بمقدور أحد أن يوقفنا. إنني طلبت منهم منحنا الوقت لإعادة أراضينا. وأقول نفس الشيء الآن. أخبرونا متى سيتم فتح ممر زنغزور دون أي مشاكل”. واعتبرت وزارة خارجية أرمينيا في بيان لها هذه التصريحات تهديداً لوحدة أراضي هذا البلد، وأكدت أن أقوال رئيس أذربيجان تتعارض مع التفاهمات التي تم التوصل إليها في روسيا. كما صرحت أرمينيا في المؤتمر الصحفي الذي عقد في نوفمبر 2021 أنها لن تتفاوض بشأن هذه القضية، وأن أرمينيا لن تسمح بأن يكون جزء من أراضي هذه الجمهورية في أيدي جمهورية أذربيجان أو أي دولة أخرى تحت عنوان “ممر”.

 

الناتو والرغبة في الوصول إلى بحر قزوين

وفي هذه المرحلة، كررت تركيا دعمها لجمهورية أذربيجان بالتأكد على الادعاءات التاريخية التي تنتهك وحدة أراضي أرمينيا، وتغير الحدود الجغرافية المقبولة. ولطالما سعت تركيا إلى استخدام طريق ناخيتشيفان – باكو، عبر الطريق الأرميني، للوصول إلى بحر قزوين، وعارضت أرمينيا ذلك بسبب خلافاتها الطويلة الأمد مع تركيا.

ونقطة أخرى هي أن حلف الناتو، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبنهج التحرك نحو الشرق، سعى للوصول إلى بحر قزوين عبر استخدام طريق ناخيتشيفان – باكو والوصول إلى الحدود الروسية بمساعدة تركيا العضو في الحلف. وبناءً على ذلك، دعم أعضاء الناتو أيضاً فتح طريق يربط تركيا بـباكو من خلال تغيير حدود أرمينيا. في أعقاب هذه التحولات، أرسلت جمهورية أذربيجان قواتها العسكرية من مدينة كلبجر في أراضيها إلى مدينتي غوريس وسيسيان في أرمينيا، وفي الوقت نفسه أجريت مناورة مشتركة بين دول أذربيجان وتركيا وباكستان في ناخيتشيفان، وخلق هذا الانطباع العام بأن جمهورية أذربيجان تسعى إلى انتهاك السلامة الإقليمية لأرمينيا والتقدم في شمال مقاطعة سيونيك، وتغيير الحدود الجغرافية بقطع الاتصال بين أرمينيا وإيران.

كما أظهرت الأدلة أن إسرائيل تدعم، وراء الكواليس، تصعيد الخلافات بين أذربيجان وأرمينيا، كما تدعم بشكل خاص موضوع إغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا. وفي هذا الصدد، أعرب آية الله خامنئي، في 3 أكتوبر 2021، في اتصال بالفيديو مع طلاب جامعة الإمام الحسين العسكرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، عن نقاط مهمة تتعلق بالأحداث الجارية في البلدان المجاورة لشمال غرب إيران. وشدد على ضرورة أن يحاول الجميع جعل الجيوش مستقلة، ومعتمدة على الأمم ومتآزرة مع الجيوش الأخرى للدول المجاورة والجيوش الأخرى في المنطقة، وقال: “هذه الأحداث التي تحدث في شمال غرب بلادنا، في بعض الدول المجاورة، هي من أمور التي يجب حلها بهذا المنطق. بالطبع بلدنا وقواتنا المسلحة يتصرفان بعقلانية. الأسلوب في الأمور كافة هو أسلوب العقلانية، الاقتدار مع العقلانية. من الجيد للآخرين أيضاً أن يتصرفوا بعقلانية وألّا يدعوا هذه المنطقة تقع في المشاكل”. كما وجه زعيم الثورة نصيحة لبعض دول المنطقة وقال: “أولئك الذين يحاولون إثارة المشاكل لجيرانهم هم سيكونون أول من يتأثر بها فإن «مَنْ حَفَرَ بِئراً لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيها»”. وبعد ذلك، عززت المناورة الضخمة للقوات المسلحة لجمهورية إيران الإسلامية، التي أجريت في شمال غرب البلاد تحت اسم خيبر، كإجراء وقائي، أمن المنطقة ودفعت جيران إيران إلى إعادة النظر في نهجهم.

 

معارضة الجمهورية الإسلامية الصريحة لانتهاك وحدة أراضي جيرانها

استناداً إلى سياسة مبدئية ومنطقية، تدعم جمهورية إيران الإسلامية السلامة الإقليمية للبلدان المجاورة، وبينما تعارض احتلال هذه البلدان أو تقسيمها، فإنها تصر على ثبات الحدود الجغرافية. ومثلما عارضت إيران احتلال أرمينيا لقرة باغ وسبع مدن أخرى في أذربيجان، فإنها تعارض أيضاً احتلال أجزاء من أرمينيا بحجة ربط تركيا بباكو. والسبب أن انتهاك السلامة الإقليمية للدول، وتغيير الحدود الجغرافية يتسبب في أضرار جسيمة، وتهديدات أمنية للمنطقة، ويعطل التقدم الاقتصادي للدول. ولحسن الحظ، مع تقليص الخلافات بين باكو ويريفان واستعداد الطرفين لحل خلافاتهما سلمياً، ضعفت إمكانية نشوب صراع بين البلدين؛ لكن استفزاز الناتو لتركيا لعبور أرمينيا والوصول إلى بحر قزوين مستمر.

في هذا الوقت، عندما يكون هناك احتمال لإعادة تصميم الحدود الجغرافية بسبب الحرب في أوكرانيا، فمن المهم الإعلان عن موقف آية الله خامنئي في الاجتماع مع رئيسي تركيا وروسيا. وهذه التصريحات التي تعرب عن الارتياح لعودة قرة باغ إلى أذربيجان، وكذلك معارضة قطع الحدود التي تعود إلى ألف عام بين إيران وأرمينيا، تدل على احترام وحدة أراضي الجيران وإحدى أهم الركائز لسياسة الجوار في بلدنا. ويمكن لجميع جيران إيران أن يثقوا ويعتمدوا عليها في هذا الصدد، ويشاركوا بمسؤولية في ضمان أمن المنطقة. وباعتبارها جزءاً مهماً من طريق الحرير القديم، كانت إيران هي الرابط الذي يربط دول آسيا الوسطى والقوقاز بمناطق أخرى في آسيا بالإضافة إلى أوروبا وأفريقيا، كما أنها تدعم دائماً نقل البضائع والركاب في إطار المحافظة على وحدة أراضي دول المنطقة. وبطبيعة الحال، فإن التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث الصديقة والمجاورة، وهي إيران وروسيا وتركيا، من أجل الحفاظ على الحدود الجغرافية ومنع وجود الدول الأجنبية سيحافظ على استقرار المنطقة وأمنها.

 

_____________

“مناظير إيرانية”؛ هي سلسلة ترجمات لعيّنات مختارة، كاملة أو مُلخَّصة، من الأوراق التي تُصدرها مراكز التفكير والبحث والتحليل الإيرانية، وتهدف هذه السلسلة التي تُقدِّمها وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات، إلى إبراز القضايا العامّة التي تشغل المجتمع الإيراني من منظور النخبة العاملة في مراكز التفكير الإيرانية، ووضع اليد على القضايا التي تمثل أولوية واقعيّة لصانع القرار الإيراني، من المنظور نفسه. وبطبيعة الحال، فإن المقالات/الترجمات المنشورة في هذه السلسلة، تُعبِّر فقط عن آراء أصحابها فقط، ولا تعكس بأيّ حال توجهات أو آراء مركز الإمارات للسياسات أو فريق عمله.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/iranian-affairs/limadha-tuearid-iiran-muhawalat-taghyir-alhudud-aljughrafiat-limintaqat-alqawqaz

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M