جذور ممتدة: الأزمة السياسية في العراق وآفاق الحل

محمد عبد الرازق

ألقت فصول الأزمة في العراق والمستمرة منذ نتائج الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021 بظلال دراماتيكية على المشهد السياسي للبلاد، تحولت على إثرها العاصمة بغداد إلى ساحة احتراب يومي 29 و30 أغسطس بعدما دفع الفرقاء السياسيون بفصائلهم المسلحة إلى المنطقة الخضراء كأداة من أدوات التعبير السياسي التي عادةً ما تُستخدم في العراق منذ الغزو الأمريكي وسقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين عام 2003 وما تلاه من أزمات سياسية متعددة ومتشابهة إلى حدٍّ كبير. وبينما هدأت وتيرة هذه الأحداث القاتمة والدامية بعد كلمة زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر يوم 30 أغسطس التي دعا خلالها أنصاره إلى الانسحاب من كافة المظاهرات والاعتصامات؛ فإن فصول الأزمة السياسية لا تزال مستمرة.

جذور الأزمة

تُعد الأزمة السياسية الحالية في العراق بكل تجلياتها السياسية والميدانية والقضائية مظهرًا لجذور ممتدة من التأزم في المشهد العراقي ما بعد 2003 الذي أنتج صيغًا طائفية وتوافقية للحكم صيغت قانونيًا في دستور عام 2005 الذي كرس لهذه الأزمات، وجعل ظهورها ما هو إلا إعادة إنتاج للأزمة بنفس الوجوه والآليات وإن اختلفت الدوافع بين حقبة زمنية وأخرى، وهو ما يمكن استقراؤه فيما يلي:

1- العجز عن التوافق:

أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021 واقعًا برلمانيًا مشرذمًا بين عدد كبير من الكتل والقوى، فيما حاز التيار الصدري أكثرية عدد المقاعد عبر 72 مقعدًا، وهو ما أتاح له العمل على تشكيل حكومة “أغلبية وطنية” كما أرادها بالتحالف مع الكتلة السنية الممثلة في تحالفي تقدم وعزم، وكتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولأن جوهر الحكم وأسس العملية السياسية في العراق قامت منذ 2003 على مبدأ التوافق بين الكتل السياسية بحيث تكون جميعها ممثلة في الحكومة الجديدة أيًا كانت نتائج الانتخابات، كان مسعى زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر لتشكيل حكومة الأغلبية محكومًا عليه بالفشل، حتى وإن استطاع أن يكون الكتلة النيابية الأكبر.

وتمثل العجز عن تكريس مبدأ التوافقات السياسية بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في: أولًا، فشل التوافق بين الكتل الشيعية التي عادة ما كانت تخوض مفاوضات تشكيل الحكومة –رغم تعددها وانقسامها البيني- ككتلة واحدة تتفاوض مع الكتل الكردية والسنية، وكان هذا الفشل بسبب إصرار التيار الصدري، بدعاوى الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، على عدم الالتئام ضمن الكتلة الشيعية، بما دفع بقية القوى الشيعية إلى الاصطفاف المناوئ في الإطار التنسيقي للقوى الشيعية.

وثانيًا، فشل التوافق بين الكتل الكردية وتحديدًا حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني اللذين خاضا الانتخابات التشريعية لأول مرة بقوائم منفصلة، وظهرت الخلافات بينهما بعد الانتخابات في التوافق على مرشح لرئاسة الجمهورية مع إصرار كل حزب على مرشح مختلف، وهو ما أدى -في النهاية- إلى اختيار كل منهما تحالفًا مغايرًا، فاصطف الحزب الديمقراطي الكردستاني مع التيار الصدري وكتلتي عزم وتقدم السنيتين اللتين كونتا تحالفًا واحدًا تحت اسم “السيادة”، فيما اصطف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني مع الإطار التنسيقي للقوى الشيعية، وهو ما زاد من حدة الاستقطاب السياسي في البلاد.

2- الإصرار الإيراني:

على الرغم مما أظهرته نتائج الانتخابات في العراق من وجود ميل نسبي لدى العراقيين نحو التصويت للمناوئين للنفوذ الإيراني في البلاد سواء كانوا التيار الصدري أو القوى التغييرية المنبثقة عن الحراك الشعبي في أكتوبر 2019 في مقابل تراجع حصص القوى الموالية لإيران داخل البرلمان، فإن طهران قد أصرت على أن يستمر نفوذها وهيمنتها على المشهد السياسي في البلاد، من خلال الدعم المطلق للإطار التنسيقي للقوى الشيعية، وتبنيه خيار “لبننة” البرلمان العراقي عبر آلية الثلث المعطل في مواجهة تحالف “إنقاذ وطن” المكون من التيار الصدري وتحالف السيادة السني والحزب الديمقراطي الكردستاني.

ذلك علاوةً على استمرار زيارات قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى كل من بغداد وإقليم كردستان للعمل في بداية الأزمة على حلحلة الأزمة السياسية بما يُفضي إلى تكوين حكومة ائتلافية تقليدية، ثم ممارسة ضغوط على القوى المتحالفة مع الصدر للتراجع عن التحالف معه. مرورًا بدعم الإطار التنسيقي للقوى الشيعية بشكل كامل ودفعه إلى الاستمرار في مساره، خاصة بعد أن دفع مقتدى الصدر نوابه في البرلمان إلى الاستقالة، ما هيأ الفرصة ليرشح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني رئيسًا للوزراء، وحثهم على الاستمرار في ترشيح السوداني وعدم التراجع بناء على رفض الصدر. وصولًا إلى دفع المرجع الشيعي السيد كاظم الحائري الذي يتبعه الصدريون إلى إعلان اعتزال المرجعية ومطالبة الصدريين باتباع المرجع الأعلى في إيران علي خامنئي، والتشكيك في إمكانات مقتدى الصدر العلمية؛ بهدف ضرب مكانة الصدر الدينية والقيادية لدى أتباعه.

3- العوائق الدستورية:

أدت التطورات المتلاحقة في المشهد العراقي منذ سنوات إلى أن أصبح الواقع السياسي في البلاد متجاوزًا إلى حد كبير النصوص الدستورية، ما فتح الباب واسعًا للاجتهاد في تأويل الدستور حسب مصالح بعض الأطراف، ولعبت المحكمة الاتحادية العليا دورًا مهمًا في هذا الأمر؛ إذ باتت طرفًا أصيلًا في أزمات تشكيل الحكومة منذ عدة سنوات، وخاصة عام 2010 عندما تدخلت لترسي تفسيرات معينة لمفهوم الكتلة النيابية الأكبر التي -حسب المادة 76 من الدستور- يكلف رئيس الجمهورية مرشحها بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية، لتنصف به رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي بدلًا من زعيم “الكتلة العراقية” حينها إياد علاوي.

أما في الأزمة الراهنة، فكان دور المحكمة الاتحادية العليا متعلقًا بالنصاب القانوني الذي يصح بمقتضاه انعقاد جلسة اختيار رئيس الجمهورية؛ إذ اشترطت تحقق أغلبية الثلثين من أعضاء مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية القادم. هذا بالإضافة إلى دورها في تحديد الفترة الزمنية بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي يجب خلالها اختيار رئيس الجمهورية، وقيامها بتمديد هذه المدة أكثر من مرة، وكذلك إصدارها عددًا من القرارات والأحكام التي تضغط على خصوم الإطار التنسيقي للقوى الشيعية من الأكراد والسنة.

4- السلاح المنفلت:

يمثّل ما درج رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على تسميته بالسلاح المنفلت أحد أهم جذور الأزمات السياسية في العراق؛ إذ أدى امتلاك كل قوة سياسية لفصيل عسكري مسلح إلى استغلال هذه الفصائل لسلاحها كورقة قوة تفرضها على المشهد السياسي. وهو ما أنتج العديد من مظاهر الاقتتال والاحتراب الأهلي طوال السنوات الماضية. وعلى الرغم من عمل الكاظمي على حصر السلاح بيد الدولة ومأسسة قوات الحشد الشعبي ودمجها ضمن إطار القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية، فإن مظاهر الأزمة الراهنة قد أوضحت عدم النجاح في تحقيق هذا الهدف، واستمرار القوى السياسية في استخدام فصائلها المسلحة في الخلاف السياسي.

مسارات الأزمة

أدت العوامل المتجذرة للأزمة السياسية في العراق إلى حالة من الانسداد والشلل السياسي التام من خلال عجز البرلمان عن اختيار رئيس الجمهورية ومن ثم العجز عن تشكيل حكومة بعدما رشح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني بعد استقالة نواب التيار الصدري الأمر الذي أثار رفض مقتدى الصدر الذي قرر الاعتماد على سلاح التجييش الشعبي ودفع أنصاره إلى الاعتصام داخل مقر البرلمان ومن ثم تعطيل جلسات البرلمان، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، أدت إلى ظهور بوادر اقتتال شيعي عبرت عنه المواجهات المسلحة التي جرت في المنطقة الخضراء يومي 29 و30 أغسطس عقب إعلان مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي نهائيًا، بين المتظاهرين من أنصار التيار الصدري وعناصر سرايا السلام (الجناح العسكري للتيار) من جهة، والمتظاهرين من الإطار التنسيقي وعدد من الفصائل العسكرية المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي من جهة أخرى. ذلك قبل أن يتدخل مقتدى الصدر بدعوته يوم 30 أغسطس أنصاره إلى إنهاء كافة أشكال التظاهر والاعتصام، والتي مثّلت نقطة فارقة في مسار الأزمة بما أعاد الهدوء من جديد ولو بصورة مؤقتة.

وبناءً على ذلك يمكن استقراء مسارات وسيناريوهات الأزمة العراقية فيما يلي:

الحوار الوطني: رسمت كلمتا الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوم 30 أغسطس وتلويح الأخير بإعلان شغور منصبه في الوقت المناسب، ما يشبه خارطة طريق لتجاوز الأزمة الحالية، عن طريق الإسراع في عقد حوار وطني يفضي إلى انتخابات مبكرة، ما يعني بالضرورة حل البرلمان بتشكيلته الراهنة. وكان هذا الحوار الوطني قد انعقدت أولى جلساته يوم 17 أغسطس ورفض مقتدى الصدر المشاركة فيها. وعلى الرغم من تغير الظروف التي انعقدت فيها هذه الجلسة عن الظروف والملابسات الراهنة فإن مشاركة الصدر أو أي من تياره في هذا الحوار الوطني تبقى محل شك كبير، خاصة مع قراره اعتزاله العمل السياسي نهائيًا، رغم أنه قد يكون اعتزالًا مرحليًا فقط كما حدث عدة مرات من قبل.

وبناءً على ذلك سيكون انعقاد هذه الجلسة ومخرجاتها محل رفض مبدئي من جانب التيار الصدري أيًا كانت النتيجة. إلا أنه تبقت هناك احتمالات بأن يسهم هذا الحوار في رسم خارطة طريق حقيقية لإنهاء الأزمة تتمثل في استكمال انعقاد جلسات البرلمان بعدما أنهى الصدريون اعتصامهم وتظاهرهم أمامه، وعملهم بعد ذلك على تشكيل حكومة مؤقتة أو استمرار حكومة الكاظمي الحالية في مهام تصريف الأعمال في أمد معين يتم خلاله حل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة. ويبقى مكمن الخلاف هنا حول كيفية حل البرلمان؛ إذ يصر الإطار التنسيقي على ألا يتم ذلك قبل تعديل قانون الانتخابات الذي نظّم انتخابات 2021، وأن يتم وفقًا للإجراءات الدستورية.

الشرعية الدستورية: يمتلك الإطار التنسيقي للقوى الشيعية بمقتضيات اللحظة الراهنة الشرعية الدستورية التي تسمح له المضي قدما في مسارات اختيار رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، وقد باتت الظروف مهيأة لذلك بعد انتهاء الاعتصام أمام البرلمان، بما يسمح له بالدخول في مفاوضات مع القوى السنية والكردية للتوافق على متطلبات إتمام هذه الخطوات. وهو ما يعبر عنه بيان الإطار التنسيقي يوم 30 أغسطس الذي دعا إلى الإسراع بتشكيل “حكومة خدمة وطنية بمشاركة واسعة من جميع القوى السياسية الراغبة في المشاركة”.

وإن كان هذا المسار ممكنًا من الناحية النظرية فإنه على الجانب التطبيقي تظهر عوائق كثيرة أمامه، منها نجاح الإطار التنسيقي في التوافق مع القوى السنية والكردية، علاوة على ما يطرحه هذا المسار من احتمالات العودة من جديد إلى المواجهات الشعبية؛ إذ لا يمكن التسليم بأن قرار الصدر باعتزال العمل السياسي سيعني ابتعاده عن المشهد تمامًا، خاصة مع قدراته غير المحدودة في التأثير على قواعده الشعبية بالشكل الذي ظهر في سرعة استجابتهم لدعوته إياهم بالانسحاب من المنطقة الخضراء، وكذلك بالنظر إلى أن قراره الاعتزال وغلق المقرات لم يشمل سرايا السلام.

إجمالًا، تبدو الأزمة العراقية الحالية شديدة التعقيد، وستتوقف مساراتها بشكل كبير على موقف إيران بوصفها صاحبة النفوذ الأكبر في البلاد ومحركًا رئيسيًا لمسار الأحداث. وسترتب الأزمة الراهنة نتائج كبيرة على مستقبل العديد من الملفات تخصّ الداخل العراقي وعلاقاته الإقليمية، ولن يكون من اليسير الوصول إلى حالة استقرار سياسي وأمني قريبًا في ضوء هذه الأزمات المركبة، والتي تجعل من إصلاح بنية النظام السياسي وتعديل الدستور ضرورة ملحة لحل الأزمة الراهنة وتفادي نشوب أزمات شبيهة مستقبلًا.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20810/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M