هل تكفي خطة الطاقة الأوروبية للنجاة من الشتاء المقبل؟

د. أحمد سلطان

 

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية وفرض حزمة من العقوبات الصارمة على موسكو، وجدت دول الاتحاد الأوروبي نفسها في حرب من نوع آخر؛ حرب تهدف إلى حماية مواطنيها من أزمة الطاقة الطاحنة التي تعصف بها ودفعت أسعار الوقود والغاز إلى مستويات غير مسبوقة، ولذلك تعيش دول القارة أزمة اقتصادية حادة والتي بدأت تلقي بظلال اجتماعية على الطبقتين المتوسطة والفقيرة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على شكل احتجاجات رافضة لدفع ثمن الصراع الروسي الأوكراني. ومن جانب آخر، تسعى الحكومات الأوروبية إلى صياغة إجراءات جذرية من أجل تقليص الطلب على الطاقة واستمرار الحياة في فصل الشتاء المقبل ومواجهة تحدي غياب الغاز الروسي، والحد من تأثير أسوأ أزمة طاقة تشهدها منذ عقود طويلة.

قرارات اجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين

في محاولة طارئة للسيطرة على أسعار الطاقة المشتعلة في دول القارة، والتي تهدد بعواقب سياسية واجتماعية واقتصادية وخيمة خصوصًا مع حلول الشتاء؛ اتفق وزراء الطاقة الأوروبيون على عدة محاور لمعالجة ارتفاع أسعار الطاقة، في صورة تدابير مشتركة لتقليل الطلب على الكهرباء، وجمع وإعادة توزيع فائض إيرادات قطاع الطاقة على العملاء النهائيين ومنها:

  • خفض الطلب

وافق المجلس على هدف خفض إجمالي طوعي بنسبة حوالي ١٠٪ من إجمالي استهلاك الكهرباء وهدف خفض إلزامي بنسبة حوالي ٥٪ من استهلاك الكهرباء في ساعات الذروة، وذلك بين ديسمبر من العام الحالي ونهاية مارس من العام المقبل. وسيكون للدول الأعضاء الحرية في اختيار التدابير المناسبة لتقليل الاستهلاك لكلا الهدفين في هذه الفترة، مع وضع سقف للإيرادات عند حوالي ١٨٠ يورو/ميجاوات ساعة لمولدات الكهرباء، بما في ذلك الوسطاء الذين يستخدمون ما يسمى بتقنيات (inframarginal) لإنتاج الكهرباء، مثل مصادر الطاقة المتجددة والنووية والليجنيت (أحد أنواع الفحم الحجري).

وذلك وفقًا للجانب الذي يرى أن المشغلين حققوا مكاسب مالية كبيرة بشكل غير متوقع خلال الأشهر الماضية، دون زيادة تكاليفهم التشغيلية، ويرجع ذلك إلى دور الفحم والغاز كمصادر هامشية في تحديد الأسعار تؤدي حاليا إلى تضخيم السعر النهائي للكهرباء.

  • ضريبة لقطاع الوقود الأحفوري

وافقت الدول الأعضاء على تحديد مساهمة تضامنية إلزامية مؤقتة على أرباح الشركات العاملة في قطاعات الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم والتكرير)، وسيتم احتساب مساهمة التضامن على الأرباح الخاضعة للضريبة على النحو المحدد بموجب القواعد الضريبية الوطنية في السنة المالية والتي تبدأ في ٢٠٢٢ و/ أو في ٢٠٢٣، والتي تزيد على حوالي ٢٠٪ من متوسط ​​الأرباح السنوية الخاضعة للضريبة منذ عام ٢٠١٨.

وسيتم تطبيق المساهمة التضامنية بالإضافة إلى الضرائب والرسوم النظامية المطبقة في الدول الأعضاء، وبحسب البيان ستستخدم الدول الأعضاء عائدات المساهمة التضامنية لتوفير الدعم المالي للأسر والشركات، وللتخفيف من آثار ارتفاع أسعار الكهرباء بالتجزئة.

  • تدابير البيع بالتجزئة

يجوز للدول الأعضاء تحديد سعر مؤقت لتزويد الشركات الصغيرة والمتوسطة بالكهرباء لزيادة دعم تلك الشركات التي تكافح مع ارتفاع أسعار الطاقة. واتفقت الدول الأعضاء على أنه يجوز لها بشكل استثنائي ومؤقت تحديد سعر أقل من التكلفة لتوريد الكهرباء، وقدمت الدول الأعضاء استثناءات محددة لقبرص ومالطا.

ولكن بشكل عام توفر أسعار الغاز المرتفعة حافزًا ماليًا للصناعات والأسر لتقليل استهلاكها للغاز، وهو تغيير سلوكي تحاول الحكومات تشجيعه لضمان وجود وقود كافٍ لقضاء فصل الشتاء. ومن شأن تحديد سعر الغاز أن يحد من هذا الحافز، بل قد يشجع على استخدام المزيد من الغاز عندما تحتاج الحكومات إلى تطبيق سياسات لخفض الاستهلاك. فضلًا عن أن الدعم المالي المستهدف للأسر ذات الدخل المنخفض والشركات التي تضررت بشدة من ارتفاع الأسعار سيكون خيارًا أفضل من الإصلاح المتسارع للسوق.

وطبقًا لما سبق فإن خطة الإصلاح الجذري لقطاع الكهرباء وإنهاء تبعية أوروبا للغاز الروسي تتلخص في النقاط التالية:

  • تحديد عائدات توليد الطاقة لشركات الطاقة المتجددة والنووية بحوالي ١٨٠ يورو لكل ميجاوات/ساعة، مما سيسمح بجمع أكثر من حوالي ١٤٠ مليار يورو.
  • فرض ضريبة على الشركات العاملة في صناعات النفط والغاز والفحم والتكرير بنسبة لا تقل عن حوالي ٣٣٪ من أرباحها الإضافية.
  • حث الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على خفض الاستهلاك الإجمالي من الطاقة بحوالي ١٠٪، وفرض خفض الطلب خلال ساعات الذروة المحددة بنسبة حوالي ٥٪.

وسط انقسام أوروبي هل تكفي تلك الخطوات في نجاة أوروبا من برد الشتاء؟

رغم بعض النجاحات في الجهود المبذولة للحد من اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي في الفترة الأخيرة بما في ذلك ملء خزانات الغاز إلى مستويات تتجاوز نسبة حوالي ٨٠٪ في نهاية أغسطس الماضي.  فإن تلك المقترحات الأخيرة لا تقدم الحلول الواقعية والسريعة للتحديات التي تواجه القارة الأوروبية، لأن مثل هذه الخطط تُشكل خطرًا أيضًا بإبقاء الاستهلاك مرتفعًا، مع توافر مخاطر أخرى تطرحها الحلول المختلفة مثل تجزئة السوق وتعميق الانقسامات الاقتصادية بين الدول الأعضاء والتي تريد المفوضية الأوروبية تجنبها.

وبالرغم من تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأنه من المتوقع أن تحقق تلك الإجراءات عائدات بنحو حوالي ١٤٠ مليار يورو، فإن هناك نحو ١٥ دولة من الدول الأعضاء منها بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا تعتقد أن المشكلة الأهم لم تُعالج، وتطالب بوضع حد أقصى لسعر الغاز بالجملة في السوق الأوروبية، وتريد هذه الدول تطبيق الإجراء على كافة واردات الغاز، ولدرجة أن الوزير التشيكي صرح بأن على المفوضية أن تتحرك بسرعة، وأوضح “نحن في حرب طاقة مع روسيا، الشتاء قادم ويجب أن نتحرك الآن وليس بعد شهر”.

وفي وثيقة تحضيرية، اقترحت المفوضية تحديد حد أقصى لسعر الغاز الروسي المنقول عبر خطوط الأنابيب أو الغاز الطبيعي المسال والذي يمثل حاليًا حوالي ١٠٪ من الواردات الأوروبية، بعد أن كانت روسيا فيما مضى أكبر مورد للغاز إلى الاتحاد الأوروبي الذي كانت تمده بأكثر من حوالي ٤٠٪ من احتياجاته من الغاز. ولكن تلك الخطوة تُشكل خطرًا بإثارة وقف كامل للواردات دون أن يكون لها تأثير كبير على السوق؛ كون الغاز الروسي يُشكل الآن نسبة قليلة من العرض كما ذكرنا.

ولخفض الأسعار، تراهن بروكسل على المفاوضات مع سائر موردي الغاز المنقول عبر خط الأنابيب، ولكنها تعتقد أنه بالنسبة للغاز الطبيعي المسال فإن القدرة على التفاوض محدودة بسبب المنافسة العالمية في أسواق الغاز المسال. وبشكل عام، لا يوجد حل سريع واحد، ويتعين على الاتحاد الأوروبي العمل على خفض الأسعار، لكن لن يؤتي أي تحديد متوقع لسقف السعر ثماره ما لم يتم تخفيض الطلب على الغاز بشكل أكبر وذلك للأسباب التالية:

● الأسعار بشكل عام يحددها العرض والطلب، ولذلك هناك حالة من التخوف من من أن يؤدي تحديد الأسعار إلى تهديد الإمدادات الأوروبية من خلال دفع شركاء موثوق بهم مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو النرويج إلى الكف عن تسليم الغاز إلى الاتحاد الأوروبي لصالح جهات أخرى.

● هناك دول شرق أوروبا أو الدول غير المطلة على البحار مثل بولندا والنمسا تخشى من أن يؤدي تسقيف أسعار الغاز إلى قطع موسكو الغاز الطبيعي عنها نهائيًا، في وقت لا تملك فيه بنية تحتية كافية لاستيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة الأمريكية أو من دول أخرى، مما سينعكس سلبًا على إنتاج الكهرباء وتلبية حاجات مصانعها. وتعد المجر من أكثر الدول في الاتحاد الأوروبي الرافضة تمامًا لفكرة تسقيف أسعار الغاز الروسي، أو حتى تخفيض الكميات المستوردة منه عبر خطوط الأنابيب.

● سيؤدي إلى تعميق الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي، وبالأخص بين الدول التي ملأت خزاناتها من الغاز الطبيعي بنسب تخطت ٨٠٪ ولها بدائل لاستيراد الغاز من دول أخرى، وبين الدول الأوروبية التي لا تمتلك البنية التحتية اللازمة لاستبدال الغاز المسال بالغاز الطبيعي الروسي.

● تنفيذ قرار تسقيف أسعار الغاز، والذي تؤيده ١٢ دولة أوروبية على الأقل، من شأنه توسيع الصراع ليس فقط مع موسكو، بل مع الدول المصدرة للغاز بما فيها الحليفة والموثوقة.

ووفقًا لتلك النقاط المختلفة تُعد المشكلة الرئيسة بالنسبة للقارة الأوروبية هي الإمدادات الآمنة من الغاز الطبيعي وليست في تحديد سقف للسعر أو في تنفيذ الخطوات السابقة. وبشكل عام، فإن مساحة المناورة محدودة للغاية في سوق الغاز الطبيعي التي تتمتع بحالة خاصة من التقلبات الشديدة التي تشوهها ما يسميه الاتحاد الأوروبي باستخدام موسكو الغاز سلاحًا تتحكم فيه، ولذلك من الممكن إلقاء الضوء على بعض التحديات التي تواجه القارة الأوروبية.

تحديات تواجه أوروبا في الشتاء

تواجه دول الاتحاد الأوروبية العديد من من التحديات خلال الشتاء المقبل، في ظل تدهور إمدادات الغاز الروسي، ومن بعض تلك التحديات:

  • خفض استهلاك الغاز

إذا حُقق خفض استهلاك الغاز الطبيعي بنسبة أكثر من ١٥٪، وكان الطقس مناسبًا، فهناك احتمال أن تتمكن القارة من التأقلم خلال موسم التدفئة، حتى في حالة قطع كامل للغاز الروسي. علاوة على ذلك، يُشكل التوازن بين العرض والطلب تحديًا لألمانيا صاحبة القوة الاقتصادية؛ إذ من المتوقع أن تتقلص مخزونات الغاز لديها، مما يعني أنه لن يكون هناك ما يحول دون وقوع المفاجآت بما في ذلك البرد غير الطبيعي.

  • محطات الإسالة وضعف البنية التحتية

محطات الإسالة البرية غير متوافرة بشكل كافٍ في القارة الأوروبية؛ على سبيل المثال لا تمتلك ألمانيا محطة برية لمعالجة الغاز المسال المستورد، وتعتمد حاليًا على محطات في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يحد من قدرتها على الاستيراد. وتُمثل برلين محور ارتكاز للأزمة الحالية؛ إذ إنها المكان الذي يربط نورد ستريم بشبكة الغاز الأوروبية، وتعتمد المنازل والمصانع في البلاد بشكل كبير على الوقود بعد عقود من الاعتماد على الطاقة الروسية.

  • تحدي الكهرباء

على الرغم من أن الصناعات قد خفضت استهلاك الغاز، فإن الطلب على الوقود في توليد الكهرباء كان أعلى من المتوقع، وعطلت موجات الحر والجفاف الطاقات الكهرومائية الصيف الحالي، في حين أدت مياه الأنهار الأكثر دفئًا وانقطاعات محطات الطاقة النووية الفرنسية إلى كبح التوليد.

  • الانقطاعات المفاجئة في الإمدادات

يوجد خطر كبير يتمثل في الانقطاعات المفاجئة والمتكررة في الإمدادات، وعلى سبيل المثال حادثة محطة فريبورت للغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة الأمريكية والتي أدت إلى انخفاض ملحوظ وكبير في إجمالي الصادرات التي كانت في متناول القارة الأوروبية هذا الصيف وسط طلب ضعيف من الصين، لكن انخفاض الصادرات قد يكون ضارًا جدًا في الشتاء.

  • التضخم وارتفاع أسعار الطاقة

أزمة الطاقة التي تمر بها دول الاتحاد الأوروبي منذ بداية الحرب في أوكرانيا أدت إلى ارتفاع الأسعار وزيادة تكلفة المعيشة على نحو غير مسبوق، مما تسبب في أسوأ موجة تضخم يمر بها العديد من الدول الأوروبية منذ ما يقرب من نصف قرن؛ فأوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت تعتمد في الوفاء باحتياجاتها من الوقود على المواد المستوردة من الطاقة، وأصبحت في نفس الوقت تعتمد على النفط المستورد لتلبية ما يقرب من حوالي ٦٠٪ من احتياجاتها من الطاقة.

وارتفعت أسعار الطاقة بنسبة حوالي ٤١٪ جراء الحرب؛ إذ سجل السعر القياسي لشهر أكتوبر زيادة بنسبة أكبر من ١١٪ إلى ٢٠٤٬٥٠ يورو لكل ميجاوات/ساعة (جيجاوات/ساعة = ٣٬٢ مليون قدم مكعبة غاز). وعلى الرغم من الارتفاع، لا تزال أسعار الغاز أقل من أعلى مستوياتها المسجلة هذا العام، إلا أنها أعلى بنسبة حوالي ٢٠٠٪ مما كانت عليه مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

  • عامل الطقس

يُشكل الطقس أكثر العوامل المؤثرة والتي لا يمكن التنبؤ بها، وقد كان الشتاء الماضي معتدلًا نسبيًا تاركًا أوروبا مع مخزونات وقود أعلى من المتوقع. وتظهر توقعات شهر أكتوبر، عندما يبدأ موسم التدفئة، أن درجات حرارة ستكون أعلى من المعدل الطبيعي. وفي حال واجهت أوروبا بردًا قارسًا مشابهًا لعام ٢٠١٢، الذي كان أبرد شتاء في السنوات الماضية، فإن الطلب على الغاز في المنطقة سيكون نحو ٢٢ مليار متر مكعب، أو ما يعادل حوالي ٦٪ من الاستهلاك السنوي المعتاد، أي أعلى من الافتراضات الحالية.

مجمل القول، لم تتشكل مشكلة الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي في يوم وليلة، وبالتالي فحلها لن يكون بالأمر السهل. وبالرغم أن دول الاتحاد الأوروبي تلقي بكامل المسؤولية على موسكو وحربها في أوكرانيا، فإن جذور الأزمة أعمق من ذلك بكثير، فمنذ سنوات تعهدت جميع دول القارة الأوروبية بالتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، ولكن النمسا وهولندا وألمانيا عادت بسرعة إلى تشغيل المحطات الكهرباء التي تعمل بالفحم للحد من استخدام الغاز الطبيعي، مما يعني أن دول القارة لن تستطيع أن تقدم حلولًا طويلة المدى وأكثر استدامة، والقرارات الحالية لا تكفي لنجاة الشعوب الأوروبية من برد الشتاء. وبينما كان المنتصر في حربين الطاقة الأولى والثانية هو من يملك سلاح النفط والطاقة، وخرج العالم منهما أكثر اعتمادًا على النفط والغاز الطبيعي أكثر من أي وقت مضى، فإن السؤال الآن هو إلى أين تتجه حرب الطاقة الثالثة والتي بدأت منذ عقود وبالتحديد عندما قدمت موسكو نفسها كمزود للغاز الطبيعي لدول القارة الأوروبية؟ ومن سيخرج منها منتصرًا؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73273/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M