انزلاق مُتسَارِع نحو مواجهة كبرى: اتجاهات الحرب الروسية في أوكرانيا وعواقبها المحتملة

مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثامن، اتضحت أكثر درجة تزايُد المخاطر من تحوُّل الصراع إلى مواجهة شاملة، ينخرط فيها الفاعلون الرئيسيون في المنطقة ومحيطها.

 

حتى نهايات الشهر السادس من المواجهة القائمة، كان العنوان الرئيس المطروح هو التزام معايير الحرب بالوكالة أو إدارة الصراع بشكل غير مباشر. تحت هذا العنوان يمكن إدراج شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا التي زادت كماً ونوعاً في الشهرين الأخيرين، وكذلك النشاط الاستخباراتي الغربي القوي، الذي ساعد كييف على استعادة زمام المبادرة والشروع بعملية عسكرية مضادة سعت إلى تقويض إنجازات الكرملين والانتقال من الدفاع في عدد من المناطق الأوكرانية إلى شن هجمات مؤثرة أسفرت خلال شهر أغسطس عن توسيع رقعة الأراضي التي نجحت كييف في استعادتها وتعزيز مسار الهجوم المضاد في مناطق أخرى بشكل بات يُهدِّد جدياً العملية العسكرية الروسية، وكان من أحدث ملامح النجاح الأوكراني إعلانها استعادة السيطرة الكاملة على مركز ليمان للنقل والإمداد بشرق البلاد في 2 أكتوبر الجاري.

 

وضمن أولويات النشاط الاستخباراتي برزت عمليات تزويد الأوكرانيين بصور فضائية وإحداثيات لمواقع انتشار القوات الروسية وقوات الحلفاء من الانفصاليين الأوكرانيين، فضلاً عن إظهار المواقع التي تشكل نقاط ضعف رئيسية في بنائها العسكري واستعداداتها القتالية. وبين أسباب عديدة أخرى تتعلق بطبيعة الانتشار الروسي وآليات اتخاذ القرار العسكري وضعف الاستعداد النفسي للجنود، لعب هذا العنصر دوراً أساسياً في تمكين الأوكرانيين من تحقيق اختراقات قوية في خاركيف، وفي بعض المناطق المحيطة بدونيتسك.

 

هذه الخلفية الموجزة تضع مقدمة لاستطلاع ملامح التحركات اللاحقة، ومستوى تدهور الموقف نحو ترجيح اتساع نطاق المواجهة خلال المرحلة المقبلة.

 

الانتقال نحو خيار التقسيم 

لم يكن خيار تقسيم أوكرانيا، والعمل على ضم أجزاء منها إلى روسيا الاتحادية، مُستبعداً طوال الفترة السابقة، لأن هذا الخيار شكل دائماً الحد الأدنى المطلوب من جانب الكرملين لضمان تحقيق أهدافه، في ظروف اضطراره إلى الانجرار نحو حرب استنزاف طويلة الأمد. وشكَّل فشل القوات الروسية مع حلفائها الميدانيين من الانفصاليين والمتطوعين من مناطق مختلفة في تطويع أوكرانيا وتحقيق اختراقات ملموسة في المدن الرئيسة كان يمكن لها أن تسفر عن انهيارات واسعة في صفوف المقاومة الأوكرانية، عنصراً ضاغطاً على الكرملين طوال الأسابيع الماضية. كما أن التقدم الميداني الواسع للأوكرانيين في الهجوم الخاطف الذي أسفر عن استعادة نحو 3 آلاف ميل في محيط خاركيف، وإعادة سيطرتهم على ليمان، أربك حسابات الكرملين، وهذا ما بدا واضحاً في تضارب البيانات العسكرية الروسية لبعض الوقت، والتغطيات الإعلامية الرسمية التي فضلت تجاهل الحدث لفترة قبل أن تقر بالتطورات، وتعلن عن إعادة انتشار القوات الروسية في عدد من المواقع.

 

في ضوء هذه التطورات برزت لدى الكرملين خيارات عدة، كان بينها تطوير العملية العسكرية وانتقالها إلى استهداف مواقع السيطرة والتحكم لدى الجانب الأوكراني، بما يعني استهداف مواقع القيادة في كييف ومناطق أخرى. وتعزيز استهداف مواقع تخزين الأسلحة الغربية التي لعبت دوراً أساسياً في تحويل مسار المعارك في شرق أوكرانيا. فضلاً عن محاولة تضييق الخناق على القوات التي تحاصر مناطق زباروجيا ودونيتسك وخيرسون.

 

لكن الخيار الذي اتُّخذ كان تسريع وتيرة عملية ضم الأراضي في مناطق الجنوب الأوكراني، بما يعني فرض أمر واقع جديد في أوكرانيا وتحديد السقف الذي يسعى الكرملين إلى رسم ملامحه في أي تسوية سياسية مقبلة.

 

وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل أن قرار إجراء الاستفتاءات في مناطق أوكرانية كان مطروحاً للبحث منذ شهور، وكانت المهلة المحددة له لا تتجاوز الأول من سبتمبر وفقاً لتصريحات زعماء المناطق الانفصالية الذين تم تعيينهم من جانب موسكو. لكن الكرملين تردد طويلاً في دفع هذا المسار، ربما بسبب الرغبة في ترك الباب مفتوحاً أمام التوصل إلى اتفاق سياسي مربح، قبل أن يحسم قراره تحت ضغط التطورات الميدانية والتقدم الأوكراني في بعض المناطق. وبهذا المعنى فقد شكَّل قرار إجراء الاستفتاءات في الفترة بين 23 و27 سبتمبر المنصرم، والخطوات اللاحقة المتعلقة بإعلان ضم المناطق الاوكرانية رسمياً، خطوة اضطرارية روسية لنقل المعركة نحو سياق آخر، وحسم الوضع حول الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به الكرملين للذهاب نحو تسوية سياسية للنزاع.

 

ويحمل خيار الضم رزمة من المخاطر أبرزها أن روسيا ذهبت لضم مناطق لا تسيطر عليها بشكل كامل. وفي مقابل السيطرة على الجزء الأكبر من منطقة لوغانسك، فإن مساحة السيطرة في إقليم دونيتسك لا تزيد عن نصف أراضي المنطقة إدارياً وفقاً لتوزيع النفوذ عندما وقع التمرد العسكري فيها في 2014. فيما يشير بعض التقديرات إلى الثلث فقط.  وهنا ينبغي التذكير بأن الانفصاليين في تلك الفترة نجحوا بمساعدة روسيا في فرض سيطرة على مناطق محدودة من الإقليم، على مدى الأشهر السبعة الماضية، وعلى الرغم من توسيع هذه المساحات بدرجة معينة لكنهم فشلوا في إحكام سيطرة مطلقة على أكثر من نصف الإقليم. ينسحب الوضع نفسه على زباروجيا التي تحكم القوات الروسية السيطرة على ثلثي مساحتها فقط. بينما يبدو الوضع أفضل نسبياً في خيرسون التي تخضع غالبية مناطقها الادارية للسيطرة الروسية.

 

ذهاب الكرملين نحو تكريس واقع تقسيم أوكرانيا وضم أجزاء منها يعني وصول الوضع إلى نقطة اللاعودة، ليس فقط بالنسبة إلى أوكرانيا، بل بالنسبة إلى أوروبا أيضاً التي تواجه تحدياً صارخاً على صعيد تغيير خرائط الدول في القارة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية

 

لكن موضوع المساحات الخاضعة للسيطرة ليس العنصر الوحيد المهم، لأنه حتى هذه المناطق التي تخضع لسيطرة موسكو والقوات المتحالفة معها لا تعد هادئة، بل تشهد مواجهات ضارية على طول خطوط التماس. ويفتح هذا على سؤال مهم طُرح منذ اللحظة الاولى، عندما اعترفت روسيا في 21 فبراير باستقلال لوغانسك ودونيتسك، حول حدود المناطق التي استولت عليها روسيا. تتحدث الأوساط الروسية عن ضم كامل وفقاً للحدود الإدارية قبل 2014، ما يعني أن الخطوة اللاحقة تتمثل في الإعلان عن وجود مناطق “محتلة” من أراضيها تقع خلف خطوط التماس الحالية. وقد بدأ الكرملين يلوح بهذا الأمر عبر الاعلان عن أن العملية العسكرية الروسية “سوف تستمر حتى تحرير كل أراضي اقليم دونيتسك على الأقل”.

 

وهنا تظهر معضلتان أمام موسكو، الأولى تتعلق بقدرة موسكو العملية على إحراز تقدم واسع في فترة زمنية محدودة، على خلفية أن مسار المعارك خلال الشهور الماضية يظهر أن ذلك سوف يكون مكلفاً وصعباً للغاية.  والثانية ترتبط بإعلان موسكو السابق حول عدم السماح بمهاجمة أراضيها، ما يعني أن أي اعتداء على هذه المناطق سوف يشكل عدواناً عسكرياً مباشراً على أراض روسية، ما يستدعي رداً سريعاً وحاسماً.

 

في هذا الإطار، يبرز سؤال حول تداعيات استخدام القوات الاوكرانية أسلحة غربية لشن هجمات على الأراضي التي جرى ضمَّها حديثاً. وقد بدأت موسكو بإرسال إشارات تحذيرية في هذا الشأن عبر الرد على تصريحات وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن حول موافقة واشنطن على استخدام الأسلحة الغربية في المناطق التي استولت عليها روسيا، ما دفع الكرملين إلى التلويح بخطورة “الانخراط الأمريكي المباشر” في الحرب الأوكرانية وتحوُّل الولايات المتحدة إلى “طرف في المعركة”.

 

الأكيد أن ذهاب الكرملين نحو تكريس واقع تقسيم أوكرانيا وضم أجزاء منها يعني وصول الوضع إلى نقطة اللاعودة، ليس فقط بالنسبة إلى أوكرانيا، بل بالنسبة إلى أوروبا أيضاً التي تواجه تحدياً صارخاً على صعيد تغيير خرائط الدول في القارة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أن موسكو على المستوى القانوني تجادل بأن خطوتها ليست سابقة، مع التذكير بأن حلف الناتو عمد إلى شن عملية عسكرية ضد بوغسلافيا وأعاد ترتيب خرائط “بلدان جديدة” في وسط أوروبا في وقت سابق. ومع أن هذا الطرح لا يجد قبولاً على مستوى القانون الدولي، لكنه يظل محور سجالات لا تنتهي.

 

ملف إمدادات الطاقة 

بينما كان المجتمع الدولي مُنشغلاً بالتطورات التي أحدثتها الاستفتاءات الانفصالية التي قادت إلى اقتطاع أجزاء من أوكرانيا، جاءت سلسلة حوادث التخريب في أنبوبي إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا “نورد ستريم1″ و”نورد ستريم 2” لتلفت الأنظار أكثر إلى دخول المواجهة الروسية الغربية طوراً جديداً نوعياً، يمكن أن يسفر عن احتدام الصراع واتساع نطاقه. ومع الإعلان عن وقوع أربع عمليات تخريبية على الأقل تم كشفها حتى الآن، يبدو التوجه واضحاً نحو قطع طريق الإمدادات الروسية بشكل نهائي وتسريع وتيرة إيجاد البدائل للبلدان الأوروبية التي تعتمد بنسبة كبيرة على الغاز الروسي مثل ألمانيا.

 

واللافت هنا، أن كل الأطراف متفقة برغم الخلافات بينها على أن ثمة عملاً تخريبياً وقع، مع ارتفاع وتائر تبادل الاتهامات بين روسيا والغرب حول من يقف وراء هذا التطور. والعنصر الثاني المشترك أن كل الأطراف تحدثت عن وجود عمل إرهابي وراء التفجيرات التي أسفرت عن التسريبات الكبيرة في الغاز في مناطق سيطرة السويد والدانمارك، ما يدفع السجالات حول الموضوع نحو أبعاد جديدة لم تكن مطروحة في الصراع القائم حتى الآن.

 

وكان من الطبيعي أن تُوجه روسيا أصابع الاتهام إلى واشنطن بصفتها “المستفيد الأكبر” من هذا المسار. وهنا تمت إعادة التذكير بتصريحات سابقة للرئيس الأمريكي جو بايدن وهو يَعد بوقف إمدادات “نورد ستريم 2” في حال غزت روسيا أوكرانيا. ومهما كان شكل التطورات اللاحقة، يبدو توجه الطرفين الروسي والغربي نحو فتح تحقيق دولي ونقل الملف إلى مجلس الأمن مؤشراً إلى أن هذا الموضوع سيشكل عنصر سجال وتوتر جديد مفتوح على كل الاحتمالات. وهنا يمكن التوقف عند التحليل الروسي للأزمة الجديدة.

 

أولاً، يُعد تقويض “نورد ستريم 2” مفيداً للولايات المتحدة، لأنه يجعل أوروبا معتمدة كلياً على الغاز الأمريكي المسال، من خلال التحكم في سعره. وثانياً، من المفيد لبولندا، التي افتتحت في اليوم التالي بعد التخريب في “نورد ستريم” خط أنابيب غاز البلطيق، وبالتالي أصبحت المورد الرئيس للغاز من النرويج، مما دفع ألمانيا إلى الخروج من الصمام. وبطبيعة الحال، لا يمكن مقارنة سعة أنابيب البلطيق مع تيار الشمال، لكن البولنديين سيكون لديهم ما يكفي لتغطية احتياجاتهم، وسيكونون قادرين على إعادة بيع الفائض، على الأقل إلى ألمانيا.

 

لا يبدو الوضع الإقليمي حول روسيا مريحاً، ومن ضمن السيناريوهات المطروحة تأجيج الصراعات البينية في الفضاء السوفيتي السابق، وتعزيز مسار خروج عدد من البلدان من دائرة النفوذ الروسي، على رأسها كازاخستان وأوزبكستان

 

لكن في مقابل هذين العنصرين اللذين يعكسان وجهة نظر موسكو، فإن ثمة فرضيات أخرى تتحدث عن ذهاب بوتين نحو تعقيد ملفات المواجهة القائمة وإدخال عناصر جديدة عليها، وهو يستعد لفرض قرار تقسيم أوكرانيا. مع الأخذ بالاعتبار أن موسكو لن تخسر كثيراً في هذه المواجهة حول خطوط الإمدادات، التي كانت قد تقلصت بنسبة كبيرة أصلاً خلال الشهور الماضية، في “نورد ستريم واحد”، ولم يبدأ خط الإمداد الثاني العمل أصلاً بطاقته بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية. بعبارة أخرى، فإن موسكو التي تبدو مقتنعة بأن أوروبا سائرة في كل الأحوال نحو إيجاد بدائل سريعة للغاز الروسي، تكون قد وضعت على الطاولة مباشرة ومع اقتراب حلول فصل الشتاء تحدياً جديداً للبلدان الأوروبية التي لن تجد البدائل المطلوبة بشكل سريع. أو بعبارة أخرى تكون قد وجهت إنذاراً قوياً لبعض البلدان الأوروبية في لحظة حاسمة من الصراع في أوكرانيا.

 

بين الروايتين، الروسية والغربية، ثمة رابط قوي يقوم على أن المواجهة المتفاقمة حالياً بدأت تتخذ أشكالاً متعددة وأكثر عمقاً واتساعاً، ومن المستبعد أن تنجح الفكرة الروسية في فتح تحقيق دولي يشرف عليه مجلس الأمن، في تحقيق عوائد مفيدة للكرملين، ما يعني أن هذا الملف سيغدو جزءاً من الصراع المحتدم خلال المرحلة المقبلة. واللافت أيضاً هنا أن توقيت هذا التخريب جاء استكمالاً لحالة التسخين المتواصلة حول احتمالات استخدام أسلحة نووية تكتيكية من جانب روسيا في حال فشلت في فرض أجندتها ووقف الهجوم الأوكراني المضاد.

 

الوضع الإقليمي يزداد توتراً

إقليمياً، يبدو الوضع المحيط بروسيا في أسوأ مراحله على الرغم من مساعي الكرملين الحثيثة لإظهار قدرته على حشد طاقات الشركاء الإقليميين على أجندة مشتركة تتمثل في وقف تحركات الغرب الهادفة إلى مُفاقَمة التهديدات حول الفضاء السوفيتي السابق. وقد شكَّلت قمة شانغهاي التي عُقدت مؤخراً في سمرقند (أوزبكستان) اختباراً جدياً لهذا الواقع. وهنا يمكن التوقف عند العناصر الآتية:

 

  • فشلت موسكو في إظهار قدر كاف من تماسك التحالفات الإقليمية التي تقودها مع الصين، وطغت على أعمال القمة التوترات الإقليمية التي انتقلت إلى درجة عليا من السخونة، مثل المواجهات الحدودية بين قيرغيزستان وأوزبكستان (وهما عضوان مؤسسان في مجموعة شانغهاي) التي اتسع مداها خلال أعمال القمة لتشمل كل الشريط الحدودي بين البلدين. فضلاً عن تجدد المواجهات الأذرية الأرمينية (أذربيجان وأرمينيا، العضوين في المجموعة تحت بند شركاء الحوار) ما دفع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إلى مقاطعة القمة في اللحظة الأخيرة.

 

  • مع مساعي موسكو للاحتفاء بضم إيران رسمياً إلى المجموعة، ومنح صفة “شركاء حوار” إلى عدد من البلدان بينها أربع دول عربية، برزت الرغبة في تأكيد أن المجموعة تسير نحو تعزيز مكانتها الدولية، وتأكيد دعمها لموسكو، لكن هذا الأمر لم ينعكس في الوثائق الختامية وتصريحات الأطراف المشاركة لاحقاً، إذ انصب التركيز في البيانات الرسمية على تعزيز التعاون الاقتصادي التجاري وتوسيع مجالات التبادل بالعملات الوطنية، من دون التوقف طويلاً أمام التحديات السياسية والأمنية للمجموعة، وخصوصاً في إطار الأمن الجماعي الذي سعى الكرملين إلى أن يكون نقطة مفصلية في الحوار. كما أن الالتفاف حول فكرة “عالم متعدد الأقطاب” التي شكلت عنواناً للقمة، لم يكن بالمستوى المطلوب، وفي مقابل الإشارات الروسية والصينية المتعددة لهذا الموضوع، فإنه غاب عن كل تصريحات قادة آسيا الوسطى. وفي فترة لاحقة جاءت قرارات تركيا (وهي أيضاً عضو في المجموعة تحت بند شركاء الحوار)، وأوزبكستان الانسحاب من استخدام بطاقات “مير” المصرفية الروسية لتؤكد أنه حتى على المستوى الاقتصادي لم تنجح موسكو في تعزيز مسار التكامل ودعم تحركاتها على صعيد المواجهة الحاصلة مع الغرب.

 

  • على الرغم من الفوائد الكبرى التي تجنيها الهند والصين من صادرات النفط الروسي الرخيص الثمن حالياً، إلا أن الطرفين أعلنا خلال القمة عن مواقف تتباين بشكل قوي مع وجهات نظر الكرملين حيال الحرب الأوكرانية، وخصوصاً على صعيد ضرورة عدم التصعيد والعودة إلى مجال العمل السياسي لتسوية الأزمة.

 

الوضع الداخلي الروسي

حمل إعلان الرئيس الروسي التعبئة العسكرية الجزئية في 20 سبتمبر 2022 إشارة مهمة إلى إقرار موسكو بنقاط ضعف رئيسية في سير عملياتها العسكرية في أوكرانيا على خلفية التقدم الأوكراني في عدد من المناطق خلال الشهر الأخير. ونص القرار على تعبئة نحو 300 ألف عسكري للقتال في أوكرانيا، لكن التطورات اللاحقة على الصعيد الداخلي أظهرت انعكاسات غير متوقعة ووضعت مزيداً من الشكوك حول تأكيدات الكرملين بأن عملياته العسكرية تحظى بتأييد داخلي واسع. إذ قاد اندلاع موجة احتجاجات واسعة وغير مسبوقة منذ فبراير الماضي إلى إعادة طرح تساؤلات عن مدى موافقة الروس على الحرب الجارية. وعلى الرغم من أن التحركات الاحتجاجية قُمعَت بسرعة وبقوة، لكن تداعياتها بدأت تظهر بشكل جلي من خلال عمليات الهجرة الجماعية لفئات واسعة من الروس في المراحل العمرية الخاضعة لقرارات التعبئة العسكرية أو من المراحل التي تدخل في إطار قوات الاحتياط، تحسُّباً لتوسيع القرار الرئاسي باستدعاء الاحتياط.

 

اللافت أن طوابير مؤلفة من عشرات الكيلومترات رُصِدَت عبر الأقمار الصناعية في المناطق الحدودية مع فنلندا وجورجيا وكازاخستان ومنغوليا، وهي الجهات الأساسية لفرار الروس. ودفع ذلك كازاخستان إلى تقديم طلب مباشر للكرملين للتحرك ووضع حد لتفاقم عمليات المرور عبر الحدود، ما أجبر موسكو على إنشاء نقطة مراقبة عسكرية ومركز لملاحقة من تنطبق عليهم شروط التعبئة على الحدود مع كازاخستان. في الوقت ذاته أعلنت فنلندا وجورجيا إغلاق الحدود مؤقتاً. وطلبت منغوليا اتخاذ تدابير مماثلة لوقف التدفق.

 

قد يدفع الوضع الداخلي الروسي المتوتر الكرملين نحو مزيد من التصعيد الخارجي في إطار تجديد مساعي حشد التأييد الداخلي لما يُوصف بأنه “حرب شاملة غربية” ضد الروس

 

أظهرت هذه التطورات، ولجوء الكرملين بعد مرور أسبوع إلى إصدار قرار بحظر منح جوازات سفر خارجية إلى الفئات العمرية التي يمكن أن تشملها قرارات التعبئة، تزايد المخاوف والقلق على الصعيد الداخلي، وسيطر هذا الموضوع على نقاشات الروس في وسائل التواصل الاجتماعي، مُتقدماً بذلك على النقاشات الجارية حول ضم المناطق الأوكرانية، مع كل ما يحمل ذلك من دلالات.

 

ومن دون شك، فإن خطوة ضم المناطق الأوكرانية التي تدخل ضمن “العالم الروسي” وفقاً للترويج الإعلامي الكثيف، سوف تأخذ تحت تأثير التغطيات الإعلامية النشطة اهتماماً داخلياً معيناً، لكن هذا الواقع لا يخفي تصاعد معدلات التوتر والقلق لدى المجتمع الروسي، وهو أمر انعكس في وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل غياب استطلاعات حقيقية تظهر نسب ومعدلات دعم العملية في أوكرانيا، وخطوات الكرملين على صعيد تصعيد المواجهة مع الغرب. والعنصر البارز هنا هو توقُّع الأسوأ بالنسبة إلى فئات كثيرة ترى أن الفترة المقبلة قد تحمل قرارات بتعبئة عسكرية شاملة، وقد تتطور لإغلاق جزئي أو كامل للحدود مع البلدان المجاورة.

 

خلاصة واستنتاجات

مع إعلان روسيا رسمياً قرار ضم أجزاء واسعة من أوكرانيا تصل مساحتها الكلية إلى أكثر من 100 ألف كيلومتر، وتشكل الجزء الغني بموارده وقدراته على صعيد الصناعة والنقل البري والبحري، تدخل المواجهة في أوكرانيا منعطفاً جديداً تزداد خطورته كونه يحمل مقدمات اتساع نطاق المعارك وتوسيع انخراط اللاعبين الخارجيين فيها. وذهاب الكرملين نحو تكريس تقسيم أوكرانيا يحمل تحديداً للحد الأدنى المقبول من جانب موسكو لإيجاد تسوية سياسية تنطلق من الأمر الواقع الجديد. ومع استبعاد قبول كييف والأطراف الغربية الداعمة لها لاستئناف الحوار مع الرئيس الروسي على هذه الخلفية، فإن المقدمات الأولى القائمة على فرض رزم عقوبات جديدة وتعزيز مسار إمدادات الأسلحة إلى كييف تنذر بأن المرحلة اللاحقة ستكون أكثر حدة وسخونة مع غياب أي أفق لعملية سياسية.

 

ولا ريب في أن دخول عنصري التهديد النووي وتهديد إمدادات الطاقة من روسيا على خط المعارك الجارية يضع مقدمات خطرة للسيناريوهات المنتظرة لاحقاً. يضاف إلى ذلك عنصر الأمن الغذائي الذي ما زال يمكن أن يكون سلاحاً خطراً موجهاً لحشد تأييد لروسيا في بلدان العالم النامي وجزء كبير من البلدان المتضررة بسببه. فضلاً عن ذلك، لا يبدو الوضع الإقليمي حول روسيا مريحاً، ومن ضمن السيناريوهات المطروحة تأجيج الصراعات البينية في الفضاء السوفيتي السابق، وتعزيز مسار خروج عدد من البلدان من دائرة النفوذ الروسي، على رأسها كازاخستان وأوزبكستان.

 

وبموازاة ذلك، قد يدفع الوضع الداخلي الروسي المتوتر الكرملين نحو مزيد من التصعيد الخارجي في إطار تجديد مساعي حشد التأييد الداخلي لما يُوصف بأنه “حرب شاملة غربية ضد الروس”. وفي هذا الإطار فإن عمليات ضم أجزاء من أوكرانيا، وبرغم أنها في ظاهرها حالياً قد تحظى بتأييد شرائح واسعة من أنصار التيار القومي-السلافي، إلا أنها على المدى الأبعد تطرح أسئلة حول تكلفة هذه العملية على المواطن الروسي، وهذا الأمر كان قد طُرح في أوقات سابقة بعد ضم شبه جزيرة القرم، وقبل ذلك بعد إعلان موسكو الاعتراف بانفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/ainzilaq-mutsarie-nahw-muajaha-kubra-aitijahat-alharb-alruwsia-fi-uwkrania-waawaqibuha-almuhtamala

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M