مَنصَّة جديدة لأوروبا القديمة: هل تنجح «المجموعة السياسية الأوروبية» في تطوير التعاون بين دول القارة؟

باسم راشد

 

عقد قادة 44 دولة أوروبية (27 دولة منضوية في الاتحاد الأوروبي، و17 من خارجه) في العاصمة التشيكية براغ، يوم 6 أكتوبر الماضي، لقاءً هو الأول من نوعه، لإطلاق المجموعة السياسية الأوروبية European Political Community. تُسلِّط هذه الورقة الضوء على هذا الكيان الأوروبي الجديد، وأهداف تأسيسه، ودلالات الإعلان عنه في هذا التوقيت، وهل يُعد بديلاً عن الاتحاد الأوروبي أم كياناً موازياً له؟

 

السياق والأهداف

تُعدُّ “المجموعة السياسية الأوروبية” فكرة فرنسية خالصة، أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون في 9 مايو الماضي بُعيد إعادة انتخابه لولاية ثانية. وبعدها بشهر، أي في يونيو 2022، عرض ماكرون رسمياً مقترح إنشاء المجموعة في اجتماع للمجلس الأوروبي، وقُوبل المقترح بترحيب ودعم ألمانيين سهَّلا خروج المقترح للنور.

 

وتسعى المجموعة الجديدة، من حيث المبدأ، إلى إيجاد استراتيجيات لمعالجة المخاوف المشتركة، مثل الطاقة والاقتصاد والغزو الروسي لأوكرانيا، عبر دعم التنسيق السياسي بين الدول، كما أنها لا تدخل في إطار هياكل الاتحاد الأوروبي التقليدية. وحدد المجلس الأوروبي الأهداف الرئيسة للمجموعة في تعزيز الحوار السياسي، ومعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز الأمن والاستقرار والرخاء في أوروبا.

 

ومن الواضح أن هذا التجمع الجديد يهدف إلى توسيع مناقشة القضايا الاستراتيجية مع شركاء أوروبيين آخرين، سواء داخل الاتحاد أو خارجه، باعتبار أن التحديات والتهديدات الراهنة والمستقبلية لن تقتصر على دول الاتحاد الأوروبي فحسب. لذا، شهدت أجندة الاجتماع الأول للمجموعة مناقشة ملفات مثل الأمن والسلام والتهديدات الأمنية والأزمات التي تواجهها أوروبا في مجالات الطاقة والمناخ والاقتصاد والهجرة. وتم الاتفاق على عقد قمتين للمجموعة كل عام، واحدة في دولة داخل الاتحاد الأوروبي والتالية في دولة من خارجه بهدف دعم ترسيخ الفكرة، لذا ستُعقد القمة المقبلة في ربيع 2023 في مولدوفا، على أن تليها اسبانيا ثم بريطانيا.

 

ويعكس التسريع بإنشاء هذه المنصة الجديدة في خضم التحديات العاصِفة التي تشهدها أوروبا جرَّاء الحرب الروسية الأوكرانية، مجموعة من الدلالات والرسائل السياسية المهمة، لا للخصوم فحسب بل للحلفاء أيضاً. لعلَّ أبرزها الآتي:

 

1. إظهار الوحدة الأوروبية في مواجهة روسيا، وذلك في ظل وجود إجماع أوروبي على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا مع استمرار وجود تباينات بشأن آلية التعامل معها. والرسالة الأساسية هنا ليست فيما توصل إليه الاجتماع بشأن روسيا، لكن في الاجتماع ذاته، الذي اعتبره مراقبون حدثاً تاريخياً جمع كل الدول الأوروبية مع استبعاد روسيا وبيلاروسيا. وقد أشار مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى أنه كان على أجندة القمة عزل روسيا بوتين على الساحة الدولية.

 

نجح الاجتماع الأول للمجموعة السياسية الأوروبية في ضم دولٍ أوروبية بينها خلافات حادة على طاولة واحدة، مثل اليونان وتركيا، وأرمينيا وأذربيجان. وكان حضور رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس (والتي استقالت بعد أيام قليلة من الاجتماع)، بمثابة رسالة إيجابية تعكس احتمالية استعادة التقارب والدفء بين بروكسل ولندن

 

2. تعزيز استقلالية أوروبا عن الحليف الأمريكي، إذ إن هذا الكيان الجديد يعكس رغبة أوروبية في كسر الصورة النمطية المأخوذة عنها بتبعيتها للولايات المتحدة في أزمة الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها، خاصةً مع ظهور اختلافات بين بروكسل وواشنطن بشأن أسعار الغاز. ففي كلمة أمام مؤتمر لرجال الأعمال في باريس، في 8 أكتوبر الجاري، انتقد ماكرون رفع الولايات المتحدة والنرويج أسعار الغاز المُباع لأوروبا، قائلاً: “بروح الصداقة العظيمة، سنقول لأصدقائنا الأمريكيين والنرويجيين: أنتم رائعون، لأنكم تزودوننا بالطاقة والغاز، لكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة هو أن ندفع أربعة أضعاف السعر الذي تقومون بالبيع به للصناعة لديكم، وهذا ليس المعنى الدقيق للصداقة”.

 

3. إبراز القدرة المبدئية على تجاوز الخلافات البينية بين الدول الأوروبية، فقد نجح الاجتماع الأول للمجموعة السياسية الأوروبية في ضم دولٍ أوروبية بينها خلافات حادة على طاولة واحدة، مثل اليونان وتركيا، وأرمينيا وأذربيجان. ومن ناحية أخرى، كان حضور رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس (والتي استقالت بعد أيام قليلة من الاجتماع)، بمثابة رسالة إيجابية تعكس احتمالية استعادة التقارب والدفء في العلاقات بين بروكسل ولندن مرة أخرى بعد البريكست، خاصةً في ظل وحدة الهدف (مواجهة روسيا)، وتبَّني تراس نبرة أكثر ليونة وهدوءً تجاه الاتحاد الأوروبي في الفترة الماضية.

 

قمة استثنائية

كانت القمة الأولى للمجموعة السياسية الأوروبية استثنائية بدرجة كبيرة؛ إذ كانت بمثابة “منتدى مفتوح من دون جدول أعمال تفصيلي مسبق، ودون تخطيط لإصدار بيان أو توصيات ختامية. وكانت عبارة عن سلسلة من الاجتماعات، بعضها جماعي، والبعض الآخر نُظِّمَ في شكل قمم ثنائية أو أكثر، ناقش خلالها القادة التحديات العامة التي تواجه القارة”، وتحديداً في مجالات الأمن والسلام في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الطاقة.

 

واتفق القادة بشكل عام على تقديم الكثير من المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، وهو التوجه الذي تعزز خلال قمة الاتحاد الأوروبي اللاحقة، في 7 أكتوبر، إذ أعلن الرئيس الفرنسي عن تأسيس صندوق بقيمة 100 مليون يورو، لتمكين كييف من شراء العتاد العسكري بشكل مباشر من مُصنِّعي الأسلحة لدعم جهودها في مواجهة روسيا.

 

وبدا ملحوظاً اتفاق القادة الأوروبيين على ضرورة وضع حد أقصى لأسعار الغاز، لكن كانت هناك اختلافات حول هل يتم فرض سقف للسعر على الغاز بجميع أصنافه، أم سقف لسعر الغاز المستخدم لتوليد الكهرباء فقط، أم سقف لسعر الغاز الروسي فحسب. وعلى رغم عدم الخروج بنتيجة بشأن ذلك، فإن دول الاتحاد الأوروبي وافقت على خطوات مشتركة أخرى للمساعدة في تخفيف وطأة أزمة الطاقة الحادة التي تواجه أوروبا حالياً، خاصةً في ضوء استمرار ارتفاع أسعار الغاز عالمياً.

 

وفيما يذهب بعض المراقبين إلى اعتبار هذا الاجتماع بمثابة “نقلة نوعية” في العمل الأوروبي المشترك، لكن هذه القمة رغم اتفاقها على العديد من الخطوط العامة فإنها ظلت تحتضن الخلافات العميقة بين أعضائها؛ ومجرد عدم وجود بيان ختامي للقمة يعكس إدراكاً مسبقاً بعمق الخلافات والتناقضات بين الدول الأوروبية في معظم الملفات، ومن ثم فقد أراد القادة القفز فوق هذه الخلافات وإظهار الصورة العائلية العامة التي تعكس الوحدة دون إبراز الانقسامات كما كان يُراهِن الروس.

 

فرص وتحديات نجاح المجموعة السياسية الأوروبية

يتحدد نجاح المجموعة السياسية الأوروبية الجديدة وقدرتها على تحقيق أهدافها، في ضوء عدد من الفرص التي توفرها، والتحديات التي تعترضها، وأهمها الآتي:

 

 أ. الفرص

  • توفير المجموعة مساحة للتشاور بين دول القارة كافة في الشؤون السياسية والأمنية، فعلى رغم أنه من غير المعروف حتى الآن إذا ما كانت المجموعة ستصبح منظمة أم مجرد اجتماعات دورية، فإنه يُراد للمنصة الجديدة أن تعمل على سدِّ الفجوة التي لا يمكن للاتحاد الأوروبي سدَّها، عبر توفير صيغة تشاورية تجمع الدول الأوروبية من داخل الاتحاد، ومن خارجه للنقاش حول التحديات المشتركة، على أمل تأسيس مشروعات تعاونية مستقبلية في مجالات أساسية مثل الطاقة والأمن.
  • دعم انخراط الدول من خارج الاتحاد الأوروبي (سواء المنسحبين منه مثل بريطانيا، أو الراغبين في الانضمام إليه مثل أوكرانيا وتركيا ودول البلقان) في تحديد آليات التعامل مع التهديدات التي تواجه القارة، خاصةً مع إبراز عدم استئثار الاتحاد الأوروبي بشكل مركزي في تحديد توجهات المجموعة السياسية الأوروبية لاحقاً.
  • تعزيز مرونة التعاون الأوروبي-الأوروبي؛ إذ يمكن للصيغة الجديدة أن تجعل التعاون الأوروبي أكثر مرونة، وتفتح المجال لأن يعمل في أكثر من اتجاه. وسيكون في وسع أي دولة داخل هذه المنصة أن تتصرف على أساس أنها داخله وخارجه في الوقت ذاته، إذ لا يوجد قانون يمنعها أن تتعاون مع الاتحاد ككتلة أو كدول منفردة، وفي الحالتين تستفيد من المزايا المشتركة للتعاون.
  • الدعم الألماني الفرنسي للمبادرة؛ فقد درجت العادة أن تحتاج أي مبادرة أوروبية إلى الرافعة الألمانية الفرنسية أولاً كي تتمكن من الانطلاق، وذلك لقدرتهما على توفير القوة الدافعة لها، ومن الواضح أنه ما كان لباريس أو لبرلين المبادرة بهذا المشروع، إلا نتيجة إدراكهما مدى صعوبة تعامل الاتحاد الأوروبي مع تداعيات الأزمة الأوكرانية، التي يُتوقَّع تفاقمها مستقبلاً، فضلاً عن الأزمات الأخرى مثل الطاقة والاقتصاد والهجرة وغيرها.

 

غالبية المؤشرات تُرجِّح أن المجموعة السياسية الأوروبية لن تكون كياناً موازياً للاتحاد الأوروبي أو بديلاً عنه، ولا يُتوقَّع أيضاً أن تكون مُكمِّلاً للاتحاد، بالنظر للتحديات العميقة التي تواجهها المجموعة والتي تدحض فرص نموها واستمرارها في ظل وجود مؤسسات أكثر فعالية مثل الاتحاد الأوروبي

 

ب. التحديات

  • محدودية جدوى وفعالية المجموعة الأوروبية الجديدة؛ ويظهر ذلك في عدة أمور: 1) ضآلة احتمالات تمكُّن المجموعة من حل المشكلات التي لم تستطع المؤسسات الأوروبية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو مجلس أوروبا حلَّها. 2) الطبيعة التشاورية غير الملزمة للكيان الجديد، والتي تُحوِّله لمجرد آلية أو فرصة للتداول وتبادل المعلومات والأفكار حول الموضوعات لا أكثر. 3) وجود ضبابية حول هيكل المجموعة السياسية الأوروبية، وحدود دورها، وآليات اتخاذ القرار بها؛ فلا يوجد هيكل واضح لها مثل الأمانة العامة التي ستتولى العمل الإداري، وتنظيم الاجتماعات اللاحقة، كما إنه إذا كانت طبيعة الكيان نفسه تشاورية في حد ذاتها فليس من المنتظر صدور قرارات مصيرية ملزمة منها. 4) غموض مسألة الموازنة؛ وما إذا كان يتوجب تخصيص صندوق مالي مشترك لتغطية تكاليف المشاريع المختلفة التي يمكن إنجازها ضمن المجموعة، أو ما إذا كان يجب على الدول المشاركة أن تساهم بالمساعدة وفقاً لمصالحها.
  • تبايُن نظرة الدول الساعية للانضمام للاتحاد للمجموعة الجديدة، إذ يوجد اتجاهان متعارضان في طبيعة نظرة هذه الدول للكيان الجديد؛ فمن ناحية، يراه البعض آلية مكملة للاتحاد وستقرِّبهم من الانضمام له لاحقاً، في حين يعتقد البعض الآخر أن المجموعة منصة بديلة للاتحاد الأوروبي الذي تُعارِض دول داخله توسيعه ليشمل دولاً أخرى. وفي هذا الصدد، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن محللين أن مقترح الرئيس الفرنسي ينبع من معارضة فرنسا توسيع الاتحاد الأوروبي، وكانت حكومة ماكرون استخدمت عام 2019 الفيتو ضد فتح مفاوضات انضمام كل من ألبانيا ومقدونيا الشمالية، ومن ثم يُنظَر إلى أن الغاية الأساسية لهذه المنظمة هي إبقاء طلبات انضمام تلك الدول مُعلقَّة إلى ما لا نهاية، وذلك على الرغم من تشديد بعض المسؤولين الأوروبيين على أن “إنشاء المجموعة السياسية لن يكون بديلاً عن سياستها الخاصة بتوسيع الاتحاد الأوروبي”.
  • وجود خلافات حادة بين الدول الأعضاء في المجموعة الجديدة؛ ولا تقتصر الخلافات هنا على الدول داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. كما تنصرف هذه الخلافات أيضاً إلى خلافات ثنائية (اليونان وتركيا، أذربيجان وأرمينيا)، وكذلك خلافات حول قضايا مصيرية مثل طبيعة التعامل مع روسيا وأزمة الطاقة وغيرها. بالإضافة إلى التباينات العميقة بين شرق ووسط أوروبا وغربها على المستويات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية.
  • محدودية تأثير المجموعة السياسية الأوروبية في التغيرات الهيكلية التي تحدث بالقارة الأوروبية؛ بفعل الطبيعة التشاورية للمجموعة الجديدة، واحتمالية تسيُّد الاتجاه القومي وغلبة المصالح الوطنية على التعاون الإقليمي، خاصةً أن هذا يحدث بالفعل داخل دول الاتحاد الأوروبي نفسها (بولندا والمجر وإيطاليا) نتيجة صعود التيارات الشعبوية فيها، فكيف إذن بالدول غير الأعضاء بالاتحاد (تركيا مثلاً).

 

الاستنتاجات

لا تزال هناك أمور كثيرة غير واضحة بشأن المجموعة السياسية الأوروبية الجديدة، وربما ينبع ذلك من التسرَّع في إظهارها عالمياً لتوجيه رسالة بالوحدة الأوروبية في مواجهة التهديدات الروسية تحديداً. لكن غالبية المؤشرات تقود إلى أن هذا الكيان الجديد لن يكون موازياً للاتحاد الأوروبي أو بديلاً عنه، ولا يُتوقَّع أيضاً أن يكون مُكمِّلاً للاتحاد، بالنظر للتحديات العميقة التي يواجهها والتي تدحض فرص نموه واستمراره في ظل وجود مؤسسات أكثر فعالية مثل الاتحاد الأوروبي. وفي المحصِّلة النهائية، من المحتمل أن يكون الكيان الجديد مجرد منظمة جديدة قصيرة العمر، على غرار “الكونفدرالية الأوروبية” التي اقترحها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في عام 1989، إلا إذا أُعيد النظر فيه مستقبلاً؛ عبر هيكلته بشكل مناسب، وتحديد آليات واضحة لاتخاذ القرارات داخله، وحدود الإلزامية.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/hal-tanjah-almajmua-alsiyasia-al-uwrubiya-fi-tatwir-altaawun-bayn-dual-alqara

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M