منذ بدايات العام الجاري تحديدًا في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تكررت في خطابات وتصريحات الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” العديد من المصطلحات المتعلقة بأشياء على غرار الهجوم الأيديولوجي على القيم الروسية من الغرب، والمليار الذهبي، وتقسيم الشعوب إلى صنف أول وثاني وهكذا. ففي خلال كلمته، 20 يوليو، في منتدى “أفكار قوية للعصر الجديد”، قال إن فكرة الهيمنة الكاملة للمليار الذهبي هي فكرة عنصرية واستعمارية جديدة بطبيعتها. وأضاف، “يفتقد نموذج الهيمنة الكاملة لما يسمى بالمليار الذهبي، لأية عدالة. لماذا من بين كل سكان الأرض يجب أن يهيمن هذا المليار الذهبي على الجميع؟ ويفرض قواعد سلوكه الخاصة عليهم؟”.
وتكرر الحديث كذلك مرة أخرى في ذات الصلة، بتاريخ 30 سبتمبر، خلال مراسم احتفالية التوقيع على مراسيم الموافقة على انضمام أربع مقاطعات جديدة إلى روسيا، عندما ذكر الرئيس الروسي خلال الخطاب المطول عددًا من العبارات المتعلقة بالأمر نفسه؛ على غرار “إن عدوانهم تجاه الدول المستقلة، تجاه القيم التقليدية والثقافات الأصلية”، و”ديكتاتورية النخب الغربية موجهة ضد كل المجتمعات، بما في ذلك شعوب الدول الغربية نفسها، إن مثل هذا الإنكار الكامل للإنسان، والإطاحة بالإيمان والقيم التقليدية، وقمع الحريات بشكل يكتسب سمات الدين المعكوس، وهو شيء شيطاني صريح”.
وطرح “بوتين” في الخطاب نفسه عددًا من التساؤلات التي جاءت كالتالي: “هل نريد، هنا في بلدنا، في روسيا، بدلًا من الأب والأم، أن يكون هناك الوالد الأول والوالد الثاني والوالد الثالث؟! لقد فقدوا رشدهم تمامًا بالفعل. هل نريد حقًا أن تفرض الانحرافات التي تؤدي للتدهور والانقراض على مدارسنا من الصفوف الابتدائية؟! أن يتم إخبارهم أنه من المفترض بهم قبول أجناسًا أخرى غير النساء والرجال، وأن يُعرض عليهم عملية تغيير جنسهم؟ هل نريد كل هذا لبلدنا وأطفالنا؟! بالنسبة لنا، كل هذا غير مقبول، لدينا مستقبل مختلف.”
وبتاريخ 9 نوفمبر من العام الجاري، قرر الرئيس الروسي أن ينقل حربه على ما يُطلق عليه الأيديولوجية الغربية الهدامة إلى مستوى أكثر دفاعية، من خلال التوقيع على مرسوم بشأن الموافقة على أساسيات سياسة الدولة للحفاظ على القيم الروحية الأخلاقية التقليدية لروسيا وتعزيزها، وهي الوثيقة التي نقدم خلال السطور التالية قراءة في أبرز معالمها.
الأحكام العامة للوثيقة
تحتوي هذه الوثيقة على أساسيات التخطيط الاستراتيجي في مجال ضمان الأمن القومي لروسيا الاتحادية في مجال حماية القيم الروحية والأخلاقية التقليدية لروسيا بما في ذلك الثقافة والذاكرة التاريخية للبلاد. وتُفسر هذه الوثيقة لفظة “القيم التقليدية” بوصفها التوجيهات الأخلاقية التي تصوغ عقائد المواطنين الروس، والتي تنتقل من جيل إلى جيل وتؤسس الهوية المدنية والفضاء الثقافي للبلاد، وتعزز من الوحدة المدنية.
وتشتمل القيم التقليدية على: “الحياة، والكرامة، وحقوق الإنسان، والمثل الأخلاقية السامية، والأسرة المتينة، وأولوية الروحانية على المادية، والإنسانية والرحمة والعدالة..” وغيرها من القيم المُثلى التي وردت في الوثيقة بشكل مفصل. وفيما يتعلق بالشق الديني، فإن الوثيقة تُعد المسيحية والإسلام والبوذية واليهودية والأديان الأخرى جزءًا لا يتجزأ من التراث التاريخي والروحي الروسي. مع ملاحظة، أنه قد تم تقديم الديانة البوذية على اليهودية في الوثيقة، بشكل يلفت الانتباه إلى الطابع السياسي للبنود التي تستبعد الأديان وتقوم بترتيبها وفقًا لطبيعة العلاقات السياسية بين روسيا والبلد التي يغلب عليها الدين المذكور. وتُعد الوثيقة القيم التقليدية أساسًا للمجتمع الروسي، حيث تتيح حماية وتعزيز سيادة روسيا، وتضمن وحدة الدولة المتعددة الجنسيات والأديان.
التهديدات والمخاطر
تُشير الوثيقة إلى أن هناك تهديدات ومخاطر مُحدقة بالقيم التقليدية الروسية، خاصة في ظل أزمة حضارية وقيمية عالية ربما تؤدي إلى فقدان البشرية المرجعية الروحية الأخلاقية التقليدية. وعلى هذا الأساس، يتطلب اتخاذ تدابير عاجلة لحماية القيم التقليدية من المخاطر الناجمة عن أنشطة المنظمات المتطرفة والإرهابية، وبعض وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، وأعمال الولايات المتحدة الأمريكية ودول أجنبية أخرى غير صديقة، وعدد من الشركات العابرة للقومية والمنظمات الأجنبية غير الربحية، بالإضافة إلى أنشطة بعض المنظمات والأفراد على أراضي روسيا الاتحادية.
ووصفت الوثيقة المخاطر الفكرية والثقافية على المجتمع الروسي بلفظة “الأيديولوجية المُدمرة”؛ والتي ينطوي انتشارها على مخاطر كثيرة مثل: خلق ظروف التدمير الذاتي للمجتمع، وإضعاف الأسرة والصداقة والروابط الاجتماعية الأخرى، وتعزيز التقسيم الاجتماعي والثقافي للمجتمع، وإلحاق الضرر بالصحة الأخلاقية للناس، ونشر صورة غير أخلاقية للحياة، والإباحية والعنف، وإنماء تعاطي الكحول والمخدرات، وتكوين مجتمع يتجاهل القيم الروحية والأخلاقية، بالإضافة إلى تشويه الحقائق التاريخية وتدمير الذاكرة التاريخية للدولة.
أهداف ومهام سياسة الدولة للحفاظ على القيم التقليدية
رصدت الوثيقة أبرز أهداف ومهام سياسة الدولة للحفاظ على القيم التقليدية وتعزيزها، من خلال العمل على محورين: الأول التصدي لانتشار الأيديولوجية الهدامة، والثاني تكوين صورة للدولة الروسية على الساحة الدولية بوصفها الراعية والمدافعة عن القيم الروحية والأخلاقية الإنسانية التقليدية العالمية. وتعمل الدولة كذلك على تعزيز الوحدة والهوية المدنية لعموم روسيا والوفاق بين القوميات والأديان على أساس الدور الموحد للقيم التقليدية. بالإضافة إلى عدد من البنود الأخرى، في هذا الصلة، من ضمنها:
● تنفيذ السياسة الإعلامية للدولة الهادفة إلى تعزيز دور القيم التقليدية في الوعي الجماهيري والتصدي لانتشار الفكر الهدام.
● التربية بروح احترام القيم التقليدية، كأداة أساسية لسياسة الدولة في مجال التعليم والثقافة.
● دعم المشروعات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني في مجال التربية الوطنية والحفاظ على التراث التاريخي والثقافي لشعوب روسيا.
● دعم المنظمات الدينية للأديان التقليدية، وضمان مشاركتها في الأنشطة التي تهدف إلى الحفاظ على القيم التقليدية، والتصدي للحركات الدينية المُدمرة.
● ضمان حماية الدولة لمنشآت التراث الثقافي لشعوب روسيا الاتحادية.
● حماية ودعم اللغة الروسية كلغة للشعب المكون للدولة، وضمان الامتثال لمعايير اللغة الروسية الفصحى الحديثة بما في ذلك منع استخدام اللغة البذيئة، والتصدي للاستخدام المفرط للمفردات الأجنبية.
وفي الختام، تشرح الوثيقة النتائج المتوقعة من تنفيذ سياسة الدولة للحفاظ على القيم التقليدية وتعزيزها، بأن ذلك سيسهم في: صيانة شعب روسيا، والحفاظ على الهوية المدنية لعموم الشعب الروسي، وتطوير القدرات البشرية، ودعم السلم الأهلي والوفاق في البلاد، وتعزيز القانون والنظام، وتشكيل فضاء آمن للمعلومات، وحماية مجتمع روسيا من انتشار الأيديولوجية المُدمرة، وتحقيق أهداف التطوير الوطنية، ورفع القدرة التنافسية والمكانة الدولية لروسيا الاتحادية.
.
رابط المصدر: