العنف السياسي والصراع في تشاد ومآلاته الإقليمية

بقلم: دانييل إيزينغا

ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو

يُسلّط القمع العنيف ضد المعارضة السلمية في تشاد الضوء على الترهيب القسري الذي يكمن وراء رفض المجلس العسكري تسهيل الانتقال الديمقراطي الحقيقي.

وقد فتحت قوات الأمن النار وقتلت العشرات من المتظاهرين؛ حيث سقط ما لا يقل عن 50 قتيلاً، وأُصيب مئات آخرون بجروح، فيما زعم قادة المعارضة أن عدد القتلى يتجاوز 100 قتيل، إلى جانب الاعتقالات التعسفية، وذلك أثناء احتجاجات 20 أكتوبر الماضي في تشاد ضد رفض المجلس العسكري التقيُّد بالجدول الزمني الانتقالي الذي مدته 18 شهرًا. وقد فرضت الحكومة العسكرية حظر التجول على المراكز الحضرية الرئيسية، ومنعت الأنشطة والتجمعات السياسية في أعقاب تلك الأحداث الدموية.

وفي الأسابيع التي أعقبت المظاهرات قامت قوات الأمن بشنّ هجمات على مؤيدي المعارضة ومضايقة قادتهم واستهداف مقارّ عملهم. وتحت قيادة الحزب السياسي المعارض المدني واكت تاما (حان الوقت) واصلت المعارضة المدنية التنديد بانعدام شرعية النظام العسكري، مع المطالبة برحيله.

كيف وصلنا إلى هذا؟

حكم إدريس ديبي تشاد على مدى 30 عامًا حاكمًا مستبدًّا يتهرب مرارًا من حدود الولايات الرئاسية، ويحول دون إجراء انتخابات حقيقية تسهم في تنويع التمثيل السياسي الحقيقي في ذلك البلد الذي يبلغ عدد سكانه 17 مليون نسمة. وسقط في أبريل 2021م أثناء معركة مع FACT (التوافق والوفاق في تشاد) جبهة الجماعة المعارضة المسلحة.

وقد تولَّى الجنرال محمد إدريس ديبي، نجل إدريس ديبي، البالغ من العمر 38 عامًا السلطة بعد وفاة والده بفضل دعمه مِن قِبَل كبار قادة الجيش.

وقد تجاهلت هذه الخلافة الموروثة -التي يقودها الجيش- الحكمَ الدستوري الذي يقضي بأن تذهب السلطات التنفيذية المؤقتة إلى رئيس الجمعية الوطنية في حالة وفاة رئيس الدولة أثناء فترة ولايته، ثم تنظيم الانتخابات في غضون 90 يومًا. إلا أن محمد ديبي أثناء توليه لمنصبه وعد بتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة في غضون ثمانية عشر شهرًا، وقد مرَّ هذا الموعد النهائي في 20 أكتوبر 2022م؛ بسبب عدم قيام الحكومة العسكرية بأيّ جهد فعلي لتنظيم انتخابات ديمقراطية تنهي المرحلة الانتقالية.

الحوار الزائف للانتقال الزائف:

 استغل نظام ديبي لغة الحوار السياسي لخلق تمثيلية للانتقال السياسي واسترضاء أصحاب المصلحة الدوليين، وتمكَّن من خلاله من الحصول على بعض الدعم من منافسيه القدامى وبتكاليف زهيدة للسيطرة على ذلك النظام.

فيما تمثّلت أولى هذه المبادرات في منتدى الحوار الذي عُقِدَ في مارس بين المجلس العسكري لديبي وجماعات المعارضة المسلحة في الدوحة بقطر. وقد شاركت عشرات المجموعات في هذه العملية، ولكن أربع فقط من هذه المجموعات لديها قدرة حقيقية على تهديد نجامينا، وهي: FACT (التوافق والوفاق في تشاد)، وCCSMR (مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية)، وUFDD (اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية)، وUFR (اتحاد قوى المقاومة)، وكان الهدف المُعلَن من الحوار السابق للحوار هو إشراك هذه الجماعات المسلحة في حوار وطني لاحق.

وقد وقَّعت عدة جماعات مثل الاتحاد من أجل الديمقراطية، واتحاد القوى الديمقراطية من أجل الديمقراطية على اتفاق في أغسطس بعد شهور من المفاوضات في الدوحة مقابل إطلاق سراح السجناء والعفو العام، وإنهاء الأعمال العدائية بين الحكومة والفصائل المسلحة. غير أن جماعات مسلحة أخرى مثل إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وحزب CCSMR رفضت الانضمام إلى الاتفاق. وما زالت كلتا المجموعتين مستمرتين في أعمال المعارضة المسلحة للنظام العسكري في تشاد انطلاقًا من مواقعها في جنوب ليبيا.

وبعد أقل من ثلاثة أسابيع من اتفاق الدوحة عقدت الحكومة العسكرية في نجامينا ما يسمى بــــ “الحوار الوطني السيادي الشامل” (DNIS)  في إنجامينا. وقد جمع الحوار الوطني زهاء 1400 مشارك من الحكومة العسكرية وعناصر المعارضة المسلحة وبعض أعضاء المعارضة المدنية والمجتمع المدني والجماعات التقليدية والدينية والرابطات المهنية, وعلى الرغم من السماح بالمناقشة المفتوحة مِن قِبَل المشاركين وإدراج آراء مختلفة إلا أن المجلس العسكري سيطر على معايير الحوار وبالتالي محتوى الحوار.

وفي غضون ذلك، قاطعت جماعات المعارضة وانتقدت الحوار واصفة إياه بغير الشرعي، ودعت إلى المقاومة المدنية. فيما انسحب آخرون عندما بات من الواضح أن الحكومة العسكرية تعتزم تنفيذ برنامجها الخاص بما في ذلك تعيين بعض قادة المعارضة المخضرمين في مناصب رئيسية، فضلاً عن تعرُّض الجماعات المعارضة وزعمائها للقمع من جانب قوات الأمن أثناء فترة الحوار الوطني الديمقراطي. وفي شهر سبتمبر قامت قوات الأمن بمداهمة مقر جماعة المعارضة الرئيسية “المحوّلون”، وأجبر المدعي العام زعيم الحزب، سيكسي ماسرا، على المثول أمام المحكمة، وبينما كان يغادر مقر الحزب لزيارة المحكمة محاطًا بالمؤيدين قامت قوات الأمن بإطلاق الغازات المسيلة للدموع على الحشود واعتُقل عشرات من الأشخاص.

وعلى الرغم من العنف والإقصاء ومقاطعة العديد من الجماعات؛ فقد اعتمدت هيئة الحوار الوطني، في 8 أكتوبر، قرارًا بتمديد الفترة الانتقالية لمدة 24 شهرًا إضافية. ورغم أن الإعلان حلَّ المجلس العسكري بشكل واضح فإنه أبقى محمد ديبي رئيسًا انتقاليًّا؛ حيث أعلن بشكل مثير للجدال أن أعضاء المجلس العسكري (بما في ذلك ديبي) والحكومة الانتقالية لن يمنعهم من الترشح للانتخابات القادمة، بالإضافة إلى الغموض الذي تركته هيئة الحوار الوطني هائمًا حول الهيئات التي ستنظم هذه الانتخابات في المستقبل.

القمع العنيف من قبل نظام ديبي:

تم تعيين زعيم المعارضة المخضرم ورئيس حزب الشعب الديمقراطي، صالح كبزابو البالغ من العمر 75 عامًا، من قِبل محمد ديبي كرئيس للوزراء بالنيابة، ثم اختار الأخير حكومة جديدة تضم قادة المعارضة السابقين وبعض قادة جماعات المعارضة المسلحة السابقين الذين شاركوا في التحالف.

إن العديد من النخبة الجدد يمثلون الحرس القديم المنافس السياسي في تشاد الذي ينتمي إلى جيل إدريس ديبي الذي ربما استنتج أن هذه فرصته الأخيرة في تولي السلطة، وهم ليسوا جزءًا من المعارضة المدنية الحالية وحركة الاحتجاج.

فقد رفض قادة المعارضة بما في ذلك “المحوّلون” وحزب “واكت تاما” وجماعات بارزة أخرى، قبول مد فترة الانتقال السياسي الجديد لمدة 24 شهرًا وهي الفترة المفروضة مِن قِبَل ديبي. كما طعنت الأحزاب السياسية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني الأخرى، التي لم تشارك في الحوار الوطني، في شرعية المجلس العسكري؛ ساعيةً إلى التمسك بمهلة ديبي البالغة 18 شهرًا فقط لإعادة السلطة إلى المدنيين.

وقد نظمت هذه المجموعات مسيرة سلمية في جميع أنحاء البلاد ضد تمديد نظام ديبي في 20 أكتوبر. وقد واجهتهم قوات الأمن بالرصاص الحي فقتلت ما لا يقل عن 50 متظاهرًا، وأصابت مئات آخرين.

وفي أعقاب القمع العنيف للمتظاهرين، سعت الحكومة العسكرية إلى وصف الاحتجاجات بأنها تمرُّد عنيف، ووصف المتحدث الحكومي المتظاهرين بأنهم بلطجية مسلحون ومستعدون لخوض معركة مع قوات الأمن. وادعى زعيم المعارضة السابق الذي تحوَّل إلى رئيس الوزراء، السيد كبزابو، أن المتظاهرين تم تخديرهم وتسميمهم قبل النزول في الشوارع وتهديد قوات الأمن.

وقد سارعت وزارة خارجية الولايات المتحدة إلى إدانة العنف، مشيرةً إلى أن “الولايات المتحدة تتأسف لنتائج الحوار الوطني التشادي وآثارها على انتقال شامل وسلمي في فترة زمنية مناسبة إلى حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية؛ على حد تعبيرها.

 وما زال القمع والعنف يتواصل ضد المعارضة منذ احتجاجات 20 أكتوبر. وقد تم العثور على العديد من الجثث في نهري شاري ولوغوني المتدفقين عبر العاصمة إنجامينا وفي موندو ثاني أكبر مدينة في البلاد. وقد اعترف وزير العدل العسكري محمد أحمات الله بأنه تم اعتقال أكثر من 600 متظاهر وإرسالهم إلى سجن كورو تورو الصحراوي المشهور بسُمْعته السيئة، وقد هرب سيكسي ماسرا، أحد زعماء حزب “المتحولون”، إلى  الكاميرون المجاورة بعد أن نهبت قوات الأمن مقر حزبه مرة أخرى، واعتقلت العشرات من أعضاء حزبه، وتشير التقارير إلى أن قوات الأمن جمعت وسجنت آخرين من أنصار المعارضة في أماكن غير معروفة.

يمثل القمع العنيف لاحتجاجات 20 أكتوبر استمرار التقاليد السياسية القمعية لأسرة ديبي التي عانى منها السكان التشاديون لعقود؛ فضلاً عن أن الاغتيالات السياسية والتعذيب والاختفاء سادت 30 عامًا من عدم الاستقرار السياسي في عهد إدريس ديبي.

فما هو الوضع في الوقت الراهن؟

ومن المفارقات اللافتة أن نظام ديبي استفاد من دوره المثبت لتحقيق الاستقرار في مفترق طرق المضطربة في شمال وغرب ووسط إفريقيا رغم أن انعدام الاستقرار والأمن يتواجدان في عهد إدريس ديبي. وفي الوقت نفسه لا يزال التشاديون يعيشون في أحد أفقر البلدان في العالم الذي يُصنّف ضمن مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت رقم 190 من 191 دولة؛ رغم أن دولة تشاد أصبحت مُنتِجًا للنفط ومُصدِّرًا للنفط في العقد الماضي. وعلى نحو مماثل تُصنّف منظمة الشفافية الدولية تشاد في المرتبة 164 من بين 180 دولة في مؤشر الفساد السنوي.

وعلى الرغم من أنه من المرجح أن تستمر جهود محمد ديبي للبقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى وتكرار أحداث 20 أكتوبر؛ إلا أن العديد من الجهات الفاعلة التشادية تلفت الانتباه إلى هذا الوضع غير القابل للتحمل.

فقد قدم سيكسي ماسرا  شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد النظام؛ بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان ضد المحتجين. ومن جانبه انتقد رئيس أساقفة إنجامينا علنًا الطريقة التي وَصَفت بها السلطات الانتقالية المحتجين الذين سقطوا في المعركة بأنهم عصابات مخربين، ودعا الشعب التشادي إلى التكاتف في هذه الفترة من عدم اليقين. وواصلت FACT (التوافق والوفاق في تشاد)، وأكبر جماعة معارضة مسلحة في دعوتها إلى التغيير الديمقراطي واستقالة محمد ديبي.

ولطالما مُنحت الجهات الفاعلة الدولية، بما في ذلك قادة المنظمات الإقليمية الإفريقية، نظام ديبي شيكًا أبيض في انتهاكه لحقوق الإنسان بسبب الدور الذي يقوم به في مجال الأمن الإقليمي. بَيْد أنَّ هذا التوجه ينطوي على تداعيات واسعة النطاق؛ إذ يلجأ قادة انقلاب آخرون والحكومات العسكرية في إفريقيا إلى تشاد لمعرفة ما قد يمكن اعتباره مقبولاً, فإذا استطاع محمد ديبي قتل متظاهرين مسالمين وترشيح نفسه للانتخابات في غضون عامين؛ فما المانع من أن يحذو حذوه أسيمي غويتا في مالي، أو مامادي دومبويا في غينيا، أو إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو. وعلى نحو مماثل؛ فما هي الحوافز التي قد تدفع عبد الفتاح البرهان إلى الانسحاب من السلطة الانتقالية في السودان إذا ظل ديبي قائمًا.

وغالبًا ما يغيب عن الذهن أن هناك معارضة مدنية شرعية في تشاد تدعو إلى التغيير الديمقراطي، كما أن عدم اعتراف الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بهذه الجماعات المعارضة يزيد من احتمال حدوث زيادة في العنف السياسي والصراع في تشاد ممَّا قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة إلى حدّ كبير، ولا يمكن تجنُّب مثل هذه النتيجة إلا باعتدال موقف نظام ديبي في تعامله مع المعارضة، وإيجاد المنهج الحقيقي إلى المضي قدمًا نحو الديمقراطية.

.

رابط المصدر:

https://www.qiraatafrican.com/home/new/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D9%85%D8%A2%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9#sthash.oVCS3CUe.8yQYFHrz.dpbs

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M