شولتز: كيف نتجنب حرباً باردة جديدة في عصر متعدد الأقطاب؟

عادل رفيق

 

نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في عدد يناير / فبراير 2023 مقالاً للمستشار الألماني أولاف شولتز، تحت عنوان: “كيف نتجنب حرباً باردة جديدة في عصر متعدد الأقطاب؟”. ويصف المستشار الألماني ما يحدث في العالم بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بأنه “نقطة تحول” تاريخية، حيث “تتنافس دول ونماذج حكم مختلفة على السلطة والنفوذ”، مؤكداً عزم الألمان على أن يصبحوا ضامن الأمن الأوروبي ونصير الحلول متعددة الأطراف للمشكلات العالمية. وقد جاء المقال على النحو التالي:

يواجه العالم الآن نقطة تحول (تسايتينويند) تاريخية؛ حيث وضعت الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا نهاية لعصر؛ وظهرت قوى جديدة أو عادت إلى الظهور، بما في ذلك الصين القوية اقتصادياً والحازمة سياسياً؛ وفي هذا العالم الجديد متعدد الأقطاب، تتنافس دول ونماذج حكم مختلفة على السلطة والنفوذ.

ومن جانبها، تبذل ألمانيا كل ما في وسعها للدفاع عن وتعزيز نظام دولي قائم على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وتعتمد ديمقراطيتها وأمنها وازدهارها على ربط القوة بقواعد عامة مشتركة. وهذا هو السبب في أن الألمان عازمون على أن يصبحوا الضامن للأمن الأوروبي، كما يتوقع منا حلفاؤنا، وأن يقوموا بمد جسور التواصل داخل دول الاتحاد الأوروبي وأن يناصروا كل المساعي التي تستهدف إيجاد حلول متعددة الأطراف للمشاكل العالمية. وهذه هي الطريقة الوحيدة لكي تتجاوز ألمانيا الخلافات الجيوسياسية في عصرنا هذا بنجاح.

وتتجاوز نقطة التحول تلك الحرب في أوكرانيا وتتجاوز كذلك قضية الأمن الأوروبي. ولكن السؤال المركزي هو: كيف يمكننا، كأوروبيين وكاتحاد أوروبي، أن نبقى فاعلين بشكل مستقل في عالم تتصاعد فيه التعددية القطبية؟

وتستطيع ألمانيا وأوروبا المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد دون الخضوع لوجهة النظر القاضية بأن العالم محكوم عليه بالانقسام مرة أخرى إلى كُتل متنافسة. ويتحمل تاريخ بلادي مسؤولية خاصة في محاربة قوى الفاشية والاستبداد والإمبريالية. وفي الوقت نفسه، فإن تجربتنا في الانقسام إلى شطرين خلال منافسة أيديولوجية وجيوسياسية تمنحنا بشكل خاص القدرة على تقدير مخاطر أي حرب باردة جديدة.

نهاية عصر

وبالنسبة لمعظم دول العالم، كانت العقود الثلاثة التي انقضت منذ سقوط الستار الحديدي (بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية) فترة سلام وازدهار نسبيين. حيث وفّرت التطورات التكنولوجية مستوى غير مسبوق من الاتصال والتعاون. وأدى نمو التجارة الدولية، وسلاسل القيمة والإنتاج الممتدة عبر العالم، والتبادلات غير المسبوقة للأشخاص والمعرفة عبر الحدود، إلى استنقاذ أكثر من مليار شخص من براثن الفقر. والأهم من ذلك، أن المواطنين الشجعان في جميع أنحاء العالم قد أطاحوا بالديكتاتوريات وأنهوا حُكم الحزب الواحد. حيث غيّر توقهم الشديد إلى الحرية والكرامة والديمقراطية مجرى التاريخ. وبعد حربين عالميتين مدمرتين والكثير من المعاناة – كانت بلادي وراء الكثير منها – ساد التوتر والمواجهة لأكثر من أربعة عقود في ظل مخاوف الفناء النووي المحتمل. ولكن بحلول التسعينيات، أصبح جلياً أن نظاماً عالمياً أكثر مرونة قد ترسّخ أخيراً.

وبإمكان الألمان، على وجه الخصوص، أن يُحصوا المزايا التي تحصلوا عليها منذ ذلك الحين. ففي نوفمبر 1989، تم إسقاط جدار برلين من قبل المواطنين الشجعان من ألمانيا الشرقية. وبعد 11 شهراً فقط من ذلك التاريخ، تم توحيد البلاد بفضل السياسيين ذوي الرؤية البعيدة ودعم الشركاء في كل من الغرب والشرق. وأخيراً، “يمكن أن ينمو معاً ما ينتمي معاً”، كما قال المستشار الألماني السابق ويلي براندت بعد وقت قصير من سقوط الجدار (أي أن الدولة المتحدة يجب أن تحل محل ما كان عليه الوضع قبل ذلك من التمزق والانقسام).

وهذه الكلمات لا تنطبق فقط على ألمانيا ولكن أيضاً على أوروبا ككل. فقد اختار الأعضاء السابقون في حلف وارسو أن يصبحوا حلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكذلك أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولم تعد عبارة “أوروبا كاملة وحرة”، على حد تعبير جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، تبدو وكأنها أمل لا أساس له. وفي هذه الحقبة الجديدة، بدا من الممكن أن تصبح روسيا شريكاً للغرب بدلاً من العداوة التي كانت إبّان الاتحاد السوفيتي.

ونتيجة لذلك، قلصت معظم الدول الأوروبية جيوشها وخفضت ميزانياتها الدفاعية. وبالنسبة لألمانيا، كان المنطق في ذلك بهذه البساطة: لماذا نحافظ على قوة دفاع كبيرة قوامها حوالي 500,000 جندي بينما يبدو أن جميع جيراننا أصدقاء أو شركاء؟

وتحول تركيز سياستنا الأمنية والدفاعية بسرعة نحو التهديدات المُلحّة الأخرى. حيث أبرزت حروب البلقان وعواقب هجمات 11 سبتمبر 2001، بما في ذلك الحربين في أفغانستان والعراق، الحاجة الملحّة إلى إدارة الأزمات الإقليمية والعالمية. وظل التضامن داخل الناتو سائداً: حيث أدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر إلى اتخاذ القرار الأول بتفعيل المادة الخامسة، بند الدفاع المتبادل في معاهدة شمال الأطلسي، وعلى مدى عقدين من الزمن، حاربت قوات الناتو جنباً إلى جنب ضد الإرهاب في أفغانستان.

واستخلصت مجتمعات الأعمال في ألمانيا استنتاجاتهم الخاصة من المسار الجديد للتاريخ. حيث فتح سقوط الستار الحديدي والاقتصاد العالمي الأكثر تكاملاً من أي وقت مضى فرصاً وأسواقاً جديدة، لا سيما في دول الكتلة الشرقية السابقة وأيضاً في دول أخرى ذات اقتصادات ناشئة، خاصة الصين. وأثبتت روسيا، بمواردها الهائلة من الطاقة والمواد الخام الأخرى، أنها مورّد موثوق به خلال الحرب الباردة، وبدا من المنطقي، على الأقل في بداية الأمر، توسيع تلك الشراكة الواعدة في وقت السلم.

ومع ذلك، شهدت القيادة الروسية تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وحلف وارسو وتوصّلت إلى استنتاجات تختلف اختلافاً حاداً عن تلك التي توصل إليها القادة في برلين والعواصم الأوروبية الأخرى. فبدلاً من رؤية الإطاحة السلمية بالحكم الشيوعي كفرصة لمزيد من الحرية والديمقراطية، وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. حيث أدى الاضطراب الاقتصادي والسياسي في أجزاء من منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي في التسعينيات إلى تفاقم الشعور بالخسارة والألم الذي يربطه العديد من المواطنين الروس حتى يومنا هذا بنهاية الاتحاد السوفيتي.

وفي تلك الأجواء، بدأت الطموحات الاستبدادية والإمبريالية تُطل برأسها من جديد. ففي عام 2007، ألقى بوتين خطاباً عدوانياً في مؤتمر ميونيخ للأمن، ساخراً من النظام الدولي القائم على القواعد باعتباره مجرد أداة للهيمنة الأمريكية. وفي العام التالي، شنّت روسيا حرباً على جورجيا. وفي عام 2014، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها إلى أراضيها وأرسلت قواتها إلى أجزاء من منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، في انتهاك مباشر للقانون الدولي والتزامات موسكو الخاصة بالمعاهدات ذات الصلة. وشهدت السنوات التي تلت ذلك قيام الكرملين بتقويض معاهدات الحد من التسلح وقامات بتوسيع قدراتها العسكرية، وتسميم وقتل المعارضين الروس، وقمع المجتمع المدني، والقيام بتدخل عسكري وحشي لدعم نظام الأسد في سوريا. ورويداً رويداً، اختارت روسيا بوتين طريقاً أبعدها عن أوروبا وأبعدها عن نظام تعاوني سلمي.

الإمبراطورية ترد الصفعة

وخلال السنوات الثماني التي أعقبت الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم واندلاع الصراع في شرق أوكرانيا، ركّزت ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون والدوليون في مجموعة الدول السبع الكبرى على حماية السيادة والاستقلال السياسي لأوكرانيا، ومنع المزيد من التصعيد من قِبل روسيا واستعادة السلام في أوروبا والحفاظ عليه. وكان النهج المختار في ذلك هو عبارة عن مزيج من الضغط السياسي والاقتصادي المقترن بإجراءات تقييدية على روسيا مع استمرار الحوار. وانخرطت ألمانيا جنبا إلى جنب مع فرنسا في ما يسمى بصيغة نورماندي التي أدت إلى اتفاقيات مينسك وعملية مينسك ذات الصلة، والتي دعت روسيا وأوكرانيا إلى الالتزام بوقف إطلاق النار واتخاذ عدد من الخطوات الأخرى. وعلى الرغم من الانتكاسات وانعدام الثقة بين موسكو وكييف، استمرت ألمانيا وفرنسا في استمرار العملية. لكن روسيا الرجعية جعلت من المستحيل على الدبلوماسية أن تنجح.

وأدى الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في فبراير 2022 إلى ظهور واقع جديد جوهري: فقد عادت الإمبريالية إلى أوروبا. إذ تستخدم روسيا بعضاً من أبشع الأساليب العسكرية في القرن العشرين وتتسبب في معاناة لا توصف في أوكرانيا. حيث لقي عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين حتفهم بالفعل ؛ وأصيب الكثيرون أو تعرضوا لصدمات نفسية. واضطر ملايين المواطنين الأوكرانيين إلى الفرار من منازلهم بحثاً عن ملاذ آمن في بولندا ودول أوروبية أخرى ؛ وقدم مليون منهم إلى ألمانيا. وأدت المدفعية والصواريخ والقنابل الروسية إلى تحويل المنازل والمدارس والمستشفيات الأوكرانية إلى أنقاض. وستعمل مناطق مثل ماريوبول، إيربين، خيرسون، إيزيوم على تذكير العالم إلى الأبد بجرائم روسيا – وأنه يجب أن يتم تقديم الجناة إلى العدالة.

ولكن تأثير الحرب الروسية يتجاوز حدود أوكرانيا. فعندما أصدر بوتين الأمر بالهجوم، حطّم بنية السلام الأوروبية والدولية التي استغرق بناؤها عقوداً. وتحت قيادة بوتين، تحدّت روسيا حتى أبسط مبادئ القانون الدولي على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة: بوجوب التخلي عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية والتعهد باحترام استقلال وسيادة ووحدة أراضي جميع الدول. وبصفتها كقوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن إلى إعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم، مرة أخرى، إلى كتل ومناطق نفوذ.

أوروبا أقوى

يجب على العالم ألا يدع بوتين يكمل طريقه ؛ إذ يتحتم وقف الإمبريالية الانتقامية لروسيا. ويتمثل الدور الحاسم لألمانيا حالياً في تصعيد دورها كواحدة من موفري الأمن الرئيسيين في أوروبا من خلال الاستثمار في جيشنا، وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وتعزيز وجودنا العسكري على الجناح الشرقي لحلف الناتو، وتدريب وتجهيز القوات المسلحة الأوكرانية.

وسيتطلب دور ألمانيا الجديد ثقافة إستراتيجية جديدة، وستعكس إستراتيجية الأمن القومي التي ستتبناها حكومتي بعد بضعة أشهر من الآن هذه الحقيقة. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، كانت القرارات المتعلقة بأمن ألمانيا ومعدات القوات المسلحة للبلاد تُتخذ على خلفية أوروبا تنعم بالسلام. أما الآن، فسيكون السؤال الموجِّه هو تلك التهديدات التي يجب علينا نحن وحلفاؤنا مواجهتها في أوروبا، وعلى الفور تلك القادمة من روسيا. وتشمل هذه الهجمات المحتملة على أراضي الحلفاء، والحرب الإلكترونية، وحتى الاحتمالات البعيدة لهجوم نووي، وهو ما لم يهدد به بوتين بدهاء حتى الآن.

إن الشراكة عبر الأطلسي كانت ولا تزال حيوية لمواجهة هذه التحديات. ويستحق الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته الثناء على البناء والاستثمار في شراكات وتحالفات قوية في جميع أنحاء العالم. لكن الشراكة عبر الأطلسي المتوازنة والمرنة تتطلب أيضاً أن تلعب ألمانيا وأوروبا أدواراً نشطة. وكان أحد القرارات الأولى التي اتخذتها حكومتي في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا هو تخصيص صندوق خاص بحوالي 100 مليار دولار لتجهيز قواتنا المسلحة (البوندسفير) بشكل أفضل. حتى إننا قمنا بتعديل دستورنا لإنشاء هذا الصندوق. ويمثل هذا القرار تغييراً صارخاً في السياسة الأمنية الألمانية منذ تأسيس الجيش الألماني في عام 1955. وسيحصل جنودنا على الدعم السياسي والمواد والقدرات التي يحتاجونها للدفاع عن بلادنا وحلفائنا. والهدف هو الوصول إلى الجيش الألماني الذي يمكننا الاعتماد عليه نحن وحلفاؤنا. ولتحقيق ذلك، ستستثمر ألمانيا 2% من ناتجنا المحلي الإجمالي من أجل الدفاع عن أنفسنا.

وتعكس هذه التغييرات بروز عقلية جديدة في المجتمع الألماني. فاليوم، تتفق غالبية عظمى من الألمان على أن بلادهم بحاجة إلى جيش قادر وعلى جهوزية تامة لردع خصومها والدفاع عن نفسها وحلفائها. ويقف الألمان إلى جانب الأوكرانيين في الدفاع عن بلادهم ضد العدوان الروسي. ومنذ عام 2014 إلى عام 2020، كانت ألمانيا أكبر مَصدر لأوكرانيا في الاستثمارات الخاصة والمساعدات الحكومية. ومنذ بدء الغزو الروسي، عزّزت ألمانيا دعمها المالي والإنساني لأوكرانيا وساعدت في تنسيق ردود الأفعال الدولية تجاه الغزو أثناء توليها رئاسة مجموعة السبع.

وكما قادت نقطة التحول (تسايتينويند) حكومتي إلى إعادة النظر في مبدأ راسخ للسياسة الألمانية منذ عقود بشأن صادرات الأسلحة. فاليوم، ولأول مرة في تاريخ ألمانيا الحديث، نقوم بتسليم الأسلحة إلى أحد أطراف حرب دارت رحاها بين دولتين (روسيا وأوكرانيا). وفي حواراتي مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أوضحت شيئاً واحداً واضحاً للغاية وهو: ستواصل ألمانيا جهودها لدعم أوكرانيا طالما كان ذلك ضرورياً. إن أكثر ما تحتاجه أوكرانيا اليوم هو المدفعية وأنظمة الدفاع الجوي، وهذا بالضبط ما تقدمه لها ألمانيا، بالتنسيق الوثيق مع حلفائنا وشركائنا. ويشمل الدعم الألماني لأوكرانيا أيضاً الأسلحة المضادة للدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات وأنظمة الرادار المضادة للبطاريات. وستوفر بعثة الاتحاد الأوروبي الجديدة تدريبات لما يصل إلى 15000 جندي أوكراني، بما في ذلك ما يصل إلى 5000 – لواء كامل – سيتم تدريبهم في ألمانيا. وفي الوقت نفسه، قامت جمهورية التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا بتسليم أو تعهدت بتسليم حوالي 100 دبابة قتال رئيسية من الحقبة السوفيتية إلى أوكرانيا ؛ وستقوم ألمانيا بدورها بتزويد تلك البلدان بالدبابات الألمانية المحدّثة. وبهذه الطريقة، تتلقى أوكرانيا الدبابات التي تعرفها القوات الأوكرانية جيداً ولديها خبرة في استخدامها ويمكن دمجها بسهولة في مخططات الصيانة واللوجستيات الحالية في أوكرانيا.

ويجب ألا تؤدي تصرفات الناتو تلك إلى اندلاع مواجهة مباشرة مع روسيا، لكن على الحلف أن يقدم ردعاً موثوقاً ضد المزيد من العدوان الروسي. ولهذه الغاية، عزّزت ألمانيا بشكل كبير من وجودها على الجناح الشرقي لحلف الناتو، مما عزّز المجموعة القتالية التابعة لحلف شمال الأطلسي بقيادة ألمانيا في ليتوانيا وقامت بتخصيص لواء كامل لضمان أمن ذلك البلد. كما تساهم ألمانيا بقوات في المجموعة القتالية لحلف شمال الأطلسي في سلوفاكيا، وتساعد القوات الجوية الألمانية في مراقبة وتأمين المجال الجوي في إستونيا وبولندا. وفي غضون ذلك، شاركت البحرية الألمانية في أنشطة الردع والدفاع لحلف شمال الأطلسي في بحر البلطيق. وستساهم ألمانيا أيضاً بفرقة مدرعة، بالإضافة إلى أصول جوية وبحرية مهمة (جميعها في درجات استعداد عالية) في نموذج القوة الجديد لحلف الناتو، والذي تم تصميمه لتحسين قدرة الحلف على الاستجابة بسرعة لأي طارئ. وستستمر ألمانيا في التمسك بالتزامها بترتيبات المشاركة النووية لحلف الناتو، بما في ذلك شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 مزدوجة القدرة.

إن رسالتنا إلى موسكو واضحة للغاية، مفادها: نحن مصممون على الدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو ضد أي عدوان محتمل. وسنحترم تعهد الناتو الجاد بأن الهجوم على أي حليف واحد سيعتبر هجوماً على الحلف بأكمله. كما أوضحنا لروسيا أن خطابها الأخير بشأن الأسلحة النووية متهور وغير مسؤول. وعندما زرت بكين في نوفمبر، اتفقت أنا والرئيس الصيني شي جين بينغ على أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية أمر غير مقبول وأن استخدام مثل هذه الأسلحة المروّعة سيتجاوز الخط الأحمر الذي رسمته البشرية بحق. وعلى بوتين أن ينتبه جيداً لهذه الكلمات.

ومن بين العديد من الحسابات الخاطئة التي ارتكبها بوتين هو رهانه على أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى توتر العلاقات بين خصومه. ولكن في واقع الأمر، حدث العكس: حيث أصبح الاتحاد الأوروبي والتحالف عبر الأطلسي أقوى من أي وقت مضى. ولا يوجد مكان يتجلى فيه هذا الأمر أكثر من العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي تواجهها روسيا. وكان من الواضح منذ بداية الحرب أن هذه العقوبات ستكون سارية لفترة طويلة، حيث تزداد فعاليتها مع مرور كل أسبوع. ويحتاج بوتين إلى فهم أنه لن يتم رفع عقوبة واحدة إذا حاولت روسيا إملاء شروط للتوصل إلى اتفاق السلام.

وأشاد جميع قادة دول مجموعة السبع باستعداد زيلينسكي لتحقيق سلام عادل يحترم وحدة أراضي وسيادة أوكرانيا ويحمي قدرة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها في المستقبل. وبالتنسيق مع شركائنا، تقف ألمانيا على استعداد للتوصل إلى ترتيبات للحفاظ على أمن أوكرانيا كجزء من تسوية سلمية محتملة بعد الحرب. ومع ذلك، لن نقبل الضم غير القانوني للأراضي الأوكرانية، والذي يتستر بشكل سيئ باستفتاءات زائفة. ولإنهاء هذه الحرب، على روسيا سحب جميع قواتها.

جيد للمناخ وسيء لروسيا

لم تؤد الحرب الروسية إلى توحيد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجموعة الدول السبع في معارضة عدوانه فحسب ؛ بل حفزت أيضاً حدوث تغييرات في السياسة الاقتصادية والطاقة والتي ستؤذي روسيا على المدى الطويل – وتعطي دفعة للانتقال الحيوي إلى الطاقة النظيفة الذي كان جارياً بالفعل من قبل. وبعد تولي منصب المستشارية الألمانية في ديسمبر 2021 مباشرة، سألت مستشاري عما إذا كانت لدينا خطة في حال قررت روسيا وقف شحنات الغاز إلى أوروبا. وكانت الإجابة “لا”، حيث أصبحنا نعتمد بشكل خطير على شحنات الغاز الروسي.

وعندها بدأنا على الفور في الاستعداد لأسوأ سيناريو. ففي الأيام التي سبقت الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، علّقت ألمانيا التصديق على خط أنابيب نورد ستريم 2، والذي كان من المقرر أن يزيد بشكل كبير من إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. وفي فبراير 2022، كانت الخطط مطروحة بالفعل على الطاولة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من السوق العالمية خارج أوروبا – وفي الأشهر المقبلة، ستدخل محطات الغاز الطبيعي المسال العائمة في الخدمة على الساحل الألماني.

وسرعان ما تحقق السيناريو الأسوأ، حيث قرر بوتين استخدام الطاقة كسلاح عن طريق قطع الإمدادات عن ألمانيا وبقية دول أوروبا. لكن ألمانيا تخلصت تماماً الآن من استيراد الفحم الروسي، وستنتهي قريباً واردات الاتحاد الأوروبي من النفط الروسي. لقد تعلمنا الدرس: أن يعتمد أمن أوروبا على تنويع موردي الطاقة وطرقها وعلى الاستثمار في استقلالية الطاقة. وفي سبتمبر، أدى تخريب خطوط أنابيب نورد ستريم إلى إعادة توجيه هذه الرسالة.

ومن أجل سد أي نقص محتمل في الطاقة في ألمانيا وأوروبا ككل، تعيد حكومتي إعادة محطات الطاقة التي تعمل بالفحم إلى الشبكة مؤقتاً وتسمح لمحطات الطاقة النووية الألمانية بالعمل لفترة أطول مما كان مخططاً لها في الأساس. لقد فرضنا أيضاً على مرافق تخزين الغاز المملوكة للقطاع الخاص أن ترفع من مستويات التعبئة الدنيا بشكل تدريجي. واليوم، منشآت التخزين لدينا ممتلئة تماماً، في حين أن المستويات في هذا الوقت من العام الماضي كانت في العادة منخفضة بشكل غير عادي. وهذا أساس جيد لألمانيا وأوروبا لتجاوز الشتاء دون حدوث نقص في الغاز.

لقد أظهرت لنا حرب روسيا أن الوصول إلى هذه الأهداف الطموحة ضروري أيضاً للدفاع عن أمننا واستقلالنا، فضلاً عن أمن واستقلال أوروبا. وسيؤدي الابتعاد عن مصادر الطاقة الأحفورية إلى زيادة الطلب على الكهرباء والهيدروجين الأخضر، وتستعد ألمانيا لهذه النتيجة من خلال تسريع التحول إلى الطاقات المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وأهدافنا في ذلك واضحة: أنه بحلول عام 2030، سيتم توليد 80 في المائة على الأقل من الكهرباء التي يستخدمها الألمان من مصادر الطاقة المتجددة؛ وبحلول عام 2045، ستحقق ألمانيا صافي صفر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، أو ما يمكن تسميته “الحياد المناخي”.

أسوأ كابوس لبوتين

لقد أراد بوتين تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ، وتقسيم العالم إلى كتل من القوى العظمى والدول التابعة. ولكن بدلاً من ذلك، ساهمت حربه فقط في تقدم الاتحاد الأوروبي. ففي المجلس الأوروبي في يونيو 2022، منح الاتحاد الأوروبي أوكرانيا ومولدوفا وضع “الدول المرشحة للعضوية” وأكد أن مستقبل جورجيا يكمن في أوروبا. كما اتفقنا على أن انضمام جميع الدول الست في غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبي والذي سيصبح في النهاية حقيقة واقعة، وهو هدف ألتزم به شخصياً. ولهذا السبب قمت بإحياء ما يسمى بعملية برلين لغرب البلقان، والتي تهدف إلى تعميق التعاون في المنطقة، وتقريب بلدانها ومواطنيها من بعضهم البعض وإعدادهم للاندماج في الاتحاد الأوروبي.

ومن المهم الاعتراف بأن توسيع الاتحاد الأوروبي ودمج أعضاء جدد سيكون صعباً ؛ إذ لا شيء أسوأ من إعطاء الملايين من الناس أملاً كاذباً. لكن الطريق مفتوح، والهدف واضح: الاتحاد الأوروبي الذي سيتألف من أكثر من 500 مليون مواطن حر، يمثل أكبر سوق داخلي في العالم، والذي سيضع معايير عالمية بشأن التجارة والنمو وتغير المناخ وحماية البيئة والتي ستستضيف معاهد بحثية رائدة وشركات مبتكرة – في عائلة وحدة من الديمقراطيات المستقرة تتمتع برفاهية اجتماعية وبنية تحتية عامة لا مثيل لها.

وبينما يتحرك الاتحاد الأوروبي نحو هذا الهدف، سيستمر خصومه في محاولة دق الأسافين بين أعضائه. حيث لم يقبل بوتين أبداً الاتحاد الأوروبي كلاعب سياسي. وبعد كل شيء، فإن الاتحاد الأوروبي – كاتحاد دول ديمقراطية حرة وذات سيادة يقوم على أساس حكم القانون – هو نقيض للكليبتوقراطية ونظام الحكم الإمبريالي والاستبدادي الذي يتبناه.

سيحاول بوتين وآخرون توجيه أنظمتنا الديمقراطية المفتوحة ضدنا، من خلال حملات التضليل واستغلال النفوذ. وفي ذلك، فإن لدى المواطنين الأوروبيين مجموعة متنوعة من وجهات النظر، ويناقش القادة السياسيون الأوروبيون ويجادلون أحياناً حول الطريق الصحيح للمضي قدماً، لا سيما أثناء التحديات الجيوسياسية والاقتصادية. لكن هذه الخصائص لمجتمعاتنا المفتوحة هي سمات وليست أخطاء ؛ فهي جوهر صنع القرار الديمقراطي. ومع ذلك، فإن هدفنا اليوم هو توحيد الصفوف في المجالات الحاسمة التي من شأنها أن تجعل الانقسام أوروبا أكثر عرضة للتدخل الأجنبي. ومن الأمور الحاسمة لهذه المهمة هو التعاون الوثيق بين ألمانيا وفرنسا، اللتين تشتركان في نفس الرؤية المتمثلة في اتحاد أوروبي قوي وذي سيادة.

وعلى الاتحاد الأوروبي أن يتغلب على نطاق أوسع على النزاعات القديمة وإيجاد حلول جديدة لها؛ والهجرة إلى أوروبا والسياسة المالية هي أمثلة على ذلك. وسيستمر الناس في القدوم إلى أوروبا، وأوروبا هي بحاجة إلى المهاجرين، لذلك يجب على الاتحاد الأوروبي أن يبتكر استراتيجية هجرة عملية تتوافق مع قيمه. وهذا يعني الحد من الهجرة غير النظامية وفي نفس الوقت تعزيز المسارات القانونية للمجيء إلى أوروبا، لا سيما بالنسبة للعمال المهرة الذين تحتاجهم أسواق العمل لدينا. وفيما يتعلق بالسياسة المالية، فقد  أنشأ الاتحاد صندوقاً للتعافي والمرونة سيساعد أيضاً في مواجهة التحديات الحالية التي يفرضها ارتفاع أسعار الطاقة. وعلى الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يتخلص من تكتيكات الحجب الأنانية في عمليات صنع القرار من خلال القضاء على القدرة الفردية للدول على استخدام حق النقض ضد بعض الإجراءات. ومع توسع الاتحاد الأوروبي وبعد أن أصبح لاعباً جيوسياسياً، سيكون اتخاذ القرار السريع هو مفتاح النجاح. ولهذا السبب، فقد اقترحت ألمانيا توسيع نطاق ممارسة اتخاذ القرارات بالتصويت بالأغلبية تدريجياً لتشمل المجالات التي تخضع حالياً لقاعدة الإجماع، مثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي والضرائب.

ويجب أن تستمر أوروبا أيضاً في تحمل مسؤولية أكبر عن أمنها وتحتاج إلى نهج منسق ومتكامل لبناء قدراتها الدفاعية. فعلى سبيل المثال، تشغل جيوش الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عدداً كبيراً جداً من أنظمة الأسلحة المختلفة، مما يؤدي إلى عدم كفاءة عملية واقتصادية. ولمعالجة هذه المشاكل، يجب على الاتحاد الأوروبي تغيير إجراءاته البيروقراطية الداخلية، الأمر الذي يتطلب قرارات سياسية شجاعة ؛ وسيتعين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا، تغيير سياساتها وأنظمتها الوطنية بشأن تصدير الأنظمة العسكرية المصنعة بشكل مشترك.

وأحد المجالات التي تحتاج أوروبا بشكل عاجل إلى إحراز تقدم فيه هو الدفاع في المجالين الجوي والفضائي. لهذا السبب ستعزز ألمانيا دفاعها الجوي خلال السنوات القادمة، كجزء من إطار الناتو، من خلال اكتساب قدرات إضافية. لقد تم فتح هذه المبادرة لجيراننا الأوروبيين، وكانت النتيجة هي مبادرة درع السماء الأوروبية، التي انضمت إليها 14 دولة أوروبية أخرى في أكتوبر الماضي. وسيكون الدفاع الجوي المشترك في أوروبا أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة مما لو ذهبنا جميعاً بمفردنا، وهو يقدم مثالاً بارزاً لما يعنيه تعزيز الركيزة الأوروبية داخل الناتو.

ويُعتبر حلف الناتو هو الضامن النهائي للأمن الأوروبي الأطلسي، وستزداد قوته بإضافة دولتين ديمقراطيتين مزدهرتين، فنلندا والسويد، كأعضاء. لكن حلف الناتو يصبح أقوى أيضاً عندما يتخذ أعضاؤه الأوروبيون بشكل مستقل خطوات نحو توافق أكبر بين هياكلهم الدفاعية، في إطار الاتحاد الأوروبي.

تحدي الصين وما بعده

ربما تكون الحرب العدوانية الروسية هي التي أطلقت شرارة نقطة التحول (تسايتنويند)، لكن التحولات التكتونية (البنائية) كانت أعمق من ذلك بكثير. فالتاريخ لم ينته، كما توقع البعض، مع الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن التاريخ لا يعيد نفسه. لكن كثيرين يفترضون أننا على شفا حقبة ثنائية القطبية في النظام الدولي. إنهم يرون اقتراب تفجر حرب باردة جديدة، حرب ستضع الولايات المتحدة في مواجهة الصين.

ولكني لا أتفق مع هذا الرأي. وبدلاً من ذلك، أعتقد أن ما نشهده هو نهاية مرحلة استثنائية من العولمة، وهو تحول تاريخي تسارع بسبب الصدمات الخارجية، مثل جائحة كوفيد -19 وحرب روسيا في أوكرانيا، ولكن ليس نتيجة لذلك. وخلال تلك المرحلة الاستثنائية، شهدت أمريكا الشمالية وأوروبا 30 عاماً من النمو المستقر، ومعدلات توظيف مرتفعة، ومعدلات تضخم منخفضة، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الحاسمة في العالم – وهو دور ستحتفظ به في القرن الحادي والعشرين.

ولكن خلال مرحلة العولمة التي أعقبت الحرب الباردة، أصبحت الصين أيضاً لاعباً عالمياً، كما كانت في فترات سابقة طويلة من تاريخ العالم. إن صعود الصين لا يستدعي عزل بكين أو كبح التعاون معها. لكن القوة المتنامية للصين لا تبرر أيضاً مطالبات الهيمنة في آسيا وخارجها. فلا يوجد بلد يمثل الفناء الخلفي لأي دولة أخرى – وهذا ينطبق على أوروبا بقدر ما ينطبق على آسيا وكل منطقة أخرى. وخلال زيارتي الأخيرة لبكين، أعربت عن دعمي القوي للنظام الدولي القائم على القواعد، على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك للتجارة المفتوحة والعادلة. وستواصل ألمانيا، بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين، المطالبة بمجال عمل متكافئ للشركات الأوروبية والصينية. ولكن الصين لا تفعل الكثير في هذا الصدد، وقد اتخذت منعطفاً ملحوظاً نحو العزلة والابتعاد عن الانفتاح.

وفي بكين، أثرت أيضاً مخاوفي بشأن تزايد انعدام الأمن في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان وتساءلت عن نهج الصين تجاه حقوق الإنسان والحريات الفردية. فلا يمكن أن يكون احترام الحقوق والحريات الأساسية “مسألة داخلية” للدول بمفردها لأن كل دولة عضو في الأمم المتحدة تتعهد بدعمها (حقوق والحريات الأساسية).

وفي الوقت نفسه، بينما تتكيف الصين ودول أمريكا الشمالية وأوروبا مع الحقائق المتغيرة لمرحلة العولمة الجديدة، فإن العديد من الدول في إفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية التي استطاعت تحقيق نمو استثنائي في الماضي من خلال إنتاج السلع والمواد الخام بتكلفة منخفضة، أصبحت الآن وبشكل تدريجي أكثر ازدهاراً ولها مطالبها الخاصة في الموارد والسلع والخدمات. ولهذه المناطق كل الحق في اغتنام الفرص التي تتيحها العولمة والمطالبة بدور أقوى في الشؤون العالمية بما يتماشى مع ثقلها الاقتصادي والديموجرافي المتزايد. ولا يشكل ذلك أي تهديد للمواطنين في أوروبا أو أمريكا الشمالية. بل على العكس من ذلك، ينبغي أن نشجع مشاركة هذه المناطق بشكل أكبر واندماجها في النظام الدولي. وهذه هي أفضل طريقة للحفاظ على استمرارية التعددية في عالم متعدد الأقطاب.

ولهذا السبب تستثمر ألمانيا والاتحاد الأوروبي في شراكات جديدة وتقوم بتوسيع الشراكات القائمة مع العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية. ويشترك العديد منهم معنا في خاصية أساسية وهي: أنهم أيضاً دول ديمقراطية. وتلعب هذا القواسم المشتركة دوراً حاسماً – ليس لأننا نهدف إلى وضع الديمقراطيات في مواجهة الدول الاستبدادية، الأمر الذي من شأنه أن يساهم فقط في انقسام عالمي جديد، ولكن لأن مشاركة القيم والأنظمة الديمقراطية ستساعدنا في تحديد الأولويات المشتركة وتحقيق الأهداف المشتركة في الواقع متعدد الأقطاب الجديد في القرن الحادي والعشرين. وربما أصبحنا جميعاً رأسماليين (مع استثناء محتمل لكوريا الشمالية ومجموعة صغيرة من البلدان الأخرى)، كما عبّر الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش قبل بضع سنوات. ولكن هناك فرق كبير بين أن تكون الرأسمالية منظمة بطريقة ليبرالية وديمقراطية أو أن تقوم على أسس سلطوية.

خذ على سبيل المثال الاستجابة العالمية لجائحة كوفيد-19: ففي وقت مبكر من هذا الوباء العالمي، جادل البعض بأن الدول الاستبدادية ستثبت أنها أكثر مهارة في إدارة الأزمات، حيث يمكنها التخطيط بشكل أفضل على المدى الطويل ويمكنها اتخاذ قرارات صعبة بسرعة أكبر. لكن سجلات المسار الوبائي للبلدان الاستبدادية لا تدعم هذا الرأي. وفي الوقت نفسه، تم تطوير جميع لقاحات كوفيد-19 والعلاجات الصيدلانية الأكثر فاعلية في الديمقراطيات الحرة. وعلاوة على ذلك، فعلى عكس الدول الاستبدادية، تتمتع الديمقراطيات بالقدرة على التصحيح الذاتي حيث يعبر المواطنون عن آرائهم بحرية ويختارون قادتهم السياسيين. وقد يكون النقاش والتساؤل المستمر في مجتمعاتنا والبرلمانات ووسائل الإعلام الحرة مرهِقاً في بعض الأحيان. ولكن هذا هو ما يجعل أنظمتنا أكثر مرونة على المدى الطويل.

إن الحرية والمساواة وسيادة القانون وكرامة الإنسان هي قيم لا تقتصر على ما كان يُفهم تقليدياً على أنه “الغرب”. وبدلاً من ذلك، يتم تقاسمها من قبل المواطنين والحكومات في جميع أنحاء العالم، ويؤكد ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته على أنها من حقوق الإنسان الأساسية. لكن الأنظمة الاستبدادية والسلطوية غالباً ما تتحدى أو تنكر هذه الحقوق والمبادئ. وللدفاع عنها (الحقوق والمبادئ)، يجب على دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا، أن تتعاون بشكل أوثق مع الديمقراطيات القائمة خارج نطاق الغرب، كما هو معروف تقليدياً. وفي الماضي، طالما زعمنا معاملة بلدان آسيا وإفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية على قدم المساواة. لكن في كثير من الأحيان، لم تكن أقوالنا مدعومة بالأفعال. ولذلك، يجب أن يتغير هذا الأمر. وخلال رئاسة ألمانيا لمجموعة السبع، نسّقت المجموعة جدول أعمالها بشكل وثيق مع إندونيسيا، التي تتولى رئاسة مجموعة العشرين. كما شاركنا في مداولاتنا السنغال التي تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي؛ والأرجنتين، التي تتولى رئاسة جماعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ؛ وجنوب إفريقيا، شريكنا في مجموعة العشرين؛ والهند التي ستتولى رئاسة مجموعة العشرين العام المقبل.

وفي نهاية المطاف، فإنه في عالم متعدد الأقطاب، يجب أن يمتد الحوار والتعاون إلى ما وراء منطقة استتباب الديمقراطية. حيث تقر استراتيجية الأمن القومي الجديدة للولايات المتحدة، بحق، الحاجة إلى التعامل مع “البلدان التي لا تتبنى المؤسسات الديمقراطية ولكنها مع ذلك تعتمد على النظام الدولي القائم على القواعد وتدعمه”. وسوف تحتاج الديمقراطيات في العالم إلى العمل مع هذه الدول للدفاع عن نظام عالمي يربط القوة بالقواعد ويواجه الأعمال الرجعية مثل حرب العدوان الروسية. وسيتطلب هذا الجهد الكثير من البراجماتية مع بعض التواضع.

لقد كانت الرحلة نحو الحرية الديمقراطية التي نتمتع بها اليوم مليئة بالانتكاسات والأخطاء. ومع ذلك، فقد تم إرساء بعض الحقوق والمبادئ وقبولها منذ قرون. فاستصدار مذكرة الضبط والإحضار والحماية من الاعتقال التعسفي، هو أحد هذه الحقوق الأساسية – وقد تم الاعتراف بها في بداية الأمر ليس من قبل حكومة ديمقراطية ولكن من قبل النظام الملكي المطلق للملك تشارلز الثاني ملك إنجلترا. وبنفس القدر من الأهمية يأتي المبدأ الأساسي الذي لا يسمح لدولة ما أن تأخذ بالقوة ما ينتمي لجارتها. ولذلك، يجب احترام هذه الحقوق والمبادئ الأساسية من جميع الدول، بغض النظر عن أنظمتها السياسية الداخلية.

إن فترات السلام والازدهار النسبي في تاريخ البشرية، مثل تلك التي عاشها معظم العالم في أوائل حقبة ما بعد الحرب الباردة، لا يجب أن تكون فترات توقف نادرة أو مجرد انحرافات عن قاعدة تاريخية تملي فيها القوة الغاشمة قواعدها الخاصة. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلا أنه لا يزال بإمكاننا إعادة تيار العدوان والإمبريالية إلى الوراء. ولكن عالم اليوم المعقد ومتعدد الأقطاب يجعل هذه المهمة أكثر صعوبة. ومن أجل تنفيذه، يجب على ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع وحلف شمال الأطلسي حماية مجتمعاتنا المفتوحة والدفاع عن قيمنا الديمقراطية وتقوية تحالفاتنا وشراكاتنا. ولكن يجب علينا أيضاً أن نتجنب إغراءات تقسيم العالم مرة أخرى إلى كتل. وهذا يعني بذل كل جهد لبناء شراكات جديدة بشكل عملي وبدون غموض أيديولوجي. وفي عالم اليوم المترابط بشكل مكثف، فإن هدف تعزيز السلام والازدهار وحرية الإنسان يتطلب عقلية مختلفة وأدوات مختلفة. إن تطوير هذه العقلية وتلك الأدوات هو في نهاية المطاف ما تدور حوله نقطة التحول، أو “تسايتينويند”.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%b4%d9%88%d9%84%d8%aa%d8%b2-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%86%d8%aa%d8%ac%d9%86%d8%a8-%d8%ad%d8%b1%d8%a8%d8%a7%d9%8b-%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d8%af%d8%a9-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%b5%d8%b1-%d9%85%d8%aa%d8%b9%d8%af%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%a8%d8%9f/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M