دأبت الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 على إمداد الجيش الأوكراني بالأسلحة؛ لإطالة أمد الحرب بما يضمن استنزاف روسيا. وفي هذا السياق، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” ينس ستولتنبيرج أن الدول الأعضاء في الحلف قدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا لا تقل عن 8 مليارات دولار، وقد تربعت الولايات المتحدة على قمة الدول الأكثر دعمًا لأوكرانيا عسكريًا، فوفقًا لمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية ضخت الولايات المتحدة أموالًا وأسلحة لدعم الجيش الأوكراني أكثر مما أرسلته في عام 2020 إلى أفغانستان وإسرائيل ومصر مجتمعةً، ما جعل بعض التقديرات تتوقع أن تكون أوكرانيا أكبر متلقٍ للأسلحة الأمريكية خلال القرن الحالي.
لقد أدى الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا بشكل واضح إلى تغيير المعادلات الميدانية في الجغرافيا الأوكرانية، وهو ما تجسد بشكل واضح في انسحاب القوات الروسية من مدينة خيرسون في 11 نوفمبر 2022، الأمر الذي عبر عن تغير معادلات النفوذ العسكري بين الجانبين. لكن هذا الدعم العسكري غير المسبوق طرح في المقابل العديد من التحديات التي ارتبطت بشكل رئيس بظاهرة “تسرب” الأسلحة، وتنامي المؤشرات على بيع كميات كبيرة من هذه الأسلحة في السوق السوداء، ما قد يُنذر بوصول هذه الأسلحة إلى أيدي الفاعلين المسلحين من دون الدول، سواءً جماعات الجريمة المنظمة، أو تيارات العنف والإرهاب.
مخاوف من “تسرب الأسلحة”
تصاعدت في الأشهر الأخيرة التخوفات والتحذيرات من قبل العديد من الأطراف من ظاهرة “تسرب الأسلحة” المرسلة إلى أوكرانيا، وتحول وجهتها إلى السوق السوداء، بما ينذر بتحول أوكرانيا إلى سوق سوداء للأسلحة، وفيما يلي أبرز التحذيرات بهذا الخصوص:
● اعترف العميد بالجيش الأوكراني فولوديمير كاربينك، في تصريحات صحفية بأن بلاده فقدت ما يقرب من (50%) من جميع الأسلحة والمعدات التي تلقتها، فضلًا عن أن بعض المسؤولين الأوكرانيين اعترفوا بشكل واضح بأن قسمًا من المساعدات العسكرية الغربية يُسرق ويُباع بطريقة غير قانونية.
● أعربت مديرة اليوروبول كاثرين دي بول، في تصريحات في 28 مايو الماضي عن مخاوفها من أن تؤدي الحرب إلى زيادة تدفق الأسلحة إلى الأسواق السوداء، مشيرةً إلى أن هذه الأسلحة يمكن أن تصل إلى الفاعلين المسلحين من دون الدول النشطين في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط وأفريقيا ومنطقة البلقان. وفي سياق متصل، لفتت فيكتوريا نولاند وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية إلى أن بعض الجماعات المسلحة الفاعلة في منطقة البلقان تقوم ببيع الأسلحة لتنظيم داعش.
● أشار الرئيس النيجيري محمد بخاري إلى أن “بلاده تتخوف من أن يتم تحويل مسار الأسلحة المخصصة لحرب أوكرانيا إلى غرب أفريقيا، وينتهي بها الأمر في أيدي الجماعات الإرهابية. وفي تصريحات لموقع “فويس أوف أميركا”، قال جايي جاسكيا، رئيس مبادرة “الشراكة ضد التطرف العنيف” في نيجيريا، إن “الحرب في أوكرانيا تمثل مصدر إمداد وقوة للجماعات المتطرفة في منطقة الساحل الأفريقي”.
● في أكتوبر الماضي كشفت الشرطة الفنلندية عن تهريب أسلحة من أوكرانيا إلى “السوق السوداء”، وفقًا لما ذكره مكتب التحقيقات الوطني الفنلندي، وخلصت النتائج الأولية للتحقيق الذي أجراه المكتب، إلى أنه “يمكن أن تكون كمية كبيرة من الأسلحة التي تم تزويد كييف بها سابقًا في أيدي خارجين عن القانون”. وقال مسؤولون بالمكتب إنه بعد بدء عمليات تسليم الأسلحة على نطاق واسع إلى أوكرانيا زاد تهريب الأسلحة التي تذهب إلى أوروبا بشكل كبير.
● ذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زخاروفا في 20 أكتوبر 2022 أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي أرسلت ما لا يقل عن (700) نظام مدفعي و(80000) نظام صاروخي و(800000) قذيفة مدفعية و(90) مليون طلقة ذخيرة إلى أوكرانيا. وقالت إن الشحنات العسكرية لحلف شمال الأطلسي ينتهي بها المطاف في أيدي الإرهابيين والمتطرفين والجماعات الإجرامية في الشرق الأوسط ووسط أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
● وفي سياق متصل، قال القائم بأعمال رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية، دينيس يوشيلين، إن الدعم الغربي لكييف بالأسلحة جعل أوكرانيا أحد أكبر موردي الأسلحة في السوق السوداء، وقال “بوشيلين” إن الأسلحة الموردة لأوكرانيا من الدول الغربية بات من السهل الحصول عليها وهي متاحة في السوق السوداء وعن طريق شبكات الانترنت السرية (دارك نت)، وقال القائم بأعمال رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية إن الأسلحة الموردة لأوكرانيا تقع في أيدي التنظيمات الإرهابية الإجرامية، ما يجعل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا دولًا داعمة للإرهاب، وفق تعبيره.
أبعاد خطورة ظاهرة “تسرب الأسلحة”
تمثل ظاهرة “تسرب الأسلحة” الموردة لأوكرانيا في إطار حربها الدائرة مع روسيا تهديدًا على أكثر من مستوى، ويمكن بيان مظاهر هذا التهديد على النحو التالي:
1- زيادة استهداف المدنيين: في إطار مساعيها لمواجهة الحملة العسكرية الروسية، توسعت أوكرانيا في تسليح المدنيين الأوكرانيين، بالإضافة إلى استدعاء الاحتياط وفرض التجنيد الإجباري على الشباب، وكان البرلمان الأوكراني قد مهد لهذه الخطوة بالموافقة على قانون موسع من شأنه أن يسمح للجيش بتسليح المليشيات المحلية بأمر من الرئيس فلوديمير زيلينسكي، وقد أشار مسؤولون أوكرانيون إلى أن وزارة الداخلية قامت بالفعل بتسليم 18000 مدفع رشاش لمتطوعين في كييف، واقترح زيلينسكي إطلاق سراح سجناء من ذوي الخبرة العسكرية إذا كانوا على استعداد للانضمام إلى القوات المسلحة الأوكرانية.
وتتمثل خطورة هذا التوجه في إمكانية استخدام بعض العناصر الأوكرانية المتطرفة هذه الأسلحة في تنفيذ بعض الهجمات الإرهابية، فضلًا عن أن عمليات “تسليح المدنيين” تمثل ذريعة بالنسبة للقوات الروسية لاستهدافهم، وتوسيع طبيعة المُستهدف في إطار عملياتها العسكرية.
2- إمكانية وصول الأسلحة للجماعات الإجرامية: أحد التداعيات الخطيرة التي قد تترتب على ظاهرة تسرب الأسلحة في أوكرانيا تتمثل في فرضية وصول هذه الأسلحة إلى أيدي الجماعات الإجرامية، وزيادة قدرتها على تنفيذ عملياتها الإجرامية. ولا يجب إغفال أن أوكرانيا دولة تتصاعد فيها مظاهر الجريمة المنظمة، فضلًا عن أنها دولة متقدمة على مستوى مؤشر الفساد العالمي، ما يزيد من احتمالية تسهيل بعض القيادات الأمنية لعمليات وصول الأسلحة إلى المجرمين؛ بهدف الحصول على مكاسب مالية كبيرة.
3- تدفق الأسلحة للجماعات الإرهابية: أحد التهديدات المحتملة المصاحبة لظاهرة تسرب الأسلحة في أوكرانيا تتمثل في احتمالية وصول هذه الأسلحة للجماعات الإرهابية بمختلف اتجاهاتها، وهو تهديد تزيد احتماليته في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسة: الاعتبار الأول يتمثل في الاهتمام اللافت الذي أبدته تنظيمات العنف والإرهاب بالحرب الأوكرانية، ودعوة بعضها صراحةً (تنظيم القاعدة نموذجًا) إلى استغلال الحرب بما يخدم الأنشطة الإرهابية والحصول على الأسلحة.
الاعتبار الثاني يتمثل في العلاقة الارتباطية الكبيرة التي جمعت تنظيمات العنف والإرهاب في السنوات الأخيرة وجماعات الجريمة المنظمة، حيث غلب على هذه العلاقة فكرة “الوظيفية”، بمعنى أن تنظيمات الإرهاب باتت توظف بعض العناصر الإجرامية للقتال في صفوفها، فضلًا عن استغلال جماعات الجريمة المنظمة من أجل الحصول على الأسلحة.
أما الاعتبار الثالث فيرتبط بتحول أوكرانيا في السنوات الأخيرة إلى مأوى لبعض العناصر المتطرفة والإرهابية، ما يُعزز من فرضية انخراط هذه العناصر في مساعي توظيف الحرب على أكثر من مستوى، وعلى رأسها الحصول على الأسلحة وتنفيذ هجمات إرهابية. وقد تجسد حضور العناصر المتطرفة في أوكرانيا، في إعلان السلطات الأوكرانية في نوفمبر 2019، عن إلقاء القبض على القيادي البارز في تنظيم “داعش”، البراء الشيشاني، بعملية خاصة مشتركة مع الولايات المتحدة وجورجيا في مقاطعة كييف، وقد كان “الشيشاني” أمير جماعة “أحد أحد” التابعة لداعش في محافظة اللاذقية غرب سوريا، قبل أن يتم تنصيبه في 2013 نائبًا لوزير الحرب في “داعش”.
وفي الختام، يمكن القول إن ظاهرة “تسرب الأسلحة” تمثل أحد المعضلات الأمنية الرئيسة المصاحبة للحرب الروسية الأوكرانية، وذلك في ضوء احتمالية وصول هذه الأسلحة إلى أيدي جماعات الجريمة المنظمة والتيارات الإرهابية، الأمر الذي يمثل إشكالًا يتجاوز في تهديده حدود الارتدادات المحتملة على الداخل الأوكراني، ليمثل تهديدًا للجوار الأوروبي، وكذا الدول التي تنشط فيها تنظيمات العنف والإرهاب.
.
رابط المصدر: