الصين الحقيقيّة، والصين المُتخيَّلة: هل وصل تحالف إيران الاستراتيجي مع بيجين إلى نهايته؟

محمد الزغول

 

أحدثت زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة العربية السعودية زلزالاً استراتيجياً في طهران، إذْ اعتُبِرَت المواقف الجديدة التي عبّرت عنها الصين خلال الزيارة بمثابة “عمليّة إعادة تموضُع” في المجال السياسي الإقليمي. وكان صُنّاع القرار في طهران يطمحون على مدار سنوات ماضية إلى معادلة استراتيجية، تكون فيها إيران البوابة الإقليمية الرئيسة لخروج الصين من دائرة النفوذ “الاقتصادي” إلى دائرة النفوذ “السياسي” في الشرق الأوسط. وبحيث يؤدي انخراط الصين في المسارات السياسية إلى بَسْط هيمنتهم الإقليمية، ورفع مكانتهم في الحسابات الاستراتيجية في عالمٍ جديدٍ يحمل طلائع “هيمنةٍ شرقيّةٍ” بديلةٍ عن الهيمنة الغربية الآفلة. لكنّ التّموضُع السياسي الصيني جاء مُعاكساً، ليدعم المنافس الإقليمي، وينتقد التوجُّهات التي تعتبرها طهران ضامنة لسطوتها في الشرق الأوسط.

 

توقَّعَ الإيرانيون زيارةً بمضمونٍ اقتصاديٍّ صِرف. وتحدّثت التحليلاتُ في طهران عن حاجةِ بيجين للانفتاح الاقتصادي على المنطقة، وحاجةِ دول الخليج العربية لتنويع شراكاتها الاقتصاديّة. لكنّ البيانات المُشتركة الصادرة عن القمم العربية-الصينية جاءت صادمة لطهران؛ إذْ كشفت عن تناغم سياسيّ مُتزايدٍ بين بيجين ودول الخليج العربية حول قضية الجزر الإماراتية المحتلة الثلاث التي تعتبرها طهران “مساساً بسيادتها على أراضيها”. ليس ذلك فحسب، بل إنّ الصين التي طالما رأى فيها النظام الإيراني حليفاً في الملف النووي، تَبنّت الرؤية العربية الداعية إلى الحدّ من تطلُّعات إيران النووية، والحدّ من تدخُّلاتها الإقليميّة، وبرامجها العسكريّة. ونتيجة لهذه الصدمة، طغى الجانب السياسي والاستراتيجي على التحليل الإيراني للزيارة التي بات يُنظَرُ إليها بمثابة إشارة مهمّة على نهاية الحلم الإيراني بالتحالف الاستراتيجي مع بيجين.

 

وحاولت الجهات الرسمية في إيران التقليل من معاني الزيارة على الصعيد الاستراتيجي، مُؤكدةً أنّ زيارةً واحدةً لا يُمكنها أنْ تمسّ بمتانة العلاقات الإيرانية-الصينية، وأنّ اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، ستجدُ طريقها للتطبيق على أرض الواقع في أقربِ وقت. وفي إطار “لُعبة التّلاوُم” الداخليّة، فسّر بعض الأوساط المحافظة إعادة التموضُع الصيني في سياق امتعاض بيجين من الحكومة الإيرانية السابقة التي أهملت مسار التقارُب مع الصين، غداة محاولاتها الانفتاح على الغرب، بعد توقيع الاتفاق النووي.

 

لكنّ الحقيقة المؤسفة الواضحة بالنسبة لطهران، هي أن “إعادة التموضع” الصيني حدثت في ظلّ حكومة إيرانيّة مُحافِظة، ومُقرَّبة من دوائر الدولة العميقة، وهي حكومة رفعت من يومها الأول شعار “التوجه نحو الشرق”، وعوّلت على الصين كثيراً في سياستها الخارجية؛ فمنذ يوم التنصيب الرئاسي لحكومة المحافظين، قال علي أكبر ولايتي، مستشار القائد الإيراني الأعلى، إن “التوجه نحو الشرق” سيكون محور السياسة الخارجية في الحكومة الجديدة. وأشار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إلى نيّة حقيقيّة في طهران للتحالف مع الصين، وتسريع وتيرة تطبيق “اتفاقية التعاون الاستراتيجي” بين البلدين، مُبيِّناً أنّ اتصالاً هاتفيّاً واحداً منه مع الرئيس الصيني، كان كفيلاً بحلّ أزمة كورونا، بعد تعهُّد الصين بالوقوف إلى جانب طهران في توفير اللقاحات اللازمة. وراهنت حكومة المحافظين على مسار التقارب مع الصين، وجدوى هذا المسار، غداة قبول عضويّة إيران الكاملة في “منظّمة شنغهاي للتعاون” الذي روّجت له حكومة المحافظين باعتبارها مكسباً استراتيجيّاً. وكانت الصين أيضاً، هي العنوان الأبرز في مساعي التقليل من أثر العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وذلك على الرغم من توجُّه بيجين إلى توسيع مصادر وارداتها من النفط، خاصّة بعد الحرب الروسيّة على أوكرانيا.

 

دوافع السلوك الصيني بلغة الأرقام: تغيُّر الحقائق واستمرار الوهم

تحتلّ الصين المرتبة الأولى في خريطة التجارة الخارجيّة الإيرانيّة. وتُشير الأرقام الصينيّة إلى أن إيران تحتل المرتبة 49 بين شركاء بيجين في العالم، بواقع 3 أعشار بالمئة من مجموع التبادل التجاري الصيني في عام 2020. لكنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين شهِدَ انخفاضاً سنويّاً مُتواصلاً من نحو 46 مليار دولار في عام 2011، إلى نحو 14.9 مليار دولار في عام 2020، ثم إلى 14.8 مليار دولار في عام 2021.

 

وفي المقابل، تُظهِرُ الأرقام نموّاً مُتواصلاً في حجم التبادل التجاري بين الصين والعالم العربي، ليبلغ أكثر من 332 مليار دولار في عام 2021، بعد أنْ كان عند 145 مليار دولار في عام 2010. ويبلغ التبادل التجاري بين الصين والسعودية نحو 87.3 مليار دولار (وهو ما يعادل 5.9 أضعاف التبادل التجاري مع إيران)، فيما يبلغ التبادل التجاري بين الصين والإمارات نحو 72.4 مليار دولار (ما يعادل 4.9 أضعاف التبادل مع إيران). ويأتي العراق ثالثاً بنحو 37.3 مليار دولار (2.5 أضعاف التبادل مع إيران)، ثم سلطنة عمان بنحو 32.1 مليار دولار (2.17 أضعاف التبادل مع إيران). وتقول الأرقام أيضاً إنّ حجم التبادل التجاري بين إيران والصين، انخفضَ بنحو 35.9% في عام 2021 (ليصل إلى 14.8 مليار دولار) مقارنةً بعام 2018 (حيث كان يبلغ 23.1 مليار دولار). مع ملاحظة أنّ العام 2018، هو العام الذي بدأت فيه حملة الضغوط القصوى الأمريكية على إيران.

 

وتُشير تقارير مماثلة إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين الصين والعالم العربي شهد ارتفاعاً بنحو 37% خلال الفترة نفسها. وأبدت الصين رغبتها بدمج البلدان العربية في خطة الحزام والطريق من خلال أكثر من 200 مشروع، وُقِّع عليها بين بيجين وأطراف عربية. فيما لم تحصل إيران على أيّ عقد كبير من هذه الخطة الصينية الطموحة. وذلك على الرغم من أنّ خطة الحزام والطريق تُشكِّل العمود الفقري لمسودة اتفاق التعاون الاستراتيجي بين إيران والصين.

 

ولعلّ أول ما يتبادر إلى الذهن بعد مطالعة هذه الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، أنّ التقارُب السياسي الصيني-العربي لا ينبغي أن يُشكِّل عنصُراً مفاجئاً. بل إنّ المعطيات الميدانيّة، تؤكِّد أنّ الصين دخلت مُنذ عدة أعوامٍ، في مسارٍ لتنمية العلاقات مع بلدان الخليج، والعالم العربي. في حين ظلّت العلاقات التجاريّة بين إيران والصين، تُعاني من التعثُّر بفعل العقوبات، وأسباب أخرى. وهو ما يؤكِّده الانخفاضُ المُضطرد في حجم التبادل التجاري بين إيران والصين. وبعد أن كانت إيران تحتلّ المرتبة الثانية في قائمة شركاء الصين في منطقة الخليج العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، تراجعت إلى مراتب متدنية للغاية، على الرغم من أن الموقف الرسمي الإيراني ظلّ يؤكّد أهميّة التعاون مع الصين، ويتغنّى بأهميّة العامل الصيني في الصّمود بوجه العقوبات الأمريكية، ويراهن على المواقف الصينية الداعمة في مختلف الملفّات، خاصة المسألة النووية. لكنّ مواقف القطاع التجاري الصيني، كانت تسير في عكس هذا الاتجاه، إذْ أظهرت عزوفاً مُتزايداً عن التعامل مع الاقتصاد الإيراني الذي يرزح تحت نير العقوبات، ويعاني نتيجة تفاقُم أزمات البلاد؛ السياسيّة، والاجتماعيّة، والبيئيّة.

 

وكنوعٍ من الاستجابة لمتطلبات القطاع التجاري الصيني، عبّرت بيجين في أكثر من موقف، عن رغبتها بتوصُّل إيران والغرب إلى اتفاقٍ يُنهي العقوبات، وحثّت طهران على المضي قدُماً بهذا الاتجاه، من دون أنْ تتحرّك إيران بشكل حقيقي؛ ما أدّى بالنتيجة إلى تغييب إيران عن قائمة شركاء الصين الرئيسيين في منطقة الخليج، وتنامي الحصص العربية.

 

دوافع السلوك الصيني بلغة السياسة: إيران الروسية تُثير القلق

تطمح استراتيجية “التوجه نحو الشرق” الإيرانية إلى تحالف يجمع إيران بكل من روسيا والصين، باعتبارهما جناحَيْ الكتلة الشرقيّة. لكنّ إدارة التوازن في العلاقات الإيرانية بين الصين وروسيا، ظلّت تُشكِّلُ تحدّياً حقيقيّاً للنظام الإيراني، وذلك في ظل اختلاف التوجُّهات الإقليميّة والدوليّة لهذين الحليفين المُفترضَيْن. وظهر هذا التحدّي بشكلٍ أوضح بعد امتعاض روسيا من تفاصيل مُسوَّدة “اتفاقية التعاون الاستراتيجي” بين إيران والصين التي منحت الصين الأولويّة في الحصول على كعكة الاقتصاد الإيراني، والأولوية في الحصول على موطئ قدم عسكريّ في إيران. واضطرت طهران بعد هذا الامتعاض إلى محاولة استرضاء موسكو، بالحديث عن اتفاق تعاونٍ استراتيجيٍّ مُمَاثلٍ مع روسيا. واقتراح اتفاقيّات اقتصاديّة وازنة على موسكو في قطاعات: الطاقة، والنقل. والتلويح بأنّ بنود الاتفاق مع الصين تتضمّن حصصاً للجانب الروسي أيضاً، كما تتضمّن وجوداً روسيّاً في أيِّ برنامج عسكريٍّ يجمع طهران وبيجين.

 

على الجانب الصيني، أسهمت طموحات إيران بالتحوّل إلى مركز إقليمي للعبور والتجارة، عبر تفعيل الممرّ الشمالي-الجنوبي في وضع طهران بموقف المُنافس لمشاريع كُبرى كانت الصين تحاول تنفيذها في المنطقة. وعلى سبيل المثال، اعتمدت خطط إيران لتطوير ميناء تشابهار على استثمارات هندية، ثمّ روسية، لاستكمال ممرّها الشمالي-الجنوبي الذي يربط الهند بآسيا الوسطى، ويربط روسيا بالمحيط الهندي. لكنّ الصين رأت في الطموح الإيراني مُنافِساً لمشروع ميناء غوادر، الذي أنشأته الصين في باكستان. ولطالما سعت بيجين إلى تحييد الممرّ الشمالي-الجنوبي في سياق التصدي للمشاريع البديلة لخططها الإقليمية المنبثقة عن خطة الحزام والطريق. ولذلك، لم يكن مُفاجئاً أنْ تستثني الصين، إيران من قائمة الاستثمارات الصينيّة لدعم مبادرة “الحزام والطريق” في الشرق الأوسط التي بلغت 150 مليار دولار؛ حيث لم تكن لإيران حصة منها. وأثبتت هذه الخطوات الصينية في مراحل لاحقة، فاعليّةً كبيرةً في تغييب إيران من مختلف مشاريع النقل في منطقة غرب آسيا، وآسيا الوسطى.

 

وبعد فرض العقوبات الغربيّة على روسيا، أعاد الجانبان الروسي والإيراني التركيز على الممرّ الشمالي-الجنوبي؛ ما أسهم مرّة أخرى في إثارة حفيظة الصين. وعلى الرغم من أنّ الوقائع الميدانيّة أثبتت عدم فاعليّة هذه الخطة الروسية-الإيرانية، لكنْ يبدو أنها نجحت في زيادة التّباعُد بين طهران وبيجين. وانتشرت مؤخّراً تقارير حول مَسَاعٍ جديدة، لكلّ من طهران وموسكو، تهدف لإيجاد طرق بديلة لخطوط التجارة بينهما، بحيث تحقق غايتين: إمكانيّة التهرُّب من العقوبات الغربية، وعدم التّعارض مع الخطط الصينيّة. وفي هذا السياق، انتشر نبأ إقامة روسيا وإيران طريقاً تجاريّاً جديداً، يمتدّ من حافة أوروبا الشرقيّة، ويصل إلى إيران عبر المحيط الهندي، بطول 3000 كيلومتر. ويهدف الممرّ الجديد إلى حماية العلاقات التجارية للبلدين من التدخُّل الأجنبي، والعقوبات الغربية، وفي نفس الوقت، تعزيز الارتباط مع الصين، ومختلف الاقتصادات الصاعدة في شرق آسيا.

 

بين الاقتصاد والسياسة: الحدود الحَرِجة 

كانت الدولة العميقة في طهران، تطمح إلى تعزيز الفاعليّة السياسيّة للعلاقة مع الصين، عبر المناورة على مفهوم “الحليف الاستراتيجي” الذي يفتح أبواب “الحضور فوق الاقتصادي” للصين في منطقة الخليج وغرب آسيا بشكل عامّ. واستندت وجهة النظر الإيرانية هذه إلى تقديرٍ مفاده أنّ الصين معنيّة بالبحث عن أدوارٍ سياسيّة، ومناطقِ نفوذٍ إقليميّة، باعتبارها تالياً منطقيّاً، وحامياً ضروريّاً لتوسُّع النفوذ الاقتصادي الصيني. ولتشجيع بيجين على اختيار هذا المسار، قدّمت إيران إغراءات اقتصادية لافتة للصين، ظهرت في بنود “اتفاقية التعاون الاستراتيجي”، لكنّ الرؤية الإيرانية ظلّت تؤكد على أنّ الطريق إلى “التحالف الاستراتيجي” بين البلدين، لا يمرّ عبر المُعطيات الاقتصاديّة، بمقدار ما يمرّ عبر توفير فرص “الحضور الاستراتيجي” للصين في منطقة الخليج التي تُعدُّ ساحةَ نفوذٍ أمريكيّة. وتعزّزت هذه القناعة لدى القيادة الإيرانية في ظل تزايُد التنافس الصيني-الأمريكي في بحر الصين الذي يُعتبَرُ منطقة نفوذ صينية؛ ما كان من شأنه (بحسب الرؤية الإيرانية) أن يدفع بيجين نحو البحث عن بوابةٍ للحضور في مناطق النفوذ الأمريكيّة، وردع واشنطن من تطبيق طموحاتها في خنق الصين.

 

لكنّ التطوُّرات اللاحقة أظهرت أنّ الأولوية في الاستراتيجيّة الصينيّة، لا تزال للاقتصادي على السياسي. وخلافاً للرؤية الإيرانية، أظهرت بيجين أنها لا تُريد نقل المواجهة مع واشنطن إلى البُعد الجيوسياسي، وأنّها ترغب بالبقاء ضمن المجال الجيواقتصادي الذي غابت عنه إيران بفعل تراجُع اقتصادها وتنافسيّتها كما أسلفنا. ومن هذا المُنطلَق، جاءت الاستجابة الصينيّة لمطالب البلدان العربية التي تربطها بالصين علاقات اقتصاديّة تفوق بأكثر من 20 ضِعفاً، حجم علاقات الصين الاقتصادية مع إيران. وفي المقابل، أتاح العربُ للصين، ترسيخ وجودها الاقتصادي في منطقة الخليج، باعتبارها منطقة نفوذ أمريكية تقليديّة، عبر عدّة مشاريع مُشتركة كُبرى. وكانت النتيجة هي: ضمان حِياد الصيّن في الملف النووي، وكسب موقفها الرافض للتوسُّع الإقليمي، وبرامج التسلُّح الإيرانية. وهي برامج وطموحات إيرانية، لم يكن للصين فاعليّة ملحوظة فيها، خلافاً للجانب الروسي الذي كانت له مساهمة واضحة في كُلٍّ منها.

 

لكنْ ينبغي وضعُ حدودٍ للتفاؤل العربي بشأن هذه المُعادلة المتغيّرة؛ حيثُ لا تزال إيران من وجهة النظر الصينيّة، تمتلكُ أفضليّات، يُمكنها أنْ تعملَ على ترجيح كفّة طهران مرة أخرى إذا توافر المناخ الملائم لتنمية العلاقات الاقتصادية الصينية-الإيرانية. وعلى سبيل المثال، تستطيعُ دول الخليج العربية توفيرَ مصادرَ طاقةٍ آمنة، ومستدامة للاقتصاد الصيني، لكنّ منطقة الخليج لا تزال ضمن المعسكر الأمريكي على الصعيدين؛ السياسي، والاستراتيجي، ولا تنجح مناوراتٌ مثل عقود التسليح الخليجية-الصينية في زعزعةِ هذه السّطوة الأمريكية بشكل جوهري. أما إيران، فهي على مسافة آمنة من الكتلة الغربية من وجهة نظر الصين، وهو ما يُعطي للتقارُب معها قيمةً استراتيجيةً، تفوق القيمة التي يُمكن أن يُعطيها التعاون الاقتصادي. ويبقى من المحتمل أن تطمح الصين مستقبلاً إلى حضورٍ يتجاوزُ البُعد الاقتصادي في منطقة الخليج، خاصةً في حال تزايُد الضغوط الأمريكية عليها في بحر الصين. وفي هذه الحالة، ستكون إيران الخيار الأمثل بالنسبة للصين، خاصّةً في حال نجحت طهران بتسوية خلافاتها مع الغرب بما يسمح برفع العقوبات والقيود الأخرى المفروضة على اقتصادها؛ إذ حينها ستكون السوق الإيرانية واعدةً، وجاذبةً للشركات الصينية، والحكومة الصينية على السواء.

 

استنتاجات عامة، وسيناريوهات

ما يبدو أنّه استنتاجٌ صحيحٌ حتى الآن، هو أنّ المملكة العربية السعوديّة استطاعت عزل الصين عن إيران في الملفات الخلافيّة. وذلك بعد أن حصلت بالفعل على مواقف داعمة من الصين للموقف العربي. لكنّ استمراريّة هذا النجاح، ستبقى رهناً بالظروف اللاحقة، ومصير العقوبات، وفُرَص تحرُّك عجَلة الاقتصاد الإيراني. والمرجو أنْ تنعكس هذه المواقف الصينية الجديدة على الدور الصيني في مفاوضات الملف النووي الإيراني، سواءً المفاوضات التي تجري في إطار “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، أو مفاوضات فيينا التي يُحتمل أنْ تُستأنَف في الربيع المقبل في إطار محاولة إحياء الاتفاق النووي. وبحيث تقود مثل هذه المقاربة إلى مواقف صينيّة أكثر وضوحاً في الملف النووي الإيراني، بعد اتّسم الموقف الصيني حياله بالغموض، والصمت طوال العامين الماضيين.

 

وعلى الرغم من أنّ المواقف الصينية المعلنة في الرياض، أثارت الشكوك بشأن جدوى استراتيجية “التوجه نحو الشرق” في طهران، إلّا أنّ انهيار هذه الاستراتيجية يظلُّ مستبعداً في ضوء: تنامي التعاون الإيراني-الروسي، واستمرار فاعليّة شبكات المصالح المُتشكِّلة حول سياسة “التوجه الشرقي” في طهران. ويبقى من المحتمل أنْ تقوم طهران بخطوات مؤثّرة لاسترضاء الحليف الصيني، عَبْر تقديم مزيد من الامتيازات. لكنّ المعطيات الأخيرة، تُشير إلى أنّ أولويّة إيران، لا تزال تتركّز حول تعزيز الأنشطة المشتركة مع روسيا، سواءً على الصعيد الاقتصادي، أو على الصعيد العسكري.

 

وعلى مستوى المشهد الداخلي الإيراني، أعادت المواقف الصينية الجديدة، إحياء الجدل بشأن فاعليّة العقوبات المفروضة على إيران، ودورها في منع الصين من تطوير مستويات التعاون مع إيران. وجادل محللون من مختلف التيارات السياسية بأنّ النظام الإيراني قد يخسر كلّ الأطراف الدولية الداعمة له، في حال استمرت العقوبات. وأنّه ينبغي النظر إلى رفع العقوبات، باعتباره شرطاً لاستكمال مسار الاندماج في الكُتلة الشرقية. وفي ضوء الوعي المتزايد بشأن تراجُع الدور الإيراني الإقليمي، وانسلاخ الأصدقاء، نتيجة العزلة السياسية، والأزمة الاقتصادية، يبقى من الوارد أن تتحرك المؤسسات الرسميّة، نحو إيجاد طرق لكسر هذا الطّوق. ويظلُّ خيارُ إعادة تحريك المفاوضات النووية وارداً، سواء عبر العودة إلى اتفاق 2015، أو التوصل إلى اتفاق بديل يضمن رفع العقوبات. ويُمكن وضع التحرُّكات الأخيرة الصادرة عن الجهاز الدبلوماسي في سياق هذه الجهود.

 

وعلى المستوى الإقليمي، كانت المواقف الصينية الجديدة، ضروريّةً لطمأنة صُنّاع القرار في المنطقة، تجاه رؤية الصين الإقليميّة، خصوصاً بعد أنْ أثارت مُسَوَّدة “اتفاقية التعاون الاستراتيجي” الصيني مع إيران قلقَ مُختلَف القُوى الإقليمية، العربية، وغير العربية. ويمنحُ هذا الوضع الجديد، بيجين موقعاً أفضل، للعب دورٍ مُؤثّر في تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وهو وضعٌ يتناسبُ أكثر، مع مكانة الصين الصاعدة، بوصفها قوّة دوليّة عُظمى، تملك علاقاتٍ أكثرَ تنوُّعاً، وتوازُناً، وإنتاجيّةً مع القوى الإقليمية. وبما يمنح الصين موقعاً ممتازاً لفكّ العُقَد الإقليميّة، والاضطلاع بأدوار متزايدة خلال الفترة المقبلة في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميَّيْن. ولا شكّ في أنّ الحصول على تلك المواقف من الصين، يُعدُّ مكسباً عربيّاً استراتيجيّاً في سياق التنافس الإقليمي، لكنْ لا ينبغي المبالغة بشأن فاعليّته في تغيير السلوك الإيراني، خصوصا إذا أخذنا بالحسبان، أهميّة المؤثرات غير الاقتصاديّة في التوجه الصيني نحو منطقة الخليج العربي.

 

ومن المرجّح أنْ تُواصل الصين جهودها لموازنة العلاقات مع مختلف الأطراف الإقليمية. لكنّ المرجوّ والمأمول عربيّاً وإقليميّاً، هو أنّ تضغط بيجين على طهران أكثر للمساهمة بإيجاد مناخ إيجابي لتنمية العلاقات الاقتصادية الإقليمية. ولا شكّ أن بقاء الصين في مثل هذا الموقع الوسطي، يُمكِّنها من لعب دورٍ فاعل في حلّ الخلافات الإقليمية في ضوء ثقة الأطراف العربية بها، وتأثيرها على الجانب الإيراني. كما يمكنها هذا الموقع من ممارسة لعبة اقتطاع النقاط من الجانبين، وهو سيناريو يبدو أنّ بيجين تُفضّله في الوقت الراهن.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/hal-wasal-tahaluf-iran-al-estiratiji-mae-bijin-ila-nihayatih

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M