في ظل تعدد المساعي الدولية لتعزيز الأمن الغذائي والقضاء على الجوع ضمن أهداف التنمية المستدامة المزمع تحقيقها بحول عام 2030، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فمنذ أزمة جائحة كورونا، ثم الصراع الروسي الأوكراني، فضلًا عن تحديات التغيرات المناخية، واجه الاقتصاد العالمي صدمات اقتصادية متعددة تمثلت في اضطرابات سلاسل الإمداد، وتراجع قيم العملات المحلية بالدول النامية، وارتفاعات متتالية في أسعار السلع الأساسية على رأسها الطاقة والأسمدة والغذاء، ليواجه العالم أزمة محتملة في الأمن الغذائي تهدد عددًا كبيرًا من الأسواق خاصة النامية والناشئة.
الأمن الغذائي عالميًا.. المفهوم والأبعاد والأسباب
تتمثل أبعاد الأمن الغذائي في أربعة أبعاد رئيسية، تتمثل في: التوفر المادي للغذاء والذي يختص بجانب عرض الغذاء، والحصول المادي والاقتصادي على المواد الغذائية والذي يرتبط بحصول الأفراد على الغذاء، والاستفادة من المواد الغذائية والذي يتعلق بتناول الغذاء الصحي المتكامل، وأخيرًا استقرار تلك الأبعاد الثلاثة بمرور الوقت والذي يعني توفر صفة الاستدامة والدورية. ويتفق ذلك مع ما خلُص إليه مؤتمر القمة العالمي للأغذية في روما عام 1996 بأنه يتحقق الأمن الغذائي عندما يتاح لجميع البشر في جميع الأوقات الوصول المادي والاقتصادي إلى أغذية كافية ومأمونة ومغذية لتلبية احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتهم الغذائية من أجل حياة نشيطة وصحية.
ويطول الحديث حول الأسباب الراهنة لتأزم وضع الأمن الغذائي عالميًا؛ والذي بدأ منذ أزمة جائحة كورونا حيث تراجع الإنتاج العالمي وتوقفت حركة التجارة الدولية، ثم جاء الصراع الروسي الأوكراني فتراجع النمو بالاقتصاد الأوكراني نتيجة العمليات المسلحة، كما تأثر الاقتصاد الروسي بالعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، وزادت حدة اضطراب سلاسل الإمداد، وارتفعت مستويات الأسعار خاصة الطاقة والغذاء، فضلًا عن اتجاهات الاقتصاد الكلي وتحديات التباطؤ الاقتصادي العالمي، والظروف المناخية المعاكسة للأسواق الزراعية. وبجانب الأوضاع العالمية غير المواتية فإنه يلاحظ ارتفاع معدلات هدر الطعام، والتي يترتب عليها مشكلات نقص الغذاء على المدى الطويل.
أسعار الغذاء عالميًا
وقد انعكست تلك الظروف العالمية على الأوضاع المحلية بالدول المختلفة؛ فارتفعت أسعار الغذاء المحلية في مختلف انحاء العالم، ووفقًا للبنك الدولي فإن بيانات تضخم أسعار المواد الغذائية أشارت إلى ارتفاع معدلات التضخم في جميع البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل تقريبًا، مع ارتفاع مستويات التضخم إلى أكثر من 5% في 83.3% من البلدان المنخفضة الدخل، و90.2% من الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، و91% في الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، وكثير منها تشهد معدلات تضخم مكونة من خانتين. ونسبة البلدان مرتفعة الدخل التي ترتفع فيها معدلات التضخم تصل لنحو 85.7%. وتقع البلدان الأكثر تضررًا في: أفريقيا، وأمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية، وجنوب آسيا، وأوروبا، وآسيا الوسطى.
ووفقًا لمؤشرات أسعار السلع الأولية الزراعية والسلع الغذائية الصادرة في فبراير 2023 فقد أغلقت مؤشرات أسعار الزراعة والحبوب بنسبة 2 % أعلى مما كانت عليه في يناير السابق له، وأغلق مؤشر أسعار الصادرات بنسبة 5% أعلى. وارتفعت أسعار الذرة والقمح والأرز بنسبة 1% و2% و5% على التوالي. وعلى أساس سنوي، ترتفع أسعار الذرة والأرز بنسبة 9% و16٪ على الترتيب، بينما تراجعت أسعار القمح بنسبة 3٪. وارتفعت أسعار الذرة والقمح بنسبة 31% و14% عما كانت عليه قبل عامين في يناير 2021، بينما تراجعت أسعار الأرز بنسبة 2%.
وقد سجلت أسعار الأسمدة تراجعًا ملحوظًا بنسبة 40% بعد أن سجلت مستويات قياسية خلال فصل الربيع الماضي، ويرجع ذلك التراجع إلى انخفاض أسعار الغاز الطبيعي وإعادة فتح مصانع الأسمدة في أوروبا. وعلى الرغم من هذا الانخفاض، فإن الأسعار لا تزال تقريبًا ضعف مستواها قبل عامين.
ويتفق ذلك مع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية والذي بلغ ذروته في مارس 2022 ثم بدأ يتراجع تدريجيًا في المتوسط، ولكن ما زال مرتفعًا عن قيمته خلال عام 2021.
شكل (1): مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية
ووفقًا لمؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2022 فقد تحسنت أوضاع عدد من الدول بينما تراجعت قيمة المؤشر لعدد آخر من الدول، وجاء من أفضل الدول أداء فنلندا، وأيرلندا، والنرويج وفرنسا، وهولندا، واليابان، وكندا، والسويد، والمملكة المتحدة، والبرتغال. وعلى النقيض فقد جاء على رأس الدول التي تراجع أداؤها سوريا، هايتي، اليمن، سيراليون، مدغشقر، بوروندي، نيجيريا، فنزويلا، السودان والكونغو الديمقراطية. وبصفة عامة فإن مؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2022 أشار إلى تدهور الأوضاع الغذائية عالميًا بعد أن بلغ المؤشر أعلى قيمه له عام 2019؛ في ظل توالي الصدمات خلال الفترة 2020-2022 والارتفاعات غير المسبوقة في أسعار المواد الغذائية وانتشار الجوع على نطاق واسع، وترتب على ذلك تهديد الأمن الغذائي وضعف قدرة الأنظمة الغذائية على الصمود، وزيادة عدم المساواة الاقتصادية، وتقلب التجارة وسلاسل الإمداد، وزيادة التوترات بالأنظمة المحلية. وقد جاء تراجع المؤشر في ظل التزام الحكومات بتمويل سياسات التكيف الزراعي والاستدامة؛ فارتفعت درجات الالتزامات السياسية بنسبة 10% في المتوسط خلال الفترة 2019 -2022، كما تبنت 89 دولة تدابير خاصة بالأمن الغذائي مقارنة بنحو 74 دولة فقط عام 2019. وجاء من بين السياسات الفاعلة في هذا الشأن السياسات البيئية الداعمة، وسياسات إدارة المخاطر، وزيادة التمويل الأخضر، وتدفقات تمويل المناخ. وعلى النقيض أوضح المؤشر قصور في الإجراءات التي من شأنها زيادة المحتوى العضوي للتربة، ورفع البنية التحتية للري.
وقد أشار تقرير مؤشر الأمن الغذائي العالمي الصادر عن the economist group إلى أنه خلال فترات ارتفاع المؤشر قبل عام 2020 كان ذلك بفضل سياسات التمكين الزراعي للمزارعات وتبني استراتيجيات الأمن الغذائي، وعلى الرغم من تراجع الإنفاق على البحث والتطوير، إلا أنه كان هناك توجه قوي نحو الابتكار والاعتماد على الأساليب التكنولوجية في القطاع الزراعي، مما أدى إلى تحسن الإنتاجية الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي خلال تلك الفترة.
تحديات الأمن الغذائي في الدول النامية
وعلاوة على تبعات الأحداث الدولية الراهنة وتداعياتها على الأمن الغذائي، فإن هناك عدداً من الدول تعاني من نقص التغذية لدى الأطفال وانتشار التقزم وفقر الدم، وأمراض السمنة والوزن الزائد الناتجة عن الأغذية غير الصحية مما يجعل تلك الدول أقل قدرة على تحمل الصدمات الخارجية. وتشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة إلى أن عدد الأشخاص غير القادرين على تحمل تكلفة نمط غذائي صحي ارتفع بمقدار 112 مليون شخص حول العالم ليقترب من 3.1 مليارات شخص خلال عام 2020. ويشير القرير إلى أن انتشار الصراعات وتدهور الأحوال المناخية والصدمات الاقتصادية وتنامي أوجه عدم المساواة أدى إلى خسارة المكاسب المحققة سابقًا والتي ترتب عليها انخفاض عدد الأطفال المصابين بالتقزم بمقدار 55 مليون طفل. وتزداد خطورة الأمر بالنسبة للدول النامية؛ نظرًا لانخفاض الموارد المالية بها، فضلًا عن اعتماد اقتصادها بشكل كبير على قطاع الزراعة، ويعاني مواطنوها من الجوع وانعدام الأمن الغذائي وأمراض سوء التغذية. وعلى الدول النامية أن تعمل على زيادة مواردها المالية من خلال عقد الشراكات بين القطاع العام والخاص للاستثمار في النظم الزراعية والغذائية، مع ضرورة تطبيق مبادئ الحوكمة القوية لضمان فاعلية تلك الشراكات. فضلًا عن ضرورة توفر سياسات الحماية الاجتماعية وتشجيع تغير النمط الغذائي للمستهلكين للحد من أي عواقب غير مقصودة للإصلاحات على السكان الأشد ضعفًا، مع ضرورة أن تتضمن الإصلاحات عددًا من القطاعات مثل الصحة، والبيئة، والنقل، والطاقة.
.
رابط المصدر: