سياسات العودة: الأدوات الجديدة لفرنسا إلى أفريقيا

صلاح خليل

 

كانت فرنسا واحدة من أكثر الدول التي ربطتها علاقة مع مستعمراتها بعد انتهاء حقبة الاستعمار الفرنسي للدول الأفريقية على يد حركات التحرر الأفريقية، لكن بعد أكثر من ثمانية عقود من الاستقلال، تراجع الدور الفرنسي داخل القارة، وهو الأمر الذي دفع باريس إلى تغيير ملامح سياستها التي اتبعتها طوال العقود الماضية، ضمن صيغة جديدة، تجعلها فاعلًا مرة أخرى على الرغم من موجة من الاحتجاجات التي تقودها شعوب تلك الدول على مدى السنوات الماضية، وأيضًا من خلال نخبة سياسية أفريقية جديدة، وقد كان دافع باريس الرئيسي هو طموحاتها الاقتصادية في القارة، وتحديدًا تأمين مكاسبها الاقتصادية من الذهب والماس والمواد الخام الأخرى، لكنها في الحقيقة تواجه تحديات كبيرة بعدما عززت قوى أخرى من توجهاتها نحو القارة ومنافسة القوى التقليدية على النفوذ وفي مقدمتهم فرنسا.

مؤشرات تراجع الدور الفرنسي في أفريقيا

النفوذ الفرنسي غير الرسمي في غرب أفريقيا مبني على دعم النخب السياسية في تلك البلدان، كما أسست باريس المنطقة النقدية الأفريقية، التي تشمل دولًا مثل: السنغال، أفريقيا الوسطى، الكنغو الديمقراطية، بنين، بوركينافاسو، ساحل العاج، النيجر، مالي، توجو، الكاميرون، تشاد، غينيا بيساو وغينيا الاستوائية. يمثلون معًا 14%، من إجمالي سكان أفريقيا، ويغطون ما يقرب من 965000 ميل مربع، ويمثلون 12% من الناتج المحلي الإجمالي للقارة.

كما ارتبط فرنك غرب أفريقيا ووسط أفريقيا بالعملة الأوروبية اليورو. تلك المبادئ التأسيسية للنظام الفرنسي لمستعمراتها في غرب أفريقيا، أدى إلى ميزة تفضيلية لباريس وجعلها تحتفظ بـ50% من احتياطيات العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية، فضلًا عن 20% إضافية للالتزامات المالية، مما جعل هذه الدول الأفريقية تحتفظ فقط 30% من الاحتياطيات داخل بلدانها، وهو الأمر الذي أدى إلى تضاؤل نمو نصيب الفرد وتخفيف مكافحة البطالة والفقر، وتراجع على إثره نسبة التعليم في المجتمعات في تلك الدول. وعاد ذلك على فرنسا بأن جعلها رابع دول في احتياطي الذهب على مستوى العالم، على الرغم من أنها لا تمتلك منجمًا واحدًا داخل أراضيها.

بسبب تلك السياسات تعرضت فرنسا لانتقادات شديدة في أجزاء من غرب أفريقيا، نتيجة لقبضتها الخانقة على الاقتصادات الناشئة لتلك الدول، وبالتالي ظهرت بوادر مشاعر معادية للفرنسيين في كل من بوركينافاسو، تشاد، مالي، النيجر، ورواندا؛ حيث اتهمت شعوب تلك الدول فرنسا بالتربح الاقتصادي جراء تلك الخطط التي نفذتها، وجعلت شعوب تلك البلدان تصل إلى أدنى مستوى لدخل الفرد.

وعلى الرغم من أن العلاقات شهدت صعودًا وهبوطًا، كانت الدول الأفريقية جنوب الصحراء تحافظ على العلاقات الثنائية، مما جعل باريس لم تتوقع رد فعل عنيفًا قبل حلول عام 2000. لكن دفعت أحداث 11 سبتمبر الولايات المتحدة إلى تبني استراتيجية جديدة لمحاربة الإرهاب من خلال قيادة أفريكوم (القيادة الأمريكية الأفريقية المشتركة)، وهو الأمر الذي أدى بمرور الوقت إلى تقويض النفوذ الاستراتيجي الفرنسي، حيث ابتعدت بعض هذه الدول عن التبعية الاستراتيجية الفرنسية واتجهت نحو الولايات المتحدة في مهامها الجديدة.

لقد دخلت قوى منافسة في أفريقيا وفرت بديلًا للقادة والحكومات الأفريقية في مقدمتها روسيا تحديدًا التي عادت إلى ساحة المنافسة الدولية، ولديها تطلعات لتعزيز شراكتها مع دول القارة. وكذلك الصين التي لديها دور كبير في القارة خلال العقدين الأخيرين. منذ عام 2007، أصبحت الصين تستحوذ على أكبر حصة تجارية في أفريقيا، تمتلك الصين 17% من السوق الأفريقية، أي ما يوازي ثلاثة أضعاف حصة فرنسا خاصة في غرب أفريقيا، كما استحوذت على حجم ضخم من تحويل الشركات الأفريقية. وتسيطر التكنولوجيا الصينية التي يتجاهلها الغرب على الفضاء الإلكتروني في أفريقيا، وتعتمد التجارة الخارجية بشكل أساسي على مواردها في غرب أفريقيا.

وفقًا لمسح أجرته جمعية أرباب العمل الفرنسية Africa Leads لعام 2022، للقادة الأفارقة، كشف تدهور صورة فرنسا عامًا بعد عام، واحتلت باريس المرتبة التاسعة بعد كل من تركيا والإمارات في قائمة الدول غير الأفريقية الأكثر تقديرًا، وتتخلف كثيرًا عن المراكز الثلاثة الأولى التي احتلتها الولايات المتحدة وألمانيا وكندا، ثم الصين وروسيا.

أدوات فرنسا الجديدة في أفريقيا

تعتمد فرنسا على خطط ومنظومة استراتيجية تمكنها على التغلب على العديد من المشاكل التي تعوق دورها كشريك مهم للعديد من القادة الأفارقة، خاصة بعدما ارتفعت موجة الاحتجاجات الشعبية للخروج من عباءة باريس خلال الفترة الأخيرة. فقد لجأت باريس إلى خطط بديلة تؤمن لها استمرار مواردها الاقتصادية، خصوصًا بعد أن استشعرت فرنسا المكانة المتزايدة للقوى الدولية المنافسة مثل الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، فضلًا عن منافسة أوروبية محتدمة في أفريقيا، واعتمدت في ذلك على الترويج لخطط دبلوماسية لتعزيز مكانتها ودورها الذي بدأ يتراجع إلى حد كبير، وذلك عبر الجيش ومتابعة سياسة أمنية جديدة، فضلًا عن خلق أدوات سياسية واجتماعية وثقافية، حاولت فرنسا أن تعزز علاقاتها مع العديد من القادة الأفارقة الجدد وخلق علاقات وطيدة مع النخب ما بين العقد الثالث والرابع، بالإضافة إلى الشراكة مع المجتمع المدني الأكثر حراكًا، ولا سيما في منطقة غرب أفريقيا، كما لم تتخلَّ عن بعض أدواتها القديمة كالاغتيالات السياسية، والانقلابات، والإطاحة بالرؤساء، وتمويل الجماعات الإسلامية المتشددة والراديكالية.

تمتلك فرنسا مقومات كبيرة في تنفيذ مخططاتها، ولا سيما الأمنية منها، مثل عمليات الاغتيالات السياسية للقادة الأفارقة الذين يتمردون عليها، وهي خطط بديلة معدة سلفًا توضح الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسة العسكرية الفرنسية وأجهزتها المخابراتية من خلال منظومة داخل المؤسسات العسكرية الأفريقية، حيث يتلقى معظم القادة العسكريون تعاليمهم في الإرساليات التبشيرية الفرنسية، والتي عادة ما تمكنهم من الالتحاق مستقبلًا بالمؤسسات العسكرية في بلدانهم.

تلك المكانة دفعت الحكومة الفرنسية إلى القيام بسلسلة من المبادرات السياسية لإعادة ترتيب عودتها لأفريقيا، من خلال المؤثرين من النخبة السياسية الجديدة، فضلًا عن خطط لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة على أمل شد انتباه قادة جدد للرأي. بدأت باريس فعليًا في تنفيذ ذلك عبر تنظيم ورش مكثفة ومنتظمة بين الجيل الجديد في أفريقيا، بغية الدخول في شراكات مع كبار رجال الأعمال الفرنسيين لتعزيز العلاقات في شي المجالات الاقتصادية.

تركز فرنسا بشكل خاص على مشاريع التنمية العملية والاحتياجات الإنسانية، من خلال القوة الناعمة الفرنسية. تتركز المهمة الصعبة والشاقة، حول تحويل اقتصاد تلك الدول المذهل من أجل كسب القلوب والعقول. من خلال عمليات كبيرة من أولوياتها تقديم الدعم الإنساني في شكل إمدادات طبية وغذائية، إلى جانب مجموعة من مواد الطوارئ الأخرى، من خلال الشركاء الفرنسيين الإنسانيين لتلبية الاحتياجات العاجلة مثل التغذية والرعاية الصحية والمأوى والمياه. بالإضافة إلى خطط فرنسية مستقبلية لخفض لوجودها العسكري في أفريقيا، ولكنها فقط ستركز على زيادة جهود توفير التدريبات والمعدات عسكرية لمساعدة القوات المحلية حسب احتياجاتها.

 كما تطرح فرنسا بقوة لشركائها من أفريقيا، مشروعًا أفريقيًا متعدد التخصصات يركز على الابتكار في الفنون والعلوم والتكنولوجيا وريادة الأعمال والاقتصاد. سيكون التعليم فيه قضية شاملة لتقاسم ونقل المعرفة، التي ستعزز التنقل، ومعارض يعرضن فيها النساء في جميع قطاعات النشاط ويستهدف الشباب قبل كل شيء. من أجل خلق طموح وحركة انعتاق عالمية من خلال التزام مستدام مبني على القيم، من أجل مستقبل أفريقي.

من ناحية أخرى تخطط باريس لتطوير روابطها من خلال النخبة السياسية الفرنسية من أصول أفريقية، وبعثهم إلى الدول الأفريقية لتقديم الخبرات في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والنفط، من خلال ورش توعية ثم خطط تقوم بتنفيذها كمشاريع ويتم تمويلها من الجانب الفرنسي.

ختامًا، النفوذ الفرنسي في أفريقيا يتآكل ليس فقط بظهور لاعبين جدد جديرين بالمنافسة في شتى المجالات وبشروط أفضل، وهو ما جعل هناك تيارًا بين الأجيال الجديدة في أفريقيا للتخلي عن باريس والاستفادة من الشركاء الجدد، بسبب الاستراتيجية التي انتهجتها فرنسا على مدى أكثر من ثمانية عقود، والتي استندت إلى دعم الحكام المستبدين عديمي الكفاءة الذين عملوا لها بالوكالة مقابل بقائهم في السلطة دون أدنى اعتبار لمصالح شعوبهم ولا طموحات مجتمعاتهم. فضلًا عن سوء سلوك فرنسي تجاه الدول الأفريقية جنوب الصحراء، والنظرة الاستعلائية تجاه دول القارة وبعض قياداتها الوطنية، والدور الكبير في تدبير الانقلابات العسكرية لحرمان الشعوب الأفريقية من إدارة شئونها ومواردها وضمان بقائهم في إطار من التبعية والاستغلال.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33468/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M