المسيرات والكرملين يستعيدان إثارة الحرب الأوكرانية

خالد عكاشة

 

وصول طائرتين مسيرتين إلى داخل أسوار الكرملين، يعد هجوما غريبا دون شك، يصعب تفسيره على الأقل فى المدى القريب. التفسير يتعلق بقدرات التحليق لتلك المسيرات وإمكانية قطعها مئات الكيلومترات، بحسب فرضية إطلاقها من داخل الأراضى الأوكرانية. وهناك ما يتعلق بإخفاق منظومات التأمين والدفاعات الجوية الروسية، التى يفترض أنها توفر سياجا صارما من الحماية على المواقع الاستراتيجية للدولة الروسية، وليس هناك ما هو أكثر أهمية من قصر (الكرملين) الذى يضم مكتب ومحل إقامة الرئيس الروسي، فضلا عن أركان حكمه الرئيسية مثل مجلس الأمن القومى الروسي. لهذا السبب اكتسبت منظومة الحماية الجوية «بانستير ـ إس 1» شهرتها وأهميتها، باعتبارها المنتج الروسى الأقدر فى مجال الدفاع الجوى بعد اختيارها لحماية سماء موسكو العاصمة ضد أى هجمات معادية.

أول تداعيات الهجوم الأخير حتى قبل الكشف عن مرتكبيه، يمكن النظر إلى تعرض تلك المنظومة ومعها سلاح الدفاع الجوى الروسى بكامله لإحراج كبير، فتلك المنظومة روج لها فى بداية الحرب الأوكرانية بأنها مضادة لجميع الطائرات والصواريخ، وقادره على ضرب الأهداف البرية المدرعة الخفيفة، والقوى البشرية للعدو التى قيل إنها بامكانيات «حلف الناتو» وليس أوكرانيا بمفردها. كما تعد منظومة «بانستير» خط الدفاع الأخير؛ عن المنشآت العسكرية والمدنية الروسية المهمة فضلا عن النطاقات الجغرافية الأكثر حساسية لموسكو، لذلك قام الجيش الروسى بنشرها فى شبه جزيرة القرم منذ عام 2018. ويعد هذا النظام خط دفاع أخيرا، لتصميمه كى يشكل حماية لأنظمة الدفاع الجوى الروسية بعيدة المدى، مثل (S 300) و(S 400) من استهدافها بأسلحة الهجوم الجوى الحديثة عالية التقنية، خاصة مع امتلاكه للأشعة فوق البنفسجية القادرة على توظيف الذخيرة تجاه الأهداف المعادية، القادمة على ارتفاعات منخفضة وشديدة الانخفاض. ووقت دخول تلك المنظومة الروسية المتطورة للخدمة عام 2010؛ ذكر تمتعها بميزات استثنائية.

هل يتصور عمليا أن تنجح مسيرتان فى اختراق منظومة حماية جوية بهذا المستوى من الكفاءة، لهذا تشككت أطراف عدة فى إمكانية أن تكون أوكرانيا هى من وراء هذا الهجوم. وجهة النظر الأمريكية الأولية ذهبت إلى أن الرئيس بوتين كان فى احتياج لهجوم «رمزي» على تلك الشاكلة، كى يستثمره داخليا فى عملية تصعيد مرتقبة. استند هذا التصور إلى درجة الثبات الروسى فى استقبال ما حدث، تزامنا مع التهديد التصعيدى الذى حمل لهجة الشروع فى انتقام كبير، بعد ما جرى توصيف الهجوم باعتباره محاولة لـ«اغتيال» الرئيس بوتين. كالعادة تصدر «ديميترى ميديفيدف» نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى المشهد، وخرج أول تصريح منه معتبرا أن هجوم المسيرات لا يترك لروسيا أى خيار، سوى محو الرئيس زيلينسكى وأعوانه. فى الوقت الذى كان وزير الخارجية الأمريكى يؤكد اطلاعه على المعلومات الأولية، فيما يتعامل بحذر شديد معها لغرابة ما جرى، وفق تعبيره. لاحقا بات اتهام روسيا واشنطن بالوقوف وراء الهجوم واقعا مستقرا منذ اليوم التالى لوقوعه، حيث حدد «ديميترى بيسكوف» الأدوار مؤكدا أن التخطيط وإصدار القرار كان أمريكيا، فيما اقتصر الدور الأوكرانى فى العملية التى وصفها بـ«الإرهابية» على التنفيذ فقط. وهى فرضية لها وجاهتها أيضا بالنظر إلى الدعم الاستخباراتى الأمريكى غير المحدود لكييف، لكن فرض صحتها يعيدنا لمربع الإخفاق الدفاعى الروسي، الذى سيقف حينها أمام ما سيثار من أسئلة عن أضلاع هذا المربع.

فى زمن الحرب تظل الأسئلة الدقيقة المماثلة، يكتنفها غموض لا ينكشف عادة فى المدى القريب، وتظل اتهاماته معلقة حتى وإن توصلت الأجهزة الاستخباراتية للفاعل، فهى تحجم عن الإفصاح طالما لن تحقق فائدة عملياتية منه. لكن يظل الثابت أن هناك هجمتين لطائرتين مسيرتين، فصل بينهما نحو 16 دقيقة، هجوم الطائرة الأولى وقع فى الساعة ٢٫٢٧ صباحا بتوقيت موسكو، وتسبب بحدوث انفجار محدود فوق قصر «مجلس الشيوخ». الطائرة الثانية يبدو أن المضادات الأرضية كانت قد استفاقت، ففي٢٫٤٣ صباحا سقط حطامها بأراضى قصر الكرملين داخل أسواره، مما يعنى استهدافها قبل بلوغ هدف بعينه. الرؤية المتشككة تستند إلى التصوير الدقيق الواضح للهجوم وموقعه، الذى بث على وسائل الإعلام بكثافة دون جهد روسى متوقع منطقيا فى حجبه. وتجاهل الجانب الروسى الإحراج المنطقى فى ردة الفعل، وظهور التماسك وعدم الاكتراث أمام هجوم دقيق يمس عرين «السيادة» فى زمن الحرب، أمر مثير بالفعل، ويدعو للريبة خاصة وأيام معدودة تفصل الهجوم عن تاريخ 9 مايو «يوم النصر» الروسي، وأمتار أيضا قريبة تمثل المسافة بين موقع الهجوم ومكان الاحتفال السنوى الأهم من الناحية الوطنية الروسية.

هل بالفعل تحاول موسكو أن تصيغ المشهد؛ باعتبار الحرب فى أوكرانيا «وجودية» أمام الشعب الروسى بالنظر إلى رمزية مثل هذا الهجوم، حتى دون التفات إلى ما قد يسببه من خسائر معنوية لهذا الجمهور. فالشاهد أن غالبية الرأى العام الروسى يدعو دون كلل منذ شهور، إلى تصعيد العمليات العسكرية من أجل حسم المعارك بانتصار ميدانى كاسح يحقق له الأمان والرضا النفسي، لكن القدرات الميدانية الروسية بدت عاجزة عن النجاح فى تحقيق ذلك،فى ظل شواهد عدة عن أزمات التسليح والذخائر. الإخفاق وعدم الجاهزية دفعا قائد قوات فاجنر «يفجينى بريجوزين»، إلى موقف شديد الغرابة حين ادعى على غير الحقيقة أن الهجوم الأوكرانى المضاد قد بدأ يوم 3 مايو، فهل لهذا الادعاء علاقة بما جرى فى ساحة الكرملين، التوافق الزمنى مثير وبريجوزين لم يكف طوال الوقت عن استفزاز موسكو، سوإحراج قيادات الجيش، فأين الحقيقة وما هى أبعادها ؟

نقلا عن جريدة الاهرام

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33969/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M