تمهيد نيراني: هل اقترب الهجوم الأوكراني المضاد؟

محمود قاسم

 

بعد مرور ما يزيد عن خمسة عشر شهرًا من الحرب الروسية الأوكرانية، لا تزال معادلة الاشتباك وخطوط التماس والمواجهة مشتعلة، دون أن تظهر أية مؤشرات على قدرة طرف على تحقيق اختراق ميداني أو حسم عسكري كامل يضع نهاية لهذه الحرب، الأمر الذي بدا واضحًا خلال العام الأول، حيث تبدلت خرائط السيطرة الميدانية والعسكرية، وزادت الأمور تعقيدًا، وسط إخفاق كافة الجهود الرامية لإقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات.

تمهيد نيراني 

على الرغم من صعوبة تحديد موعد للهجوم المضاد، في ظل اعتبارات ترتبط بالسرية التي يجب أن تحيط بالهجوم؛ لتحقيق مبدأ المفاجأة، ما قد يؤدي لإرباك الخصم، علاوة على أنه يحتاج لجاهزية عسكرية وقتالية كبيرة، ففي حال انطلاق الهجوم المضاد ستكون أوكرانيا في حاجة ضرورية لتحقيق كامل أهدافها العسكرية، دون أن تكتفي فقط بتأمين ما لديه، خاصة أن مستقبل الحرب قد يتوقف بدرجة أو أخرى على الهجوم المحتمل.

وتضاربت التصريحات الأوكرانية بشأن الهجوم المضاد، ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأوكراني أن الهجوم سيحتاج مزيدًا من الوقت، أعلن “كيريل بودانوف” رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أنه سيبدأ قريبًا، ورغم تباين التصريحات الرسمية، إلا أن هذا الأمر قد يكون مقبولًا في سياق المناورة أو الحرب النفسية وممارسة الضغوط على روسيا.

وشهد شهر مايو الماضي، عدد من المؤشرات التي تدخل في نطاق التصعيد العسكري أو تبادل الهجمات بين الطرفين، بما يوحي بأننا في مرحلة التمهيد أو الاعداد للهجوم المرتقب، حيث تعرضت روسيا خلال شهر مايو 2023، لعدد من الهجمات بطائرات بدون طيار، أحدهما استهدف مبنى الكرملين في الثالث من مايو، واعتبرته موسكو محاولة أوكرانية لتصفية الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، كما أعلنت في نهاية مايو، تعرض أحدى البلدات الحدودية ثلاث مرات لقصف مدفعي خلال أسبوع. من ناحية أخرى، كثفت موسكو وبشكل ملحوظ من ضرباتها وهجماتها على كييف بواقع 17 هجومًا خلال مايو الماضي.

تفسيرات عديدة 

رغم ما يُثار حول الهجوم المضاد المحتمل، ومع تضارب التصريحات بشأن توقيته، إلا أن الترتيبات الجارية تُشير لإن أوكرانيا لن تتراجع عنه، بل تنتظر اللحظة المناسبة التي تضمن لها تحقيق أكبر قدر من المكاسب. في هذا الإطار يمكننا الوقوف على أسباب ودوافع أوكرانيا في شن هجومها المضاد وذلك على النحو التالي:

  1. الرغبة في استعادة السيادة الأوكرانية، عسكريًا يشير الهجوم المضاد لتحول في استراتيجية القوات العسكرية لطرف من الدفاع للهجوم، هذا التحول تستهدف أوكرانيا من خلاله استعادة سيادتها على أراضيها، حيث لا تزال تسيطر روسيا على نحو 16% من الأراضي الأوكرانية، ورغم أن مساحة السيطرة الروسية قد تقلصت وتراجعت عما كانت عليه منذ بداية الحرب، إلا أنها تصر على اخراج روسيا من كافة أراضيها، ووفقًا لعدد من التقديرات، يمكن أن يبدأ الهجوم من خيرسون أو زابوروجيا، إذ أن تحقيق تقدم لأوكرانيا في تلك الجبهات، قد يؤهلها لقطع الجسر البري بين روسيا وشبة جزيرة القرم، ومن ثم إعاقة الامدادات، وحرمان روسيا من المزايا اللوجيستية وتضييق مساحة الحركة عليها، ما يسمح بمحاصرتها.
  2.  استثمار الدعم الغربي، تستشعر أوكرانيا أن تمتلك القدرة على توظيف الدعم الغربي غير المسبوق في تحقيق اختراق أو تقدم ميداني وإلحاق هزيمة بالجانب الروسي، ويبدو أن أوكرانيا تراهن على أن إمدادها بالدبابات القتالية الثقيلة، ومنظومات الدفاع، والأسلحة المتطورة التي لم تكن في حيازتها من قبل، قد تؤمن لها مكسبًا في هجومها المضاد، على غرار النجاحات التي حققتها في هجماتها على خيرسون وخاركيف العام الماضي، دون أن يكون لديها نفس المقومات العسكرية، إلا أن هذا الرهان لا يزال محفوفًا بالمخاطر، في ظل صعوبة هزيمة روسيا وقدرتها على إطالة أمد الحرب، وعدم اليقين في قدرات أوكرانيا على تأمين هذا المكسب، الأمر الذي يفرض مزيدًا من القيود، إذ ترى بعض الأصوات الغربية أن استمرار الدعم، والقدرة على اقناع الرأي العام الغربي بجدواه، سيكون مرهونًا بشكل مباشر بنتائج الهجوم المرتقب.
  3. استغلال حالة الانهاك الروسي، تراهن أوكرانيا على حالة الانهاك والتخبط التي سيطرت على الأداء العسكري الروسي والهزائم التي تعرضت لها القوات خلال الفترة الماضية، خلال معارك باخموت، بعدما اُستنزفت القوات الروسية بشكل كبير، إذ فقدت نحو 20 ألف جندي منذ ديسمبر وحتى مطلع مايو الماضي، الأمر الذي انعكس على الروح المعنوية لباقي العناصر، بجانب خسائرها التي طالت الأسلحة والذخيرة. كما اظهرت معارك باخموت حالة التخبط والارتباك في إدارة المعارك الممتدة، وذلك على خلفية الصراع الذي نشب بين المؤسسة العسكرية وقائد مجموعة فاجنر، والتي وصلت في بعض الأحيان لاتهامه رئاسة الأركان بالخيانة ، هذه العوامل من شأنها أن تحد من الفعالية العسكرية لروسيا. ولا ينفصل عن ذلك، الهجمات التي تستهدف موسكو، والتي يمكن أن تزيد من الضغوط على روسيا، خاصة أن استمرارها من شأنه أن يؤدي لتأليب الرأي العام الروسي، ويقلص الأصوات الداعمه للحرب في ظل وصول التهديد للعاصمة.

معوقات وعراقيل

مع انتهاء فصل الشتاء تُصبح الأرض مهيئة أكثر لشن الهجوم المضاد، حيث تسمح صلابة التربة في ظل تراجع سقوط الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة بمواصلة العمليات العسكرية، إلا أن أية تحركات أوكرانية قد تصطدم بعدد من العراقيل، التي قد تحول دون تحقيق انتصارًا كبيرًا، منها: ضعف الدفاعات الجوية الأوكرانية، والتي من المحتمل أن تواجه نوعًا من الإغراق الصاروخي والضربات الجوية الروسية بمجرد بدأ الهجوم المضاد، حيث ستعمل روسيا وقتها على استهداف مراكز القيادة والتحكم والسيطرة، بما يُعرقل الهجوم، ويصيب أوكرانيا بالشلل.

 كما لا يمكن تجاهل حاجة أوكرانيا -كونها الطرف المهاجم- لأعداد من المقاتلين والجنود تفوق ما يحتاجه الروس كطرف في وضع دفاعي. من ناحية أخرى، يمكن أن يتحطم الهجوم الأوكراني على صخرة التحصينات والاستعداد الروسية، حيث باتت أغلب الطرق الرئيسية، والجبهات القتالية التي يمكن أن يشملها الهجوم – 850 كيلوا- محمية بالخنادق والألغام المضادة للدبابات، والحواجز الخرسانية، والأسلاك الشائكة، كما عززت روسيا انتشارها في نقاط التماس المحتملة بين الطرفين.

 يضاف لذلك نقص الذخيرة، والعقبات اللوجيستية التي قد تواجه أوكرانيا أثناء الهجوم، كأعمال الصيانة، وتزويد المعدات بالوقود، علاوة على الخسائر الكبيرة المحتملة في صفوفها، ودورها في النيل من عزيمة الجنود. ويظل عدم امتلاك أوكرانيا المقاتلات الهجومية، أحد نقاط الضعف التي يمكن أن تواجه الهجوم المرتقب، ويبدو أن هذا التحدي سيظل قائمًا مع رفض الدول الغربية تزويد أوكرانيا بمقاتلات من طراز “إف16″، في ظل المخاوف من استخدامها في استهداف العمق الروسي، علاوة على نجاح روسيا في شل حركة المطارات الأوكرانية.

وسط هذه التحديات، يمكن أن يكون الهجوم الأوكراني المضاد –حال حدوثه- مغامرة غير محسوبة، فعلى الرغم من دوافع أوكرانيا واستشعارها القدرة على تغيير المعادلة الميدانية من خلال مهاجمة روسيا، إلا أن هذا الشعور قد يكون زائفًا أو مخادعًا، في ظل قدرة روسيا على الصمود أمام الهجوم، بل وتحويله لمعركة تكسير عظام تستنزف من خلالها القوات الأوكرانية، وعليه تظل الحسابات الدقيقة من قبل أوكرانيا ضرورية قبل المضي قدمًا في تنفيذ هجومها.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34436/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M