نظرة عن كثب: تفاصيل آخر مشاهد تمرد “فاجنر”

داليا يسري

 

بعد أن حظيت أحداث السبت العصيب، 24 يونيو 2023، بانتباه العالم أجمع، ظل هناك العديد من التساؤلات بشأن مستقبل ما آلت إليه الأحوال بوجه عام فيما بعد، وبشأن ما ينتظر مجموعة “فاجنر” وعلى رأسها “يفجيني بريجوزين” كذلك. خاصة مع العلم أن الحديث هنا يدور عما يجوز وصفه بأنه “تدريب عملي” على كيفية قيام مجموعة من المرتزقة باختراق حدود الدولة الأكبر في العالم من حيث المساحة الجغرافية، والدولة صاحبة الجيش المصنف في الترتيب الثاني عالميًا، في الوقت نفسه الذي تخضع فيه دولة الاتحاد الروسي لحكم واحد من أقوى الشخصيات السياسية في التاريخ المعاصر، “فلاديمير بوتين”، وهو الأمر الذي يجعل من مجرد وجوده في سدة السلطة في توقيت حرب مشتعلة ومحاولة تمرد كادت على وشك النجاح أمرًا مثيرًا لعدد لا نهائي من علامات الاستفهام.

إنها التساؤلات التي عندما نكون بصدد رصد أجوبة مناسبة لها، نجد أنفسنا في حاجة للمرور أولًا عبر عدد ليس قليلًا من المعلومات المتداولة مؤخرًا في هذا الصدد؛ والتي نورد منها ما نضطر إلى شرحه بشكل شبه تفصيلي نظرًا لأهميته ودلالاته المحورية، ومنها ما نختار أن نمر عليه مرورًا عابرًا بدون إغفال أو ذكر مفصل. أملًا في الوصول النهائي إلى أقرب تفسير تحليلي محتمل يتم من خلاله الربط بين كل المعلومات الواردة، علانية، بخصوص أحداث يوم التمرد وما بعدها.

كلمات “لوكاشينكو”: خطاب يشرح نفسه

ليس ثمة شك في أن الخطاب السياسي لرئيس أي دولة حول العالم دائمًا ما يحمل دلالات يسترعي معها القيام بتقديم جانب تحليلي يتم من خلاله شرح معاني ما ورد في المتن. غير أن الخطاب الذي قدمه الرئيس البيلاروسي، “ألكساندر لوكاشينكو”، بتاريخ 27 يونيو 2023، أمام كبار ضباطه وعدد من الشخصيات العامة البيلاروسية هو خطاب من الجدير وصفه بأنه غني عن الشرح والتفسير.

وذلك لما انطوى عليه من سرد لتفاصيل أحداث اليوم العصيب، بالإضافة إلى وضوح ما ورد به من تفسيرات وتبريرات ومكاشفة بدا أنها تحمل قدرًا كافيًا للغاية من الشفافية، خاصة في الأجزاء التي لم يتورع فيها الرئيس البيلاروسي عن إلقاء جانب كبير من المسؤولية في تطور الأحداث على هذا النحو على كاهله وكاهل “بوتين” شخصيًا، أو في الطريقة التي سرد فيها أسباب عدول “بوتين” عن فكرة قتل “بريجوزين”، أو حتى عندما لم يخجل الرئيس البيلاروسي من الاعتراف بقوة “فاجنر” بالمقارنة مع القوة العسكرية، ليس فقط الروسية، بل لبلاده كذلك!

وبِناء عليه، نورد فيما تقدم أهم الأجزاء التي وردت في خطاب “لوكاشينكو”، 27 يونيو والتي لم يكن بالإمكان حذف أجزاء كبيرة منها نظرًا لأهمية ما احتوى عليه الخطاب من تفاصيل. ومن جهة أخرى، نورد فيما يلي ذلك، تفاصيل كلمات “لوكاشينكو” خلال لقائه الجانبي المنفرد مع وزير دفاعه، الجنرال “فيكتور خرينين”، في نفس اليوم حول طبيعة النشاط الذي سوف تمارسه “فاجنر” في بيلاروس مستقبلًا.

أولًا: أبرز الاقتباسات على لسان “لوكاشينكو” في خطابه كما يلي: 

● أدان الوطنيين الروس المتحمسين ووفقًا لقوله: “بدأوا في العواء والصراخ وإدانة بوتين وطالبوه بعدم إيقاف الدعوى الجنائية ضد بريجوزين والقبض عليه”. وقال إن هذا ما يود أن يحذر منه البيلاروسيون والمجتمع الروسي.

● روى الرئيس كيف تلقى أول اتصال هاتفي من “بوتين”؛ “يوم الجمعة كان لدينا حدث سعيد، كنا جميعًا نستعد للاحتفال بيوم الخريجين. وبطبيعة الحال كنت مشغولًا بهذه المسائل. نعم، وبصراحة، وبطريقة ما.. تلقيت معلومات وجيزة عما يجري في روسيا، في روستوف، في الجنوب، وبطريقة ما لم أعر الأمر الكثير من الاهتمام فالحرب مستمرة وأنت لا تعرف أبدًا ما يحدث هناك. ولكن بحلول الساعة الثامنة صباحًا من يوم السبت، كنت بالفعل أتلقى معلومات مُقلقة للغاية حول الوضع في روسيا.” وتابع الرئيس “لوكاشينكو”: “لقد أبلغوني أن الرئيس بوتين يرغب في الاتصال. اتفقنا في الساعة التاسعة والنصف على أن نتحدث في أي وقت يناسبه. أجرينا الاتصال في الساعة العاشرة وعشر دقائق وحينها أبلغني بشكل مفصل عما يجري في روسيا”.

● تابع الرئيس البيلاروسي: “وجهت إلى بوتين عدة أسئلة، بما في ذلك حول كيفية مواجهة الأمر. وأدركت أن الوضع معقد. لن أبوح بهذا الجزء من المحادثة”.

● قال “لوكاشينكو”: “الشيء الأكثر خطورة كما أفهمه، لم يكن ما آلت إليه الأوضاع، ولكن كان يكمن في كيف من الممكن أن يتطور الأمر وما هي عواقبه. كان هذا هو الأخطر. لقد اقترحت على بوتين ألا يتعجل. دعنا نتحدث إلى “بريجوزين”، إلى قادته، فقال لي: اسمع يا ساشا، لا فائدة، إنه حتى لا يرفع سماعة الهاتف ولا يريد التحدث إلى أي شخص. سألته أين هو؟ رد: في روستوف. قلت: جيد، السلام السيئ أفضل من الحرب. لا تتعجل. سأحاول الاتصال به. فقال لي مرة أخرى: لا جدوى. قلت: حسنًا انتظر”.

● تابع “لوكاشينكو” ساردًا تفاصيل مكالمته مع “بريجوزين”: “على الرغم من أن بوتين حذرني من أنه لن يرد على الهاتف. قام “بريجوزين” بالرد على الهاتف في الساعة الـ 11 صباحًا”. تابع “لوكاشينكو”: “استغرقت جولتنا الأولى من المحادثات مدة 30 دقيقة تتألف من لغة الشتائم”. واستطرد الرئيس البيلاروسي: “لماذا أذهب للتفاوض معه؟ إذا جاز التعبير. هناك رفاق له ماتوا على الجبهة. لقد رأى هؤلاء الآلاف من رجاله قتلى. إن الرجال كانوا مستائين للغاية، وخاصة القيادات. وبحسب ما أفهم، لقد مارسوا تأثيرًا كبيرًا على “بريجوزين” نفسه. نعم، إنه كذلك. كما تعلمون هو رجل شهم، لكنه تعرض لضغوط كبيرة من قِبَل أولئك الذين قادوا الفرق على الجبهة وشهدوا على هذه الوفيات.”

● تابع “لوكاشينكو”: “سألت “بريجوزين”: لماذا قتلت مدنيين؟ لماذا قتلت العسكريين الذين لم يعارضوك؟ فقال لي: ألكسندر جريجوريفيتش، أقسم لك أننا لم نلمس أحدًا.” تابع “لوكاشينكو”: “قلت له ماذا تريد؟ قال: أريد أن يتم تسليم “شويجو” (وزير الدفاع الروسي) و”جيراميسوف” (رئيس الأركان الروسي) لي. وأنا بحاجة لمقابلة “بوتين”. قلت له: زينيا، لن يعطيك أحد “شويجو” أو “جيراميسوف”، خاصة في هذا الموقف. أنت تعرف “بوتين” مثلما أعرفه. كما أن أحدًا لن يلتقي بك.”

● استطرد “لوكاشينكو” نقلًا عن لسان “بريجوزين”: “لكننا نريد العدالة! يريدون خنقنا! سنذهب إلى موسكو!”. فرد عليه “لوكاشينكو”: “سوف تسحق مثل حشرة في منتصف الطريق”.

● قال “لوكاشينكو”: “من هو “بريجوزين”؟ إنه شخص موثوق به للغاية في القوات المسلحة. بغض النظر عن مدى رغبته في ذلك. لذلك، فكرت في إمكانية قتله. أنا و”بوتين” قلنا: من الممكن أن يتم قتله، هذه لن تكون مشكلة، إنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة. لكنني قلت: لا تفعل ذلك. لأن ذلك لو حدث فإنه لن تكون هناك أي مفاوضات بعد ذلك. إن هؤلاء الرجال الذين يدركون جيدًا كيف من الممكن الدفاع عن بعضهم البعض، الذين حاربوا معًا في أفريقيا وآسيا وأمريكيا اللاتينية، سيكون في مقدورهم فعل أي شيء. في هذه الحالة سيموت الكثيرون، الآلاف والآلاف من السكان المدنيين، وكل هؤلاء الذين يفكرون في مقاومة “فاجنر”. وهذه تعد أكثر وحدة مؤهلة من الجيش. تُرى من سيكون في مقدوره منافستها؟ إن جيشي يتفهم هذا الأمر أيضًا، ولا يوجد لدينا في بيلاروس أشخاص على نفس درجة الاستعداد. إن هؤلاء الأشخاص خاضوا أكثر من حرب في أماكن مختلفة. لذلك، قبل التفكير في القتل، ينبغي عليك التفكير فيما سيقع بيوم الغد. عليك النظر إلى ما هو أبعد من أنفك، خاصة في النداءات التي تحثك على التصرف في هذا الموضوع”.

● وتابع “لوكاشينكو” مسلطًا الضوء على كلمات “بريجوزين” خلال المفاوضات التي جرت بينهما؛ “دعنا نذهب إلى موسكو، نحن بحاجة إلى العدالة. لقد قاتلنا، قاتلنا بشرف. هل تعرف، ألكساندر جريجوريفيتش، كيف قاتلنا؟ قلت “أنا أعرف”. فتابع “بريجوزين”: لكن المنافسة بدأت بين الجيش وبين وحدتنا. المنافسة غير الصحية. فتصاعد الصراع بين كبار الشخصيات في هذه المعركة”.

● تابع “لوكاشينكو” في سرده قائلًا: “هنا أود أن أبدي ملاحظة، لماذا عهدت إلى ممثلي الإعلامي ووسائلنا الإعلامية بألا تتناول الموقف من خلال إظهاري أنا أو “بوتين” أو “بريجوزين” في موقف البطل. لأننا صنعنا هذا الموقف. لقد أغفلناه. وبعد ذلك عندما بدأت الأمور في التطور ظننا أنها ستُحل من تلقاء نفسها، ذلك الكلام يشملني أنا و”بوتين” –أنا بدرجة أقل لو جاز لي الحديث بشكل أكثر صراحة- ووقع صدام عملي بين شخصين قاتلا معًا في مقدمة الجبهة. أنا مجددًا كنت دائمًا موجودًا داخل الغلاية في هذا الموضوع. أنا أعرف طريقة عمل “شويجو”، لقد تلقى انتقادات في مرات عديدة. لقد جاء “شويجو” إلى هنا في أكثر من مرة. ولا أستطيع بالطبع أن أدلي لوسائل الإعلام بتفاصيل ما دار بيننا من أحاديث. لقد خضت أنا وهو مفاوضات جادة للغاية. لقد التقى بالجنرال “خرينين” أكثر من مرة، ولقد قدمنا له في هدوء كل الدعم بقدر المستطاع، وفعلنا الكثير. ولقد فعل “شويجو” الكثير في هذا السياق. أي أنه اضطلع بدوره بقدر المستطاع.”

● وتابع “لوكاشينكو” واصفًا الرجلين، “شويجو” و”بريجوزين”: “من الممكن أن نفهم يفجيني بريجوزين في هذه المسألة. لو جاز لنا أن نضيف حقيقة أنه هو، ومثله في ذلك مثل “شويجو”، لديهم شخصيات متماثلة، إنهم مُندفعون للغاية، ومن هذا المنطلق بدأت جميع الأحداث”.

● يقول “لوكاشينكو”: “وصلنا إلى نهاية المفاوضات بحلول المساء. كنت في عجلة من أمري، لأنه كان قد تم بالفعل بناء خط دفاعي على بعد 200 كيلو متر من موسكو، كنت أعرف هذا الأمر، أخبرني “بورتنيكوف” (رئيس جهاز الأمن الروسي). ولقد تجمع كل شيء، كما أخبرني بوتين بنفسه في ذلك المساء، تمامًا كما كان الحال خلال سنوات الحرب. وكان قوام الطلاب العسكريون والشرطة يصل إلى ألف ونصف. وتجمعوا جميعهم بشكل لائق في الكرملين وعلى مقربة من الكرملين. لقد كان هناك على ما أعتقد، نحو عشرة ألاف مدافع، وكنت أخشى أنه لو وقع صدام بينهم وبين أعضاء “فاجنر” الذين كانوا موجودين على بعد أقل بقليل من 200 كيلو متر من موسكو، فسوف يراق الكثير من الدماء”.

ثانيًا: كلمات “لوكاشينكو” للجنرال “خرينين”، 27 يونيو 2023: 

● قال “لوكاشينكو” موضحًا طبيعة وجود “فاجنر” في بلاده خلال الفترة المقبلة: “يوجد الكثير من الأحاديث الدائرة بشأن مجموعة “فاجنر”، إننا نتخذ موقفًا براجماتي أكثر، إذا جاءت قيادات “فاجنر” إلينا كي تساعدنا فهذا يعني المزيد من الخبرة؛ إنهم فرق هجومية. سوف يخبروننا بما هو مهم في اللحظة الراهنة. لقد أخبرني “بوتين” خلال آخر مكالمة لنا أن عمليات مكافحة النيران كانت محورية. لقد مروا خلال ذلك. سوف يخبروننا بأي سلاح عمل على نحو حسن وأي لم يفعل. سوف نلتقي بهم. نحن بحاجة لأن نسأل قاداتهم. وبينما يكونوا غير منخرطين بشكل كامل في لقاء قاداتنا على أرض التدريب، سيخبروننا بالتكتيكات الدفاعية والهجومية. هذه الخبرة لا تقدر بثمن. نحن نرغب في الاستعانة بهذه الخبرة في القتال على أرض أوكرانيا بشكل عملي، خبرة مقاتلي “فاجنر”. سوف يساعدنا ذلك في طريقة الاستعداد للحرب العصرية. هذا أمر مهم جدًا. هؤلاء أناس روسيون وسوفيتون، ومتحضرون مثلنا تمًامًا.”

تدفق مطرد: ماذا بعد لحظات الكرملين الحرجة؟

قبل الانغماس في تقديم رؤية تحليلية تخص الصورة العامة للمشهد، ينبغي أولًا استعراض عدد كبير من المعلومات التي تم تداولها منذ لحظة انتهاء يوم الكرملين العصيب. وتلك نورد أبرزها وفقًا للترتيب الزمني كما يلي بدءًا من الأقدم وصولًا للأحدث:

يوم 26 يونيو: 

● عقد “بوتين” اجتماعًا مع قيادات وكالات إنفاذ القانون، وكان الاجتماع بحضور وزير الدفاع الروسي، “سيرجي شويجو”، والذي يصدف وللمرة الأولى في تاريخ حياته المهنية أن يظهر في اجتماع علني مرتديًا غير الزي العسكري. وشارك في الاجتماع ذاته، المدعي العام، “إيجور كراسنوف”، ورئيس إدارة الكرملين “أنطون فاينو”، ووزير الداخلية “فلاديمير كولوكولتسيف”، ومدير جهاز الأمن الفيدرالي “ألكسندر بورتنيكوف”، ورئيس الأمن الفيدرالي، “ديمتري كوتشنيف”، وكذلك رئيس لجنة التحقيق “ألكسندر باستيكين”. وفي الجزء العلني من الاجتماع، شكر الرئيس الروسي رؤساء أجهزة إنفاذ القانون على إنجاز عملهم خلال الأيام القليلة الماضية، أي خلال فترة التمرد. وذكر أنه اجتمع بهم لمناقشة طبيعة الوضع الذي تطور خلال هذه الفترة. علاوة على ذلك، أشار الرئيس إلى ضرورة مناقشة التحديات التي تواجهها البلاد في أعقاب الأحداث الأخيرة.

● قدرت الاستخبارات البريطانية قوام المشاركين في مسيرة “فاجنر” إلى موسكو بنحو 8000 مقاتل. وأوردت مواقع صحفية روسية غير رسمية –مصنفة كعميل أجنبي- نقلًا عن مصادر خاصة بها في وزارة الدفاع الروسية أن ألف مقاتل فقط هم من قرروا اللحاق “ببريجوزين” إلى بيلاروسيا. مما يعطي دلالات تشير إلى أن عدد المقاتلين الذين قبلوا التوقيع والانضمام إلى وزارة الدفاع الروسية –إن صحت التقديرات البريطانية-  يقدر بنحو 7 آلاف.

● نشرت القناة الرسمية للخدمة الصحفية لـ “بريجوزين”، أول مقطع صوتي يتم بثه له عقب محاولة التمرد.  قال من خلاله إن شركته العسكرية الخاصة هي واحدة من الأكثر كفاءة وخبرة حول العالم. وتحدث بكل فخر عن مقاتليه، قائلًا: “نحن مقاتلون ذوو همم عالية، وعلى درجة عالية من التأهيل، وقمنا بالفعل بتنفيذ عدد ضخم من المهام التي تخدم مصالح روسيا الفيدرالية، والتي ستظل دائمًا تخدم مصالح روسيا الفيدرالية فقط، في أفريقيا، والدول العربية، وفي العالم أجمع”. وذكر أنه وقواته حققوا نتائج جيدة في أوكرانيا بعد أن قاموا بتنفيذ مهام خطيرة للغاية. ولكنه يشير إلى أنه كان ينبغي عليهم إنهاء وجودهم هناك بحلول 1 يوليو 2023 وذلك عقب مكائد تم اتخاذها بناء على قرارات لم تخضع لتفكير متمعن.

وفيما يتعلق بمن وافق من رجاله على الانضمام لوزارة الدفاع، قال “برجوزين” إن أحدًا لم يوافق على توقيع العقود، والجميع يعرف من منطلق الموقف الراهن، أن هذا الأمر يمثل خسارة كبيرة. وذلك نظرًا لأن “فاجنر” لديها مقاتلون وقادة من ذوي الخبرة، وكل هؤلاء سيكونون بحاجة لاستغلال خبراتهم. ثم قال إن هؤلاء المقاتلين الذين قرروا الانضمام لوزارة الدفاع قد ذهبوا بالفعل إلى هناك، لكن عددهم قليل. ثم روى “بريجوزين” الموقف برمته مرة أخرى، ساردًا الأسباب التي دفعته إلى الإقدام على تنفيذ ما أطلق عليه “مسيرة العدالة”، وأكد مرة أخرى أن رجاله تعرضوا لضربة قوية من وزارة الدفاع ونتج عن الضربة مقتل ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مقاتل من “فاجنر”. مؤكدًا أنهم لم يكونوا ينوون ارتكاب أي فعل عدواني، مشددًا على أنه ورجاله لم يقدموا على قتل أي جندي على الأرض.

وذكر “بريجوزين” في تسجيله أيضًا أن هناك مجموعة من العسكريين ممن رأوا “فاجنر” خلال مسيرتهم إلى العاصمة، قدموا الدعم بالفعل لعناصر المجموعة. وأوضح أنه ورجاله قد توقفوا خوفًا من إراقة الدماء، وانطلاقًا من إحساسهم بأن ما فعلوه بالفعل كان كافيًا، لكن كان ينبغي عليهم التوقف خوفًا من إراقة الدماء الروسية. وشدد على أنه ورجاله ساروا إلى موسكو لإظهار اعتراضهم وليس بغرض الإطاحة بالسلطة الروسية.

وامتدح “بريجوزين” مستوى قواته، مؤكدًا أفضليتها على الجيش الروسي النظامي. خاصة عندما أكد أن “فاجنر” لو كانت هي من نظمت المسيرة العسكرية الروسية إلى العاصمة الأوكرانية كييف التي نفذها الجيش في الأيام الأولى من العملية العسكرية الخاصة، 24 فبراير 2022، لكانوا قد نجحوا. لأنهم، وفقًا له، هم الأفضل من حيث التدريب، ومن حيث السيادة الأخلاقية، والاستعدادية لاستكمال المهام، وظهروا المستوى التنظيمي الذي كان ينبغي على الجيش الروسي أن يظهره.

وفيما يتعلق بما قاله “بريجوزين” عن ردود الفعل الشعبية التي واجهها رجاله أثناء مسيرتهم إلى العاصمة: “عندما ذهبنا في اتجاه المدن الروسية، 24 يونيو 2023، قابلنا السكان المدنيون بأعلام روسيا وأعلام فاجنر. جميعهم كانوا سعداء عندما جئنا وعندما عبرنا من خلالهم. الكثير منهم كانوا يقولون لنا كلامًا يُعبر عن الدعم وكان بعضهم يشعرون بالإحباط لأننا قطعنا مسيرتنا التي كانت تمثل كفاحًا وجوديًا”.

● نقل موقع “ميدوزا”، على لسان مصادر خاصة تتألف من: مسؤول أمني مقرب من إدارة “فاجنر”، وآخر من وزارة الدفاع، واثنين آخرين من قدامى المحاربين من “فاجنر”؛ أن “بريجوزين” وقواته سيحتفظون بكل ما حققوه من نجاحات في أفريقيا. وهذه المصادر تشير إلى أن قاعدة “فاجنر” الرئيسة لن تكون واقعة الآن في “مولكينو” في إقليم “كراسنودار”، ولكنها ستقع في مكانٍ ما بالقرب من “بريست”. فيما أشار أحد المحاربين القدامى في “فاجنر” إلى أن السبب في ذهاب “بريجوزين” إلى بيلاروس هو أنه لم “يعد يحظى بدعم الجيش الروسي، ومهما علا صوت صراخه فإنه يظل غير قادر على نقل المعدات والأسلحة إلى سوريا وإفريقيا إلا عبر الطائرات العسكرية. وفي السابق، كان يتم توفير الطائرات اللازمة له من قِبَل وزارة الدفاع في الاتحاد الروسي، والآن سيتم نقل هذا الدور بشكل تلقائي إلى وزارة الدفاع في بيلاروس”. وهو الرأي الذي أكده، “مارات جابيدولين”، القائد السابق لسرية الاستطلاع التابعة لشركة “فاجنر”: “لا يوجد هناك مشكلات في إنزال طائرات سلاح الجو البيلاروسي على أراضي القاعدة الجوية السورية حميميم، بجانب أن الطيران العسكري البيلاروسي يطير إلى ليبيا منذ فترة طويلة”.

● أشار الصحفي، “دينيس كوروتوكوف”، إلى أن طائرات النقل العسكرية الروسية المتجهة إلى إفريقيا قامت –قبل التمرد بفترة طويلة– بعمل هبوط وسيط في مينسك. ويضيف: “من الواضح أن موسكو ستمارس بعد ذلك بعض السيطرة على الشركات العسكرية الخاصة؛ وذلك نظرًا لأن جميع الطرق الجوية من بيلاروس إلى أفريقيا تمر عبر المجال الجوي الروسي”.

● نشرت صحيفة “تليجراف” البريطانية، تقريرًا أوردت من خلاله أن أفراد عائلات “فاجنر” تلقوا تهديدات من المخابرات الروسية بإمكانية القبض عليهم في حالة أتم “بريجوزين” تنفيذ انقلابه، وذلك نقلًا عن مصادر خاصة بها في الاستخبارات البريطانية.

● لا تزال مكاتب “فاجنر” تمارس مهام عمليات التوظيف في إطارها المعتاد في خمس مدن روسية على الأقل وذلك وفقًا لإعلان الشركة الذي نشرته  في 26 يونيو.

27 يونيو 2023: 

● أوردت قناة وكالة “بيلتا” على منصة “تليجرام” أن شركة “فاجنر” تتمتع بشرعية العمل في بيلاروسيا، وسوف تواصل أداء مهام عملها سواء في أفريقيا أو أوكرانيا.

● نشرت صحيفة “كوميرسانت” الروسية تقريرًا أوردت من خلاله أنباء حول إلقاء القبض على أربعة أشخاص رفيعي المستوى تابعين لشركة “فاجنر” في قاعدة حميميم الجوية. من بينهم رئيس فرع “فاجنر” في السويداء الواقعة في الجنوب السوري. وفي وقتٍ لاحق على ذلك، نشر “ديميتري أوتكين”، التابع “لفاجنر”، عبر قناته على تطبيق “تليجرام”، رسالة تنفي معلومات إلقاء القبض على قيادات الشركة في سوريا، من دون ورود أي تعليقات من جهات رسمية روسية تؤكد أو تنفي هذه الأخبار.

● صرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين، “ديميتري بيسكوف”، 27 يونيو، أن الكرملين لا يتفق مع الآراء التي عبر عنها عدد من المحللين السياسيين بشأن اهتزاز موقف السلطة الروسية والرئيس الروسي شخصيًا عقب محاولة التمرد المسلح. وقال: “نحن لا نتفق، هناك الكثير من نوبات الغضب الشديد الانفعالات الآن بين المتخصصين وغير المتخصصين”. وتابع “بيسكوف” واصفًا هذا النوع من الجدل بأنه “مناقشات فارغة”. مضيفًا: “إن مستوى الوحدة الذي تحدث عنه الرئيس بالأمس، بين الأحزاب السياسية والعسكريين والمقاتلين والمدنيين والشخصيات الدينية والمؤمنين، وما إلى آخره، حول الرئيس مرتفع للغاية”.

29 يونيو 2023: 

● ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” نقلًا عن ثلاثة مصادر مطلعة أنه تم اعتقال الجنرال “سيرجي سوروفكين” نائب قائد مجموعة من القوات في منطقة العمليات العسكرية. وأشارت الصحيفة إلى أن اعتقال “سوروفيكين” ربما يكون مرتبطًا بفشل تمرد شركة فاجنر العسكرية الخاصة، والتي يُزعم أن الجنرال كان على علم بالتحضير لها. وبحسب “فاينانشيال تايمز”، لم يتضح بعد ما إذا كان نائب القائد قد اتهم بالتآمر أو تم اعتقاله للاستجواب.

● نشر موقع “آر.بي.سي” الروسي تكذيب الأنباء على لسان “فيرونيكا سوروفيكينا” ابنة الجنرال. حيث صرحت أن شيئًا لم يصب والدها، ولم يقم أحد باعتقاله، وهو الآن يؤدي مهام وظيفته. وأشارت إلى أن الجنرال “لم يظهر كل يوم في وسائل الإعلام ولم يدلِ بتصريحات”.

30 يونيو 2023: 

● تناولت صحف ووسائل إعلام روسية أنباءً بشأن قرار “بريجوزين” بإعلان تصفية شركته الإعلامية “باتريوت” بكل ما يتفرع عنها. وسط أنباء غير مؤكدة عن اعتزام “بريجوزين” تصفية شركة توريدات المواد الغذائية التابعة له والمُسماة “كونكورد”.

● عقب إنهاء التمرد، بدأت مصادر أوكرانية في إشاعة أنباء بشأن اعتزام السلطات الروسية الاستيلاء على ممتلكات وأصول “فاجنر”، إلا أن عمدة مدينة “سانت بطرسبرج”، “ألكسندر بيجلوف” صرح بأن المدينة تحترم حقوق الملكية الخاصة ولهذا السبب لا يوجد أي مبررات لمصادرة أملاك “بريجوزين”.

بدءًا من يوليو 2023: 

● بتاريخ 2 يوليو، بدأ عدد من قنوات “التليجرام” في تداول صور لشخص يشبه “بريجوزين” قيل إنه شوهد في محيط مقر شركة “فاجنر” في جزيرة “فاسيلي”، بمدينة “سانت بطرسبرج”. وأشارت المصادر نفسها –جنبًا إلى جنب مع مصادر صحفية أوكرانية- إلى أن “بريجوزين” قد مُنح مهلة من الوقت وصولًا إلى يوليو لإنهاء أعماله في روسيا، لافتة إلى أن ذلك كان جزءًا من الاتفاق المُبرم بينه وبين “لوكاشينكو”.

● نقل برنامج “ريداكتسيا“، في حلقة تم بثها 3 يوليو 2023، لقطات مصورة من خطاب ألقاه “بوتين” شخصيًا أمام الأفراد العسكريين بخصوص هؤلاء الذين لقوا حتفهم في صفوف الجيش الروسي على متن الطائرات والمروحيات التي أسقطتها “فاجنر” في يوم التمرد في سماء “فورونيج”. وأوردت الحلقة نفسها، أن حاكم “بيسكوف”، “ميخائيل فيديرنيكوف”، أكد رسميًا وفاة الطاقم في المعركة.

● تداولت قناة تدعى “ميلنتسا” على شبكة “تليجرام”، 4 يوليو 2023، أنباءً بشأن استرجاع “بريجوزين” لمبلغ قيمته 10 مليارات روبل كان قد عُثر عليه خلال عمليات مداهمة مقر الشركة في 24 يونيو 2023. وذكرت القناة أنه في البداية كان من المقرر ألا تعيد قوات الأمن المبلغ، ولكن فيما بعد، حدث منعطف ما أو ربما تدخلت قوة قاهرة وتم استرداد المبلغ. وعلقت القناة نفسها بأن الغموض يظل يكتنف موقف “فاجنر” الراهن؛ فمن ناحية، نجح “بريجوزين” ورجاله في تنفيذ المهام الموكلة إليهم من الكرملين في أوكرانيا وأصبحوا هم أنفسهم بطبيعة الحال جزءًا لا يتجزأ من العملية العسكرية الخاصة، ومن ناحية أخرى، أصبح هناك فاعل سياسي جديد وقوي للغاية في روسيا، ولا يمكن ببساطة للكرملين الإلقاء به جانبًا من دون دفع مقابل نجاحاته ومآثره. وأورد المصدر نفسه أن “بريجوزين” تقدم في نتائج استطلاع شهر يونيو على موقفه ضمن قائمة أكثر مئة سياسي روسي بارز. بينما كان لا يزال يشغل المرتبة رقم 88 في استطلاع شهر مايو من العام نفسه.

● تداولت قناة “علم الاجتماع” على تطبيق “تليجرام”، 5 يوليو، نتائج استطلاع قامت بإجرائه حول شعبية “بوتين” عقب محاولة التمرد، وجاءت النتائج كالتالي: عبر 67% من المستجيبين عن عدم تغير موقفهم تجاه بوتين، و12% عن أن نظرتهم للرئيس قد تدهورت. وبشكل أكثر تفصيلي، تمت دراسة موقف هذه المجموعة التي أبدت اعتراضات، وجاءت أسبابها كالتالي: البعض يشعر بالإحباط من الرئيس وهؤلاء كانت تتراوح أعمارهم بين 30-44 وتبلغ نسبتهم 37% من إجمالي نسبة 12%. وأوضحت القناة أن مصدر معظم معلومات الفئة غير الراضية كانت هي قنوات “التليجرام”. ويوجد من بين هؤلاء نسبة تبلغ 45% تملك نظرة إيجابية “لبريجوزين”، أما نحو 30% من ضمنهم فغير راضين عن “بوتين” و”بريجوزين” على حد سواء. فيما أبدى 50% منهم اعتقاده بأن “بريجوزين” كان بالفعل يملك فرصة استكمال موقفه للنهاية والإطاحة ببوتين. وأشارت نسبة 49% إلى اعتقادهم أنه يوجد بالفعل الآن فرصة كبيرة لتغيير السلطة في روسيا من خلال انقلاب عسكري.

● بتاريخ 5 يوليو، ذكرت المخابرات البريطانية أن الجنرال “سيريجي سوروفيكين” بالإضافة إلى قائد آخر، لم يظهرا في العلن منذ تمرد “بريجوزين”. ووفقًا للمحللين، قد يكون هذا علامة على وجود انقسام في نظام الأمن القومي الروسي. لم يؤكد مسؤولو المخابرات البريطانية اعتقال “سوروفيكين،” لكن في الوقت نفسه يشيرون إلى أنه قد يكون محل شك بسبب علاقاته الطويلة الأمد مع “فاجنر”، والتي تعود إلى خدمته في سوريا في عام 2017. تصف المخابرات “سوروفيكين” بأنه من أكثر الضباط احترامًا في الجيش الروسي، وتشير إلى أن أي عقوبات رسمية ضده من المرجح أن تسبب انشقاقًا.

● ورد في بيان وزارة الدفاع ودائرة الحدود الأوكرانية، 5 يوليو، أنه لم يشهد أحد بعد ما يفيد بنقل مقاتلي “فاجنر” الفعلي إلى بيلاروس. فقد أوردت الدائرة “نحن نراقب المكان بعناية حيث من المفترض أن يتم وضعهم. لقد قاموا بتهيئة مكان على بعد مئات الكيلومترات من الحدود الأوكرانية. حتى الآن، لا نرى إشارات على وصولهم الفعلي واستقرارهم في هذا الإقليم. ولكن بالطبع، تعمل المخابرات الأوكرانية جنبا الى جنب مع دائرة الحدود على مراقبة الوضع بنشاط”.

نظرة تحليلية

إن المشهد الأكثر سوءًا لم يكن في قدر الإهانة الذي مارسه “بريجوزين” وقواته قولًا وفعلًا تجاه القوة العسكرية النظامية لبلاده، بل يتمثل كذلك فيما حملته كلمات “لوكاشينكو”، التي ظهرت في شكل غني عن الشرح والتعريف كما ذكرنا آنفًا، بحق المقارنة بين خبرة وكفاءة قوات “فاجنر” التي ليس من الممكن أن يكون في حوزتهم من ينافسها!، أو في طريقة تعريفه للأسباب التي حالت دون اتخاذ “بوتين” قرار تصفية “بريجوزين”. وكل ذلك ببساطة، لأن “بريجوزين” ليس وحيدًا، أو بمعنى أدق، بل كان لمعرفتهم بأن الرجل الذي حمل قواته –قيادات وعناصر عادية- وحضر في مسيرة للعاصمة الروسية بغرض الانتقام لمقتل قرابة الثلاثة آلاف من جنوده، من المؤكد أنه سيكون هناك في صفوف قيادات شركته من سيرغب في الانتقام من “بوتين” شخصيًا لو تم قتل القائد الثائر نفسه!

إذًا، فإن معضلة “بوتين” الكبرى أمام “بريجوزين” لم تكن تتمثل فقط في كونه يمتلك قوة تفوق قوة الكرملين وتؤثر على قراراته الحاسمة التي لطالما اعتاد اتخاذها تجاه أخطاء أقل وطأة بمراحل اقترفها معارضون سياسيون سابقون له، ولكن الأمر هنا تجاوز هذه الفكرة إلى شيء أكثر عمقًا؛ إن ما فعله “بريجوزين” تسبب في إحراج حقيقي للقوات المسلحة الروسية والبيلاروسية على حد سواء من خلال إثبات تفوق المرتزقة الكبير عليها.

نعود هنا كذلك للتعليق على محتوى التسجيل الصوتي الأول لـ “بريجوزين” عقب الانتهاء من التمرد. وهو ما يثبت بشكل لا لبس فيه أن ما قاله “لوكاشينكو” عن وطنية “بريجوزين” شيء حقيقي. هو لم يقطع التمرد إلا خوفًا من إراقة الدماء الروسية، هذا صاحب قوة حقيقية قرر التنازل والتراجع بعد إحداث ما يكفي من جلبة للفت الانتباه إلى عدالة قضيته. لذا فإن كل الدلالات تشير إلى أنه وفي الوقت الراهن، “بريجوزين” خرج منتصرًا بما فيه الكفاية ليصعد من وتيرة هجومه على الجيش الروسي النظامي وإحراجه للقوات المسلحة الروسية، وإعلانه العلني بأن قوات “فاجنر” لو كانت هي من نظمت مسيرة 24 فبراير 2022 إلى كييف، لكانت أنهت بالفعل العملية العسكرية الخاصة في غضون أيام. وهو تصريح -في ظل المعطيات العملية الراهنة- قد يتخلله جانب كبير من الصواب!

وكدليل آخر على ذلك، وإذا كنا نرغب في تطبيق مقولة “الصورة خير من ألف كلمة”، ستكون صورة “شويجو” وهو يشارك في حضور الاجتماع الأول لـ “بوتين” مع وكالات إنفاذ القانون مرتديًا زيًا مدنيًا وليس الزي العسكري هي الصورة الأهم في الحدث الراهن. ومثلها في ذلك، مثل غالبية تصريحات “لوكاشينكو” الذي يعرف الجميع أنه لا يتحدث إلا بإيعاز من “بوتين”، تكون هذه صورة لها دلالات عميقة تشرح نفسها بنفسها.

ثمة ما يلفت الانتباه أيضًا وهو أن خطاب “لوكاشينكو” قد انطوى على ما ينفي بيان القوات المسلحة الروسية الصادر بتاريخ 24 يونيو بشأن إنكار توجيه أي ضربة عسكرية على معسكرات “فاجنر” كما سبق وأعلن بريجوزين. وهذه علامة استفهام أخرى كبيرة على حجم الفشل التنظيمي والطريقة التي تتصاعد بها الخلافات بين القيادات العسكرية العليا في روسيا إلى درجة تدفع وزير الدفاع الذي تخوض بلاده حربًا شرسة والذي من المفترض به بذل الغالي والنفيس لأجل الدفاع عن حياة كل فرد روسي، إلى التخلص بضغطة زر من حياة ما يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل!

يوجد هنالك أيضًا ما ترغب الدولة الروسية في فعله أثناء معالجة الموقف الحرج، وهو نفي أن يكون “بريجوزين” وقواته قتلوا أي شخص خلال يوم التمرد. وهو الشيء الذي تملص منه “بريجوزين” عندما قال في تسجيله إننا لم نرق أي دماء روسية على الأرض. وقد أغفل بذلك الدماء الروسية التي أريقت على يد قواته في سماء “فورونيج”، والتي ظهر “بوتين” علنًا فيما بعد في لقطة لتكريم حياة هؤلاء القتلى!

وفيما يتعلق بتضارب الأنباء، سواء حول أنباء القبض على قيادات من صفوف الطرفين “فاجنر” والقوات المسلحة الروسية، أو بشأن تضارب الأنباء بوجه عام؛ قد يشير هذا التضارب إلى شيء من اثنين: إما تخبط في القرارات التي يتخذها الكرملين في الوقت الراهن ويعدل عنها بشكل سريع، أو أنها مجرد شائعات متداولة وهذا أمر قد يكون مستبعدًا. ومن الجدير بالذكر كذلك أن جميع الدلالات تشير إلى أن “فاجنر” وقائدها لهم ما يؤيدهم في الشارع الروسي؛ وذلك بعد أن أظهر عدد من مقاطع الفيديو التي يتم بثها عبر الإنترنت دعم مدنيين من روستوف وقطاعات روسية أخرى “لفاجنر” من جهة، وتساؤلاتهم حول إلى أي قدر يجدوا أنفسهم اليوم غير محميين؟!

بالإشارة إلى الغموض الذي يكتنف مستقبل “فاجنر”، أو بمعنى أدق مستقبل “بريجوزين” تحديدًا؛ نجد أن “بوتين” لا يغنيه اعترافه بالخطأ، ولو على لسان حليفه “لوكاشينكو”، عن حقيقة أنه يجد نفسه اليوم في موقف حرج للغاية؛ لن يقدر على مسامحة “بريجوزين” ولن يقوى في الوقت نفسه على اتخاذ قرار فوري بتصفيته. وعند هذه النقطة، نعرف أن الإخلاص والإخلاص وحده سيكون هو سيد الموقف فيما يحدد ما تبقى “لبريجوزين” من وقت في هذه الحياة؛ فمما لا لبس فيه أن الكرملين لديه نوايا لا تخفى على أحد في قتل “بريجوزين”.

لكن لتحقيق هذا الهدف سيكون هناك الكثير من الخطوات الواجب تنفيذها، من ضمنها: أولًا تحجيم دور “فاجنر” وحصره في التعامل من خلال وزارة الدفاع البيلاروسية فقط وفصل التعامل تمامًا بينها وبين مع وزارة الدفاع الروسية، ثانيًا ستكون هذه الخطوة الأهم، وهي تتلخص في كيف يخسر “بريجوزين” ولاء قياداته وقواته؟! هنا يكون إخلاصهم وعزمهم على حمايته هو العدو الأهم والخصم الحقيقي أمام “بوتين” الذي أدرك الآن وبالطريقة العملية أن القوة ليست هي من يحمي قائد “فاجنر”، بل القوة المُخلِصة. ولو وصلنا إلى اليوم الذي يقف فيه “بريجوزين” وحيدًا بدون إخلاص رجاله، عندها فقط ستكون هذه هي آخر لحظات حياته.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/78359/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M