رؤى روسية: الأزمة الأوكرانية وجدل استخدام الأسلحة النووية

احمد السيد

 

مع إطالة أمد الأزمة الروسية الأوكرانية ودخولها الشهر السابع عشر مُنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في 24 فبراير 2022، وفي الوقت الذي لم يتمكن فيه أي من الطرفين من حسم المعركة لصالحه، ومع فشل الجهود الدولية والإقليمية في محاولة إقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات والتوصل لتسوية سلمية للأزمة؛ طفا على السطح خلال الأسابيع الماضية الحديث عن استخدام الأسلحة النووية في الأزمة، وذلك عندما صَرح السيد “دميتري ميدفيدف” نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي بأنه “يُمكن إنهاء أي حرب إما باتفاقية سلام أو كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الأسلحة النووية عام 1945”.

هذا التصريح دفع إلى دائرة الضوء إمكانية قيام روسيا بشن ضربة نووية على الأراضي الأوكرانية بل والأراضي الأوروبية لحسم المعركة، وما بين مؤيد ومُعارض تأرجحت الآراء داخل أروقة السياسة والفكر الروسية بين فريق يرى مشروعية وضرورة استخدام الأسلحة النووية باعتبارها الطريقة الأفضل والحل الأسرع لكسب المعركة، وبين فريق آخر يعتبر الحرب النووية طريقة سيئة لحل المشكلة، وأنه لا يمكن أن يكون هناك رابحون في حرب نووية.

وخلال السطور التالية سنتطرق للجدل الدائر في أذهان المفكرين الروس حول استخدام الأسلحة النووية من عدمه، مع تفنيد حُجج كلا الفريقين.

حضور لغة الخِطاب النووي

جدير بالذكر أن لغة الخِطاب النووي كانت حاضرة مُنذ بداية الأزمة الأوكرانية، إذ لوحت روسيا مرارًا بعدم استبعاد اللجوء للأداة النووية، لكن يُمكن تفسير ذلك بأن تكون روسيا استخدمت هذا الخِطاب كوسيلة لمنع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الانجرار إلى الصراع. ومع ذلك، فإن الإشارات العلنية والمتكررة من قبل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ومسئولين آخرين حول الوضع النووي لروسيا لم تمنع حتى الآن التصعيد الكبير لدول الناتو والولايات المتحدة في العمليات العسكرية في أوكرانيا.

قد يُفهم من ذلك أن تلويح الروس بالردع النووي، الذي اعتمد عليه الكثيرون في موسكو كوسيلة لتأمين المصالح الحيوية للبلاد، أصبح أداة ذات استخدام محدود، وبات الغرب يتعامل معه بنوع من اللا مبالاة، وهذا ما دفع بالخطاب الروسي للترويج لفكرة استخدام الأسلحة النووية لإكمال العملية العسكرية في أوكرانيا بسرعة ونجاح، وذلك لترهيب الغرب بالأسلحة النووية قدر الإمكان.

في سياق آخر، يُشير مسار الحرب الأوكرانية إلى تصعيد الصراع أفقيًا من خلال توسيع مسرح العمليات وعموديًا من خلال زيادة الأسلحة المستخدمة وكثافة استخدامها. وهنا أدركت روسيا أن الاستمرار في هذا المسار يقود في اتجاه صدام مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، إذا لم يتم إيقاف الدعم الغربي السخي لكييف، وقد ينتهي الأمر إلى قيام روسيا بشن ضربات نووية على مواقع تابعة لدول أوروبا بهدف وضع نهاية سريعة للحرب المُمتدة. لكن الخيار النووي ليس الخيار الأفضل على الإطلاق، فتداعياته الكبيرة لن تقتصر على نهاية الحرب فقط، بل سيتوقف عليها مسار العالم بأسره.

هل تستخدم روسيا السلاح النووي؟

في مقال لـ”سيرغي كاراجانوف”، رئيس مجلس السياسات الخارجية والدفاعية في روسيا، ومستشار سابق للرئيس الروسي، نُشر في الموقع الرسمي لمجلة “روسيا في الشئون العالمية” بعنوان (قرار صعب ولكنه ضروري) أوضح أن استخدام الأسلحة النووية يمكن أن ينقذ البشرية من كارثة عالمية، وأن روسيا أمام خيار صعب، وأن الصدام مع الغرب يتزايد بشكل كبير، ولن ينتهي إذا تمكنت روسيا من تحقيق انتصار جزئي أو حتى انتصار شامل في أوكرانيا. فإذا تمكنت روسيا من تحرير مناطق دونيتسك ولوهانسك وزابوريجيا وخيرسون بالكامل، فسيكون ذلك الانتصار ضئيلًا، بينما النجاح الأكبر سيتمثل في تحرير جنوب وشرق أوكرانيا، ولكن ذلك الأمر سيستغرق عامًا أو عامين. ووفقًا لكاراجانوف فإنه وفي حال تحقيق ذلك فإن جزءًا من السكان القوميين سيشعرون بالمرارة وسيصبحون أكثر تطرفًا. ومع حصولهم على الأسلحة من الغرب سيستمر نزيف المعارك، الأمر الذي يُهدد بمزيد من السوء، ومن ثم الحرب مرة أخرى. وستواجه روسيا كُرهًا دفينًا في نفوس الأوكرانيين سيستغرق عقودًا للتخلص منه. وهذا الأمر سيصرف أنظار روسيا وسيؤخرها عن التحول إلى قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة، حيث ستنخرط في مواجهة حروب العصابات والحروب الأهلية في أوكرانيا.

ورأى أن الحل يتمثل في كسر إرادة الغرب، وإجبارهم على التراجع عن دعم كييف، ومنعهم من تزويد أوكرانيا بالسلاح، ومن ثم تجريد كييف من قوتها العسكرية، وإنشاء دولة صديقة وعازلة على حدود روسيا، وبهذه الطريقة تتمكن موسكو من إعادة توحيد جنوب وشرق أوكرانيا.

واقترح كاراجانوف توجيه ضربة نووية استباقية لدول أوروبية لوضع حد للهيمنة الغربية والأمريكية، كما رأى أن سياسة واشنطن والغرب صوب كييف سبب رئيسي لاستخدام القوة، لأن البديل عن ذلك هو اندلاع حرب عالمية ثالثة، ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي فإن الأمور قد تئول لتصعيد خطير. ويوضح كاراجانوف أن الاستخدام الروسي للسلاح النووي سيكسر إرادة الغرب، وباستخدام النووي فلن تنقذ روسيا نفسها فحسب، بل ستُحرر العالم من نير هيمنة الغرب التي استمرت لقرون، كما ستنقذ البشرية. وستحصل الإنسانية على فرصة جديدة للتطور.

ووفقًا لما جاء في مقال كاراجانوف فإن بإمكان روسيا مواصلة القتال لمدة عام أو عامين أو ثلاثة، وأن تضحي بآلاف من أفضل رجالها، لكن هذه العملية العسكرية لا يمكن أن تنتهي بانتصار حاسم دون فرض تراجع استراتيجي واستسلام غربي. يجب أن تجبر روسيا الغرب على التخلي عن محاولة إعادة التاريخ إلى الوراء، والتخلي عن محاولاته للسيطرة على العالم، كما يجب على الغرب ألا يمنع روسيا والعالم من المضي قدمًا، وأن يُدرك أن الاستمرار في تحريض الأوكرانيين ضد روسيا سيأتي بنتائج عكسية.

كما دعا كاراجانوف روسيا إلى إظهار جدية نواياها على الفور من خلال خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية طواعية. إذا لم يؤد ذلك إلى النتائج المرجوة ولم يستدعِ إجراءات تصالحية من الغرب، فيجب على روسيا أن تمضي إلى أبعد من ذلك وتشن ضربة نووية على أحد المراكز الأوروبية كتحذير، تليها ضربات على مركز أو أكثر حتى تُجبر روسيا العدو على الاستسلام الكامل. يفترض كاراجانوف أن مثل هذه الهجمات على المدن الأوروبية لن تؤدي إلى رد نووي أمريكي، معتقدًا أن مدينة / مدن أوروبية مدمرة لن تكون سببًا كافيًا لواشنطن للمخاطرة ببدء حرب نووية مع روسيا. لذلك، من المحتمل أن يتبع ذلك تحول سريع على سلم احتواء التصعيد.

يُضيف كاراجانوف أن روسيا حذرت كثيرًا من توسع الناتو، وأن توسعه بالقرب من الحدود الروسية سيدفع بالحرب قدمًا، وهو ما حدث في الأزمة الأوكرانية. وبالتالي، فإن لم تقم روسيا بضرب أهداف نووية في أوروبا، فعليها أن تتحمل خسائر فادحة. وحث كاراجانوف روسيا على اتخاذ القرار بشكل فردي، إذ يعترف بأن مثل هذا الإجراء من غير المرجح أن يحظى بدعم أصدقاء روسيا وحلفائها، لكن مع مرور الوقت سوف يتفهمون قرار روسيا ويشكرونها على تحريرها من نير الغرب.

ويختتم كاراجانوف مقاله بأنه وفي حال قيام روسيا باستخدام السلاح النووي، فستسير الإنسانية نحو مُستقبل أكثر إشراقًا، وصوب عالم مُتعدد الأقطاب، يُمكن للبلدان والشعوب من خِلاله بناء مصيرهم المُشترك.

مقال كاراجانوف هذا أحدث هزة كبيرة في الأوساط الروسية، ودفع بعديد من المفكرين والمعنيين الروس إلى الرد على ما جاء في مقالته. 

خطر الحرب النووية

دفع مقال كاراجانوف الخبراء والعلماء الروس للتحذير من عواقب الاستخدام “المحدود” المحتمل للأسلحة النووية. وفي هذا السياق، ناقش عدد من الخبراء الروس عواقب ذلك الأمر، موضحين أن الخيار النووي ليس بالطريقة الأفضل لحل المشكلات، استنادًا لعدد من الأمور منها:

  • أولًا: أنه تم التعبير عن موقف القيادة الروسية بشأن هذا الأمر، حيث أكد الرئيس “بوتين” على هامش منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، في 16 يونيو الماضي، أن روسيا ليست لديها الحاجة لاستخدام الأسلحة النووية، وأن عامل التفكير في هذا الموضوع يقلل بالفعل من إمكانية خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. في نوفمبر الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الروسية صراحة عدم جواز استخدام الأسلحة النووية. كما تطرق المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، لمخاطر الأسلحة النووية بجميع أنواعها. وحول تكهنات وسائل الإعلام الغربية حول “الابتزاز النووي الروسي” فقد اعتبرتها السلطات الروسية عنصرًا من عناصر حرب المعلومات والدعاية المعادية لروسيا.
  • ثانيًا: أن الفكرة القائلة بأن استخدام الأسلحة النووية يمكن أن يوقف التصعيد ويحل المشاكل الاستراتيجية التي لا يمكن أن تحلها القوة العسكرية التقليدية هي فكرة خاطئة، حيث سترفع الضربة النووية الصراع إلى مستوى مختلف، كما ستزيد من عدم القدرة على التنبؤ، وتزيد بشكل كبير من مخاطر المواجهة النووية.
  • ثالثًا: في حال قيام روسيا بشن ضربات نووية؛ لن يقف الناتو مكتوف الأيدي، وحتى إن لم يرد بضربات نووية مُماثلة، فسيشن ضربات هائلة بأسلحة تقليدية عالية الدقة ضد جميع الأهداف العسكرية التي يمكن الوصول إليها، سواء من البحر أو البر أو الجو. عندها سيصبح من المستحيل الاتفاق على وقف إطلاق النار، ناهيك عن تسوية سلمية للصراع، ولن يتبقى لدى الأطراف سوى مزيدٍ من التصعيد النووي، فضلًا عن عواقب وخيمة على العالم أجمع.
  • رابعًا: في حال أي تصعيد نووي، فسيترتب عليه عواقب طويلة المدى على نطاق عالمي، حيث سيؤدي انهيار الخدمات اللوجستية العالمية والإقليمية إلى نقص حاد في المنتجات الأساسية، بما في ذلك الأغذية والأدوية والوقود، فضلًا عن المعدات وقطع الغيار والمواد الاستهلاكية والمنتجات. وسيصاحب هذا الوضع حتمًا عدم استقرار عالمي سيتمثل في شكل هجرة قسرية، وزيادة في العنف وما يصاحبه من حروب.
  • خامسًا: سيواجه العالم عواقف وخيمة مما لم يتم التفكير فيه بشكل مُسبق، ولنا في جائحة “كوفيد 19” خير مثال، لكن في هذه الحالة سيواجه العالم شبح “جائحة نووية” مع الحديث عن الأمراض المعدية بسبب تحلل عشرات الملايين من الجثث غير المدفونة، وانتشار عدد لا يُحصى من ناقلات الأمراض الحديثة التي تتحور تحت تأثير الإشعاع (وتشمل الكوليرا والتيفوس وحمى التيفوئيد والدوسنتاريا والطاعون والجدري) فضلًا عن الانهيار الكامل لجميع الصناعات والأنظمة ومنشآت الرعاية الصحية.
  • سادسًا: هناك مخاطر كبيرة من قيام روسيا بشن ضربات نووية على مواقع أوروبية. على سبيل المثال، إذا تم توجيه ضربة نووية على بولندا، فهذا سيدفع الغرب لتزويد بولندا بمزيد من الأسلحة، فضلًا عن مشاركة المواطنين البولنديين في الصراع الأوكراني، وستكون روسيا إزاء مواجهة “حرب مُختلطة” وشاملة من قِبل الغرب، وسوف يصبح الصراع أكثر عنفا. ويمكن لحلف الناتو -على سبيل المثال- شن هجوم مكثف بصواريخ كروز في شبه جزيرة القرم أو منطقة كالينينجراد أو في أي منطقة حدودية. وهذا بالتأكيد سيُمثل عبئًا كبيرًا على روسيا، وسيكون الوضع الروسي في الجبهة أكثر صعوبة. وقد يُهدد وجود الدولة ذاتها، خاصة وأن روسيا ستتعرض لحصار تجاري كامل وعزلة سياسية. 
  • سابعًا: كيف سيكون رد الفعل العالمي؟ يبالغ كاراجانوف في تقدير احتمالات وقوع ضربة نووية بأن دولًا كبرى مثل “الصين” لن تقبل بذلك في البداية، لكنها ستوافق بعد ذلك عندما تتخلص من “نير الغرب”، لكنه يتجاهل العواقب الكارثية المحتملة لروسيا نفسها. حيث ستواجه الغالبية العُظمى من العالم أوقاتًا عصيبة، مع اضطراب العمليات الاقتصادية، والتغير المناخي المحتمل، ومخاطر الإشعاع. كما سيؤدي ذلك لاختلال سمعة وهيبة روسيا بشكل كبير، ولن يغفر العالم لروسيا فعلتها، ولن تقبل دول العالم بأنه لم يكن أمام روسيا أي خيار آخر.
  • ثامنًا: بغض النظر عن النتيجة التي سيئول إليها الصراع الأوكراني، ليس هناك دافع لروسيا لشن ضربات نووية، حيث يُجادل المفكرون الروس بأن الغرب لن يستمر طويلًا في تقديم مزيد من الدعم لكييف، ولن يصبر طويلًا، فالمعركة بالنسبة له شاقة ومُكلفة وخطيرة، وقد يؤدي ضغط الناخبين إلى إجبار السياسيين الغربيين على التخلي عن السياسة الخطيرة التي قد تؤدي إلى تصعيد نووي كارثي.

في الأخير، ليس هناك ما يُسمى بالضربة النووية المحدودة، فأي استخدام للأسلحة النووية سُيخلف عواقب كبيرة للغاية على كافة الأصعدة، كما حدث على سبيل المثال في هيروشيما وناجازاكي. وفي حال استخدام الأسلحة النووية وما ستخلفه من دمار وخوف على كافة الشعوب فلن يتحقق المُستقبل المُشترك للبشرية، ذلك المُستقبل متعدد الأقطاب والثقافات، بحيث يمكن لجميع الدول والشعوب بناء مصيرها الخاص والمشترك الذي دعا “كاراجانوف” إليه في مقالته. وباتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى ليقوم العالم بإعلاء مبدأ “الرشادة” في العلاقات الدولية. 

قائمة المراجع:

  1. Превентивный ядерный удар? Нет link: https://www.globalaffairs.ru/articles/preventivnyj-yadernyj-udar-net/
  2. Украинский конфликт и ядерное оружие link: https://www.globalaffairs.ru/articles/ukraina-yadernoe-oruzhie/
  3. Нанести по Европе ядерный удар или не наносить: как к этому отнесётся остальной мир link: https://www.globalaffairs.ru/articles/yadernyj-udar-i-ostalnoj-mir/
  4. Ядерная войнаплохое средство решения проблем link: https://www.kommersant.ru/doc/6055340?fbclid=IwAR3hzLE9YTDxbaTVaDgGi0b1neqZMzsTXS_W6EI4PtobLOLvSUDGMb7HVes_aem_th_Afjq1b1qluEvFZc6zme0Ux0gZdoYBjBtlULFZ42Vdt0gkjEjVfFSrVBNfjR8SFaPG3c

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/35183/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M