إنهاء الحالة.. أبعاد ومآلات مقتل قائد “فاجنر”

محمد منصور

 

كانت أغلب التحليلات التي تناولت التمرد القصير” لوحدات شركة “فاجنر” العسكرية الروسية الخاصة، أواخر يونيو الماضي -والذي سيطرت خلاله لفترة وجيزة على مدينة “روستوف”، وكافة المرافق الموجودة داخلها، بما في ذلك مقر القيادة الرئيسي للمنطقة العسكرية الجنوبية الروسية- تشير إلى أن قائد هذه القوات يفجيني بريجوزين قد وقع شهادة وفاته حين أقدم على هذه الخطوة التي تعد من المحرمات في الذهنية الروسية والسوفيتية. لهذا يمكن بشكل مبدئي اعتبار مقتل “بريجوزين” يوم 23 أغسطس 2023 في تحطم طائرته الخاصة بمثابة “تنفيذ” لبنود هذه الشهادة التي أسهم “بريجوزين” نفسه فيها.

فالتمرد المحدود الذي قاده “بريجوزين” -وهو تحرك غير واضح الأهداف والمعالم حتى الآن- كان مدفوعًا فقط بخلافات قائد “فاجنر” المتفاقمة مع القيادة العسكرية الروسية العليا حول مجرى العمليات في أوكرانيا، دون أن يكون للعناصر المتمردة أي خطة تكتيكية أو توجه استراتيجي تخص مآلات تحركهم هذا، خاصة أنهم تقدموًا بعد السيطرة على روستوف شمالًا نحو العاصمة موسكو، وبالتالي وجدت قيادة “فاجنر” نفسها أمام وضع حرج يتسع نطاقه شيئًا فشيئًا. لهذا كانت نهاية هذا التحرك سريعة ومباغتة مثل بدايته، ومن خلالها بدأت “هجرة” عناصر “فاجنر” نحو بيلاروسيا المجاورة؛ في محاولة لتأسيس مرحلة جديدة من مراحل هذه الشركة التي ظهرت عام 2014، بالتزامن مع ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا.

خطوات تدريجية نحو إنهاء حالة “فاجنر”

حقيقة الأمر، أن رحيل قيادة فاجنر وعناصرها نحو بيلاروسيا كان نقطة البداية في خطة “إنهاء” حالة “فاجنر” بشكل كامل، وهو ما ظهر بشكل أو بآخر من خلال عدة عوامل طرأت خلال الشهرين الماضيين، وصولًا إلى ما يمكن اعتباره “الخطوة النهائية” في هذا الصدد، عبر رحيل “بريجوزين”.

انتقال عناصر “فاجنر” إلى بيلاروسيا ومغادرتهم الجبهة الأوكرانية كان يعد بشكل أساسي تدشينًا لإبعادهم من المشهد “الإقليمي” الروسي؛ فالدور الميداني لهذه القوات -خاصة في معركة السيطرة على مدينة “باخموت”- كان من مصادر القوة المكتسبة لها خلال الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى أدوارها في أفريقيا، وبالتالي فرضت هذه الأدوار على موسكو اتخاذ استراتيجية بطيئة وتدريجية للتعامل مع “فاجنر”، بشكل لا يتسبب في اختلال الاستراتيجية الروسية ضمن هذه النطاقات الجغرافية المهمة.

ولعل تزامن رحيل عناصر فاجنر إلى بيلاروسيا مع تأسيس وزارة الدفاع الروسية -بإشراف مباشر من وكالة المخابرات العسكرية التابعة لهيئة الأركان “GRU”- شركة عسكرية خاصة جديدة تحت اسم “Redut PMC”، وبدء انضمام عدد من عناصر وقادة “فاجنر” إليها، وفي نفس الوقت اتضاح عدم ملاءمة الظروف في بيلاروسيا لاستقرار عناصر “فاجنر” نتيجة لتقلص الموارد المالية الخاصة بالشركة والتضييق الذي بات مفروضًا على حركة قادتها؛ كانت جميعها عوامل تؤكد أن وجهة نظر وزارة الدفاع الروسية حيال هذه الشركة باتت هي الغالبة، وأن خطة تحجيم أدور فاجنر قد باتت قيد التنفيذ، منذ اللحظة التي غادر فيها “بريجوزين” إلى بيلاروسيا.

اللافت في هذه التوجهات أن موسكو عملت على تقليص أدوار “بريجوزين” بشكل عام، بداية من تقليص نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي إلى حد بعيد خلال مرحلة ما بعد “التمرد”، وصولًا إلى تحجيم قدرته على التحرك الميداني وتوظيف عناصر جديدة في شركته. لتتولد بذلك ظروف جديدة بدا فيها أن “بريجوزين” قد فقد زخمه السابق وقدرته على قيادة شركة ذات طبيعة عمل مماثلة “لفاجنر”.

وهو ما إن أضفناه لتراجع القدرات التمويلية “لبريجوزين”، يمكن القول إن الشهرين الماضيين كانا بمثابة “لعبة عض أصابع” بين وزارة الدفاع الروسية و”بريجوزين”، كانت القارة الأفريقية أحد أهم محاورها، وهو ما يمكن قراءته من تزامن إصدار قائد قوات “فاجنر” تسجيلًا مصورًا، يوم 22 أغسطس، من إحدى الدول الأفريقية، مع وصول وفد من وزارة الدفاع الروسية، برئاسة نائب وزير الدفاع الروسي الفريق يونس بك يفكوروف إلى ليبيا.

إسقاط طائرة قائد “فاجنر” أم سقوطها؟

بالعودة إلى “فصل النهاية” في حياة “بريجوزين”، لم تتضح بشكل يقيني ملابسات سقوط طائرته الخاصة من نوع “إمبراير ليجاسي-600″، لكن المؤكد أنها سقطت بشكل مفاجئ -ودون أن يتمكن قائدها من إصدار نداء استغاثة- أثناء تحليقها في رحلة من سان بطرسبرج نحو العاصمة موسكو، وسقطت تحديدًا فوق مقاطعة “تفير”، حيث انفصل ذيل الطائرة أثناء سقوطها، وتم العثور عليه على بُعد 3 كيلو مترات من الموقع الذي وجد فيه جسم الطائرة. التسجيلات المصورة المتاحة للحظة سقوط الطائرة أظهرت اشتعال النيران في أحد أجنحتها، وسقوطها بشكل حر نحو الأرض دون أن تتوفر لطاقمها أية فرصة لمحاولة الهبوط الاضطراري.

المفارقة الأولى في هذا الحادث كانت في أنه قد سبق وأعلنت بعض وسائل الإعلام الروسية، في أكتوبر 2019، أن “بريجوزين” قد قتل في تحطم طائرة في الكونغو الديموقراطية، وظلت هذه الأنباء متداولة لعدة أيام، إلى أن ظهر قائد “فاجنر” بشكل شخصي لنفيها. المفارقة الثانية تتعلق بأن طائرة ثانية تابعة “لبريجوزين”، حلقت في نفس توقيت سقوط الطائرة الأولى في مسار مشابه وهبطت بشكل آمن في مطار “أوستافييفو” في موسكو، وهو ما وضع علامات استفهام عديدة حول سبب “تكدس” الطائرة الأولى بأهم قيادات شركة “فاجنر”، وهو ما يخالف “الحرص” الذي كان يتسم به “بريجوزين”.

الطائرة المنكوبة كانت تقل على متنها عشرة أشخاص، من بينهم ثلاثة هم طاقم الطائرة “طيار ومساعده ومضيفة”، بجانب سبعة ركاب، يتقدمهم “يفجيني بريجوزين”، ويليه مؤسس شركة “فاجنر” وثاني أهم رجل فيها “ديمتري أوتكين” الذي كان سابقًا ضابطًا رفيعًا في القوات الخاصة الروسية، و”فاليري تشيكالوف” أحد أقرب أصدقاء “بريجوزين” والمسئول عن الإمداد والتموين وكان مشرفًا على جميع المشاريع المدنية لشركة فاجنر في الخارج، بما في ذلك مشاريع النفط والزراعة.

يضاف إليهم كل من “يفجيني ماكاريان” وهو ضابط شرطة روسي سابق وانضم إلى الشركة في مارس 2016، سبق وتعرض للإصابة في سوريا بعد أن هاجمت طائرات أمريكية القافلة التي كان فيها في يناير 2017؛ و”سيرجي بروبوستين”، وهو أحد المقاتلين السابقين ضمن القوات الروسية في الشيشان، وانضم “لفاجنر” في مارس 2015 وتولى منذ ذلك التوقيت قيادة ما يعرف بـ “مفرزة الهجوم والاستطلاع الثانية”؛ و”نيكولاي ماتوسيفيتش”، الذي انضم إلى فاجنر في يناير 2017، وخدم أيضًا في سوريا.

السيناريوهات المتاحة لتفسير هذا الحادث تبدو محدودة، ما بين سيناريو الخلل التقني أو الميكانيكي، أو سيناريو التخريب المتعمد، أو سيناريو الإسقاط المباشر. وبما أنه حتى الآن لم تتوفر البيانات الفنية الخاصة بالصندوق الأسود المرتبط بالطائرة المنكوبة، يمكن القول إنه من الصعب الجزم بسبب تحطم هذه الطائرة، رغم أن بعض المؤشرات ربما تجعل من فرضية التخريب مرجحة؛ إذ تشير بعض التقديرات إلى أن عبوة ناسفة مثبتة في منطقة ما من محرك أو جناح الطائرة ربما تسببت في سقوطها.

هذه التقديرات تستند إلى مؤشرات ربما تكون مرتبطة بالسياق العام الذي تمت فيه هذه الحادثة، أكثر من ارتباطها بمجريات الحادث نفسه؛ فعودة “بريجوزين” المفاجئة من أفريقيا إلى موسكو، بعد يوم واحد من التسجيل المصور الذي دعا فيه إلى انضمام موظفين جدد لشركته.

هذا بجانب إعلان وزارة الدفاع الروسية -صباح يوم سقوط الطائرة- عن إعفاء الجنرال “سيرجي سوروفيكين”، قائد القوات الجوفضائية الروسية، وتعيين رئيس أركان القوات الجوية، الجنرال فيكتور أفزالوف، بدلًا منه، وهو تصرف له دلالات تتعدى مجرد إحداث تغييرات في صفوف القوات الجوية الروسية؛ فـ “سوروفيكين” كان غائبًا عن الأنظار منذ تمرد “فاجنر”، واتهمته أوساط صحفية روسية بأن كان مؤيدًا لتحرك “بريجوزين”، حيث أثنى هذا الأخير على “سوروفيكين”، وطالب بأن يتم تعيينه رئيسًا للأركان العامة. هذه الاتهامات كانت بشكل أو بآخر مبنية على قناعة أن كلا الرجلين على علاقة وثيقة، رغم أن “سوروفيكين” قد نشر خلال تمرد “فاجنر” تسجيلًا مصورًا يحث “بريجوزين” على سحب عناصره من الشوارع.

هذه التفاصيل ان ربطناها ببعض العوامل المتعلقة بأن شكل عملية “إسقاط الطائرة” -أن تأكدت عملية الإسقاط- يبدو انتقامًا للطيارين الروس الذين قًتلوا بعد إسقاط طائراتهم خلال تمرد “فاجنر”، قد نصل إلى قناعة أن فرضية إسقاط الطائرة تبدو هي الأقرب حتى الآن، وأن الأقرب في هذا الصدد هو تخريب الطائرة وليس إسقاطها بصواريخ دفاع جوي؛ فالطائرة المنكوبة غابت عن أجهزة “الرادار” خلال تحليقها على ارتفاع يبلغ 28 ألف قدم، وهو ما يجعل إمكانية استهدافها بصواريخ الدفاع الجوي محصورة في الأنظمة المتوسطة وبعيدة المدى، والتي كانت ذخائرها بالقطع ستحدث آثارًا مدمرة بجسد الطائرة، وإن كانت هذه الفرضية لا تنفي إسقاط الطائرة عن طريق صاروخ جو-جو.

في الخلاصة، يمكن القول إن رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هذا الحدث، والذي تمت ملاحظته خلال الاحتفال بالذكرى الثمانين لمعركة “كورسك”، ربما يؤشر إلى ارتياحه للمصير الذي آل إليه “بريجوزين”، خاصة أن “بوتين” قد قال في مناسبات عدة إن “الخيانة” بالنسبة له أمر لا يمكن غفرانه، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر الضربة القوية التي تلقتها شركة “فاجنر” موجهة فقط لها، بل أيضًا للتيارات الأساسية في الداخل الروسي، بداية من المعارضة الليبرالية، مرورًا بالقوميين المتطرفين، وصولًا إلى طبقة رجال الأعمال، وكلها تيارات كانت لها انطباعات “غاضبة” مما حدث خلال وبعد تمرد فاجنر، سواء طريقة تعاطي موسكو مع هذا التمرد، أو التحركات والقرارات الخاطئة في أوكرانيا التي أدت إلى هذا التمرد.

لكن ماذا عن تأثير ما حدث على شركة “فاجنر” نفسها؟، واقع الحال أنه -بالنظر إلى ما تقدم- يمكن القول إن الزخم الذي تتمتع به هذه الشركة قد تم تقليصه بشكل حاد خلال الشهرين الماضيين، حيث لم تلعب الشركة أي دور في أوكرانيا منذ التمرد، لذا لا يرجح ان يكون لهذه التطورات تأثير على المجريات الميدانية في أوكرانيا. وبالنظر إلى عدم اتضاح ماهية القيادة الجديدة لشركة “فاجنر”، واقتصار ردود الفعل الصادرة عنها على مقطع قصير تحدث فيه ثلاثة ملثمين عن “الاستعداد لما هو قادم”؛ لا يمكن الجزم بتأثيرات وفاة “بريجوزين” على الداخل الروسي الذي قد يشهد تصدعات إضافية نتيجة لتأثيرات المعارك في أوكرانيا والتي باتت تمس الداخل الروسي ميدانيًا ونفسيًا، لكن في نفس الوقت لا يعد مرجحًا أن يكون لوفاة “بريجوزين” أي تأثير على الميدان الأوكراني أو الانخراط الروسي في أفريقيا، حيث بدأت عمليًا هندسة هذا الأخير على يد الفريق “يفكوروف”.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/79077/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M