البحث عن أُفُقٍ للتسوية: تزايُد احتمالات الحل السلمي للصراع في السودان

نقاط أساسية

  • بعد مرور سبعة أشهر على اندلاع الحرب السودانية، تبرز لأول مرة فرصة حقيقية للحل السلمي، من خلال ثلاثة مسارات رئيسة: مسار جدة التفاوضي برعاية سعودية وأمريكية؛ ومسار جوبا؛ ومسار أديس أبابا الذي يشكل أوسع إطار حتى الآن للحوار والتفاوض حول الحل السياسي المنشود في السودان. 
  • برزت مؤشرات واضحة على استعداد الطرفين المتحاربين في السودان لتوقيع اتفاق هدنة طويلة، على أن تسعى الجبهة المدنية العريضة التي تأسست في اجتماع أديس أبابا لبناء الحل السياسي السلمي بمساعدة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالصراع. 
  • يبدو أن مسار الحل السياسي في السودان مرجح في المدى المنظور، مع أنه سيكون عسيراً وبطيئاً. ومن المتوقع أن يبدأ بإعلان هدنة دائمة في محادثات جدة بضغوط أمريكية سعودية، كما أن الأطراف السودانية المتحاربة قد تكون توصلت إلى قناعة قوية باستحالة حسم الصراع عسكرياً.

 

تزامنت في الآونة الأخيرة ثلاث مبادرات مهمة في حل الأزمة السودانية: لقاء جدة بوساطة سعودية أمريكية وحضور ممثل أفريقي بين الفرقاء المتصارعين من الجيش وقوات الدعم السريع؛ ولقاء أديس أبابا بين القوى المدنية والحركات المسلحة ومكونات المجتمع المدني السوداني؛ ولقاء جوبا بين قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا تحت رعاية رئيس جمهورية جنوب السودان.

 

تهدف الورقة إلى تحليل مستجدات الوضع السوداني، في أفق ما تعتبر أنه إمكانٌ جدي لحل الأزمة السياسية العسكرية السودانية.

 

الوضع العسكري الراهن في السودان 

على الرغم من التغير السريع لموازين القوة العسكرية منذ اندلاع الصراع المسلح في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يمكن استجلاء المعطيات الأخيرة التي لا شك أن لها تأثيراً حاسماً في رسم مستقبل الحل السياسي في السودان. من أهم هذه المعطيات التقدم الظاهر لقوات الدعم السريع في إقليم دارفور ومحيط كردفان، بما يؤسس لمعادلة عسكرية على الأرض لها أثرها المكين على المفاوضات السياسية الجارية. ففي نهاية شهر أكتوبر سيطرت قوات الدعم السريع على ثاني أكبر مدن السودان من حيث الكثافة السكانية، وهي نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، واستطاعت دحر قيادة الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش السوداني، بما عزز قبضتها التامة على الولاية بكاملها. والمعروف أن هذه الولاية هي أغنى مناطق إقليم دارفور، والمحور التجاري الأساسي له، ولها حدود مشتركة مع تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية جنوب السودان. كما أن قوات الدعم السريع أعلنت سيطرتها على مقر الجيش في زالنجي بولاية وسط دارفور، بما يعني إخراج الجيش كلياً من إقليم دارفور بحسب صحيفة “التغيير” السودانية. وذكرت مواقع إخبارية سودانية أن قوات الدعم السريع سيطرت على مطار بليلة في غرب كردفان الذي كان مخصصاً للاستخدام النفطي، كما أنها سيطرت على أجزاء من الحقل النفطي التابع لشركة “بتروإنرجي”.

 

ومن الجلي أن قوات الدعم السريع تريد السيطرة على منافذ النفط السوداني، وعلى محاور التجارة الرئيسة مع البلدان الأفريقية المجاورة، بما ينجم عنه تحكمها في شريان الاقتصاد السوداني.  ولعل العقبة الرئيسة التي تواجه مشروعها في الإقليم سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو على مناطق من جنوب كردفان (مدينة كاودا وما جاورها). ولم يوقّع هذا الفصيل اتفاق جوبا (أغسطس 2020)، وإن وقع إعلان هدنة وحسن نوايا مع الفريق عبد الفتاح البرهان في مارس 2021، إلا أن الحركة حاولت منذ أغسطس الماضي استغلال ظروف الحرب الجارية للتمدد في ولاية جنوب كردفان، وسيطرت بالفعل على بعض المواقع الأساسية فيها. وإذا كان بعض المصادر تحدث عن إمكانية إعلان الحركة دولة مستقلة في جنوب كردفان بعد إكمال السيطرة عليها، الا أن الحلو ينفي هذه الإشاعات. ومع أن مصادر سودانية أكدت أن الفريق البرهان التقى بالحلو في مدينة أسمرة في بداية سبتمبر الماضي، وطلب منه الانضمام للجيش في محاربته لقوات الدعم السريع، إلا أن الحركة الشعبية نفت هذه الأخبار، الأمر الذي يعزز الانطباع أن قوات الحركة تبنت موقفاً حيادياً من الصراع العسكري المحتدم في السودان، وليس من المستبعد أن يؤدي تقدم قوات الدعم السريع في إقليمَي دارفور وكردفان إلى الشراكة السياسية بين المجموعتين، وذلك ما تحدثت عنه مصادر سودانية منذ يونيو الماضي.

 

ويبدو من استقراء الموقف العسكري في السودان أن العاصمة المثلّثة تم تحييدها بالكامل، رغم استمرار المعارك في نقاط حيوية، مثل مقر سلاح المدرعات ومقر القيادة العامة في الخرطوم ومعسكر القوات الخاصة في أم درمان. ويتلخص الوضع حالياً في احتفاظ الجيش ببعض المراكز العسكرية الحيوية في العاصمة، في حين تسيطر قوات الدعم السريع على أغلب الأحياء والمواقع المدنية، بما يفرض على المجلس العسكري الحاكم الانتقال إلى إقليم بورتسودان في شرق السودان، الذي يشكل اليوم المركز السياسي للنظام السوداني.

 

ثلاثة مسارات للحل السياسي 

بعد مرور سبعة أشهر على اندلاع الحرب في السودان، تبرز لأول مرة فرصة حقيقية للحل السلمي، من خلال ثلاثة مسارات رئيسة:

 

الأول، مسار جدة الذي انطلق منذ 6 مايو عبر وساطة سعودية-أمريكية للمفاوضات المباشرة بين الفصيلين المتحاربين. وكان المسار قد أفضى في 11 مايو إلى اتفاق أولي يتضمن مجموعة من الالتزامات تدور حول تجنيب المدنيين ويلات الحرب، وتسهيل عمليات الإغاثة الإنسانية والطبية، والعمل على النقاش من أجل وقف إطلاق النار بين المتنازعين. وعلى الرغم من أن مفاوضات جدة ضَمنت توقيع اتفاقيات قصيرة للهدنة ووقف إطلاق النار، إلا أنها لم تحُل دون تفاقم الحرب، بل توقفت عملياً إثر الشروط التي طرحها ممثلو الجيش السوداني (خروج قوات الدعم السريع من المقار المدنية، وتسهيل المساعدات الغذائية والصحية). بيد أن الطرفين قبلا اللقاء دون شروط في جدة في 26 أكتوبر، برعاية سعودية وأمريكية وحضور ممثل عن مجموعة “الإيغاد” ينوب عن الاتحاد الأفريقي.

 

وكما هو مسلك مسار جدة منذ البداية، ليست للمفاوضات أي سياقات سياسية، بل إنها تسعى -بحسب بيان لوزارة الخارجية السعودية- إلى أهداف محدودة تتمثل في “تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وتحقيق وقف إطلاق النار، وإجراءات بناء الثقة، فضلاً عن إمكانية التوصل لوقف دائم للأعمال العدائية”. أما ممثل الجيش السوداني فقد طرح خارطة طريق من أربعة مراحل: الفصل بين القوات، ودفع العملية الإنسانية، وتوحيد الجيش بضم قوات الدعم السريع، والدخول في عملية سياسية تفضي إلى دستور جديد للبلاد. وبحسب المعلومات التي تسربت من مفاوضات جدة، فقد اتفق الطرفان على المحددات الكبرى للحل، ولا يزال الاختلاف محصوراً في نقاط جزئية، مثل مواقع التفتيش ومساحات وشروط انسحاب قوات الدعم السريع وطبيعة الضمانات الدولية للحل.

 

اقرأ أيضاً:

 

ومما يعزز الأمل بإمكانية التوصل إلى هدنة عسكرية دائمة بين الطرفين، الضغوط الأمريكية التي وصلت حد التهديد بفرض عقوبات على الطرف الذي يعرقل اتفاق الهدنة، بما يفسَّر بحرص الولايات المتحدة على إطفاء إحدى بؤر التوتر الكبرى في المنطقة في سياق الأزمة الحادة التي خلقتها حرب غزة. وفضلاً عن هذا العامل، تتعين الإشارة إلى الانفصام المتزايد بين الجيش السوداني والتيار الإخواني من أنصار النظام السابق الذي يُعتقد أنه يعترض بشدة على أي اتفاق سلمي بين الطرفين المتحاربين، ويدعو إلى الاستمرار في الحرب لحسم الصراع القائم.

 

وبحسب مصدر أفريقي قريب من مفاوضات جدة، يبدو أن الطرفين أعطيا ضمانات مؤكدة لوقف إطلاق النار في إعلان هدنة طويلة، بعد أن توصلا إلى قناعة صلبة باستحالة حسم الصراع الدائر عسكرياً. فبخصوص الجيش، يتزايد التخوف من اتساع تمدد قوات الدعم السريع في كردفان والوصول إلى النيل الأزرق، خصوصاً مع الانطباع السائد بأن بعض دول الإقليم، مثل كينيا وإثيوبيا، تدعم قوات حميدتي، أما قوات الدعم السريع فتخشى العقوبات التي هددت بها الإدارة الأمريكية مع تزايد المعلومات حول انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان تقوم بها الحركة في المناطق التي تسيطر عليها. إلا أن هذا الاتفاق، وإنْ كان من المرجح أن يؤدي إلى هدنة عسكرية دائمة، لكنه لن يكون كافياً لتحقيق المصالحة السياسية الداخلية في السودان.

 

الثاني، مسار جوبا؛ فقد التأم في 24 أكتوبر في جوبا الاجتماع التشاوري بين الحركات المسلحة السودانية الموقعة على إعلان جوبا وحكومة جنوب السودان بمشاركة حكومة البرهان ممثَّلةً بمالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة ورئيس أحد جناحي الحركة الشعبية. وقد أفضى الاجتماع إلى دعوة كل مكونات الطيف السياسي السوداني إلى مفاوضات سلام موسعة في جوبا، مع إشراك الأطراف الإقليمية المعنية مثل مصر وتشاد ودولة الإمارات. وإذا كانت هذه الحركات شكلت في السابق دعامة لحكومة البرهان إلا أنها شهدت عملية تفكك واسعة بعد الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع. ففي حين لا تزال حركة “العدل والمساواة ” بزعامة وزير المالية جبريل إبراهيم وحركة “جيش تحرير السودان” جناح مني أركو مناوي تدعم إجمالاً الجيش السوداني، إلا أن بعض الفصائل المهمة انسحبت من جبهة السلطة، مثل “الحركة الشعبية – التيار الثوري” التي انفصلت عن الحركة الأم التي يقودها حالياً نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، وحركة “تمازج ” التي انضمت إلى قوات الدعم السريع، وشمل التصدع حركة “العدل والمساواة” بانفصال أحد قادتها وهو سليمان صندل مع عدد من أهم زعاماتها.

 

ويبدو من المؤشرات البارزة، أن حكومة البرهان لا تمانع في إسداء دور محوري لرئيس جنوب السودان سيلفا كير في مسار المصالحة السودانية، على عكس الرئيس الكيني وليام روتو الذي تتهمه بالانحياز لقوات الدعم السريع. إلا أن مسار جوبا لا يبدو قادراً على تحقيق الأهداف المرجوة منه، نتيجة لتضارب مصالح ومواقف الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وبالنظر إلى تحفظ معسكر حميدتي من وساطة جمهورية جنوب السودان التي يتهمها بالانحياز لنظام البرهان.

 

الثالث، مسار أديس أبابا؛ الذي انطلق في 28 أكتوبر بحضور كثيف من مختلف ألوان الطيف السياسي السوداني، مثل قوى الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية (من أبرز مكوناتها الحركات المسلحة المنشقة عن تكتل الحرية والتغيير، مثل جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، والحزب الاتحادي جناح محمد عثمان الميرغني)، ومجموعة أطراف السلام في جوبا والجبهة الوطنية لقبائل البيجا في شرق السودان، بالإضافة إلى عدد من لجان المقاومة الشعبية والتنظيمات النقابية. ولا شك في أن هذا الاجتماع يشكل أوسع إطار حتى الآن للحوار والتفاوض حول الحل السياسي المنشود في السودان، وقد أفضى إلى تشكيل جبهة مدنية عريضة من أجل تنظيم “المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” (تقدم)، لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية في البلاد. ويرأس هذه الجبهة رئيس الحكومة السابق عبدالله حمدوك الذي يتمتع بثقة عالية من مختلف مكونات الطيف السياسي السوداني. ولقيت هذه المبادرة دعم الأطراف الإقليمية والدولية، ولا شك في أنها تمثل خطوة مهمة لتحقيق السلم والمصالحة في السودان، ولم يعترض عليها علناً إلا التيار الإخواني، كما يُعتقد أن المجلس العسكري بقيادة الفريق البرهان غير متحمِّس لها.

 

آفاق الحل السياسي في السودان 

بالنظر إلى المعطيات السابقة، يبدو أن مسار الحل السياسي في السودان مرجح في المدى المنظور. ومن المتوقع أن يبدأ بإعلان هدنة دائمة في محادثات جدة بضغوط أمريكية سعودية، كما أن الأطراف السودانية المتحاربة قد تكون توصلت إلى قناعة قوية باستحالة حسم الصراع عسكرياً. وفي المسار السياسي، قد ينتج عن مؤتمر القوى المدنية الموسع برئاسة عبد الله حمدوك برنامجاً للحل السياسي مدعوماً من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والأطراف الأوربية الوسيطة، وإن كان تطبيقه سيكون صعباً وبطيئاً.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/tazayud-aihtimalat-alhal-alsilmi-lilsirae-fi-alsuwdan

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M