توضح النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل أن القضاء على حماس في القطاع لا يضمن كليًا أمن إسرائيل، فإن قطاع غزة يمثل مشكلة في حد ذاتها لإسرائيل، وبالتحديد جنوب القطاع، والتي لا يزال يتعين على الجيش الإسرائيلي أن يأخذها في الاعتبار. ولا توجد حتى الآن خطة متماسكة وواضحة لليوم التالي لدى إسرائيل، لأنها ترتجل الرؤية والطرح والخيارات الممكنة اعتمادًا على تقدم قواتها على الأرض، ومدى تحقيق انفراجة في الملفات السياسية المرفقة بالحرب مثل “ملف المحتجزين”.
وبحسب المؤشرات فإن تصور إسرائيل للحكم المحلي في غزة سيكون على أساس مسئولين محليين وأفراد لا ينتمون إلى حماس. في الواقع، هناك هيئات حكم بأكملها في قطاع غزة لا تزال تتلقى رواتبها من السلطة الفلسطينية (114 مليون دولار سنويًا، حسب بيانات وزارة المالية الفلسطينية لعام 2023)، بعد 16 عامًا من سيطرة حماس على القطاع.
(**) من المحتمل أن يقوم مستقبل غزة على الخطوط التالية:
- ستضخ الدول العربية الأموال من أجل استقرار الوضع الإنساني، وفي المرحلة الأولى سيواصل الجيش الإسرائيلي والشاباك السيطرة على الأمن في قطاع غزة. لكن إسرائيل ليس لديها أي نية للسيطرة على القطاع، وطموحها هو الخروج من غزة في أسرع وقت ممكن، ولكن فقط بعد ضمان أمن سكان الجنوب ومنع إطلاق الصواريخ.
- وبحسب الفكرة الناشئة، بعد ذلك ستكون هناك مرحلة أو مرحلتان أخريان من التسوية الدائمة في قطاع غزة ستستمر لعدة أشهر، حيث سيكون للسلطة الفلسطينية سيطرة مدنية على قطاع غزة، لكن جهاز الشاباك والجيش الإسرائيلي سيكون لديهم حرية العمل الاستخباراتي وشن عمليات عسكرية نوعية ومحدودة، كما هو الحال في المنطقة (ب) في الضفة الغربية (ربما يفسر ذلك سبب اختيار نتنياهو جهاز الشاباك ليكون مسئولًا عن العمليات العسكرية في شمال غزة؛ بسبب تهيئته لدور مستقبلي يشبه دوره في الضفة الغربية حاليًا)، ويقترح الأمريكيون أن تكون هناك في هذه المرحلة قوة شرطة دولية غير أمريكية في القطاع.
- تحديد آلية لتسهيل الحكم المؤقت من خلال تحالف دولي إلى أن يتم تشكيل حكومة فلسطينية مستقرة بالقدر الكافي. وسوف تتطلب مثل هذه الخطة الانتقالية قيادة سياسية، وجهودًا دبلوماسية، وقبول السلطة الفلسطينية، والتعاون مع الحكومات الأخرى في المنطقة.
- ستكون هناك مناطق عازلة أمنية على أطراف القطاع يمكن للفلسطينيين أن يوجدوا فيها للعمل الزراعي، لكنهم لن يتمكنوا من البقاء هناك لفترة طويلة، وبالتأكيد لن يتمكنوا من حمل السلاح أو إقامة نقاط مراقبة ضد إسرائيل، ومن المحتمل أن يكون الشاباك مسئولًا عن تلك المنطقة بجانب قوات إسرائيلية محدودة ومرنة في الحركة.
- سيكون للشاباك هدفان رئيسيان:
- الأول هو منع إلحاق الضرر بقوات الجيش الإسرائيلي التي سيتم نشرها في جميع أنحاء القطاع. أو إلى أولئك الذين سيدخلون القطاع لاحقًا لتنفيذ مهام وفق نموذج المنطقة (ب) في الضفة الغربية. لأنه من المتوقع أن تظهر عناصر جديدة و/أو عناصر أخرى لحماس في قطاع غزة، كما حدث في لبنان.
- الثاني سيكون عبارة عن نشاط لتحديد مواقع أعضاء حماس في المكتب السياسي الذين سيبقون في المنطقة. ومن المتوقع أن يستنفد الشاباك بسرعة الميزة الكبيرة المتمثلة في عودته الفعلية إلى قطاع غزة مع موظفين ميدانيين ذوي خبرة، وأن يجدد الاتصالات مع العملاء السابقين وأن يستخدم قدرات استخباراتية أخرى، على الرغم من أن التنظيم واجه صعوبة كبيرة في صياغة صورة واسعة كما حدث في عام 2013. غياب التحذير قبل 7 أكتوبر، لكن بعودته إلى غزة ستظهر ميزته في منع إرهاب محدد.
- بحسب الطلب الأمريكي فإن المرحلة الأخيرة ستكون مفاوضات سياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ربما في إطار مؤتمر دولي وتحت رعاية إقليمية عربية ودولية وأممية.
- ووفقًا للإدارة الأمريكية على الأقل في الوقت الحالي (أي الإدارة الديموقراطية)، فإن الهدف يتلخص في التوصل إلى وضع حل الدولتين، مع وجود ممر يربط بين غزة والضفة الغربية. وفي كل الأحوال، فمن غير المتوقع من الحكومة الإسرائيلية الحالية أن تعمل على تشجيع المفاوضات الفعلية التي من شأنها أن تؤدي إلى حل هذه المشكلة. لذلك فليس من المستبعد بأي حال من الأحوال أن تبحث الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب جدًا بديلًا سياسيًا توافقيًا داخل إسرائيل بعيدًا عن نتنياهو. يستدل على ذلك أن هناك مجموعة من النخبة السياسية في إسرائيل تحاول الترويج لنفسها أمام الولايات المتحدة عبر إطلاق تصريحات تؤيد حل الدولتين؛ أملًا في خلق خط اتصال مع المؤسسات الأمريكية، وبالتالي احتمالية التمهيد لجعله رئيس وزراء إسرائيل القادم، على سبيل المثال “إيهود باراك” الذي صرّح بتأييده مبدأ حل الدولتين.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل سيكون لها دور أمني في غزة “لفترة غير محددة” بمجرد انتهاء العمليات القتالية الكبرى، حسبما أفادت شبكة “إيه بي سي نيوز” في 6 نوفمبر. وهذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها مسئول إسرائيلي كبير بهذا الدور.
(**) بمجرد انتهاء العمليات القتالية الكبرى في غزة، من المرجح أن تُبقي إسرائيل قواتها في مواقع رئيسية في جميع أنحاء قطاع غزة لمنع حماس والمقاتلين المسلحين الآخرين الباقين على قيد الحياة من تنظيم واستعادة القطاع، بينما تسعى إسرائيل إلى حل حكم طويل الأمد في غزة. ويتلخص الحل الأكثر ترجيحًا وجدارة بالثقة في تكرار الاستراتيجية الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي بموجبها تحتفظ إسرائيل بالإشراف العسكري (ومؤخرًا، كميات متزايدة من الرقابة المدنية) على المستوطنات الإسرائيلية في حوالي ثلثي الضفة الغربية. وبموجب هذا الترتيب، لا يزال يتعين على القوات الإسرائيلية توسيع المسئوليات الأمنية في غزة، الأمر الذي سيؤدي إلى هجمات على القوات الإسرائيلية ومقتل الفلسطينيين.
تُعد قدرة إسرائيل على إدارة فراغ السلطة في مرحلة ما بعد الصراع أقل تأكيدًا. إذ سحبت إسرائيل قواتها من غزة عام 2005 بعد 38 عامًا من الاحتلال ولا تريد تحمل مسئولية حكم القطاع بعد سقوط حماس. ومع ذلك، بمجرد خروج حماس، فمن المرجح أن تتطلع إيران إلى إدخال هيكل أكثر راديكالية لإبقاء إسرائيل غارقة في مستنقعها. وبمجرد انتهاء الحرب البرية، من المرجح أن تشرع إسرائيل في تحييد هذا السيناريو بشكل دائم، وهو ما يستوجب معه استمرار خط الردع الذي تقدمه الولايات المتحدة أمام إيران لأطول فترة ممكنة.
(**) بالنسبة إلى القارة الأوروبية، إن الصعوبات في التوفيق بين مواقف دول الاتحاد الأوروبي المختلفة بشأن القضية الإسرائيلية الفلسطينية تعني أن الكتلة الأوروبية من المرجح أن تستمر في لعب دور هامشي في الأزمة، خاصة وأن التصعيد المحتمل للغزو البري الإسرائيلي لغزة سيؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية في الاتحاد الأوروبي. وهذا من شأنه أن يحد بشكل أكبر من قدرة الاتحاد الأوروبي على التأثير في مستقبل الصراع، والمساعدة في تهدئة التوترات وتعزيز نتائجه المفضلة، مثل حل الدولتين.
أما بالنسبة للحرب في أوكرانيا، فبينما لا يزال من الممكن التوصل إلى اتفاق بشأن حزمة المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي بقيمة 50 مليار يورو بحلول نهاية هذا العام، فإن استمرار الوضع السيئ في الشرق الأوسط قد يخاطر بتحويل الاهتمام والموارد بعيدًا عن أوكرانيا، وخاصة إذا تصاعد الصراع إلى ما هو أبعد من ذلك. مما يجعل من الصعب على بروكسل التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول الأعضاء بشأن حزم كبيرة أخرى من الدعم المالي والعسكري لكييف. وأخيرًا، تؤدي الأزمة في الشرق الأوسط أيضًا إلى تفاقم الانقسامات بين الاتحاد الأوروبي (وكذلك الغرب على نطاق أوسع) والجنوب العالمي، وكذلك بين الكتلة وجوارها الجنوبي (شمال أفريقيا) على ما ينظر إليه كثيرون. الدول بازدواجية المعايير في دعم كل من أوكرانيا وإسرائيل. وهذا من شأنه أن يزيد من تعقيد الجهود الغربية لتوسيع التعاون الدولي وراء العقوبات الاقتصادية ضد روسيا من خلال تنفير دول الجنوب العالمي، وخاصة في العالم الإسلامي.
ملاحظات ختامية
- تطرح إسرائيل مفهوم “اليوم التالي” منذ وقت سابق على العملية البرية لعدة دوافع، وهي:
- طمأنة الولايات المتحدة على وضوح الرؤية المبدئية لدى إسرائيل فيما يتعلق بتصرفها السياسي والعسكري في غزة، وشرعنة وجودها العسكري في غزة فيما بعد.
- صياغة خطوط رئيسية لسياسات إسرائيل المستقبلية حيال قطاع غزة، وحركة حماس، والتعاون مع الولايات المتحدة في إطار العمل العسكري والأمني المشترك بالتوافق مع دول المنطقة.
- استباق التحرك العربي فيما يتعلق بغزة، واحتكار إسرائيل دفة قيادة المسارات المستقبلية في غزة، وهو ما يدلل على غياب رؤية عربية موحدة ومتكاملة. باستثناء مصر والتي من المرجح أن تشرع في جهد دبلوماسي تجاه الدول العربية لتقديم رؤيتها إلى المجتمع الدولي والجهات المعنية.
- تقليل فرص تأثر التيار اليميني واستمرار حكم نتنياهو بالسلب جرّاء الإخفاق الكبير الذي أدى إلى حرب حقيقية بين إسرائيل وغزة؛ ألقت بتداعياتها الشاملة على حياة الإسرائيليين.
- تأتي أحد أهم الدوافع الإسرائيلية لشن عملية برية حتى ولو كانت توقعاتها أقل من المأمول، للتالي:
- زيادة فرص تطوير المجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي، وخاصة بعد نجاح جهاز الأمان التابع للجيش الإسرائيلي في تطوير مجتمع استخباراتي “عدن” والذي يشمل أربعة أقسام للعمل الاستخباراتي، وهو أمر غير مسبوق.
- زيادة فرص التعاون العسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة والذي يأتي أحد الاحتمالات إلى مسار توقيع اتفاق دفاع مشترك.
- زيادة فرص ترميم العلاقات المدنية العسكرية في إسرائيل، والتي تدهورت بسبب مشروع الإصلاح القضائي، ولكن في الواقع تحسنت نسبيًا بسبب حكومة الحرب.
- زيادة فرص ترميم الجبهة الداخلية للمجتمع الإسرائيلي، والتي تدهورت كذلك بسبب مشروع الإصلاح القضائي، ولوحظ اتجاه إيجابي في التماسك المجتمعي الإسرائيلي على الرغم من أنه سيكون مؤقتًا فقط.
- محاولة تحييد إحدى أهم الجبهات المفتوحة على إسرائيل التي تشمل حركتي حماس والجهاد الإسلامي التي تعملان بالتنسيق مع حزب الله في الشمال. ولكن تظل هذه المحاولة تحمل سيناريوهات مفتوحة غير مؤكدة بعد.
المصدر : https://ecss.com.eg/38316/