العلاقة الفرنسية- الصينية المتأرجحة وسط الصدام بين عالمين

أتت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى فرنسا يومي 6 و7 مايو/أيار الجاري، في خضم التنافس الاقتصادي الحاد وعودة دورة الحروب إلى العالم. وأراد الجانبان هذه المناسبة لتخليد الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وكان هناك رهان من الرئيس إيمانويل ماكرون على إمكانية تحسين قواعد التبادل الاقتصادي الفرنسي والأوروبي مع بكين، وإقناع نظيره الصيني بالتأثير على الكرملين لتخفيف اندفاعته في حرب أوكرانيا.

ويتضح أن الرئيس شي جين بينغ لم يُلن مواقفه وهو الذي بدأ في باريس جولة أوروبية تشمل صربيا والمجر، ليدلل على اختراق بلاده للقارة القديمة، نظرا لحجم استثماراتها في بلغراد وبودابست، ورفض هاتين العاصمتين “الاصطفاف” الأوروبي مع واشنطن.

الروابط الصينية- الفرنسية على محك الاضطراب العالمي

توقع نابليون بونابرت قبل قرنين من الزمن الصعود الصيني، وينسب إليه حينها قوله: “هناك في أقصى الشرق عملاق نائم… اتركوه، لأنه عندما يستيقظ سيهتز العالم”. والعبارة نفسها تقريبا وردت على لسان السياسي الفرنسي آلان بيرفيت سنة 1973 في مؤلفه “عندما تستيقظ الصين سيرتجف العالم”. واليوم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يتأكد وزن التنين الصيني على المسرح الدولي، وترقب فرنسا باكرا لهذا الحدث والتعاطي معه بواقعية.

 

رويترز رويترز

الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يرحب بنظيره الصيني شي جينبينغ في مطار تارب في 7 مايو 

عشية وصوله إلى باريس، خص الرئيس الصيني صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية بمقالة عن أهداف زيارته. وكان لافتا تركيزه على البعد التاريخي وإشادته بالجنرال شارل ديغول الذي اتخذ في عام 1964 قرار إقامة العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والصين الشعبية. وقال شي جين بينغ: “وفق رؤية استراتيجية، أتى قرار ديغول الصعب الذي عبر عن شعور بالاستقلال إبان احتدام الحرب الباردة، لكنه كان قرارا صحيحا وعادلا ورؤيويا، كما برهنت الوقائع لاحقا”. وأضاف الرئيس الصيني: “لقد أرست هذه المبادرة الريادية جسور المبادلات بين الشرق والغرب، وأسهمت في تطوير العلاقات الدولية باتجاه الحوار والتعاون”.

 

أبدى الرئيس الصيني تحفظاته على أي تبديل في قواعد التنافسية من خلال نفي اتهام بلاده بإغراق الأسواق، رافضا تقديم أي تنازلات للجانب الأوروبي

 

 

وعلى هذا النسق من إيلاء الأهمية لبناء علاقات ودية شخصية ومباشرة كما حصل مع المستشارة أنغيلا ميركل التي زارت الصين بشكل دوري منتظم طوال أعوام حكمها، بادر الرئيس الصيني إلى دعوة ماكرون خلال زيارته الأخيرة إلى الصين عام 2023 لزيارة مقر إقامة حاكم مقاطعة كوانغدونغ، حيث كان يعيش والد الرئيس الصيني ذات يوم. لذا حرص الرئيس الفرنسي في لفتة شبيهة بدعوة الرئيس شي إلى ممر تورماليه في أعالي جبال البيرينيه جنوب غربي فرنسا، في هذا المكان الذي أمضى فيه ماكرون عطلات كثيرة لدى جدته عندما كان طفلا، آملا في أن “تلهمهم الجبال لتكون المباحثات ودية ومثمرة”.
لكن ذلك لم يكن له وزنه، إذ لطالما راهن الرئيس ماكرون أو فريقه على هذا العامل في سياسات فرنسا الخارجية بطريقة مبالغ فيها، لأن العلاقات الشخصية لا تبدل الأمور إلا نادرا، وبعض المرات كما في حالة الرئيس شي جين بينغ الذي لا يبدو أنه يولي أهمية للعواطف في تحديد مقارباته ويصل الأمر عند بعض عارفيه للقول إنه “أقرب إلى ستالين منه إلى ماو تسي تونغ”.
بعيدا عن الاعتبارات الشخصية، ومنذ اليوم الأول للزيارة دافع كل طرف عن مواقفه ولم يحد عنها. وكما خلال زيارة 2019 إلى باريس. أراد ماكرون منحها بعدا أوروبيا مع دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين من أجل الدفع نحو علاقات أكثر توازنا مع الصين وكان ماكرون يأمل في إقناع شي بتقليص الفجوة التجارية بين أوروبا والصين من خلال توفير فرص أفضل للشركات الأوروبية في السوق الصينية وتقليل الدعم الحكومي المقدم للشركات الصينية المصدرة، بعدما ناهز العجز التجاري الأوروبي أمام “مصنع العالم” 400 مليار يورو عام 2022، ثم بلغ 291 مليار يورو عام 2023.
لكن الرئيس الصيني أبدى تحفظاته على أي تبديل في قواعد التنافسية من خلال نفي اتهام بلاده بإغراق الأسواق، رافضا تقديم أي تنازلات للجانب الأوروبي، معتبرا أنه “لا يوجد شيء يسمى مشكلة القدرة الإنتاجية الصينية المفرطة”، فيما أكد ماكرون أن الاتحاد الأوروبي “يرفض منطق فك الارتباط، ويرحب باستثمار وتعاون الشركات الصينية في أوروبا، ويأمل في الحفاظ بشكل مشترك على أمن سلاسل القيمة وسلاسل الإمداد واستقرارها في أوروبا”.

 

التقارب الممكن نظريا بين بكين وباريس على صعيد الأفق الاستراتيجي لإعادة تركيب النظام الدولي، لم ينعكس تفاهما ولو في حده الأدنى على مقاربة الملف الأوكراني

 

 

وأتاحت الزيارة الصينية تقدما على الصعيد الثنائي مع توقيع نحو عشرين اتفاقا تجاريا ومذكرة تفاهم في مجالات من مثل التنمية الخضراء وصناعة الطيران والأغذية الزراعية والتجارة والتبادل البشري. وتعد فرنسا ثالث أكبر شريك تجاري للصين في الاتحاد الأوروبي، بعد ألمانيا وإيطاليا. وسجلت قيمة التجارة بين الصين وفرنسا في العام الماضي 78.9 مليار دولار، حيث بلغت صادرات الصين إلى فرنسا 41.6 مليار دولار، بينما وصلت صادرات فرنسا إلى الصين 37.3 مليار دولار.
يشار إلى أن فرنسا هي أكبر مستثمر أوروبي في الصين في مستحضرات التجميل، والأغذية وطاقة الهيدروجين والطيران والفضاء. ومن بين أبرز أوجه التعاون في السنوات الأخيرة مشاركة شركات صينية في بناء “وادي البطاريات الأوروبي” في العاصمة الفرنسية باريس.
وهذه المرة طغى تصدير الكونياك الفرنسي إلى الصين على جزء من النقاشات. ذلك أنه مقابل تهديد الاتحاد الأوروبي بفرض قيود على صادرات السيارات الكهربائية من الصين، فتحت بكين تحقيقا حول شروط استيراد الكونياك الفرنسي الذي يعتمد على السوق الصينية. ونجح ماكرون في نيل وعد بعدم معاقبة صينية فورية لهذا المورد الحيوي للمزارعين الفرنسيين.
وتندرج المساومات التجارية التي سادت الحوار، ضمن منطق التنافسية وتوازن القوى، فالصين تحتاج إلى السوق الأوروبية لدعم استمرار صعود نموها، والأوروبيون يخشون على اقتصادهم، ما يدفعهم إلى فرض شروط معينة، رغم موقف ألمانيا الخجول في هذه المواجهة. ويتبين أن التكتيك الصيني هو تفضيل التعامل مع كل دولة أوروبية على حدة وعدم التركيز على التعامل مع هذه الدول كمجموعة وهذا يجعل لديها سلم أولويات تحتل فيها ألمانيا المرتبة الأولى ويتيح ذلك لبكين اللعب على التناقضات الأوروبية.
وبعيدا عن الاقتصاد، تبقى هناك قواعد سياسية متينة للحوار الفرنسي- الصيني، إذ تعتبر بكين أن نزعة الاستقلالية الفرنسية يمكن أن تخفف من وطأة الترابط الاستراتيجي الأميركي- الأوروبي، وفي المقابل لا يمكن لباريس إهمال الثقل الصيني في ميزان القوى العالمي وهي التي تخشى من منطق العودة إلى التكتلات المغلقة وترى أنه ليس في صالح الاستقرار العالمي وليس في صالح فرنسا وأوروبا.
وفي هذا الصدد تخشى مصادر دبلوماسية أميركية من “تناغم بين شي وماكرون حيال ضرورة (إعادة هندسة) النظام القديم بشكل يأخذ في الحسبان القوى الأخرى في العالم”. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي زار خلال الأشهر الستة الماضية، الهند والبرازيل، في محاولة لتصوير فرنسا على أنها “جسر” بين دول “البريكس” والقوى الغربية، في وقت يتزايد فيه التوتر بين أطراف “الجنوب العالمي” والأخيرة. ونهاية الشهر الماضي، حذر ماكرون، في خطاب في جامعة السوربون، من أن “أوروبا قابلة للاحتضار”، مشددا على ضرورة عدم “تبعية” القارة للولايات المتحدة عندما تحاور مناطق أخرى حول العالم، في إطار دعوته التي لم تتحقق إلى “استقلال استراتيجي للاتحاد الأوروبي”.

الملف الأوكراني: التودد الفرنسي والحذر الصيني

بيد أن هذا التقارب الممكن نظريا بين بكين وباريس على صعيد الأفق الاستراتيجي لإعادة تركيب النظام الدولي، لم ينعكس تفاهما ولو في حده الأدنى على مقاربة الملف الأوكراني، وهو الملف الضاغط على مجمل العلاقات الدولية ومنها الصلات الغربية مع الصين.
وقد أكد الجانبان منذ بدء المباحثات على أهمية التنسيق المشترك حول القضايا العالمية وأبرزها أوكرانيا والشرق الأوسط، وكان لافتا تقارب الطرفين حول موضوع التحذير من أي عملية إسرائيلية في رفح، والمناداة بوجوب الإسراع في حل الدولتين. وكان هناك أيضا تقاطع على ضرورة الحفاظ على سلمية البرنامج النووي الإيراني والعودة إلى اتفاق عام 2015. لكن بشأن الطلبات الفرنسية والأوروبية من الصين وقف دعمها للمجهود الحربي الروسي وتغيير مقاربتها في المسألة الأوكرانية. وقد كان شي واضحا وحاسما، إذ أكد على أن “الصين لم تخلق أزمة أوكرانيا، وليست طرفا فيها”، مضيفا أنها “تدفع طوال الوقت في اتجاه عقد محادثات سلام”. وهذا يعني عدم الاستعداد لممارسة أي ضغط على نظيره الروسي الذي سيلتقيه قريبا في بكين خلافا لرهانات وطلبات غربية.

 

الوزن الفرنسي ضعيف مقابل الوزن الصيني، خاصة وسط الصدام بين معسكرين متقابلين في مرحلة التخبط الاستراتيجي العالمي

 

 

حاول الرئيس إيمانويل ماكرون القيام بتمرين توازن معقد، إذ إنه كما بقية القادة الأوروبيين يجدون أنفسهم في وضع صعب بينما الحرب الأوكرانية في ذروتها، حيث يصعب عليهم التوفيق بين عدم القدرة على إقناع شي جين بينغ بالتوقف عن دعم المجهود الحربي الروسي، والحفاظ في الوقت نفسه على علاقات تجارية متوازنة ومتبادلة بين فرنسا والصين؟
ويعود الفشل في هذه المحاولة إلى أنه رغم الجهود و”النوايا الطيبة” لماكرون فإن الحوافز والوسائل المتاحة لفرنسا والأوروبيين لتقليص دور الصين في الحرب في أوكرانيا محدودة جدا.
لم يفلح التودد الفرنسي في إزاحة الصين عن مواقفها، حيث يبقى الوزن الفرنسي وحده ضعيفا في مقابل الوزن الصيني، خاصة وسط الصدام بين معسكرين متقابلين في مرحلة التخبط الاستراتيجي العالمي. لكن يبقى تعويل باريس على حيوية العلاقات الثنائية بأبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والتاريخية وعلى دينامية الحوار الضروري مهما كانت نتائجه.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/316406/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%A3%D8%B1%D8%AC%D8%AD%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M