السياسة الصينية تجاه الملف اليمني بعد عام على الاتفاق السعودي-الإيراني: تهيئة الأجواء لتوسيع الانخراط

  • مع أن الاتفاق الإيراني-السعودي لا يبدو مُهدداً بالانهيار، إلا أن الصين تظل في حاجة إلى تعزيزه وضمان نجاحه، من أجل نزع فتيل واحد من أهم أسباب عدم الاستقرار في المنطقة، وتعزيز صورتها كقوة سلام دولية قادرة على ضمان الامتثال في الاتفاقات التي ترعاها.
  • قياساً بالأعوام التسع الماضية، لوحِظَ أن بيجين كثَّفت مؤخراً من تحركاتها واهتماماتها بالملف اليمني، ويبدو أن جزءاً مهماً من هذه التحركات غرضه الاستعداد وتهيئة الظروف لتوسيع مصالح بيجين ونفوذها في مرحلة ما بعد التسوية. 
  • بعد أن كانت الصين ترى في التسوية السياسية مسألةً منوطةً باليمنيين أولاً، يبدو أنها بدأت تميل إلى التركيز على الديناميكيات الأوسع للصراع، وإعطاء الأولوية للتنسيق والتفاهم بين الدول المؤثرة في المسألة اليمنية، وحلحلة قضايا أخرى في المنطقة كالحرب في غزة.
  • ثمة ما يُشير إلى أن بيجين تستعد لمرحلة ما بعد الصراع اليمني، بما يشمل تهيئة الظروف لتوسيع مصالحها والاستفادة القصوى من الفرص التي تقدمها هذه المرحلة، لاسيما في مجال الاستثمار وزيادة التبادل التجاري ومشاريع إعادة الإعمار.

 

نُظِرَ إلى نجاح الصين في تسهيل الاتفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية، في أواخر مارس 2023، بوصفه حدثاً استثنائياً، وعَدَّهُ البعض مؤشراً على تغيير استراتيجيتها القديمة، وتدشيناً لمرحلة جديدة في سياستها الخارجية قد تؤدي فيها دوراً أكثر فاعلية على الساحة الدولية، وأُفترِضَ حينها أن هذا الاتفاق يخلق فرصة للصين لأداء دور أكثر نشاطاً في تسوية الأزمة اليمنية، لكن، بعد مرور أكثر من عام على ذلك الاتفاق، ثمة من يعتقد أنها لم تَرقَ بعد إلى مستوى تلك التوقعات، وأنها -في الأصل- ما كانت تسعى وراء انتصار دبلوماسي جديد في اليمن.

 

وفي ضوء التطورات الحاصلة في البيئتين الإقليمية والدولية في خلال هذه الفترة، تبرز تساؤلات حول مستقبل السياسة الصينية إزاء الملف اليمني، وما إذا أصبحت بيجين اليوم على استعداد لأداء دور أكبر في هذه الساحة.

 

الحسابات الصينية في ضوء تطورات منطقة الشرق الأوسط 

أولاً، المحفزات والفرص

قبل مدة وجيزة من الإعلان عن الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية، جادل بعض المحللين بأن التطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط قد تدفع بيجين إلى الانخراط وأداء دور أكبر في الساحة اليمنية، بما في ذلك في عملية السلام المتعثرة بين طرفي الصراع، وذلك على أساس ما تكشف عنه هذه التطورات مِن حقائق ومخاطر، ومِن فرص يفترض أن تمثل حوافزاً للدبلوماسية والسياسية الصينية في هذا الاتجاه، وكذلك على أساس أن الملف اليمني يمثل مدخلاً مهماً للتعامل مع تلك الحقائق والمخاطر والفرص، ولتحقيق أهداف أخرى. فانخراط الصين بصورة أوسع، وتأدية دور أكبر في الساحة اليمنية، يبقيان عموماً، وفق هذا المنظور، أمرين مهمين لحماية مصالحها، وتعزيز استثماراتها الاقتصادية والسياسية، وفي المقدمة مشروعها الاستراتيجي الأكبر والأهم “مبادرة الحزام والطريق”، إلى جانب تعزيز مصالحها الجيوسياسية ومكانتها الدولية وفرصها لقيادة الجنوب العالمي، كما يخدم طموح الرئيس الصيني شي جينبينغ لبناء صورة له بوصفه رجل دولة عالمي.

 

وأظهرت التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، بما فيها حرب غزة وأزمة البحر الأحمر، أن هذه المنطقة تنطوي على أسباب تجعلها غير مستقرة ودائمة الاضطراب، وفي ذلك تهديد مستمر للمصالح والاستثمارات الصينية، بما في ذلك إمدادات الطاقة ومبادرة الحزام والطريق. ولذلك، فإن الحفاظ على الاستقرار الإقليمي يُعد أمراً حيوياً لحماية هذه المصالح. وفي حين أن الاتفاق الذي رعته الصين بين السعودية وإيران يُعد انتصاراً دبلوماسيا وسياسياً مهماً لها، يُشير الواقع إلى أن فعالية هذا الاتفاق لا تزال قيد الاختبار؛ فوتيرة التقارب بين الدولتين بطيء، وجاءت الحرب في غزة لتضع ضغوطاً إضافية على هذا التقارب. ومع أن هذا التقارب لا يبدو مُهدداً بالانهيار، إلا أن الصين تظل في حاجة إلى تعزيزه وضمان نجاحه، من أجل نزع فتيل واحد من أهم أسباب عدم الاستقرار في المنطقة، وتعزيز صورتها كقوة سلام دولية قادرة على ضمان الامتثال في الاتفاقات التي ترعاها. وبطبيعة الحال يتوقف الكثير بشأن نجاح التقارب بين الدولتين على حل المسألة اليمنية.

 

وفي سياق التنافس الجيوسياسي مع الغرب، أبانت تطورات المنطقة الحدود المتواضعة لقدرات بيجين على التدخل وحماية كُلٍّ من مصالحها والأمن الدولي، وتردُّدها في التصرف بوصفها قوة عظمى. وأثبتت، كذلك، ضُعف منطق “الفراغ الاستراتيجي” في المنطقة، وأن الولايات المتحدة والقوى الغربية عموماً لا تزال الفاعل الأمني والاستراتيجي الأهم، وأنها دون غيرها الأكثر التزاماً بأمن المنطقة والعالم. كما كشفت هذه التطورات، أن حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط تُعطي القوى الغربية فرصة لتعزيز مكانتها وأدوارها الإقليمية والعالمية، والمواجهات التي تخوضها مع جماعة “أنصار الله” الحوثية في البحر الأحمر -مثلاً- تُكرِّس هيمنتها العسكرية على هذا الممر البحري والممرات المجاورة، وهو ما يجعل تجارة الصين وأنشطة قاعدتها العسكرية في جيبوتي، بصفة خاصة، تحت رقابة هذه القوى، الأمر الذي يُضيق من مساحة عمل هذه القاعدة، ويُقلِّص فرص توسيع الحضور العسكري الصيني في المنطقة، عدا عن أنَّه يُهدد قدرة الصين على استغلال العقوبات الغربية على روسيا. وغير ذلك، ستظل حالة عدم الاستقرار هذه تدفع دول المنطقة بعيداً عن الصين، خصوصاً وهي تفرض عليها التركيز على الأمن الذي لا يعد مجالاً أساسياً للتعاون مع بيجين. وكل هذا يجعل الصين في حاجة إلى التحرك لتعزيز حضورها في المنطقة.

 

في المقابل، تنطوي هذه التطورات على بعض الفرص التي تقدمها للصين، وبالذات فيما يتعلق بحل المسألة اليمنية. فالموقف الأمريكي الغربي المُنحاز لإسرائيل، والمواجهات التي تخوضها مع الحوثيين في البحر الأحمر، بقدر ما تهز ثقة دول المنطقة بهذه القوى، وتُشكِّك في أهدافها وحيادها، فإنها تُظهِر الصين “قوةً محايدةً”، وتزيد من أهميتها، ومن جدوى الرهان عليها، خصوصاً لدى بعض الفاعلين المؤثرين، من قبيل إيران وحلفائها الإقليميين، بمن فيهم الحوثيين بطبيعة الحال.

 

تبنَّت السياسة الصينية نهجاً أكثر تفاعلاً نسبياً تجاه الأزمة اليمنية وأطرافها، لكن دون أن تفقد حذرها التقليدي (AFP)

 

ثانياً، القيود والتحديات

على الرغم من الفرص المُشار إليها أعلاه، فإن لدى الصين حساباتها المعقدة، أيضاً، والتي تحدُّ من فرص إقدامها على تغيير نهجها المتحفظ في منطقة الشرق الأوسط. فالسياسة الصينية ما تخلصت بعد من تلك المبادئ الراسخة التي تحكمها (التركيز على الاقتصاد، وتفضيل سياسة الحياد، والنأي بالنفس عن التورط في الصراعات، إلخ). وإلى جانب تركيزها على المصالح الاقتصادية، لدى الصين أولويات استراتيجية أخرى منشغلة بها، من قبيل المواجهة مع الولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا. كما أنها حريصة على عدم التورط في نزاعات وقضايا خارجية معقدة، خصوصاً في منطقة مضطربة كالشرق الأوسط. وعلاوة على ضعف قدرتها على التأثير وضمان الامتثال، قد يكون الانخراط الواسع والفاعل في اليمن مُكلِفاً، إذ يقتضي تخصيص الكثير من الموارد السياسية والاقتصادية. ولا تزال التطورات في المنطقة تُقدِّم للصين بعض الفرص الممكنة، التي يقتضي استثمارها الإبقاء على نهجها الحَذِر. وفوق ذلك، ثمة من يعتقد أن تكاليف استمرار النهج الحالي ليست مرتفعة بالنسبة للصين، وأن هذه ليس لديها، من جهة أخرى، الكثير لتكسبه في حال قررت اتخاذ مواقف أقوى، بما فيها الانخراط في الساحة اليمنية بصورة أكبر.

 

هذا المزيج من الحسابات والتعقيدات والفرص، يعكس نفسه في المشهدين اليمني والإقليمي، والعلاقة الصينية بهما، وكذلك في العلاقة الصينية بالقوى الغربية. فالأزمة اليمنية تبقى من أكثر النزاعات تعقيداً في المنطقة، نظراً لتعدد أطرافها وتضارُب مصالحها، وهذا التعقيد يشكل تحدياً كبيراً لأي جهود وساطة دولية. كما أن غياب الاستقرار والأوضاع الأمنية المتأرجحة، لا تُحفِّز أو تُشجِّع على توسيع القوى الأجنبية استثماراتها وتدخلاتها الاقتصادية في بيئة كهذه. ومن ثمّ، فإن تعزيز الانخراط بهدف أداء دور أكبر في الساحة اليمنية في وضع كهذا لا يفرض على الصين اتباع سياسة توازن دقيقة ومرهقة فقط، ولكنه قد يتسبب بتعقيد علاقاتها بالدول الأكثر تأثيراً في الملف اليمني، لاسيما إذا رأت أن ما تقوم به الصين لا يتفق مع مصالحها الجوهرية.

 

إن وجود حدود لنفوذ الصين، ولقدرتها على التأثير وممارسة الضغوط على الدول ذات العلاقة بالصراع اليمني، وعلى رأسها إيران والسعودية، يُثبِّط بالمثل أي رغبة لديها لأداء دور أكبر في عملية السلام اليمنية. كما أن الصين بحاجة إلى الإبقاء على اندفاع الرياض صوبها، وجرَّها بعيداً عن واشنطن، وقد يساعد بقاء الوضع في اليمن على ما هو عليه، ولو مؤقتاً، في الوصول إلى هذه الأهداف.

 

وفي السياق الإقليمي الأوسع، لا تزال هيمنة القوى الغربية على البيئة الأمنية والدبلوماسية في الشرق الأوسط، تجعل من التنسيق والتوافق معها شرطاً لنجاح أي دور كبير تتطلع الصين لأدائه، وهذا أمرٌ معقدٌ نظراً للتنافس الاستراتيجي معها. ولدى الصين عموماً مخاوف من إفشال القوى الغربية أي تحرك لها لتسوية المسألة اليمنية، وإضعاف أي توجه للانخراط وتوسيع التفاعلات مع الساحة اليمنية، بسبب ما قد يثيره ذلك من مخاوف بشأن تنامي أدوارها، أو بسبب تعارُضه مع أجندات هذه القوى المنافسة. وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً، أن الصين حريصة على استقرار العلاقات مع الغرب بسبب الوضع الاقتصادي غير الموائم، وحاجتها المستمرة إلى جذب رأس المال والمعرفة من الاقتصادات الغربية. ومع حرصها على توسيع نفوذها ومواجهة النفوذ الغربي، إلا أن الصين ما زالت صريحة في التعبير عن تواضع طموحاتها الشرق أوسطية، وعن عدم سعيها للحلول محل الولايات المتحدة في المنطقة، وتُفضِّل الإبقاء على دورها بوصفه بديلاً غير تدخلي.

 

في السياق الدولي، قد تكون الصين سعيدة بالإرباك “الاستراتيجي” الذي تُخلِّفه حالة عدم الاستقرار في اليمن لواشنطن، فهذه الحالة ستَبقى شاغلاً للأخيرة وربما تُشتت انتباهها بعيداً عن القضايا التي تهم بيجين في جنوب شرق آسيا على سبيل المثال، كما قد تُبقي على تهديد الحوثيين للملاحة الدولية في البحر الأحمر، وبالتالي على تورُّط واشنطن معهم. واستمرار المواجهة بين الطرفين، من وجهة النظر هذه، يصب في صالح مشروع مبادرة الحزام والطريق التي تعد استراتيجية مهمة في مواجهة الهيمنة البحرية للولايات المتحدة، إذ سيؤدي إلى زيادة استخدام الطرق البرية وسكك الحديد التي بنتها الصين في سياق هذه المبادرة، وربما يحد، أقله في خلال المديين القريب والمتوسط، من فعالية مشاريع النقل التجاري المُنافِسَة، بما في ذلك الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ومن شأن استمرار واشنطن في تجنُّب التصدي للحوثيين أن يُضعِف موقفها، ويُسهِم في الحفاظ على حالة الإرباك التي باتت تسِم علاقتها بدول المنطقة.

 

آفاق السياسة الصينية تجاه الملف اليمني 

لم تأخذ السياسة الصينية تجاه الأزمة اليمنية مساراً واحداً أو مُتَّسقاً، فقد انتقلت من الغموض السلبي، ومن البقاء في الهامش الدبلوماسي، إلى نهج أكثر تفاعلاً نسبياً، لكن دون أن تفقد خصائصها التقليدية مثل الحذر والحياد. وبعد مرور أكثر من عام على الاتفاق السعودي-الإيراني لا يبدو أن ثمة تغيراً كبيراً قد طرأ في نهج الصين إزاء الملف اليمني، وما زالت بيجين تحافظ على التحرك بتأن وحذر، وتداوم على مواقفها التي تتجنب التورط الواسع.

 

مع ذلك، يمكن ملاحظة بعض الفوارق الطفيفة التي قد تعكس توجهات مستقبلية، وتتعلق بزيادة نشاط الدبلوماسية الصينية في الساحة اليمنية. فقد كثَّف القائم بأعمال السفير الصيني لدى اليمن، تشاو تشنغ، في خلال الأشهر الأخيرة، من لقاءاته مع مسؤولي الحكومة المعترف بها دولياً والسلطات المحلية، وزادت زياراته على نحو لافت إلى مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، وبعض تلك الزيارات كانت بصحبة وفود صينية. ولوحظ أن هناك اهتماماً بقضايا وقطاعات لم تكن بيجين توليها سابقاً ذات القدر من الاهتمام في اليمن، بما فيها القطاع الثقافي، حتى أن لديها خطة لتأسيس قسم لتعليم اللغة الصينية في جامعة عدن، وأخذت تُقدِّم الدعم والتسهيلات لمؤسسات إعلامية محلية. واهتمامات كهذه قد تعكس رغبة في تهيئة المناخ لأدوار صينية أكبر في اليمن مستقبلاً.

 

1. الموقف من الصراع وعملية السلام: تُحافظ الصين على موقفها من الصراع اليمني، وضرورة التوصل إلى تسوية سياسية تحظى بقبول كل الأطراف، وتُواصِل إظهار دعمها لجهود الوساطة الأممية. ومن غير الوارد أن يتطور الدور الصيني إلى ما هو أبعد من ذلك، أو أن تخصص بيجين المزيد من مواردها ورأس مالها الدبلوماسي لصالح تعزيز مسار الحل السياسي في اليمن، ناهيك بأن تخرج بمبادرة خاصة بها للسلام.

 

وبعد أن كانت ترى في التسوية مسألةً منوطةً باليمنيين أولاً، وقبل أي طرف آخر، يبدو أن بيجين بدأت تميل إلى التركيز على الديناميكيات الأوسع للصراع، وإعطاء الأولوية للتنسيق والتفاهم بين الدول المؤثرة في المسألة اليمنية، وحلحلة قضايا أخرى في المنطقة كالحرب في غزة. وعليه، وفي سياق دعمها لجهود السلام، ستحاول الاستفادة من علاقاتها مع كل السعودية وإيران والانخراط معهما على نحو أكثر فاعلية. وبالاستفادة من هذه العلاقة أيضاً، يمكن للصين أن تؤدي دوراً في منع تجدُّد الصراع. ويمكن أن تشمل جهودها في تيسير السلام، العمل على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء اليمنيين، ففي خبر لها عن  لقاء جمع القائم بأعمال السفير الصيني برئيس هيئة التشاور والمصالحة ونوابه، أواخر يوليو 2023، قالت وكالة الأنباء اليمنية الحكومية إن هذا اللقاء بحث “فرص السلام في ظل المساعي التي تبذلها جمهورية الصين في المنطقة”.

 

ومما قد يُساعِد الصين على المضي في هذا النهج وربما تطويره مستقبلاً، أنها لا تزال تحتفظ بعلاقات متوازنة واتصالات مفتوحة مع جميع الفاعلين في الساحة اليمنية، الذين يحظى النهج الصيني بقبول عام لديهم بحكم عدم تعارُضه مع مصالحهم، ومن ثمَّ فإنهم جميعاً يُبدون انفتاحاً على بيجين، وعلى أي مساهمات لها في مسار الحل السياسي، بل ويرون في الصين شريكاً محتملاً ويطالبونها بأداء دور أكبر. ومع ترجيح احتفاظها بذات النهج الحذر من دون حصول تعديلات فارقة عليه، لا يتوقع كذلك أن تتغير مواقف هؤلاء الفاعلين منها مستقبلاً.

 

عارض يمني يُقدِّم حرفاً يدوية للزوار في معرض الصين الدولي السادس للاستيراد في شانغهاي، في 10 نوفمبر 2023 (AFP).  

 

2. المساعدات والتدخلات التنموية والإنسانية: تواصل الصين تقديم مساعدات إنسانية وأخرى تنموية، خصوصاً للحكومة المعترف بها دولياً. ومع أن الدبلوماسيين الصينيين يواصلون التأكيد في كل لقاءاتهم بالمسؤولين اليمنيين على استعداد بلادهم لتقديم المزيد من الدعم للحكومة ولمجلس القيادة الرئاسي، إلا أن حجم ما تقدمه الصين ظل حتى الآن محدوداً على نحو لافت مقارنة بغيرها من الدول. ومع ذلك، يمكن الافتراض أن الصين قد تزيد دعمها في حال رأت أن الأزمة اليمنية اقتربت من الحل، وكلما كان لهذا الدعم حاجة ومردود إيجابي يخدم أهدافها طويلة المدى.

 

3. التبادل التجاري وإعادة الإعمار: تعمل الصين على مضاعفة حجم التبادل التجاري مع اليمن (بلغ 3 مليارات دولار عام 2023)، ولا تُخفي الدولة الصينية رغبتها في تعظيم مصالحها وتوسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية في اليمن إلا أن البيئة غير المستقرة تحول دون القيام بالكثير في هذا الصدد. والمؤكد أن الحال سيتغير إذا توقف الصراع وتحقَّق الاستقرار، إذ ستشرع الصين بسرعة في العمل على زيادة استثماراتها الاقتصادية والتنموية وفي البنية التحتية، مثل الموانئ والطرق وقطاع الطاقة. ونظراً لما تمتلكه من خبرة وقدرات كبيرة في مجالات البناء والتطوير، فإن الصين حريصة على المشاركة والحصول على حصة من استثمارات ومشاريع وجهود إعادة الإعمار، وقد تكون شريكاً رئيساً في هذه الجهود.

 

وثمة ما يُشير إلى أن بيجين تستعد لمرحلة ما بعد الصراع، بما يشمل تهيئة الظروف لتوسيع مصالحها والاستفادة القصوى من الفرص التي تقدمها هذه المرحلة، فهي على سبيل المثال تعمل على تسهيل النقل التجاري بين البلدين وتيسير تنقل المواطنين ورجال الأعمال، وقد دُشِّن في منتصف فبراير الماضي الخط الملاحي (SLG) المباشر بين الموانئ الصينية وميناء عدن، ويجري تنظيم زيارات وفود من القطاع الخاص الصيني إلى اليمن لاستكشاف الفرص الاقتصادية، كما تُقدَّم التسهيلات لرجال الأعمال اليمنيين. وبطبيعة الحال، فإن حصةً معتبرةً من استثمارات الصين المستقبلية ستكون ضمن مبادرة الحزام والطريق (وقَّعت الحكومة اليمنية في عام 2019 مذكرة تفاهم مع الجانب الصيني بشأن انضمامها لهذه المبادرة)، ويبدو أن جزءاً مهماً من الاستعدادات والتحضيرات الصينية هدفهُ خدمة هذا المشروع الاستراتيجي.

 

خلاصة

على الرغم من أن السياسة الصينية في اليمن لم يطرأ عليها تغيُّر فارق وكبير بعد مرور أزيد من عام على توقيع الاتفاق الإيراني السعودي، فإن من الملاحظ أن بيجين كثفت من تحركاتها واهتماماتها بالملف اليمني، قياساً بالأعوام التسع الماضية، ويبدو أن جزءاً أساسياً من هذه التحركات غرضه الاستعداد وتهيئة الظروف لتوسيع مصالح بيجين ونفوذها في مرحلة ما بعد التسوية. وبينما تدفعها الحسابات الاقتصادية والاستراتيجية لمزيد من الانخراط في الساحة اليمنية، إلا أن الحسابات السياسية والأمنية تجرها بين الفينة والأخرى في الاتجاه المعاكس، ولهذا السبب فإن الصين ستظل، على الأرجح، مُحتفظةً بحذرها وتفضيلها التحرك في المسارات الأقل مقاومة والبقاء في المنطقة الرمادية عندما يتعلق الأمر بمواجهة القضايا السياسية الأكثر تعقيداً وإثارةً للجدل، لاسيما تلك التي تخص طبيعة وشكل الدولة اليمنية في المستقبل.

 

أخيراً، لا شك أنّ لدى الصين رغبة في تعظيم مصالحها في اليمن، الذي يمتلك موقعاً جغرافياً مهماً على مسار مبادرة الحزام والطريق (تحديداً على طريق الحرير البحري)، ومن ثمَّ فإن الصين ستمضي في سعيها التقليدي لبناء علاقات أقوى مع هذا البلد، لكن الأمر، في نهاية المطاف، لا يتعلق بالرغبات وإنما بحسابات الربح والخسارة والموازنة بين الفرص والمخاطر. ولهذا يتوقَّع أن تواصل الصين انتهاج مقاربة الانتظار والترقُّب، التي تفترض زيادة انخراطها وتفاعلاتها كلما سمحت أو تطلبت الظروف السياسية والميدانية ذلك.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/alsiyasa-alsiynia-tujah-almilaf-alyamani-baed-aam-ala-alaitifaq-alsaudi-alirani

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M