القانون الأوروبي لتنظيم الذكاء الاصطناعي: تحدي الموازنة بين تشجيع الابتكار ومُعالجة المخاطر

  • يُشكِّل القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي أول نظام تشريعي لتنظيم الذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي، وهو جزء من حزمة أوسع من التدابير ضمن الخطة الاستثمارية المنسَّقة بشأن الذكاء الاصطناعي.
  • يقوم القانون على ثلاث قواعد أساسية، هي: تصنيف أنظمة الذكاء الاصطناعي حسب المخاطر، وإقامة بنية حوكمة اتحادية للرقابة والتعاون، ووضع تدابير لتشجيع الابتكار.
  • يوازن القانون بين هدف أمني لضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي، وهدف استثماري لدعم الابتكار التقني. ويدعم القانون استراتيجية “السوق الرقمية الموحدة”، التي يراهن عليها الأوروبيون في المجالين التجاري والصناعي.
  • يواجه القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي تحدي ضعف الاستثمار في المجال التقني على مستوى القارة، وقوة المنافسة الأمريكية والصينية. ومن المحتمل أن تواجه الشركات الأجنبية العاملة في الاتحاد عوائق الحمائية التي يدافع عنها اليمين المتطرف في المؤسسات الأوروبية.

 

بعد ثلاث سنواتٍ من النقاش، وافق البرلمان الأوروبي، أخيراً، على الصيغة النهائية لقانون القواعد الموحدة بشأن الذكاء الاصطناعي، والذي يعد تشريعاً غير مسبوق على المستوى العالمي لتنظيم الذكاء الاصطناعي. وستضع هذه الخطوة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ضمن إطارٍ تشريعي سيُغيّر من طبيعة سوق تداولها وإنتاجها، ليس فقط على المستوى الأوروبي، بل على مستوى العالم، بوصف أوروبا إحدى الأسواق الأساسية لها، وستُحدِّد في الوقت نفسه الضوابط الأمنية والمؤسسية لهذا النوع من التقنية العالية المخاطر.

 

تستكشف الورقة التأثيرات الأوسع لهذه الخطوة التشريعية الأوروبية، من خلال تحليل مضامين القانون الجديد وأهدافه ودوافع وضعه، والوقوف على أهم التحديات التي تواجه طريقه مستقبلاً.

 

الدوافع

منذ عام 2017، سلَّط المجلس الأوروبي الضوء على الحاجة إلى لوائح تنظيمية فيما يتعلق بالاتجاهات التكنولوجية الناشئة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. في المقابل كانت الدول الكبرى في الاتحاد مثل فرنسا وألمانيا، يريدون نوعاً من التنظيم الذاتي للسوق تقوم به الشركات والباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي دون تدخل السلطات العامة، أو في الحد الأقصى، يكون ذلك وفقاً لنظام الالتزامات الطوعية، كما في النموذج البريطاني. لكن الجانب العملي من هذا المسار التنظيمي لم يبدأ إلا في عام 2019 عندما تعهَّدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في مبادئها التوجيهية السياسية للمفوضية 2019-2024 بأن تقدم اقتراحاً تشريعياً بهدف اعتماد نهج أوروبي منسَّق للآثار الإنسانية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي. وفي 19 فبراير 2020 قدَّمت المفوضة الأوروبية أرضية هذا المقترح في تقرير حدَّد الخيارات الاستراتيجية ذات الهدف المزدوج المتمثل في تعزيز اعتماد الذكاء الاصطناعي ومراعاة المخاطر المرتبطة باستخدامات معينة لهذه التكنولوجيا. ثم في أبريل 2021 قدَّمت مقترحاً للبرلمان لتنظيم ووضع قواعد مُنسَّقة بشأن الذكاء الاصطناعي، بوصفه أول إطار قانوني شامل بشأن الذكاء الاصطناعي في العالم، يحاول الموازنة بين تعزيز صناعة الذكاء الاصطناعي واستعمالاته من جهة، وضمان احترام أنظمة الذكاء الاصطناعي للحقوق الأساسية والأمن والمبادئ الأخلاقية ومعالجة المخاطر ذات الصلة بنماذج الذكاء الاصطناعي القوية والمؤثرة من جهة أخرى. لذلك، فإن هذا التشريع جزء من حزمة أوسع من التدابير لدعم تطوير هذه التقنية، والتي تتضمن أيضاً على استراتيجية الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، و”الخطة الاستثمارية المنسقة بشأن الذكاء الاصطناعي”.

 

يكمُن السبب الأساسي لوضع هذا التشريع في الفراغ القانوني الذي يتسم به قطاع ناشئ ومتسارع النمو مثل الذكاء الاصطناعي، ذلك أن التشريعات الأوروبية الحالية، في القطاع التكنولوجي، غير كافية لمعالجة التحديات المحددة التي يمكن أن تفرضها هذه الأنظمة التكنولوجية الفائقة التطور. وقال تييري بريتون، المفوض الأوروبي للسوق الداخلية، عقب إقرار القانون: “لا يمكننا أن نترك الأمر للشركات التي تطور أنظمتها لتحدد بنفسها القواعد التي تحكم أنشطتها عندما تؤثر في المصلحة العامة “.

 

لكن السبب الأكثر استراتيجية بالنسبة للأوروبيين هو التوجه نحو المستقبل بإطار قانوني واضح للاستثمار في المجال التكنولوجي، وضمنه تقع جميع استراتيجيات الاتحاد الرقمية والصحية والمناخية والصناعية، ذلك أن الذكاء الاصطناعي مجال واسع من التقنيات سريعة التطور، ويمكن أن يوفر العديد من الفوائد الاقتصادية والمجتمعية في جميع القطاعات الاقتصادية والأنشطة الاجتماعية. ومن خلال توفير تنبؤات أفضل، وتحسين العمليات وتخصيص الموارد، وتمكين تقديم الخدمات الشخصية، يمكن أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي إلى نتائج اجتماعية وبيئية مفيدة، ويمنح الشركات الأوروبية مزايا تنافسية، لاسيما أن هذا النوع من التكنولوجيا متصل ضرورةً بجميع القطاعات الأساسية التي وضعت لها استراتيجيات مستقبلية، وبصفة خاصة في مكافحة تغير المناخ، والبيئة والصحة، والقطاع العام، والمالية، وقطاع النقل والطاقة، والأمن، والزراعة.

 

مع ذلك، فإن العناصر والتقنيات التي تجعل الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للذكاء الاصطناعي ممكنة قد تكون أيضاً مصدراً لمخاطر جديدة أو ذات عواقب سلبية على الناس أو المجتمع. وفي ضوء الوتيرة السريعة للتطورات التكنولوجية والتحديات المحتملة المقبلة في هذا الصدد، فإن الاتحاد الأوروبي لا يريد لهذا الذكاء الاصطناعي أن يُفلِتَ من يديه، أمنياً ومؤسسياً. لذلك يُقدِّم هذا التشريع نهجاً تنظيمياً أفقياً يقتصر على الحد الأدنى من المتطلبات اللازمة لمعالجة المخاطر والقضايا المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، دون تقييد أو إبطاء التطور التكنولوجي أو زيادة تكاليفه، موازناً بذلك بين هدفين:

 

1. الهدف الأمني: التأكد من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي المطروحة في سوق الاتحاد والمستخدمة آمنة وتحترم التشريعات القائمة بشأن الحقوق الأساسية والمحاذير الأمنية؛ وتعزيز الحوكمة والإنفاذ الفعال لتشريعات الحقوق الأساسية الحالية ومتطلبات الأمن المطبقة على أنظمة الذكاء الاصطناعي. وهذا الهدف الأمني ينطوي على أهداف جيوسياسية تتمثل في حماية الاتحاد من أي توظيفات للذكاء الاصطناعي تتعلق بجمع المعلومات الحساسة أو بحملات التضليل المعلوماتي أو تسريب البيانات، ويشمل ذلك تطبيقات مثل أنظمة تحديد الهوية البيومترية وقرارات الذكاء الاصطناعي التي تمس المصالح الشخصية المهمة، كما هو الحال في مجالات التوظيف والتعليم والرعاية الصحية وإنفاذ القانون، في ظل توترات جيوسياسية غير مسبوقة تعيشها القارة وتصاعد العداء مع روسيا والخلافات التجارية مع الصين، وفقدان دول أساسية في الاتحاد – مثل فرنسا – لمناطق نفوذ استراتيجية خارج المجال الأوروبي (أفريقيا على سبيل المثال)، وفي ظل تصاعد الهجمات الإلكترونية التي تستهدف دول الاتحاد، لاسيما استحقاقاتها الانتخابية، والتي توجَّه غالباً عبر روبوتات الدردشة.

 

يهدف التشريع الأوروبي غير المسبوق عالمياً إلى تحقيق ريادة قانونية في تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي (AFP)

 

2. الهدف الاستثماري: يرى الأوروبيون في الذكاء الاصطناعي فرصةً لتحقيق ريادة تقنية في مواجهة الولايات المتحدة والصين، لذلك يهدف هذا التشريع غير المسبوق عالمياً إلى تحقيق ريادة قانونية في تنظيم هذا القطاع الواعد، لأن التنظيم القانوني يُسهِّل عمليات الاستثمار والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، ويجعل رأس المال أكثر ثقةً ويقيناً، وأقل خشيةً من المخاطر. كما يسهل هذا القانون تطوير سوق موحدة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي القانونية والآمنة والجديرة بالثقة، ومنع تجزئة السوق، وتُعدّ هذه التكنولوجيا من القطاعات التي يراهن عليها الأوروبيون مستقبلاً لضمان الوحدة السياسية والجيوسياسية للاتحاد، أمام تهديدات التفكك الثقافية والسياسية والاقتصادية. كما يدعم هذا القانون استراتيجية “السوق الرقمية الموحدة في أوروبا”، التي يراهن عليها الأوروبيين كثيراً في المجال التجاري والصناعي، والتي من المتوقع أن تجلب حوالي 1.25 تريليون يورو للاتحاد الأوروبي بحلول العام المقبل في المجال الصناعي لوحده.

 

المضامين الأساسية

يوفر الإطار القانوني الجديد آليات مرنة تسمح له بالتكيف ديناميكياً مع التطورات التكنولوجية والمشاكل الطارئة المثيرة للقلق، حيث يحدد قواعد منسقة لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وطرحها في السوق واستخدامها في الاتحاد باتباع نهج قائم على المخاطر. ويمكن تقسيم المضامين الأساسية لهذا التشريع ثلاثة أقسام:

 

1. تصنيف أنظمة الذكاء الاصطناعي: يُصنِّف القانون الجديد أنواعاً مختلفة من الذكاء الاصطناعي وفقاً للمخاطر. ستخضع أنظمة الذكاء الاصطناعي التي لا تمثل سوى مخاطر محدودة لالتزامات شفافية خفيفة للغاية، في حين سيُسمَح لأنظمة الذكاء الاصطناعي عالية المخاطر، ولكنها تخضع لمجموعة من المتطلبات والالتزامات، بالوصول إلى سوق الاتحاد. في المقابل ستُحظَر أنظمة أخرى للذكاء الاصطناعي، لأن مخاطرها تعد غير مقبولة، إذ يحظر القانون نظام الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم تقنيات لا شعورية تحت العتبة الواعية للشخص لتغيير سلوكه بدرجة كبيرة، بطريقة تسبب ضرراً جسدياً أو نفسياً (التلاعب بالسلوك البشري للتحايل على الإرادة الحرة)؛ ونظام الذكاء الاصطناعي الذي يستغل نقاط الضعف المحتملة بسبب عمر الفرد أو إعاقته لإحداث تغيير كبير سلوكه بطريقة تسبب ضرراً جسدياً أو نفسياً؛ والأنظمة التي تهدف إلى تقييم أو تصنيف مدى جدارة الأشخاص بالثقة بناءً على سلوكهم الاجتماعي أو خصائصهم الشخصية، وقد تؤدي إلى معاملة ضارة غير مبررة أو غير متناسبة للأشخاص في سياقات معينة. وكذلك أنظمة تحديد الهوية البيومترية عن بعد “في الوقت الفعلي” في الأماكن العامة لأغراض إنفاذ القانون، باستثناء حالات منع الهجمات الإرهابية أو الإجرامية. كما يضع القانون قواعد صارمة على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تحدد الهوية البيومترية، وربطَ استعمالها بالخضوع لترخيص مسبق ممنوح من سلطة قضائية أو إدارية مختصة، وعدم منح الشركات الخاصة حرية التصرفات في البيانات الشخصية للأفراد. وقد يؤدي عدم الامتثال للقواعد – وفقاً للقانون الجديد – إلى فرض غرامات، تحدد كنسبة مئوية من إجمالي المبيعات السنوية العالمية للشركة المخالفة في السنة المالية السابقة أو مبلغ محدد مسبقاً، أيهما أعلى. فيما تخضع الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة لغرامات إدارية متناسبة.

 

2. بنية حوكمة اتحادية: ينظم القانون الجديد مسألة هياكل الرقابة، حيث سيتم ضمان مراقبة تطبيق القواعد المقترحة من خلال نظام حوكمة على مستوى الدول الأعضاء يعتمد على الهياكل القائمة بالفعل، بالإضافة إلى آلية التعاون على مستوى الاتحاد، وهي اللجنة الأوروبية للذكاء الاصطناعي. ولضمان التنفيذ السليم، أنشئت العديد من الهيئات الإدارية الأخرى، وهي: مكتب الذكاء الاصطناعي داخل المفوضية لإنفاذ القواعد المشتركة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، ولجنة علمية من الخبراء المستقلين لدعم أنشطة الإنفاذ، ومجلس للذكاء الاصطناعي، يضم ممثلين عن الدول الأعضاء لتقديم المشورة والمساعدة للمفوضية والدول الأعضاء في التطبيق المتسق والفعال لقانون الذكاء الاصطناعي، ومنتدى استشاري لأصحاب المصلحة لتقديم الخبرة الفنية لمجلس إدارة الذكاء الاصطناعي والمفوضية. كما يفرض على أنظمة الذكاء الاصطناعي العالية الخطورة، بالإضافة إلى بعض مستخدمي نظام الذكاء الاصطناعي العالي الخطورة الذين يمثلون كيانات عامة، التسجيل في قاعدة بيانات الاتحاد الأوروبي لأنظمة الذكاء الاصطناعي العالية الخطورة.

 

3. تدابير دعم الابتكار: يقدم القانون تدابير إضافية لدعم الابتكار، بما في ذلك إنشاء بيئات تجريبية تنظيمية للذكاء الاصطناعي وغيرها من التدابير للحد من العبء التنظيمي ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة، حيث يمكن لهذا الإطار التنظيمي أن يعزز استيعاب الذكاء الاصطناعي بطريقتين؛ فمن ناحية أولى، ستؤدي زيادة ثقة المستخدمين إلى زيادة الطلب على الذكاء الاصطناعي الذي تستخدمه الشركات والسلطات العامة. ومن ناحية ثانية، سيتمكن مقدمو الذكاء الاصطناعي، عبر زيادة اليقين القانوني ومواءمة القواعد، من الوصول إلى أسواق أكبر، مع المنتجات التي يقدرها المستخدمون والمستهلكون ويشترونها. ولن تُطبَّق القواعد إلا عندما تكون هناك حاجة ماسة إليها، وبطريقة تُقلل من العبء الواقع على عاتق الفاعلين الاقتصاديين، مع وجود هيكل إداري مرنّ.

 

ويمكّن القانون أيضاً من إنشاء بيئات اختبار تنظيمية واختبارات في العالم الحقيقي، والتي توفر بيئة خاضعة للرقابة لاختبار التقنيات المبتكرة لفترة محدودة، وبالتالي تعزيز الابتكار من قبل الشركات الكبيرة والشركات الصغيرة والمتوسطة والناشئة بما يتوافق مع القانون. إلى جانب تدابير أخرى مثل الشبكات الإضافية لمراكز التميز في مجال الذكاء الاصطناعي، والشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الذكاء الاصطناعي والبيانات والروبوتات، والوصول إلى مراكز الابتكار الرقمي ومرافق الاختبار والتجريب، التي ستساعد في بناء الظروف الإطارية المناسبة للشركات لتحقيق ذلك. ويُمكِّن القانون الشركات من فترة سماح لإجراء اختبار حقيقي لأنظمة الذكاء الاصطناعي العالية المخاطر لمدة أقصاها 6 أشهر (يمكن تمديدها لمدة 6 أشهر أخرى). ويعزز خلق بيئة خاضعة للرقابة للتجريب في مرحلة التطوير من أجل ضمان امتثال أنظمة الذكاء الاصطناعي المبتكرة للوائح المقترحة، كما يُسرِّع الوصول إلى الأسواق من طريق إزالة الحواجز أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة والناشئة.

 

يُصنِّف القانون الأوروبي الجديد أنواعاً مختلفة من الذكاء الاصطناعي وفقاً للمخاطر (AFP)

 

التداعيات والتحديات 

سيُحقِّق القانون الأوروبي الجديد للاتحاد مسألةً أساسية تتمثل في السيطرة على أنظمة الذكاء الاصطناعي، والحد من تأثيراتها السلبية على السكان والأمن القومي، وهي مسألة حيوية لتطوير السيادة الرقمية للاتحاد الأوروبي، في خضم الصراعات الجيوسياسية المعلنة أو الباردة بين أوروبا وخصومها الروس والصينيين، أو حتى حلفائها الأمريكيين. كما يمكن أن يجعل من السوق الأوروبية التقنية سوقاً تحظى بثقة المستثمرين في أنظمة الذكاء الاصطناعي. لكن، في المقابل، لا يبدو أن التشريعات وحدها كافيةً لنقل الاتحاد من لاعب ثانوي في تطوير الذكاء الاصطناعي، كما هو حاله اليوم، إلى موقع الريادة في هذا الجانب، إذ يعاني الاتحاد من تأخر مزمن في قطاع الابتكار التقني عموماً، بفعل الافتقار إلى الاستثمار، والسوق الأوروبية الموحدة غير المكتملة، وانخفاض الجاذبية للمواهب الأوروبية، ونقص البيانات، وتعدد التشريعات واللوائح، والتي لا تكون واضحة دائماً أو مُفيدةً لرأس المال.

 

الجانب الثاني في تداعيات القانون وتحدياته بالنسبة للأوروبيين، يتمثَّل في تأثيراته على الشركات الأوروبية، التي من المتوقع أن تواجه تكاليف تطوير مرتفعة للغاية بحيث لا تتمكن من الالتزام بمتطلبات النص القانوني. ومن شأن التكاليف وفترات الإختبار أن يؤخرا تنفيذ الاختراعات، وأن يتركا المجال للشركات الأجنبية للحصول على حصة في السوق. ومن شأن التكاليف المالية أن تجعل الابتكارات الأوروبية أكثر تكلفة مقارنة بالمنافسين الدوليين، مما يخلق عيباً تنافسياً ملحوظاً. وبالتالي سيجعل هذا القانون الشركات الأجنبية، وخاصة الأمريكية، مُهيمنةً على السوق، في مسارٍ مماثل للمنصات الرقمية، التي أصبحت محل تنافس بين الولايات المتحدة والصين في ظل غيابٍ أوروبي واضح عن المنافسة، على رغم أن السوق الأوروبية تمثل أحد أكثر الأسواق استهلاكيةً وقدرةً شرائيةً.

 

إلى جانب اختلال التوازن بين دول الاتحاد، حيث نجد ثلاث دول أوروبية فقط (ألمانيا وفرنسا وإسبانيا) من بين الدول الخمسة عشرة الرائدة في الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، بسبب انخفاض توافر رأس المال الاستثماري. فحالياً يوجد داخل الاتحاد 11% فقط من الشركات غير المتخصصة تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتشير التوقعات إلى أن هذا الرقم سوف يصل بحلول عام 2030 إلى 20% فقط، وهو ما يتعارض مع الهدف الاستراتيجي للاتحاد بتعزيز مكانته بوصفه مركزاً للذكاء الاصطناعي. هذا إلى جانب الغموض الحالي فيما يتعلق بعتبات المخاطر المقبولة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، والتي من شأنها أن تضع حواجز إدارية وأمنية إضافية.

 

الجانب الثالث والأهم، هو التحول السياسي المتوقع على المستوى الأوروبي في ظل تغيُّر التركيبة السياسية للبرلمان الأوروبي، ومعه المؤسسات القيادية للاتحاد، نحو مزيد من حضور اليمين المتطرف، بعد التقدم الملحوظ الذي حققته الأحزاب اليمينية في الانتخابات الأوروبية الأخيرة. فهذا التحول سينعكس على القوانين الرئيسة التي أُقِرَّت في السنوات الخمس الماضية في مجال التكنولوجيا عموماً. وقد يقود ذلك إلى تفضيل الاتجاه نحو دعم شركات التكنولوجيا والاتصالات المحلية الأكبر حجماً، لكن في الوقت نفسه سيطرح التوجه الحِمائي الذي يميز سياسات اليمين المتطرف الاقتصادية مشكلات للشركات الأجنبية العاملة في الذكاء الاصطناعي داخل السوق الأوروبية، إذ قد تُفرَض ضرائب إضافية عليها، وفي المقابل قد تُمنَح الشركات الأوروبية تسهيلات وإعفاءات أكبر، تجعل من المنافسة صعبة.

 

الانعكاسات المحتملة على المنطقة العربية

يمكن أن يمثل هذا التشريع لقطاع الذكاء الاصطناعي مثالاً عملياً لتنظيم هذه القطاع في الدول العربية، التي بمقدورها الاستفادة من النقاشات والسجالات الأوروبية، التي دامت ثلاث سنوات وشارك فيها خبراء وأصحاب المصلحة، لاختصار الوقت، وتسريع كسب الخبرة في تنظيم هذا القطاع الحيوي وتلافي مخاطره الجانبية على السكان والأمن. كما يمكن للتجربة الأوروبية أن تكون مفيدةً للدول العربية على المستوى العملي، لاسيما فيما يتصل باختبار النهج التنظيمي للذكاء الاصطناعي وعدم الوقوع في الأخطاء أو المعيقات أمام الاستثمار، أو تجاوز الثغرات الممكنة.

 

كما يمكن أن يشكِّل التنظيم القانوني لقطاع الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي فرصة للشركات العربية الناشئة في المجال التقني، لاسيما أن هذا التشريع يُقدِّم امتيازات للشركات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، وكذلك للمستثمرين العرب الراغبين في دخول هذا القطاع، خاصة أن أوروبا تشكل سوقاً مستقرةً وتضم مستهلكين مباشرين وصناعيين من ذوي القدرة الشرائية العالية مقارنة ببقية الأسواق العالمية. واليوم أصبحت سوقاً موثوقاً من الناحية القانونية، لاسيما في قطاعات الصحة والمناخ والتحول الرقمي، التي تحظى بتسهيلات إدارية وامتيازات استثمارية في الاتحاد الأوروبي.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/alqanun-al-uwrubiy-litanzim-aldhaka-alaistinaei

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M