قراءة في محاولات “كسر” الهيمنة الأمريكية على المسرح العالمي

مع احتدام المنافسة السياسة في عام الانتخابات الأمريكية، أعلن دونالد ترامب أنه قادر على “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، ووعد جو بايدن “بمستقبل أكثر إشراقا”. فيما يرى غالبية الأمريكيين أن الدور العالمي للولايات المتحدة في تراجع، بعد أن ظهرت أمريكا على المسرح الدولي في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية كأقوى دولة في العالم، معلنة عام 1941 بداية “القرن الأمريكي”، وبحلول عام 1945، كانت الولايات المتحدة القوة المهيمنة، وأطلقت مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والأحلاف الدفاعية مثل حلف شمال الأطلسي “ناتو”؛ ما جعلها تقود العالم ضمن ما بات يعرف بمصطلح “السلام الأمريكي”.

 ولكن بعد ثمانية عقود، كيف سارت القوى المهيمنة للولايات المتحدة؟ وهل لحظة غزة ستكون بداية نهاية تلك الهيمنة؟

يتجاوز مصطلح “الهيمنة” قدرة دولة ما على الدفاع عن دولة أخرى؛ لأنها تعني القدرة على وضع قواعد النظام وتطبيقها، ومن ذلك التحكم في تدفق الأموال إلى حركة التجارة والملاحة، ضمن ما يعرف باسم “المصالح العامة”. وعندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية، فقد احتلت الولايات المتحدة الاقتصاد لتعزيز هيمنتها العالمية فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية سيطرت على نصف اقتصاد العالم في مقابل نصف ما توزعه دول العالم كافة. وبسبب هذا الفائض الكبير في القوة الاقتصادية تقدمت أمريكا نحو أوروبا طارحة مشروع مارشال لإعادة بناء القارة. كما توجهت نحو الشرق الأوسط مُبدية استعدادها لحماية حقول النفط التي تعاملت معها كسلعة استراتيجية تؤثر في التوازنات الإقليمية والدولية. وتوجهت كذلك إلى الشرق الأقصى لفرض نظامها الأمني في اليابان وتايوان في مواجهة النفوذ الصيني، وتدخلت أيضاً في حرب كوريا وخاضت معارك قاسية حتى نجحت في تثبيت موقعها في الجنوب ضد الشمال.

ومع ذلك ظلت المخاوف الأمريكية من التراجع وانزواء الدور قائمة على مر التاريخ الأمريكي الحديث، فبعد أن افتتح الاتحاد السوفييتي عصر الفضاء بإطلاقه القمر الصناعي “سبوتنيك-1″، أول قمر صناعي في العالم عام 1957 أعلن رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف أنه مهد الطريق لسلسلة من الانتصارات الفضائية معلناً تفوقه على جميع دول العالم، وقتها اعتقد الأمريكيين أن إدارة دوايت أيزنهاور كانت فاشلة وأن الولايات المتحدة في تراجع. وبعد الغطرسة والهزيمة الأمريكية في فيتنام، اتسمت فترة السبيعينات أيضًا بالشعور بتراجع الهيمنة. ونشر غلاف مجلة أمريكية بارزة في عام 1979، صورة لتمثال الحرية والدموع تنساب من عينيه. وبعد أكثر من عقد تقريبًا على تلك الأحداث، انهار الاتحاد السوفيتي ودخلت الولايات المتحدة فترة الغطرسة المتمثلة في “القوة العظمى الوحيدة”.

ولاستمرار تلك العظمة، عملت الولايات المتحدة على استمرار هيمنتها العالمية، والإبقاء على ميزان القوى بينها وبين أي منافس عالمي أو إقليمي لصالحها بشكل كبير وذلك من خلال:

إقامة التحالفات: اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية إنشاء التحالفات العسكرية والسياسية والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والمجتمعية لاحتواء ومحاربة ظهور أي أيديولوجية حديثة تنافس استراتيجيتها العالمية. كما حددت ثلاثَ مناطق حيوية حول العالم تقتضي مصالحها الكبرى أن تكون متواجدة فيها بقوة، وأن تحوز اهتمامها السياسي ووجودها العسكري لتبقي على مكانتها ليس فقط كدولة عظمى، ولكن أيضًا كأهم قوة عالمية تتحكم بمفاصل ومؤسسات النظام الدولي الذي تشرف عليه وتقوده، هذه المناطق هي:

  • أوروبا، ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وذلك بسبب وجود قوى عظمى أخرى تنافس الولايات المتحدة، حيث لا تريد الولايات المتحدة لهذه القوى (روسيا في أوروبا، والصين في شرق آسيا)، أن تكون مهيمنة في إقليمها حتى لا تنافسها في أماكن أخرى حول العالم.
  • ·         منطقة الخليج العربي بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام، لأنها مناطق استراتيجية وحيوية جدًا؛ نظرًا لأنها منطقة تكدس الثروة النفطية في العالم، والتي تعد السلعة الأهم في الاقتصاد العالمي، حيث إن الذي يسيطر عليها يستطيع أن يتحكم في أهم مفاصل الاقتصاد.

وقسمت الولايات المتحدة خططها وفقًا لاستراتيجية كل منطقة، فمثلاً: في أوروبا الغربية واليابان، كان اتباع المصالح الأمريكية يتم عادة من خلال الإدارة السياسية الحذرة. وفي أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، كانت هناك حاجة إلى التدخلات والانقلابات والانقسامات وانتشار الصراع بشكل مستمر. أما في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا كان هناك مجهود عسكري على نطاق واسع.

استراتيجية التأثير: لا يمكن لأي دولة أخرى أن تؤثر وتتدخل في سياسات الدول الأخرى بالطريقة التي لا تزال الولايات المتحدة تقوم بها. ففي يناير 2019، طالبت الولايات المتحدة ألمانيا بمنع شركة الطيران الإيرانية ماهان إير من الهبوط على أراضيها. وفي سبتمبر 2020، فرضت عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لرفضه إسقاط التحقيقات مع مواطنين أمريكيين. وفي فبراير 2022، بناءً على طلب الولايات المتحدة، وافقت اليابان على إعادة توجيه الغاز الأحفوري المسال، وهو أمر بالغ الأهمية للصناعة اليابانية، إلى أوروبا في حالة نشوب صراع مع روسيا بشأن أوكرانيا. وفي ذروة هذا الصراع الروسي الأوكراني، أجرى وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، زيارة إلى الجزائر للتفاوض على إعادة فتح خط أنابيب الغاز إلى إسبانيا عبر المغرب.

اللعب بمقدرات الشعوب: لا يمكن لأي دولة أو قطب سياسي أن يلعب بمستقبل ومقدرات شعوب أخرى مثلما فعلت الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، لقد غزت أمريكا العراق عام 2003 لتدمير أسلحة محرمة لا وجود لها، واستمرت حربها هناك لثمان سنوات لاحقة، ثم غادرت بدون تحقيق واضح لأي من أهدافها، مسلمة بذلك العراق إلى إيران. ثم عادت من جديد لتشن حرباً أخرى أسفرت عن مقتل نحو 100 ألف مدني. وساعدت أمريكا على الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي عام 2011، وتركت ليبيا تتحول إلى دولة فاشلة، وتخوض دوامة حرب أهلية لا نهاية لها. وفي عام 2021، حيث انتهت أطول حرب قادتها الولايات المتحدة بانسحاب قواتها من أفغانستان وعودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان بعد عشرين عاماً من سقوط نظامها على أمريكا وحلفائها. أما في سوريا، فإن معظم القرارات التي اتُّخذت في عهد إدارة أوباما لم تمنع البلاد من الانزلاق إلى حرب لم تنته.

هل تراجعت سياسة القطب الواحد؟

منذ ما يزيد عن عشر سنوات، ومحللي السياسة الدولية مهووسين بالانتقال المفترض من نظام أحادي القطب، حيث الولايات المتحدة هي القوى العظمى العالمية الوحيدة، إلى عالم متعدد الأقطاب أو متعدد المراكز بين روسيا والصين حيث يكون توزيع القوى أقل اختلالا في التوازن. وتوقعت التحليلات العودة إلى توازن القوى بين الدول العظمى، كتصحيح للاختلال الذي تمثله الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، إن لم يكن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بالتفوق العسكري على جميع البلدان الأخرى، وتسيطر على محيطات العالم عبر الممرات البحرية الحيوية، وحاميات عسكرية في كل قارة، مع شبكة من التحالفات تغطي جزء كبير من العالم الصناعي، وتتمتع بنفوذ طاغ على النظام المالي العالمي، وتمتلك نحو 30% من ثروات العالم، وتتمتع باقتصاد قاري لا يعتمد على التجارة الدولية. كما أن المعاملات العالمية التي تتم بالدولار آخذة في الازدياد، وليس التراجع.

جاء الحديث عن نهاية الهيمنة الأمريكية، كرد فعل على الأزمة المالية العالمية والصعود الصناعي في الصين، وأصبح ينظر إلى الصراعات في أفغانستان والشرق الأوسط وحتى أوكرانيا على أنها إلهاء عن التهديد الصيني، الذي يمثل التحدي الوحيد للهيمنة العالمية الأمريكية. وفي استراتيجية الأمن القومي لعام 2022، أعلنت إدارة بايدن أن عشرينيات القرن الحادي والعشرين ستكون “عقدا حاسما لأمريكا والعالم”. وقالت الاستراتيجية: “نحن لا نسعى إلى صراع أو حرب باردة جديدة، ولكن يجب علينا تشكيل النظام الدولي بشكل استباقي بما يتماشى مع مصالحنا وقيمنا”. ولكي تنتصر الولايات المتحدة في المنافسة مع الصين، كان لزاماً عليها أن تعمل على تعزيز قدرتها الصناعية من خلال “الاستثمار في شعبنا”. وأن اللحظة الحالية تمثل “فترة جديدة من السياسة الخارجية الأمريكية ستتطلب المزيد من الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ “.

وطبقاً لما ورد في القسم الثالث من استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 فأن الأولوية الملحة للولايات المتحدة على المسرح العالمي هي التفوق على الصين ثم الحد من نفوذ روسيا. حيث لم تعد القيادة الصينية تؤيد فلسفة الزعيم الصيني دنغ شياو بينج “أخفي نقاط قوتك وانتظر حتى تتاح لك الفرصة“، وسارعت بجهودها ليس فقط لترسيخ مكانة الصين كنظير اقتصادي عالمي للولايات المتحدة، بل وأيضاً لتحل محلها كقوة رائدة في آسيا.  وأصبحت التحدي الأكثر تعقيدًا للولايات المتحدة، نظراً للترابط الاقتصادي المتبادل بينهما.

وكما أشارت استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، تسعى الصين إلى إزاحة الولايات المتحدة من منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتوسيع نطاق نموذجها الاقتصادي الذي تقوده الدولة. ووصف بايدن الصين بأنها التهديد الأكثر “أهمية” للولايات المتحدة. فالصين تتنافس عسكرياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً. وترتبط طموحاتها التكنولوجية ارتباطا وثيقا بتطوير جيشها. وتشكل مبادراتها الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم مشكلة كبيرة، لأن هذه الجهود متجذرة بشكل أساسي في أيديولوجية تهدف إلى مواجهة النظام الأمريكي بشكل مباشر.

وبالتالي، فإن الصين هي الدولة الوحيدة المرشحة لتحل مكان الولايات المتحدة أو تخلق حالة التوازن المطلوب في النظام الدولي وتنهي على مبدأ القطب الواحد؛ بالنظر إلى المتطلبات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والنووية للدولة المهيمنة. وتعترف الولايات المتحدة بتمتع الصين بنقاط قوة متعددة، ولكن يقابلها بعض نقاط ضعف. وأن ميزان القوى الإجمالي، يميل نحو الولايات المتحدة بخمس مزايا على الأقل لصالحها على المدى الطويل، وهي:

الجغرافيا: الولايات المتحدة محاطة بمحيطين ودائرة واسعة من الأصدقاء والحلفاء، في حين تشترك الصين في حدود مع أربعة عشر دولة أخرى وتخوض نزاعات إقليمية مع العديد منها، بما في ذلك الهند.

الطاقة: تتمتع الولايات المتحدة بميزة في مجال الطاقة فهي أكبر دولة منتجة للنفط، ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية تتصدر الولايات المتحدة قائمة أكبر منتجي النفط في العالم للعام السادس على التوالي بمتوسط ​إنتاج قياسي بلغ 12.9 مليون برميل يوميا. في حين تعد الصين أكبر مستورد للنفط على مستوى العالم.

القوى الرأسمالية: تستمد الولايات المتحدة قوتها من مؤسساتها المالية الضخمة العابرة للحدود الوطنية والدور الدولي الذي يلعبه الدولار على مستوى العالم. وتعتمد العملة الاحتياطية الجديرة بالثقة على كونها قابلة للتحويل بحرية، فضلا عن أسواق رأس المال العميقة وسيادة القانون، التي تفتقر إليها الصين. ولا يزال الدور الذي يلعبه الدولار الأمريكي يشكل أهمية مركزية في أداء النظام المالي الدولي. حيث يمثل الدولار الأمريكي ما يقرب من 90% من معاملات الصرف الأجنبي ويمثل 85% من المعاملات في الأسواق الفورية والآجلة والمقايضة. ونصف التجارة العالمية وثلاثة أرباع التجارة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مقومة بالدولار الأمريكي.

ميزة ديموغرافية: تتمتع الولايات المتحدة بميزة ديموغرافية نسبية باعتبارها الدولة المتقدمة الرئيسية الوحيدة التي من المتوقع حاليًا أن تحتفظ بمكانها (الثالث) في التصنيف السكاني العالمي. وستشهد سبعة من أكبر خمسة عشر اقتصادًا في العالم تقلصًا في القوى العاملة على مدى العقد المقبل، ولكن من المتوقع أن تزداد القوى العاملة في الولايات المتحدة، في حين بلغت القوة العاملة في الصين ذروتها في عام 2014.

التفوق التكنولوجي: كانت الولايات المتحدة في طليعة التقنيات الرئيسية (الحيوية، والنانو، والمعلومات). وبطبيعة الحال، تستثمر الصين بكثافة في البحث والتطوير وتسجل نتائج جيدة في أعداد براءات الاختراع، ولكن بمقاييسها الخاصة لا تزال جامعاتها البحثية تحتل مرتبة متأخرة عن الجامعات الأمريكية.

محاولات كسر الهيمنة الأمريكية

النمو الاقتصادي كان الهدف الأسمى للحكومات الصينية المتعاقبة، على مدار العقود الماضية، ونجحت الصين بالفعل منذ عام 1980 في أن تتحول من اقتصاد يقوم على الزراعة إلى مصنع للعالم وقاطرة للنمو. واكتسبت مكانة عالمية تتوافق مع امكاناتها وقدراتها المتصاعدة في ظل النظام الدولي الخاضع للسيطرة الأمريكية. وأضحت الصين قوة ذات تأثير مزدوج، فهي مصدر قلق ومثار انتقادات بالنسبة للدول الكبرى ولجيرانها، وهي في الوقت نفسه شريك اقتصادي من الصعب الاستغناء عنه.

وسيتيح التراجع الأمريكي المجال للصين من دخول الساحة الدولية مستغلة تراجع دور واشنطن في اغلب الملفات والمساحات الخارجية، ومحاولة بكين التمدد في مساحات واسعة ومحاولة تقاسم النفوذ مع واشنطن لتشكيل نظام عالمي يشارك فيه أكثر من طرف، وقد سعت الصين إلى تقوية تحالفاتها وعلاقاتها الاقتصادية من خلال (منظمة شنغهاي)، للتمكن من أخذ دور امريكا لتصبح الشريك الاكبر بدل أمريكا لأوروبا واسيا.

 وبالتالي هناك عدد من العوامل تبرز تراجع الهيمنة الأمريكية من خلال:

تراجع الشعبية: بينما تسعى الولايات المتحدة لترميم صورتها، داخلياً وخارجياً، فإن شعبية واشنطن تتقلص في جميع أنحاء العالم، بسبب دعمها القوي لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وإلحاق الضرر به أكثر. وبحسب “مؤشر إدراك الديمقراطية” لعام 2024، تتضاءل شعبية الولايات المتحدة كقوة عالمية في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، بسبب دعمها الثابت للاحتلال الإسرائيلي في الحرب على غزة. والآن، تنضم دول أوروبية إلى هذا التصور تجاه الولايات المتحدة، بحسب الاستطلاع. وعادت العديد من دول أوروبا إلى التصورات السلبية تجاه الولايات المتحدة، وذلك للمرة الأولى منذ بداية إدارة الرئيس جو بايدن. هذا الارتفاع والانخفاض، من المواقف السلبية إلى الإيجابية، ومن ثم العودة إلى المواقف السلبية “صارخ بشكل خاص في كل من ألمانيا والنمسا”. وفي مقابل التدهور الذي تعانيه الولايات المتحدة في صورتها، تستمر التصورات الإيجابية عن الصين، في آسيا وشمالي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بالنمو، ما يجعل التصور العالمي لبكين إيجابياً صافياً.

تحول عن الحياد: التحول عن الحياد الأمريكي كشفته إدارة الرئيس الأسبق، بيل كيلنتون، عندما رفضت استخدام حق الفيتو لمنع قرار بمجلس الأمن يدين إسرائيل في استخدامها القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، عام 2000، ودافعت الخارجية آنذاك عن هذا الموقف بضرورة تقديم نفسها كوسيط محايد. والآن يتكرر الأمر بمنح إدارة بايدن حكومة الاحتلال الغطاء الشرعي لإبادة غزة بحجة مشروعية الدفاع عن النفس، بالإضافة إلى مساندتها في المنظمات الدولية لعدم إدانتها تحت أي مسمى واستخدام حق النفض في مجلس الأمن لمنع اتخاذ أي قرار ضدها أو محاولة وقف إطلاق النار. وزودت الولايات المتحدة إسرائيل بأسلحة متقدمة وحاملات طائرات وغواصات مسلحة نووياً، وهو ما ساهم في تراجع كبير للقيمة الأخلاقية للولايات المتحدة والغرب.

رفض جهود السلام: لم تقف الولايات المتحدة جامدة أمام صنع السلام في أوكرانيا، بل رفضت جهود القوى الطامحة إلى ذلك، وبالإشارة في هذا الصدد، إلى الدور الصيني، فقد تمكنت بكين من عقد مصالحة بين الرياض وطهران، لم تستطع الولايات المتحدة “إخفاء غضبها”، وسرعان ما قالت إنها كانت تعرف مسبقًا بهذه المساعي. وبالمثل، رفضت الولايات المتحدة وثيقة السلام الصينية، رغم أن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي رحب بها، وأبدى استعدادًا لمناقشتها مع الرئيس الصيني شي جين بينج، واشترط زيلينسكي، لقبول الوثيقة، انسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية. لذا كانت استراتيجية الولايات المتحدة بعد الغزو الروسي هي استنزاف القوة الروسية المتنامية، وعزلها من خلال الدعم الهائل الذي قدمته لأوكرانيا؛ على أمل أن تضعف هذه الحرب روسيا، أو حتى أن يتم تغيير نظامها السياسي ليلتحق بالنظام الإقليمي الأوروبي المهيمن عليه أمريكيًا. وعلى الرغم من تعثر هذه الاستراتيجية، فما زالت الإدارة الحالية تصر عليها، على الرغم من فشل القوات الأوكرانية في إحداث أي انتصارات أو اختراقات عسكرية.

تنويع الاحتياطيات وتقليص التعرض للدولار الأمريكي: تقوم الصين بشكل مكثف بشراء الذهب لتنويع احتياطاتها النقدية وتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، الذي يُعد أهم عملة يمكن الاحتفاظ بها في الاحتياطي النقدي. وقامت الصين فعلياً بتخفيض حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية. وبدءاً من مارس 2024، كان لدى الصين ما قيمته حوالي 775 مليار دولار من الديون الأمريكية، انخفاضاً بمقدار حوالي الثُلث من مستويات عام 2011.

العمل على تراجع قوة الدولار الأمريكي: تسعى بكين منذ سنوات طويلة إلى التخلص من هيمنة العملات الغربية وخاصة الدولار الأمريكي؛ وذلك بتكثيف الاعتماد على عملتها المحلية في التبادل التجاري، ولاسيما بعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا. وبدءاً من مارس 2024، تمت تسوية أكثر من 52.9% من المدفوعات الصينية بالرنمينبي، بينما تمت تسوية 42.8% بالدولار الأمريكي، وهذا ضعف الحصة مقارنةً بالسنوات الخمس الماضية.

جذب الديمقراطيات الصاعدة: إن فكرة انضمام الديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم إلى أمريكا وأوروبا ضد التهديد الاستبدادي تبدو مجرد وهم. وأصبحت الديمقراطيات الصاعدة في دول الجنوب – البرازيل والهند وجنوب أفريقيا – غير مُحرجة من التحالف مع الصين وروسيا. كما جاءت مجموعة البريكس لترسل إشارة قوية بأن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع مرور الوقت. وليس أدل على أهمية المكانة التي وصل إليها تجمع البريكس، من طلبات الانضمام المتزايدة إلى المجموعة.

ختامًا، إذا نظرنا إلى الصين المنافس الأقوى للهيمنة الأمريكية هل بإمكانها تغيير مسار الأحداث العالمية مثلما تفعل الولايات المتحدة، أم أن مدى القوة الأمريكية لابد وأن ينظر له بطريقة مختلفة: فقد حققت الولايات المتحدة تفوق القوى وهي درجة من القوى العالمية جعل مداها يعمل على تثبيط الدول الأخرى عن تحديها. كما أن التحدي الأكبر الذي يواجه مكانة أمريكا هو محلي: فالاستقطاب شديد داخل المجتمع الأمريكي، وهناك صعوبة كبيرة في الإجماع على أي أمر تقريباً. بداية، هذا الاستقطاب كان حول القضايا السياسية التقليدية مثل الضرائب والإجهاض، لكنه تحول منذ ذلك الحين إلى صراع حول الهوية الثقافية. وعدم المساواة، وفقدان الثقة، وحوادث إطلاق النار الجماعية، والوفيات بسبب اليأس والمخدرات، والانتحار. كما أن رغبة الولايات المتحدة في مواصلة دورها المهيمن على شؤون العالم، ربما تتضح بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر، فالحدث السياسي الأبرز من المتوقع أن يشهد انقساما بين رؤيتين متعارضتين بالنسبة للعلاقات الدولية. الرؤية الأولى يجسدها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهي رؤية انعزالية وقومية، فالسياسات الشعبوية، مثل رفض دعم أوكرانيا أو الانسحاب من حلف شمال الأطلنطي، من شأنها أن تلحق ضررا كبيرا بالقوة الناعمة للولايات المتحدة. في حين يجسد الرؤية الثانية الرئيس جو بايدن، وهي رؤية أممية وواقعية، تدعو للانخراط مع العالم. ومستقبل القيادة الأمريكية للعالم، ربما يعتمد في نهاية الأمر على الموارد، ومسارات القوى المنافسة، والمواقف تجاه القوة الأمريكية في أنحاء العالم، وعوامل أخرى.

وما لم تتمكن الولايات المتحدة من إرغام إسرائيل على وقف إطلاق النار على المدى الطويل، فسوف تجد نفسها تكافح من أجل السيطرة على الصراعات على ثلاث جبهات (آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط). حتى الدولة التي تتفوق على منافسيها في مجال الدفاع لا يمكنها خوض أكثر من حرب في وقت واحد وفي ساحات متعددة ومتباعدة.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81818/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M