الدرس الرئيس المستخلص من نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت يوم الأحد 9 يونيو/حزيران أنها قد تكون ذات أهمية كبيرة للسياسات الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
– في فرنسا، انتهى الأداء الضعيف المخيب للآمال لحزب “النهضة” الذي يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون إلى دعوته لحل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة نهاية يونيو، في خطوة غير متوقعة ومحفوفة بالمخاطر، يسعى من خلالها إلى تجديد ولايته وتجنب حالة الضعف السياسي التي يعاني منها- لكن هذه الخطوة قد تؤدي أيضا إلى حالة من التعايش بين ماكرون وزعيمة “التجمع الوطني” اليميني المتطرف مارين لوبان.
– في بلجيكا، أعلن رئيس الوزراء ألكساندر دي كرو استقالته بعد تراجع حزبه “حزب الليبراليين الديمقراطيين الفلاندر المفتوح” في الانتخابات.
– في ألمانيا، تعرضت الأحزاب الثلاثة المشاركة في الائتلاف الحاكم- الاشتراكي الديمقراطي، والخضر، والديمقراطيون الأحرار- لخسائر انتخابية، وحصل كل منها على أصوات أقل من حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، مما أضعف موقفها في الداخل قبل الانتخابات الفيدرالية المقبلة.
– في المجر، برز بيتر ماغيار زعيم حزب “الاحترام والحرية” كخصم جدي لفيكتور أوربان.
– وفي بولندا، لأول مرة منذ عقد من الزمان، فاز “الائتلاف المدني” بقيادة رئيس الوزراء دونالد توسك على حزب “القانون والعدالة” المشكك في الاتحاد الأوروبي بقيادة ياروسلاف كاتشينسكي، مما عزز موقف توسك القوي في الداخل والخارج.
بالإضافة إلى العواقب السياسية الوطنية، فإن النتيجة الرئيسة لانتخابات البرلمان الأوروبي هي التحول نحو اليمين. ومن الممكن أن تحظى الأحزاب اليمينية، من يمين الوسط إلى الأكثر تطرفا، بالأغلبية لأول مرة. حيث شهدت مجموعات اليمين الثلاث- المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون ومجموعة الهوية والديمقراطية- وكذلك حزب “الشعب الأوروبي” اليميني الوسطي، زيادة في عدد أعضاء البرلمان الأوروبي.
قد يكون لهذا التحول تأثير كبير على السياسات المتعلقة بالمناخ والهجرة والتوسع والميزانية وسيادة القانون، خاصة إذا تعاونت الأحزاب اليمينية. ويتماشى هذا التحول أيضا مع اتجاه أوسع نحو اليمين في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، حيث تشكل الأحزاب اليمينية المتطرفة جزءا من الحكومات الوطنية في ثماني دول من أصل 27 دولة. تترأس هذه الأحزاب اليمينية الحكومات في المجر وإيطاليا، بينما تشارك في الائتلافات الحاكمة في كل من هولندا وفنلندا وسلوفاكيا والتشيك وكرواتيا، وتقدم الدعم البرلماني للحكومة السويدية. وهذا الوضع يؤثر بشكل كبير على القيادة والأولويات في الاتحاد الأوروبي. وقد تكون نتيجة الانتخابات في النمسا، حيث حصل حزب “الحرية” على أكبر عدد من الأصوات، مؤشرا على مشاركة اليمين المتطرف في الحكومة المقبلة للبلاد بعد الانتخابات الوطنية في وقت لاحق من هذا العام.
أ ف ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة في 30 يونيو
هناك أيضا خطر متزايد من الانقسامات والفوضى داخل البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي، مما يهدد الوحدة الأوروبية ويعوق القدرة على تحقيق التوافقات الضرورية في ظل الظروف الحالية، مثل الحرب في أوكرانيا واحتمال إعادة انتخاب ترمب.
تشكل الأحزاب اليمينية المتطرفة جزءا من الحكومات الوطنية في ثماني دول من أصل 27 دولة
وكان العامل الرئيس في هذه الانتخابات نسبة إقبال الناخبين. فرغم أن الدراسات أظهرت اهتماما أكبر بالانتخابات بحسب دراسات “يورو باروميتر”، فقد بدت الحملة خاملة وغالبا ما كافحت الأحزاب المؤيدة لأوروبا من أجل حشد الناخبين. ورغم ذلك، فإن النتائج الأولية أظهرت تباينا كبيرا في مستوى المشاركة الانتخابية، حيث ارتفعت في بعض البلدان مثل ألمانيا وفرنسا والمجر وسلوفاكيا إلى مستوى أعلى مما كانت عليه قبل خمس سنوات، بينما انخفضت لمستوى أقل في بولندا وإيطاليا وإسبانيا مقارنة بالمرات السابقة.
وستحتاج الأحزاب المؤيدة لفكرة أوروبا الآن إلى دراسة نسبة الإقبال بشكل أدق لفهم ما إذا كان الأداء القوي لليمين المتطرف، مثل “التجمع الوطني” في فرنسا، وحزب “البديل من أجل ألمانيا” في ألمانيا، هو نتيجة للتراجع النسبي في مشاركة الناخبين المؤيدين لفكرة أوروبا، أم إنه-وبشكل أكثر إثارة للقلق- نتيجة لتحول بعض الناخبين نحو الأحزاب الراديكالية بعيدا عن التيار السائد (وهو ما يبدو عليه الحال بشكل جزئي في ألمانيا).
يسار الوسط يستعيد بعض التوازن
في نتائج هذه الانتخابات، يظهر أن الخاسرين الرئيسين هي أحزاب الخضر والليبراليين، بالإضافة إلى يسار الوسط بدرجة أقل. حيث خسر هؤلاء بعض مقاعد البرلمان الأوروبي، إلا أن هذا لا يعكس بالضرورة انخفاضا في شعبيتهم بل هو نتاج لانتكاسات محلية. على سبيل المثال، عانت أحزاب “الخضر” في ألمانيا، و”النهضة” في فرنسا (حزب ماكرون)، و”الديمقراطيون الاشتراكيون” في ألمانيا وإسبانيا، بسبب أنها جزء من الحكومات المحلية.
مع ذلك، يبدو أن يسار الوسط استعاد بعض التوازن في بعض الدول الأخرى التي لا حكم له فيها، حيث حقق نتائج جيدة، على سبيل المثال في هولندا والسويد والبرتغال وإيطاليا. ومن المتوقع أن يصبح حزب “العمال الاشتراكي” الإسباني بقيادة بيدرو سانشيز أكبر حزب وطني في مجموعة “التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين”، وهذا على الرغم من حصوله على المركز الثاني فقط في إسبانيا.
وتعتبر مجموعة اليمين المتطرف أكبر الفائزين في هذه الانتخابات. فهي، بفضل تضافر الجهود، بما في ذلك الأحزاب غير التابعة مثل حزب “البديل” وحزب “فيدس”، تقترب من تجاوز عتبة الثلث من المقاعد، مما يمنحها القدرة على عرقلة تشريعات البرلمان الأوروبي. وعلى وجه الخصوص، تبرز مارين لوبان وجورجيا ميلوني بشكل ملحوظ، حيث حقق حزباهما بعض أكبر التمثيلات الفردية في البرلمان الأوروبي المقبل.
ومع ذلك، ستحتاج لوبان إلى إعادة تأكيد قوتها في الانتخابات التشريعية الوطنية في وقت لاحق من هذا الشهر. وفي الوقت نفسه، ومع موقف قوي لحزبها في البرلمان الأوروبي وكزعيمة للحكومة في إيطاليا، ستكون جورجيا ميلوني شخصا أساسيا في تشكيل القيادة المقبلة والأجندة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي. حيث يمكنها تحقيق توازن في التعاون مع كل من اليمين المتطرف ويمين الوسط في قضايا مختلفة، مما يجعلها أساسية في توجيه مسار الاتحاد الأوروبي في السنوات القادمة.
ستحتاج الأحزاب المؤيدة لفكرة أوروبا الآن إلى دراسة نسبة الإقبال بشكل أدق لفهم ما إذا كان الأداء القوي لليمين المتطرف، هو نتيجة للتراجع في مشاركة الناخبين المؤيدين لأوروبا أم إنه نتيجة لتحول بعض الناخبين نحو الأحزاب الراديكالية
أما من ناحية الفائزين الأقل بروزا، فقد استعاد يسار الوسط الفرنسي بقيادة رافايل غلوكسمان زخمه، حيث اقترب من التفوق على حزب ماكرون. وفي بولندا، يعزز فوز الائتلاف المدني بقيادة دونالد توسك مكانته الداخلية والدولية. كذلك، صعد “ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي/ الاتحاد الاجتماعي المسيحي” في ألمانيا بقيادة فريدريش ميرتس كأبرز المنافسين في الانتخابات الفيدرالية المقبلة، مؤهلا لمنافسة اليسار وحزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف. أما في المجر، فبرز بيتر ماغيار كخصم جدي لرئيس الوزراء فيكتور أوربان.
وحقق حزب اليمين الوسطي في الاتحاد الأوروبي انتصارا هادئا في الانتخابات، محافظا على مقاعده، ليبقى أكبر كتلة سياسية في البرلمان الأوروبي. كما حققت أحزاب يمين الوسط نجاحات انتخابية بارزة في دول مثل ألمانيا، بولندا، إسبانيا، واليونان، بالإضافة إلى الفوز في بعض الدول الأصغر.
ومع ذلك، يواجه حزب “الشعب الأوروبي” انقسامات داخلية حول ما إذا كان يتعين عليه التعاون مع قوى اليمين الراديكالي الأكثر “فاعلية” في قضايا حساسة مثل المناخ والهجرة والسياسة الاقتصادية، أو الانضمام إلى قوى الوسط (بما في ذلك يسار الوسط، والليبراليون، وربما أيضا الخضر) لتشكيل جبهة موحدة في مواجهة اليمين الراديكالي.
وتشير النتائج الأعم لهذه الانتخابات إلى مناخ سياسي يميل لصالح اليمين على حساب اليسار. في ظل التحديات المتعاقبة التي واجهها الاتحاد الأوروبي- مثل جائحة “كوفيد-19″، والحرب في أوكرانيا، وأزمة غلاء المعيشة- يبدو أن حماسة الجمهور الأوروبي تجاه الاتحاد تضاءلت. فوفقا لبيانات “يورو باروميتر” الأخيرة، يعتقد 48 في المئة من سكان الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ، بينما يعتقد 34 في المئة فقط أنها تسير في الاتجاه الصحيح.
ويتضح أن يمين الوسط يجسد “الواقعية الأوروبية” التي استقطبت اهتمام الناخبين المعتدلين، في حين يتجه المحبطون نحو اليمين المتطرف. إذ يعزز الشعور بعدم الأمان- الناجم بشكل خاص عن الحرب في أوكرانيا- من مصداقية اليمين في قضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية. وفي الوقت نفسه، ولكون الحرب تعد قضية مثيرة للانقسام في بعض الدول الأعضاء (مثل ألمانيا والنمسا)، فإن الأحزاب اليمينية المتطرفة تستطيع اجتذاب أصوات الناخبين الذين يرفضون الإجماع الرسمي بشأن دعم أوكرانيا.
بالنظر إلى الأسابيع القادمة، يبرز تأثير الانتخابات المرتقبة على قرارات الاتحاد الأوروبي الكبرى كموضوع مثير للاهتمام. إذ لا تتوقف تداعيات هذه الانتخابات عند تشكيل القيادة الجديدة للاتحاد الأوروبي فحسب، بل تمتد أيضا إلى بدء محادثات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد، وهي مسألة كان من المنتظر أن تُناقَش في المجلس الأوروبي نهاية يونيو. علينا أيضا أن نولي اهتماما لمحاولات توحيد صفوف ممثلي اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي بقيادة مارين لوبان. ومع ذلك، سيواجه هؤلاء تحديا يتمثل في ضرورة التركيز أولا على السياسة الداخلية.
إن المجهول الأكبر- بجانب نتيجة الانتخابات التشريعية الفرنسية- يتمثل في تشكيل القيادة القادمة للاتحاد الأوروبي. وتظل أورسولا فون ديرلاين المرشحة الأوفر حظا لرئاسة المفوضية الأوروبية، ولكنها بحاجة إلى الحصول على تأييد كاف من أعضاء البرلمان الأوروبي. ولكن في ظل المناخ السياسي المتقلب الناتج عن هذه الانتخابات، يبقى احتمال فقدانها لدعم بعض العواصم قائما، مما يجعل إعادة انتخابها غير مؤكدة.
على صعيد آخر، لا يزال أنطونيو كوستا وكايا كالاس المرشحين الرئيسين لمنصبي رئيس المجلس الأوروبي، والممثل الأعلى للشؤون الخارجية، على التوالي، إلا أن فرص اختيارهما ليست مؤكدة بعد. ورغم التوزيع التقليدي للأدوار الثلاثة بين يمين الوسط، ويسار الوسط، والليبراليين، فإن الأداء الضعيف لليبراليين يضعف موقف كالاس.
يعزز الشعور بعدم الأمان- الناجم بشكل خاص عن الحرب في أوكرانيا- من مصداقية اليمين في قضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية
وفي الوقت نفسه، يضع الفوز القاطع لدونالد توسك في بولندا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا، في موقع يسمح لكل منهما بالمطالبة بحصة في القيادة الأساسية. وقد يؤدي كل ذلك، بالإضافة إلى نتائج الانتخابات الفرنسية، إلى تأجيل القرارات حتى أوائل الخريف، مما يفتح المجال أمام ظهور مرشحين جدد للمناصب القيادية.
المصدر : https://www.majalla.com/node/318856/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A6-%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%B1%D8%BA%D9%85-%D8%B5%D8%AE%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81%D9%8A%D9%86