يكمن التحدي في زيادة الإنتاجية في الخدمات التي تستوعب العمالة مثل البيع بالتجزئة، والرعاية، والخدمات الشخصية والعامة، حيث لم نحقق سوى نجاح محدود، ويرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن مثل هذه الخدمات لم تكن قَـط هدفا صريحا لسياسات التنمية الإنتاجية. أربع استراتيجيات لتوسيع نطاق تشغيل العمالة الإنتاجية…
بقلم: داني رودريك، روهان ساندو
برلين- يكمن مستقبل البلدان النامية في الخدمات. قد يبدو هذا غريبا في ضوء حقيقة مفادها أن التصنيع كان الطريق التقليدي إلى النمو والازدهار في نهاية المطاف، وهو الطريق الذي سلكته كل الاقتصادات الغنية اليوم، فضلا عن قصص النجاح الأحدث عهدا مثل كوريا الجنوبية وتايوان والصين. ويبدو التصنيع أكثر أهمية في ضوء عودة السياسات الصناعية الرامية إلى إحيائه ليصبح ممارسة شائعة مرة أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن التصنيع اليوم مختلف. فقد اتخذ الإبداع في التصنيع شكلا يعتمد في المقام الأول على المهارات، الأمر الذي أدى إلى تقليص الطلب على العمال من ذوي المستويات التعليمية المتدنية نسبيا. وتعمل تكنولوجيات جديدة مثل الأتمتة (التشغيل الآلي)، والروبوتات، والطباعة الثلاثية الأبعاد على استبدال رأس المال المادي بالعمالة بشكل مباشر. ورغم أن الشركات في البلدان النامية لديها الحافز لاستخدام تقنيات تحتاج إلى عمالة كثيفة، فإن المنافسة في السوق العالمية تتطلب توظيف تقنيات إنتاجية من غير الممكن أن تختلف بشكل كبير عن تلك المستخدمة في الاقتصادات قبل الناشئة، لأن عقوبة الإنتاجية كانت لتصبح لولا ذلك بالغة الارتفاع. إن الحاجة إلى الإنتاج وفقا لمعايير الجودة الصارمة التي تحددها سلاسل القيمة العالمية تحد من مقدار العمالة غير الماهرة التي يمكن أن تحل محل رأس المال المادي والعمالة الماهرة.
وعلى هذا فإن ارتفاع المهارات وكثافة ورأس المال في قطاع التصنيع يعني بدوره أن قطاعات التصنيع الرسمية القادرة على المنافسة على المستوى العالمي في البلدان النامية فقدت القدرة على استيعاب كميات كبيرة من العمالة. لقد أصبحت في واقع الأمر قطاعات “محصورة” لا تختلف كثيرا عن قطاع التعدين، في ظل إمكانات نمو محدودة وتأثيرات إيجابية قليلة على جانب العرض في بقية قطاعات الاقتصاد.
هذا يعني أن تعزيز الإنتاجية في الخدمات التي تستوعب العمالة أصبح يشكل أولوية أساسية، لأسباب تتعلق بالنمو والعدالة. ولأن القسم الأعظم من الوظائف سيكون في قطاع الخدمات، فإن هذه الوظائف لابد وأن تكون منتجة بالقدر الكافي لدعم نمو الدخل. المعضلة هنا هي أننا لا نعرف الكثير عن كيفية رفع الإنتاجية في الخدمات التي تستوعب العمالة بكثافة.
ففي حين تتسم بعض الخدمات، مثل الخدمات المصرفية، وتكنولوجيا المعلومات، وتوظيف مصادر خارجية لتنفيذ العمليات التجارية، بالديناميكية الإنتاجية والقابلية للتداول، فإنها لن تستوعب العمالة لذات السبب الذي يجعل قطاع التصنيع غير قادر على ذلك. وحتى في ظل أفضل الظروف، لن توفر هذه الخدمات التي تتطلب مهارات مكثفة نسبيا الحل للتحدي المتمثل في خلق فرص العمل الإنتاجية. يكمن التحدي في زيادة الإنتاجية في الخدمات التي تستوعب العمالة مثل البيع بالتجزئة، والرعاية، والخدمات الشخصية والعامة، حيث لم نحقق سوى نجاح محدود، ويرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن مثل هذه الخدمات لم تكن قَـط هدفا صريحا لسياسات التنمية الإنتاجية.
في ورقة بحثية جديدة، نَـصِف أربع استراتيجيات لتوسيع نطاق تشغيل العمالة الإنتاجية في الخدمات التي تخلق أكبر عدد من الوظائف في البلدان النامية.
تركز الاستراتيجية الأولى على الشركات الراسخة، والضخمة، والمنتجة نسبيا القائمة بالفعل، وتنطوي على تحفيز هذه الشركات على التوسع في تشغيل العمالة، إما بشكل مباشر أو من خلال سلاسل التوريد المحلية. قد تكون هذه شركات تجزئة كبرى، أو منصات مثل خدمات مشاركة الركوب، أو حتى شركات تصدير التصنيع (مع إمكانية توليد روابط المراحل العليا مع مقدمي الخدمات).
تركز الاستراتيجية الثانية على الشركات الصغيرة (التي تشكل القسم الأعظم من الشركات في البلدان النامية) وتسعى إلى تعزيز قدراتها الإنتاجية من خلال توفير مدخلات عامة بعينها. قد تتمثل هذه المدخلات في التدريب الإداري، أو القروض أو الـمِـنَـح، أو مهارات عُمّالية مخصصة، أو بنية أساسية محددة، أو مساعدة تكنولوجية.
نظرا لتباين هذه الشركات، التي تتراوح من الشركات البالغة الصِـغَـر والفردية، إلى الشركات المتوسطة الحجم، فإن السياسات في هذا المجال تتطلب نهجا متمايزا يستجيب لاحتياجاتها المتمايزة. علاوة على ذلك، ونظرا للأعداد المشاركة، فإن السياسات تتطلب في كثير من الأحيان أيضا آلية للاختيار من بين الشركات الأكثر وعدا، لأن أغلبها من غير المرجح أن تصبح ديناميكية وناجحة.
وتركز الاستراتيجية الثالثة على توفير الأدوات الرقمية أو غير ذلك من التكنولوجيات الجديدة، للعمال مباشرة أو للشركات، والتي تكمل بشكل صريح العمالة المنخفضة المهارة. يتمثل الهدف هنا في تمكين العمال الأقل تعليما من القيام ببعض الوظائف التي كانت مخصصة تقليديا للمهنيين الأكثر مهارة وزيادة نطاق المهام التي يمكنهم أداؤها.
تركز الاستراتيجية الرابعة أيضا على العمال الأقل تعليما وتجمع بين التدريب المهني والخدمات “الشاملة”، وهي مجموعة من برامج المساعدة الإضافية للباحثين عن عمل لتعزيز فرص توظيفهم، والاحتفاظ بهم، وترقيتهم في نهاية المطاف. الواقع أن برامج التدريب هذه، الـمُـصَـمَّـمة على غرار مشروع كويست، وهي المبادرة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، وغيرها من مخططات تنمية قوة العمل القطاعية المماثلة، تعمل عادة بشكل وثيق مع أصحاب العمل، سواء لفهم احتياجاتهم أو لإعادة تشكيل ممارساتهم في التعامل مع الموارد البشرية لتعظيم إمكانات التوظيف.
الأمثلة وفيرة على هذا النوع من المبادرات في مختلف أنحاء العالم، وقد جرى تقييم كثير منها بدقة، وهو ما نلخصه في ورقتنا البحثية. وأساس الممارسة لما يمكن أن نطلق عليه وصف “السياسات الصناعية للخدمات” والتي يمكن لجهود المستقبل أن تبني عليها، قائم بالفعل.
بصرف النظر عن نجاح البرامج الفردية، فمن الأهمية بمكان أن نضع في الحسبان حجم التحدي الذي تواجهه استراتيجية التنمية الموجهة نحو الخدمات. إن التدخل السياسي العشوائي الذي يزيد من مكاسب العمال من ذوي الدخل المتدني، بنسبة 20% على سبيل المثال، سوف يُحكم عليه عادة بأنه نجاح كبير (على افتراض أن تكاليف البرنامج معقولة). لكن حتى لو جرى توسيع نطاقه بنجاح ليشمل الاقتصاد ككل، فإن هذا المكسب لن يشكل حتى 1% من فجوة الدخل القائمة حاليا بين بلد مثل إثيوبيا والولايات المتحدة. إن النجاح الحقيقي يتطلب قدرا أعظم من الطموح، والتجريب المستمر، وتنفيذ مجموعة بالغة الاتساع من البرامج.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39169