الفكر الإسلامي المعاصر.. والنزعة الإنسانية

وهذه النزعات ما ظهرت إلا نتيجة الابتعاد والانقطاع عن النزعة الإنسانية في الإسلام والثقافة الإسلامية، وتسببت بتقديم صورة مشوهة عن الإسلام، وكأنه دين يفتقد إلى النزعة الإنسانية والأخلاقية، أو أن هذه النزعة لا فاعلية لها ولا تأثير في هذا الدين، وليس هناك ما هو أسوء من…

من الملاحظ أن الفكر الإسلامي قد تأخر كثيرا في العناية والاهتمام بالنزعة الإنسانية، وفي استكشاف هذه النزعة واستظهارها، وفي الإعلاء من شأنها والتمسك بها، وفي المحاججة والمجادلة والدفاع عنها، أمام المشككين والمنتقصين والمتجاهلين لهذه النزعة في الإسلام والثقافة الإسلامية.

الاهتمام الذي نعني به التعامل مع هذه النزعة، بوصف أنها تمثل نزعة لها بنيتها الثقافية، ونسقها القيمي والأخلاقي، ولها مفاعليها وتأثيراتها الأدبية والاجتماعية والسياسية وهكذا في باقي الميادين الأخرى، تماثل وتشابه ما ظهر في الثقافة الأوروبية في أزمنتها الحديثة والمعاصرة.

وما هو جدير بالإشارة، أن الثقافة الأوروبية هي التي استثارت عناية واهتمام المجال الإسلامي بهذه النزعة، وذلك بعد أن ظلت الثقافة الأوروبية تتبجح بهذه النزعة وتتفاضل بها وتتفاخر، وتحاول أن تتملكها وتتسيد بها وعليها، ناظرة لنفسها على أنها أول من تعرف على هذه النزعة، ومنها وبسببها تعرفت عليها باقي الثقافات الأخرى.

وأكثر ما استثار حفيظة الفكر الإسلامي في هذا الشأن، هو محاولة الثقافة الأوروبية عزل أو انتقاص علاقة الأديان بهذه النزعة، بما في ذلك الدين الإسلامي، واعتبار أن الأديان لا تولي أهمية كبيرة، ولا تعطي قيمة عالية لهذه النزعة، لأنها تقدم اللاهوت على الإنسان، بصورة يحضر فيها اللاهوت دوما ويكاد يكون مهيمنا، ويتقلص فيها الإنسان دوما ويكاد يكون مغيبا، وبطريقة لا تسمح فيها هذه الأديان إلى المس من هذه المسألة، أو الاقتراب منها، ولا حتى النقاش والمحاججة، لأنها لها وضعية اليقين والثبات.

هذا الموقف المغالي والمتبجح من الثقافة الأوروبية، لا شك أنه يستثير الثقافات غير الأوروبية، ويستثير حتى الأديان الأخرى، ومنها الإسلام، الوضع الذي حتم ويحتم على المجال الإسلامي أن يواجه هذا الموقف المنتقص من الثقافة الأوروبية، بالتنبه لهذه النزعة، والعمل على استكشافها والعناية بها، وتأكيد علاقتها بالإسلام والثقافة الإسلامية.

ومع أن الفكر الإسلامي قد تنبه متأخرا لهذه النزعة الإنسانية في داخله، إلا أنه وحتى بعد هذا التنبه بقي الاهتمام بهذه النزعة ضئيلا ومحدودا، ولم نشهد تراكما وتجددا مستمرا يغطي على النقص الحاصل، ويسد الفراغ الموجود، ويبرز الجوانب والأبعاد المشعة في هذه النزعة، بطريقة تجعل هذه النزعة في موضع التذكر والانتباه في ساحة الفكر الإسلامي من جهة، وساحة الثقافات الإنسانية من جهة أخرى.

ويكفي للدلالة على ذلك، أننا ومع نهاية القرن العشرين لا نجد كتابا واحدا يحمل في عنوانه الاقتران بين الإسلام أو الفكر الإسلامي أو الثقافة الإسلامية والنزعة الإنسانية على اختلاف تعبيراتها، وهذه ملاحظة فائقة الدلالة تستدعي التوقف والنظر، كما تستدعي البحث عن طبيعة اهتمامات المجال الإسلامي، ونمط مساراته ومسلكياته التي غيبت الاهتمام بتلك النزعة، مع ما لها من أهمية وأهمية عالية.

واللافت أكثر أن الاهتمام بهذه النزعة، لم يتغير كثيرا حتى بعد الولوج إلى القرن الحادي والعشرين، ومع نهاية العقد الأول منه، فما زال الاهتمام بهذه النزعة ضئيلا ومحدودا، إلى درجة من السهولة حصره والاحاطة به، وبشكل لا يكاد يمثل علامة فارقة، تكشف أو تغير من طبيعة الرؤية المتشكلة حول نمط العلاقة بين المجال الإسلامي والنزعة الإنسانية.

وتتأكد هذه الملاحظة، عند معرفة أن أغلب المؤلفات التي حملت في عناوينها الاقتران بين الإسلام والنزعة الإنسانية، جاءت من أولئك المشتغلين على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا دراسيا، وهؤلاء لهم رؤيتهم الفكرية والنقدية والأيديولوجية المغايرة، التي لا تصنف على داخل الفكر الإسلامي ولا تحسب عليه، ولا تلقى أيضا القبول في ساحته، وغالب ما يجري التعامل مع رؤية هؤلاء بمنطق الشك والرفض والامتعاض.

مواجهة نزعات التعصب والكراهية

تشتد اليوم الحاجة إلى الالتفات من جديد للنزعة الإنسانية في المجالين العربي والإسلامي، وتتأكد العناية والاهتمام بهذه النزعة، وضرورة إعطائها درجة عالية من الفاعلية والتأثير، والعمل لتحويلها إلى نزعة تكون حية وحاضرة في الميادين كافة، الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

والحاجة إلى الالتفات لهذه النزعة بهذه الصورة، وذلك لمواجهة ومحاصرة وتفتيت نزعات التعصب والكراهية والعنف، وهي النزعات التي ظهرت بصورة خطيرة ومفزعة في المجتمعات العربية والإسلامية، وأخذت تذكرنا بما عرف في أوروبا بالعصور الوسطى، وهي العصور التي ظهرت واشتدت فيها مثل تلك النزعات الخطيرة، حتى وصفت تلك العصور في الأدبيات الأوروبية الحديثة والمعاصرة بالعصور المظلمة.

وهذه النزعات ما ظهرت إلا نتيجة الابتعاد والانقطاع عن النزعة الإنسانية في الإسلام والثقافة الإسلامية، وتسببت بتقديم صورة مشوهة عن الإسلام، وكأنه دين يفتقد إلى النزعة الإنسانية والأخلاقية، أو أن هذه النزعة لا فاعلية لها ولا تأثير في هذا الدين، وليس هناك ما هو أسوء من هذه الصورة في النظر إلى الإسلام، وهذا يعني ربط العلاقة بين النزعة الإنسانية، والحاجة إلى تصحيح الصورة عن الإسلام.

ومن جانب آخر، فإن هذه النزعات الخطيرة، تلفت النظر إلى أن الحاجة لإحياء النزعة الإنسانية، والعناية الشديدة بها، لا تقتصر وتتحدد بالجوانب الفكرية والمعرفية، كما لا تنحصر وتتضيق في نطاق الجدل والمحاججة مع المختلفين أو المشككين، وإنما لها صلة وصلة مهمة بالجوانب والأبعاد السلوكية والأخلاقية والاجتماعية، وهذا الجانب يمثل أحد المداخل المهمة في النظر لهذه النزعة في ساحة الإسلام والثقافة الإسلامية.

كما أن الحاجة إلى هذه النزعة الإنسانية، ليس بقصد التعبير عنها بطريقة دفاعية أو تبريرية، وإنما بقصد أن تتحول إلى نسق أخلاقي وقيمي، يشع منه قيم التسامح والكرامة والمساواة واحترام الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه ولسانه ودينه ومذهبه، وهذا ما يفترض أن تنهض به جميع ثقافات العالم اليوم، لكي تعيد الاعتبار لقيمة الإنسان بما هو إنسان.

 

المصدر :

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M