جولة جديدة من التصعيد المصرفي بين الحكومة اليمنية والحوثيين: الديناميات والتوقعات

  • التراجُع الأخير في سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية لا يبدو متصلاً بالأزمة الناتجة عن قرار البنك المركزي بإلزام كل البنوك العاملة في البلاد بنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، وإن كان تزامنهما يخلق ضغوطاً استثنائية على قيادة البنك المركزي في خلال هذه المرحلة. 
  • يبدو أن البنك المركزي في عدن يحتفظ بخيارات مستقبلية أخرى لفرض قراراته الأخيرة، بينما تتضاءل قدرة الحوثيين على اتخاذ خيارات مُقابِلة، والظاهِر أن “مركزي” عدن يتمهَّل في خطواته ويحاول التوصل إلى تفاهمات من دون اللجوء إلى تلك الخيارات.
  • من غير المتوقع أن تُسلِّم السلطات الموالية للحوثيين بإجراءات “مركزي” عدن وعقوباته القادمة؛ وربما تُغامِر بترك القطاع المصرفي في مناطق سيطرتها يواجه حالة انهيار كامل بدلاً من القبول بتفاهمات تَفرِض عليها تقديم تنازلات كبيرة.
  • مع أن المنحة السعودية الجديدة قد تساعد على وقف وتيرة تراجع سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة، لكن معالجة هذه المشكلة على المدى البعيد تتطلب البدء في تطبيق إصلاحات حقيقية في المالية العامة.

 

يواجه البنك المركزي اليمني في عدن، العاصمة المؤقتة للبلاد، تحديات استثنائية نتيجة الأزمة التي أعقبت قراره بإلزام كل البنوك العاملة في اليمن بنقل مراكزها الرئيسة من صنعاء (عاصمة البلاد التي تسيطر عليها جماعة “أنصار الله” الحوثية) إلى عدن (مقر الحكومة المعترف بها دولياً)، وكذلك بسبب تراجع سعر صرف الريال اليمني أمام العملات الأجنبية في مناطق سيطرة الحكومة إلى مستويات قياسية جديدة في خلال الأيام القليلة الماضية.

 

الخلفية والسياق

عقب نقل مقر البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في نهاية العام 2016، ضخَّت الحكومة المعترف بها دولياً سيولة من الطبعات الجديدة للعملة المحلية (الريال) إلى السوق بغرض تغطية العجز في ميزانيتها، والوفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين. وقد جرى تداول هذه الطبعات الجديدة بنفس سعر صرف الطبعات القديمة، في كلٍّ من مناطق سيطرة الحكومة ومناطق سيطرة جماعة “أنصار الله” الحوثية، إلى نهاية العام 2019، حين قررت الجماعة حظر تداول الطبعات الجديدة تماماً في مناطق سيطرتها، وهو ما أدى إلى انتقال الكتلة النقدية من الطبعات القديمة إلى مناطق سيطرة الحوثيين بينما انتقلت الكتلة النقدية من الطبعات الجديدة إلى مناطق سيطرة الحكومة.

 

وقد تحوَّلت طبعات الريال الجديدة والقديمة بسبب ذلك إلى عملتين مستقلتين من جهة وجود سعر صرف مختلف لكل منهما وفقاً للمتغيرات ذات الصلة، مثل حجم الكتلة النقدية ونطاق التداول؛ حيث كان سعر صرف الطبعات القديمة المتداولة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي ثابتاً عند مستوى 600 ريال يمني مقابل الدولار الأمريكي منذ نهاية العام 2019 وحتى أبريل 2022 عندما بدأ يرتفع تدريجياً قبل أن يستقر على مستوى 520-530 ريال يمني مقابل الدولار الأمريكي، بينما اتخذ سعر صرف الطبعات الجديدة المتداولة في مناطق سيطرة الحكومة منحاً تراجعياً وصل إلى ذروته في أواخر العام 2021 مع تجاوز حاجز الـ 1700 ريال يمني مقابل الدولار الأمريكي الواحد، قبل أن يتعافى ويستقر على مستوى 1100-1200 ريال يمني مقابل الدولار على مدار معظم أشهر العام 2022، ليُعاوِد الانخفاض مجدداً منذ مطلع العام 2023 بسبب تعليق تصدير النفط الخام من مناطق سيطرة الحكومة (منذ شهر أكتوبر 2022) على خلفية استهداف جماعة الحوثي لمنشآت وموانئ التصدير.

 

ويعود سبب هذا التفاوت في سعر الصرف إلى أن الكتلة النقدية من الطبعات الجديدة تعادل تقريباً 2-3 أضعاف الكتلة النقدية من الطبعات القديمة، بينما تتركز النسبة الأكبر من الكتلة السكانية، والنشاط الاقتصادي بالتبعية، في مناطق سيطرة الحوثيين محل تداول الطبعات القديمة، وليس في مناطق سيطرة الحكومة محل تداول الطبعات الجديدة.

 

واجهت السلطات التابعة لجماعة الحوثي، أيضاً، مشكلة تلف نسبة كبيرة من الطبعات القديمة، وتحديداً الفئات النقدية الصغيرة (50، 100، 250 ريال)، وبدرجة أقل بقية الفئات (500، 1000 ريال)، ولم تنجح في تحقيق أي اختراق على هذا الصعيد حتى شهر مارس الماضي عندما أعلن البنك المركزي في صنعاء عن إصدار جديد من العملات المعدنية من فئة الـ 100 ريال من أجل استبدال التالف من الطبعات القديمة من نفس الفئة، وأشار “مركزي” صنعاء يومها إلى إمكانية إقدامه على خطوات إضافية مماثلة في خلال الفترة المقبلة.

 

من جهته، سارع البنك المركزي اليمني في عدن إلى إدانة هذه الخطوة، مُحذِّراً من تداول أي إصدارات نقدية غير قانونية، قبل أن يعلن عن قراره الجديد بإلزام كل البنوك العاملة في البلاد بنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن في خلال 60 يوماً، وبحيث تنتهي هذه المهلة في 2 يونيو الجاري. وعطفاً على هذه الخطوة، قرر “مركزي” عدن، في 23 مايو، إلزام البنوك وشركات التحويل في اليمن باستصدار ترخيص “عدم ممانعة” من طرفه، في ظرف أسبوعين، من أجل السماح لهم بمواصلة تقديم خدمات استقبال الحوالات المالية وارسالها من وإلى خارج اليمن، وحدَّد البنك مجموعة من الشروط على البنوك والشركات الراغبة بنيل هذا الترخيص، أهمها الالتزام بتسليم الحوالات للمستفيدين بنفس العملة التي وردت فيها.

 

وفي 30 مايو، قرر البنك المركزي في عدن إلزام جميع البنوك وشركات الصرافة والتحويل في اليمن بوقف التعامل مع ستة من أكبر البنوك اليمنية التي تعمل مراكزها الرئيسة داخل صنعاء، بسبب تخلفها عن نقل مقراتها الرئيسة إلى عدن، وفي الوقت نفسه دعا القرار الجديد البنوك المعاقَبَة للاستمرار في خدمة عملائها حتى إشعار آخر. وفي نفس اليوم أيضاً، دعا البنك المركزي في عدن المواطنين والشركات والمؤسسات مِمَّن يمتلكون أي فئات نقدية من الطبعات القديمة للعملة المحلية إلى تسليمها للبنك، واستبدالها بالطبعات الجديدة، في غضون ستين يوماً، مما يوحي بأنه قد لا يعتبر الطبعات القديمة إصداراً قانونياً يحمل أي قيمة بعد انتهاء هذه المهلة.

 

في المقابل، أصدر البنك المركزي الموالي للحوثيين في صنعاء قراراً يُلزِم البنوك وشركات الصرافة والتحويل بوقف التعامل مع 13 من البنوك العاملة من داخل مناطق سيطرة الحكومة، كما أعلن عن تدشين آلية جديدة لاستلام الفئات النقدية من الطبعات القديمة من المواطنين والشركات في مناطق سيطرة الحكومة مقابل قيمتها من الطبعات الجديدة بحسب أسعار الصرف المتداولة في السوق، وليس بحسب قيمتها الأسمية على غرار ما فعله البنك المركزي في عدن.

 

بالتوازي مع كل ذلك، أخذ سعر صرف الريال من الطبعات الجديدة المتداولة في مناطق سيطرة الحكومة يتراجع بوتيرة غير مسبوقة، إذ تجاوز حاجز الـ 1700 ريال في مقابل الدولار الأمريكي الواحد للمرة الأولى منذ أواخر العام 2021، قبل أن يُسجِّل رقماً قياسياً جديداً بوصوله إلى مستوى 1805-1812 ريال يمني مقابل الدولار في منتصف شهر يونيو، ما فاقم من معاناة المواطنين هناك نتيجة ارتفاع أسعار معظم السلع الأساسية المستوردة، والتأثير السلبي الذي يحدثه هذا التراجع والتذبذب المستمرين في سعر الصرف على الحالة الاقتصادية ككل.

 

يتوقع استمرار تراجع سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة في ظل الحجم الحالي للكتلة النقدية من الطبعات الجديدة (AFP)

 

ديناميات خطِرة

من المهم، أولاً، الإشارة إلى أن التراجع الأخير في سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة ليس له أي صلة بالأزمة التي نشأت بعيد قرار البنك المركزي بإلزام كل البنوك العاملة في البلاد بنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، وإن كان يشترك معها من ناحية أن تزامنهما يخلق ضغوطاً استثنائية على قيادة البنك المركزي في خلال هذه المرحلة، على رغم أنها أظهرت منذ تعيينها في نهاية العام 2021 أداءً أفضل من القيادات السابقة للبنك المركزي منذ انتقاله إلى عدن، وظهر ذلك بجلاء في التزامها المستمر بعدم اللجوء لتمويل عجز الميزانية العامة عبر إصدار طبعات إضافية من الريال، من أجل الحيلولة دون توسع الكتلة النقدية بدرجة أكبر من المستوى الحالي، وإن كانت الميزانية العامة للحكومة المعترف بها دولياً تعاني حالياً من عجز أكبر بكثير مقارنةً بعهود القيادات السابقة للبنك المركزي.

 

وكان من المتوقع في ظل الحجم الحالي للكتلة النقدية استمرار تراجع سعر صرف الريال من الطبعات الجديدة المتداولة في مناطق سيطرة الحكومة إلى حين الوصول إلى حالة من التوازن بينه وبين حجم النشاط الاقتصادي هناك، كما هو الحال عليه بالنسبة للطبعات القديمة للريال المتداولة في مناطق سيطرة الحوثيين، والتي يشهد سعر صرفها استقراراً ملحوظاً، وأحياناً بعض الارتفاع (مع أنَّه غير مُحبَّذٍ من منظور الاقتصاد الكلي)، بسبب تثبيت حجم الكتلة النقدية من تلك الطبعات القديمة منذ وقت مبكر.

 

إن استقرار سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة عند مستوى معين في نهاية المطاف يقتضي استمرار نمو النشاط الاقتصادي هناك أو حتى عدم انكماشه على الأقل، في حين أن وقف تصدير النفط الخام والانكماش الذي يحدثه في النشاط الاقتصادي يجعل من غير المعروف إلى أي مدى سيتواصل هذا التراجع في سعر الصرف. ولا يتعارض هذا الأمر مع حقيقة أن سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة قد شهد بعض التعافي، إذ سجَّل ارتفاعاً كبيراً من مستوى 1700 ريال مقابل الدولار عند نهاية العام 2021 إلى مستوى 1100-1200 ريال مقابل الدولار في معظم أشهر العام 2022، إذ جاء هذا التحسن مدفوعاً بالودائع المقدمة للبنك المركزي من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية (بقيمة 2 مليار دولار) في العام 2022، ونظراً لارتفاع عائدات الحكومة من صادرات النفط الخام في نفس العام بسبب ارتفاع أسعار النفط عالمياً، كما أن تعيين القيادة الحالية لمركزي عدن كان في حد ذاته مؤشراً إيجابياً بالنسبة للمتعاملين في السوق؛ لكن تبيَّن أن كل هذه العوامل كانت ذات طبيعة مؤقتة، وسرعان ما عاد سعر الصرف إلى مسار تراجعه المتوقع منذ مطلع العام 2023 على أثر وقف تصدير النفط من مناطق سيطرة الحكومة، ونتيجة استنزاف رصيد البنك المركزي من الودائع المقدمة من الإمارات والسعودية.

 

وتكرَّر هذا النمط من التعافي المرحلي لسعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة في خلال العامين 2023-2024 بالتزامن مع الإعلان عن تقديم الإمارات والسعودية دفعة جديدة من الدعم المالي أو المساعدات الأخرى إلى الحكومة، قبل أن يعود سعر الصرف إلى مسار التراجع من جديد في خلال مدة قصيرة، إلى أن تجاوز في الآونة الأخيرة سقف الـ 1700 ريال مقابل الدولار للمرة الأولى منذ نهاية العام 2021، واستمر التراجع ليُسجِّل سعر الصرف أرقاماً قياسية جديدة بعد وصوله إلى مستوى 1805-1812 ريال مقابل الدولار في خلال الأيام القليلة الماضية، مع احتمالية أن يعود إلى التعافي مجدداً في ضوء الأنباء بشأن المنحة السعودية الجديدة، وإن كان مدى هذا التحسُّن المرتقب واستمراريته محكومان بحجم المنحة الجديدة، وحدود مرونة الحكومة في التعامل معها.

 

وإذا كان بالإمكان توجيه بعض الملاحظات إلى قيادة البنك المركزي في عدن بشأن طريقتها في إدارة مزادات بيع العملة الصعبة للمستوردين، بالنظر إلى الإقبال الضعيف نسبياً على هذه المزادات في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون عند أعلى المستويات، وهي مشكلة يعتقد أنه كان بالإمكان حلها من طريق إشراك أصحاب المصلحة من المستوردين لتحديد التحديات التي حالت دون مشاركتهم ومعالجتها، لكن في أحسن الأحوال من غير المتوقع أن يترك ذلك سوى تأثير إيجابي طفيف على سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة. وفي الحقيقة، ليس في وسع قيادة “مركزي” عدن تقديم مساهمة أكبر مما قدمته في الوقت الراهن، لكنها تحت ضغوط الرأي العام المحلي بسبب تراجع سعر صرف الريال إلى مستويات قياسية جديدة قررت أخيراً تقييد سقف التحويلات المالية داخلياً، وتقييد التعاملات بين شركات الصرافة والتحويل، مع أنها خطوة غير مُحبَّذة، وربما كانت ستُفاقِم الوضع لولا أنها جاءت بالتزامن مع الإعلان عن المنحة المالية الجديدة من السعودية، التي يفترض أن تترك تأثيراً إيجابياً يطغى على التأثيرات السلبية لقرارات “مركزي” عدن.

 

وكان بمقدور مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً الإسهام بشكل أكبر في دعم جهود قيادة البنك المركزي للتعاطي مع الموقف الحالي، من طريق تخفيض عجز الميزانية العامة عبر ترشيد النفقات ومتابعة الإيرادات غير المحصلة، إلا أن مساهمة قيادة السلطة المعترف بها دولياً في هذا الجانب تبدو محدودة جداً وتفتقر بعض سياساتها للحكمة، ويتجلى ذلك مثلاً في استمرار حرص مسؤوليها على المشاركة في فعاليات خارجية/دولية تتطلب نفقات ضخمة من باب المشاركة فقط، ومن دون أن يكون لها أهمية أو أثر حقيقي ينعكس إيجاباً على الأوضاع في الداخل.

 

وبالعودة إلى الأزمة التي أعقبت قرار إلزام جميع البنوك العاملة في اليمن بنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، فقد أشار البنك المركزي المعترف به دولياً إلى أن الدافع الرئيس لهذا القرار هو حماية القطاع المصرفي وحقوق المودعين من التداعيات السلبية التي قد تترتب على استمرار بقاء المراكز الرئيسة للبنوك في العاصمة صنعاء، لاسيما بعدما إعلان مركزي صنعاء الموالي للحوثيين عن إصدارٍ جديدٍ من الريال، وهو إعلان يطرح إمكانية استخدامها لهذه الآلية (القدرة على إصدار نقدي لفئات من الريال) لتمويل نفقات الجماعة على حساب المواطنين والقطاع الخاص في مناطق سيطرتها، عدا عن أن خطوة كهذه تزيد من احتمال تضرر مؤسسات القطاع المصرفي التي تحتفظ بمراكزها الرئيسة هناك جرَّاء التصنيف الأمريكي لجماعة “أنصار الله” الحوثية على قائمة المنظمات الإرهابية.

 

لكن “مركزي” عدن لم يمض، حتى الآن، في اتخاذ خطوات أشد قوة تجاه البنوك والمصارف والشركات التي رفضت الالتزام بقراره، على رغم انتهاء المهلة المحددة لاستصدار ترخيص عدم ممانعة من طرفه، ولم يُقدِم على مخاطبة جميع الجهات والمؤسسات الدولية من أجل إيقاف التعامل مع تلك البنوك والشركات. ويبدو أن قيادة “مركزي” عدن ما زالت تتفهم وضع البنوك والشركات العاملة داخل مناطق سيطرة الحوثيين، وتحاول ترك أكبر فرصة أمامها من أجل ترتيب أوضاعها والتوصل إلى صيغة تسمح لها بالاستمرار في العمل، مع أن “مركزي” عدن بدأ مؤخراً في مخاطبة بعض المؤسسات والجهات الدولية بضرورة مطالبة شركائها اليمنيين بتقديم ترخيص عدم ممانعة، وذلك من أجل التأكيد على جدية البنك في فرض قراراته.

 

ويمكن التماس دليل إضافي على هذا التوجُّه، من خلال قرار “مركزي” عدن، الصادر في 30 مايو، بمنع كل البنوك والشركات المحلية من التعامل مع ستة من أكبر البنوك اليمنية التي تعمل من داخل العاصمة صنعاء، بسبب تخلُّفها عن التجاوب مع قرار نقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، وهو قرار جمعت فيه قيادة البنك المركزي بين التأكيد على جديتها في فرض قراراتها والحرص على عدم إلحاق ضرر بالغ بتلك البنوك، ومنحها فرصة أكبر لترتيب أوضاعها؛ إذ تجنَّب “مركزي” عدن اتخاذ الخيار الأقوى المتمثل في تجميد التعاملات الدولية مع البنوك المُعاقَبة، وسمح لها في نفس الوقت بمواصلة تشغيل فروعها وخدمة عملائها في مناطق سيطرة الحكومة حتى إشعار آخر، مع تأكيده على جديته في فرض قراراته لاحقاً.

 

يبدو أن “مركزي” عدن يحاول التوصل إلى تفاهمات مع الحوثيين لحل الأزمة القائمة تجنُّباً لإلحاقها أضراراً بالغة بالمواطنين (AFP)

 

أما القرار الأخير للبنك المركزي في عدن (يوم 30 مايو أيضاً) الذي دعا فيه جميع المواطنين والشركات ممن يحتفظون بفئات نقدية من الطبعات القديمة للريال إلى تسليمها في خلال مهلة زمنية مقدارها 60 يوماً، فمن غير المتوقع أن يترك أي تداعيات مهمة بسبب انتقال معظم الكتلة النقدية من الطبعات القديمة إلى مناطق سيطرة الحوثيين في خلال الفترة الماضية واستمرار التداول بها بشكل طبيعي واستخدامها في دفع الضرائب ومختلف الرسوم المفروضة هناك، ناهيك بانعدام أي حوافز مقنعة بالنسبة للمواطنين والشركات في تلك المناطق تدفعهم إلى نقلها إلى مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً وإيداعها ومصارفتها بقيمتها الأسمية في الوقت الذي لا يزال بالإمكان مصارفتها في مناطق سيطرة الحوثيين مقابل سعر صرف أعلى بكثير (3.4 أضعاف سعر الصرف وفقاً لقيمتها الأسمية).

 

ويبدو أن هذا القرار كان محاولة من قيادة البنك المركزي في عدن لزيادة الضغوط على جماعة الحوثي، ودفعها إلى تقديم تنازلات تسهم في حماية حقوق المواطنين والقطاع المصرفي ككل، لكن السلطة المصرفية الموالية للحوثيين ردَّت بالتصعيد من طريق إصدار قرار يمنع البنوك والشركات على مستوى مناطق سيطرتها من التعامل مع 13 من البنوك العاملة من داخل مناطق سيطرة الحكومة، والإعلان عن إنشاء آلية جديدة لاستقبال الفئات النقدية من الطبعات القديمة من مناطق سيطرة الحكومة مقابل مصارفتها بقيمتها من الطبعات الجديدة بحسب سعر صرف السوق وليس بحسب قيمتها الأسمية على غرار ما فعله البنك المركزي في عدن.

 

ومن المستبعد أن يترك قرار وقف التعامل مع البنوك الـ 13 العاملة من مناطق سيطرة الحكومة أي تأثيرات خطرة عليها، بسبب عدم وجود نشاط واسع لها داخل مناطق سيطرة الحوثيين، إلا أن هذا القرار يخدم البنوك المعاقبة من قبل البنك المركزي في عدن عبر تمكينها من الاستئثار بكل التعاملات المالية والتحويلات التي تجري بين مناطق سيطرة الحكومة وبين مناطق سيطرة الحوثيين، وإن كان لدى البنك المركزي في عدن القدرة على إجبار الحوثيين على التراجع عن هذه الخطوة عبر وقف كل تلك التعاملات والتحويلات إلى حين رفع القيود عن البنوك العاملة من مناطق الحكومة، لاسيما أن الغالبية العظمى من التحويلات تتجه إلى مناطق سيطرة الحوثيين وبالتالي فهم أكثر حرصاً على استمرارها.

 

وعند هذه النقطة تحديداً، يبدو أن البنك المركزي في عدن يحتفظ بخيارات مستقبلية أخرى لفرض قراراته، بينما تتضاءل قدرة الحوثيين على اتخاذ خيارات مُقابِلة، لكن “مركزي” عدن يتمهَّل في خطواته ويحاول التوصل إلى تفاهمات تساعد على حلحلة المشكلة من دون اللجوء إلى تلك الخيارات، والتي ربما تُلحِق أضراراً بالغة بالمواطنين والقطاع المصرفي والصيرفي داخل مناطق سيطرة الحوثيين. وقد حاول مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، من جهتهما، مواكبة جهود البنك المركزي في عدن من طريق إصدار عدة قرارات مشابهة، أهمها قرار نقل عائدات بيع جميع تذاكر طيران اليمنية إلى حسابات داخل مناطق سيطرة الحكومة، بعدما كانت عائدات بيع تذاكر الرحلات من مطار صنعاء تبقى في مناطق سيطرة الحوثيين، وكذلك قرار إعادة تنظيم وضع شركات الاتصالات المحلية بما يتناسب مع الترتيبات الجديدة، مع ملاحظة أن كل هذه القرارات سبق أن صدرت قرارات وتوجيهات مماثلة لها في مراحل سابقة لكنها لم تنفذ بسبب بعض التحديات، مثل احتجاز إحدى طائرات الخطوط الجوية اليمنية في مطار صنعاء، كما أن مراكز شركات الاتصالات المحلية وحصتها السوقية الأكبر تقع ضمن مناطق سيطرة الحوثين، ولذا يصعب إجبارها على الامتثال لتوجيهات الحكومة.

 

استنتاجات

إن توقُّع السيناريو الذي ستنتهي إليه الأزمة التي نشأت عقب إلزام البنك المركزي في عدن كل البنوك العاملة في اليمن بنقل مراكزها الرئيسة إلى العاصمة المؤقتة للبلاد، يبدو صعباً؛ فعلى الرغم من انعدام أي خيارات حقيقية لدى للسلطات الموالية للحوثيين للرد على إجراءات “مركزي” عدن أو مواجهة عقوباته القادمة، إلا أنها لن تسلُّم بهذا الواقع الجديد بالضرورة؛ فمن الممكن أن يتمسَّك الحوثيون بموقفهم، ويغامروا بترك القطاع المصرفي في مناطق سيطرتهم يواجه حالة انهيار كامل بدلاً من القبول بتفاهمات تَفرِض عليهم تقديم تنازلات كبيرة. كما أن بإمكانهم الذهاب إلى خيار التصعيد العسكري، رغم خطورته، لإجبار الحكومة على التراجع عن قراراتها الأخيرة.

 

ومع هذا، يبدو أن الحكومة المعترف بها دولياً تُراهِن على أن تأثُّر إيرادات الحوثيين ومداخيلهم بدرجة كبيرة، بفعل العقوبات المرتقبة من البنك المركزي، لاسيما تلك المتعلقة بتقييد التحويلات والتعاملات المالية مع خارج اليمن، سيؤدي إلى تليين جانب الحوثيين في نهاية المطاف، ودفعهم إلى تقديم بعض التنازلات من أجل حلحلة الأزمة القائمة.

 

من جهة أخرى، ومع أن المنحة السعودية الجديدة للبنك المركزي في عدن قد تساعد على وقف وتيرة التراجع الحالي في سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة، لكن معالجة هذه المشكلة على المدى البعيد تتطلب اضطلاع مجلس القيادة الرئاسي والحكومة بدورهما المسؤول، المرتكز على آليات الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة، والبدء في تطبيق إصلاحات حقيقية في المالية العامة.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/jawla-jadida-min-altaseid-almasrifi-bayn-alhukuma-alyamania-walhwthiyn-aldiynamiat-waltawaquat

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M