إجماعٌ على المحك: منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي بين الحاجة العسكرية والمعوقات الاقتصادية والاجتماعية

  • دفعت أحداث السابع من أكتوبر، والحرب على حركة حماس في قطاع غزة، إلى إعادة التفكير في منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، التي أظهرت الحرب أهميتها، وتحديداً في سلاح المشاة.
  • طرحت حكومة نتنياهو بتأثير من الجيش، اقتراح قانون لإعادة بناء منظومة الاحتياط في الجيش، لكن هذا القانون يواجه معوقات اجتماعية واقتصادية وسياسية جادة.
  • الخلافات السياسية الداخلية التي صعّدتها حرب غزة، لن تساعد على تطوير منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، إذ إن نجاحها، كما بيَّنت الخبرة التاريخية، مرهونٌ بإجماع سياسي على أهداف الجيش في المرحلة المقبلة.

 

دفعت أحداث السابع من أكتوبر، والحرب في قطاع غزة، مكانة الجيش الإسرائيلي إلى الواجهة من جديد، وتحديداً قدرته على خوض معارك وحروب على جبهات مختلفة، وجهوزية وحداته العسكرية للقتال في حرب طويلة. وأظهرت الأحداث المتوالية بعد السابع من أكتوبر عطوباً في جهوزية الجيش وقدراته على عكس ما كان يُسوِّق قبل الأحداث بأنه جاهز لكل السيناريوهات، بما في ذلك القتال على عدة جبهات. وظهرت منظومة الاحتياط بوصفها واحدة من نقاط الضعف الأساسيّة للجيش الإسرائيلي.

 

في العقد ونصف الأخيرين لم يضغط الجيش لزيادة معدلات التزام الجنود المسرحين من الخدمة الإلزاميّة لخدمة الاحتياط، وكان ذلك نابعاً من تقديرات الجيش بأنه لم يَعُد لأغلب وحدات الاحتياط حاجة عملياتية ملحة، وأن خارطة التهديدات الأمنيّة تتطلب إعادة بناء قوة الجيش بما يتلاءم مع المتغيرات الجديدة، وفي مركزها المشروع النووي والنفوذ الإيرانيين في المنطقة، وحتى التهديد القادم مع قطاع غزة؛ فمنذ عام 2019، لم يخض الجيش معاركه في القطاع براً، وانحصرت معاركه بضربات جوية، وتوغل بسيط اعتمد على الجيش النظامي.

 

وانطلق الجيش، كما هو حال المستوى السياسي الإسرائيلي، من أن الجبهات الشمالية والجنوبية، لن تخرج عن نطاق السيطرة والردع الإسرائيليين، وأن التحدي الاستراتيجي الأساسي لإسرائيل هو النفوذ الإيراني، وعليه بُنيَت منظومة القوة الإسرائيلية وفقاً لهذه التقديرات التي سادت في أروقة المؤسسات الإسرائيلية السياسية، والعسكرية، والأمنيّة، وحتى البحثيّة.

 

تقف هذه الورقة على أسباب إعادة النظر في منظومة الاحتياط الإسرائيلية في الوقت الحالي، والمعيقات التي تحول دون تشريع قانون التجنيد الجديد المتعلق بتلك المنظومة، وتداعياته المحتملة على المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.

 

تآكُل منظومة الاحتياط الإسرائيلية

تعد منظومة الاحتياط العسكرية في الجيش الإسرائيلي من المنظومات الفريدة على مستوى جيوش العالم، من حيث حجمها، وطول مدة الخدمة الاحتياطية، واعتماد الجيش عليها. تركز هذه المنظومة على إبقاء قطاعات واسعة من المجتمع في حالة جهوزية عسكرية حتى بعد انتهاء خدمتهم العسكرية الإلزاميّة أو النظامية. وكان الدافع الأساسي لهذه المنظومة تجسير الفجوة الديمغرافية بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية في حالة اندلاع حرب تقليدية التي تعتمد على المواجهة التقليدية، والتي ميّزت أغلب الحروب الإسرائيلية العربية منذ عام 1948 وحتى حرب أكتوبر 1973؛ وهي حالة اجتماعية-سياسية وسمت المجتمع الإسرائيلي بالعسكرة، والنزعة الأمنية، وأسهمت في تعزيز العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة، فالمجتمع مُجنَّد كل الوقت استعداداً لحرب أو مواجهة عسكرية، مما رفع من قيمة الجيش إلى مستوى القداسة في المجتمع الإسرائيلي.

 

كانت حرب أكتوبر 1973 نقطة تحول في منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، إذ أدت هذه الحرب إلى زيادة الانفاق العسكري في إسرائيل إلى مستويات كبيرة جداً، وكان ذلك أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في بداية الثمانينيات، غير أن توقيع اتفاق السلام مع مصر، أدى إلى تراجع الانفاق العسكري، وجاءت حرب لبنان 1982، وهي أول حرب لم تحظ بإجماع في المجتمع الإسرائيلي، لتؤثر على دافعية جنود الاحتياط للخدمة العسكرية، وخاصة بعد استمرار احتلال الجيش لأجزاء من الأراضي اللبنانية، مما دفع الجيش إلى إخراج وحدات الاحتياط من ساحات القتال المركزية، في لبنان وفي الضفة الغربية، مما أدى إلى تآكل جهوزية قوات الاحتياط من جهة، وزيادة العبء على الوحدات النظامية من جهة أخرى، والتي تراجعت جهوزيتها أيضاً بسبب انشغالها في الحفاظ على الأمن اليومي، وتحوَّلت إلى ما يشبه وحدات شرطية في لبنان والضفة الغربية وقطاع غزة.

 

تدل هذه الأحداث أن الإجماع على الحرب، وعلى أهدافها، وغياب خيارات أخرى بديلاً عنها، يُسهم في زيادة دافعية جنود الاحتياط للخدمة العسكرية، لذلك كانت حرب لبنان 1982، أول حرب ظهرت فيه أصوات ترفض الخدمة في منظومة الاحتياط، بعد تصدُّع الإجماع عليها، ما يؤكد أن منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي مرتبطة إلى حد كبير بالأهداف السياسية للحرب، والإجماع عليها.

 

ينخرط جنود الاحتياط في ثلاثة مسارات من الخدمة العسكرية:

الأول، وحدات عسكرية مكونة كلها من جنود الاحتياط، مثل فرق الاحتياط البرية، أو وحدات في الدفاع المدني.

الثاني، وحدات مختلطة بين الجنود النظاميين والاحتياط، مثل سلاح المدرعات، الذي يعمل فيه جنود الاحتياط بوصفهم حلقة لإكمال عمل الوحدات النظامية.

الثالث، وحدات نظامية، والتي تُعَد فيها قوات الاحتياط الأساس في عمل هذه الوحدات، وهي وحدات منتظمة مثل سلاح الجو، وبعض الوحدات الخاصة والتقنية.

 

في السنوات الأخيرة ركزّ الجيش على دعم جنود الاحتياط من النمط الثالث، إذ إن هذه الوحدات لا تستطيع أن تكون فاعلة وذات جهوزية عالية دون وجود منتظم لقوات الاحتياط. في المقابل، أهمل الجيش منظومات الاحتياط في الوحدات الأخرى، لذلك عندما انطلقت الاحتجاجات ضد التغييرات الدستورية في العام 2023، وانضم طيارون إلى الاحتجاج من طريق عدم انتظامهم في التدريبات أو الخدمة، عُدَّ ذلك تهديداً حقيقياً لجهوزية الجيش الإسرائيلي، لاسيّما في سلاح الجو، والوحدات التقنية فيه.

 

جاء إهمال منظومة الاحتياط في الجيش، على الرغم من أن تقديرات إسرائيلية ذهبت إلى أن الجيش لا يستطيع خوض حروب ومعارك من دون جنود الاحتياط. ففي ورقة لمعهد دراسات الأمن القومي حول وضع منظومة الاحتياط، أشارت إلى أن الجيش لا يستطيع النجاح في مهماته القتالية في الحروب التقليدية من دون قوات الاحتياط ودمجها بنجاح في بُنية القوة القتالية. مع ذلك، فإن مثل هذه التقديرات، وعلى ما يبدو تقديرات الجيش أيضاً، عَدَّت الاحتياط حيوياً للحروب التقليدية، أما في الحروب الجديدة (كما هو الحال مع الحرب غير المتناظرة بين جيش نظامي ومليشيا عسكرية) فإن أهميته تتراجع.

 

وفي ظل هيمنة التقديرات العسكرية والسياسية التي تعتقد أن إمكانية اندلاع حرب تقليدية بين الجيش الإسرائيلي وجيش نظامي آخر قد تراجعت بشكل كبير، فقد انعكس الأمر على اهتمام الجيش بمنظومة الاحتياط البريّة، والتركيز على مراكز القوة الأخرى التي تصلح للحروب الجديدة، مثل سلاح الجو، والمنظومات الدفاعية، والمسيّرات الهجومية والقوى الخاصة.

 

ويعود تآكل منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي إلى العوامل الآتية:

 

أولاً، انتهاء الحروب التقليدية مع الجيوش العربية النظامية، وانحصار التهديد في منظمات عسكرية، أو صراع من دول بعيدة، وتحديداً إيران، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى تنظيم بُنيته وقوته العسكرية بما ينسجم مع تغيير خارطة التهديدات، وتحول نمط الحروب والصراعات.

 

ثانياً، بدء عملية السلام بين إسرائيل والدول العربية، والذي بدأت باتفاق كامب ديفيد مع مصر، مروراً بتوقيع اتفاقيات أوسلو، واتفاق السلام مع الأردن، والتي أنهت في مجملها عملياً حالة الحرب مع الدول العربية من وجهة نظر إسرائيل. وقد أسهم هذا التغيير في تراجع أهمية مبدأ تجسير التفوق الديمغرافي للجيوش العربية، إذ تراجعت إمكانية اندلاع حرب تقليدية مع جيوش نظامية عربية، باستثناء سورية، التي انهار جيشها بكل الأحوال، بعد الحرب الأهلية الداخلية، ولا يُشكل حالياً تهديداً عسكرياً جديّاً لإسرائيل.

 

ثالثاً، التغيُّر الحاصل في بُنية ميزانية الجيش، حيث سمحت الحكومة للجيش بالتصرف بموازنة الاحتياط كما يراه مناسباً، مما دفع الجيش لاستثمار ميزانية الاحتياط في وحدات عسكرية أخرى، وتقليص موازنة منظومة الاحتياط، خاصة في مجال التدريب والجهوزية والعتاد الحربي، فضلاً عن أن استدعاء جنود احتياط يُكلِّف ميزانية الجيش دفع رواتب لهم بحسب نسبة راتبهم في أعمالهم المدنية الأصلية.

 

رابعاً، أسباب اجتماعية-اقتصادية يتعلق جُلُّها بتراجع دافعية الالتزام والتجنُّد للاحتياط، ومن بينها: تفضيل الإسرائيليين الانغماس في العمل بعد إنهاء الخدمة العسكرية الإلزاميّة، حيث أن الاحتياط يرافقه دفع ثمن اقتصادي وعائلي. يضاف إلى ذلك، شعور قطاعات واسعة من الإسرائيليين بأن منظومة الاحتياط غير عادلة أو متساوية؛ فهم يستمرون بالخدمة مع ما يحمل ذلك من ثمن اقتصادي وعائلي، بينما تُعفَى قطاعات أخرى من الخدمة العسكرية، وتحديداً المتدينين الحريديم. كما أن لدى بعض الشرائح الاجتماعية اعتبارات سياسية تنطلق من أن خدمة الاحتياط لم تعد من أجل الدفاع عن الدولة ووجودها، بل من أجل الدفاع عن المستوطنين والاحتلال، مع التأكيد على أن هذا الاعتبار ليس عصياناً أو رفضاً للخدمة من منطلقات ضميريّة، وإنما من منطلقات غياب الحاجة للالتزام بالاحتياط أو غياب الخطر الأمني جراء هذا النوع من الخدمة. وهنالك من يعتقد أن توجه الجيش لتخفيف العبء العسكري عن الشرائح الاجتماعية التي تخدم في الجيش، هو الذي ساهم في تآكل منظومة الاحتياط.

 

وبالنسبة للنقطة الأخيرة، فقد حاول الجيش صدّ الضغوط عليه لتجنيد شرائح لا تخدم في الجيش، مثل المتدينين، والحفاظ على مكانته الاجتماعية من طريق تخفيف العبء العسكري عن الشرائح التي تخدم في الجيش، وكان السبيل لذلك هو التهاون في مراقبة تنفيذ الالتزام بالخدمة الاحتياطية، لكي يُقلّل الشعور بالظلم والتمييز وعدم المساواة لدى الشرائح التي تخدم، وكان ثمن هذه السياسة تآكُل منظومة الاحتياط، وقلة الدافعيّة لها، وتراجع جهوزيتها. وتمحور الاهتمام بمنظومة الاحتياط في الوحدات النخبوية فقط، الملائمة لتغير ساحة الحرب وخارطة التهديدات ونمطها مثل سلاح الجو، والوحدات التقنية، والوحدات الخاصة، ومنظومات الدفاع الجوي.

 

وقبل حرب غزة الأخيرة، وطبقاً لقانون الاحتياط عام 2008، كان سن نهاية خدمة الاحتياط للجنود يصل إلى 40 عاماً، وللضباط 45 عاماً، و49 عاماً لوحدات ومناصب يُحدّدها وزير الدفاع، مما يدل أن تراجعاً آخر حدث في سن الاحتياط، وخاصة بعد نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وبسبب غضب الجمهور على قانون تجنيد المتدينين أقرَّت الحكومة في منتصف يونيو مشروع قانون يرفع سن خدمة الاحتياط بعام واحد فقط.

 

تعرَّض مقترح قانون الاحتياط الجديد لموجة انتقادات، بسبب تداعياته الاقتصادية والتمييز الكامن فيه لصالح الحريديم (AFP)

 

حرب غزة وعودة الاهتمام بمنظومة الاحتياط

أعادت الحرب في قطاع غزة من جديد أهمية منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي وحيويّة دورها، إذ تم استدعاء ما يقارب 300 ألف جندي احتياط للقيام بالعملية البريّة في قطاع غزة. ومع إصدار الأوامر باستدعاء الاحتياط، تكشفت الأعطاب في هذه المنظومة، فلم يكن هناك عتاد عسكري متوفر لهم، مما دفع الناس إلى التبرع بعتاد عسكري من بيوتهم، لاسيّما السترات الواقية من الرصاص. وقد تأخرت العملية البرية لأسباب عديدة، أحدها غياب الجهوزية في صفوف الاحتياط نظراً لقلة التدريب، وتنظيم الوحدات، ودمجها في المنظومة القتالية والتنسيق بين باقي الوحدات.

 

في فبراير 2024، اقترحت وزارة الدفاع بالتنسيق مع الجيش مقترح قانونين للخدمة العسكرية، أولهما بشأن تعديل قانون الخدمة الإلزامية، والثاني حول قانون الاحتياط. في القانون الأول رُفِع زمن الخدمة الإلزامية للبنين من 32 شهراً إلى 36 شهراً، وأبقى مدة خدمة الفتيات كما هو، أي 24 شهراً. وفي مقترح قانون الاحتياط، نصّ القانون على رفع سن إنهاء خدمة الاحتياط من 40 عاماً إلى 46 عاماً للجنود، وإلى 50 عاماً للضباط، بحيث يخدم الجندي 42 يوماً في السنة، ويخدم الضباط 84 يوماً في السنة.

 

وجاء في ديباجة قانون الاحتياط المقترح في فبراير، أن الحرب على غزة فرضت فحصاً جديداً لبُنية القوة في الجيش الإسرائيلي، والحاجة إلى تطوير منظومة الاحتياط في الجيش. وأدرجت الديباجة سببين مركزيين لتعديل قانون الاحتياط لعام 2008:

 

أولاً، ظهرت حاجة لتعزيز وبناء مجمل منظومات القوى البشرية في الجيش، إذ إن مئات الجنود قُتلوا في أحداث السابع من أكتوبر، وفي خلال العمليات القتالية في غزة، وجرح آلاف آخرين ولا يتوقع عودتهم للقتال، لذلك، وكما جاء في ديباجة المقترح، “ظهرت فجوات عميقة في نظام القوة النظامي والاحتياطي للجيش الإسرائيلي في هذه المرحلة”.

 

ثانياً، تطلب القتال على جبهات مختلفة فحصاً جديداً للحاجة لوجود جنود الاحتياط، وخاصة فيما يتعلق باحتياجات الجيش للدفاع عن الحدود.

 

وأوضحت ديباجة القانون، أن قانون التجنيد الجديد سوف يشمل تمديد جيل الإعفاء من خدمة الاحتياط، وزيادة عدد أيام الاحتياط السنوية، وذلك للحفاظ على جهوزية الجيش أمام تغير خارطة التهديدات التي تواجه دولة إسرائيل، مما يجعل القانون القديم لا يستجيب لاحتياجات الجيش والتحديات الكبيرة التي تواجهه.

 

التداعيات الاقتصادية-الاجتماعية لمنظومة الاحتياط

فضلاً عن إهمال الجيش لعقود طويلة لمنظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، فإن العامل الاقتصادي يؤدي دورا مهماً في نجاح هذه المنظومة وفاعليتها وجهوزيتها. فكما ذكرنا آنفاً، يُرافِق خدمة الاحتياط ثمناً اقتصادياً يتصاعد إذا طالت مدة هذه الخدمة، خاصة في الحروب. وبما أن الحروب الجديدة بطبيعتها حروب طويلة، فإن الثمن الاقتصادي الذي يدفعه الجنود والدولة يكون أكبر، وتداعياته أعمق. وقد أشار مقترح القانون إلى أن الدولة سوف تدفع لكل جندي احتياط مبلغ 350 شيكل يومياً (حوالي 100 دولار)، وهو مبلغ لا يصل لمعدل الدخل اليومي لأغلب جنود الاحتياط، الذين يتقاضون رواتب أعلى من معدل الراتب السنوي في إسرائيل.

 

تُشير معطيات مؤسسة التأمين الوطني، إلى أن 1000 مصلحة تجارية تابعة لجنود الاحتياط أغلقت في الستة الأشهر الأولى للحرب، أي 6% من مجمل المصالح التجارية التي أغلقت، وهو معدل أعلى من معدل المصالح التجارية التابعة لجنود احتياط في السوق. وتتوقع مؤسسة التأمين الوطني أن يزداد هذا العدد في خلال العام 2024، وتضيف المعطيات أن حوالي 50% من المصالح التجارية لجنود الاحتياط التي أغلقت موجودة في مركز البلاد وتل أبيب، وحوالي 25% في الشمال وحيفا، وحوالي 13% في الجنوب. تؤكد هذه المعطيات حقيقة مهمة أشار إليها الكثير من البيانات حول جنود الاحتياط، فوجود أغلب المصالح التجارية في المركز، يدل على أن الشرائح التي تخدم في الاحتياط هي شرائح اجتماعية قوية اقتصادياً، وهي التي تتحمل العبء الأساسي في الخدمة العسكرية، وما يرافقها من دفع أثمان اقتصادية عالية.

 

وأظهرت ورقة بحثية لوزارة المالية نُشِرَت في فبراير 2024، أن جنود الاحتياط الذي التحقوا بالجيش في خلال حرب غزة، يحصلون على رواتب أعلى من المعدل العام في السوق، كما أن 20% من الاحتياط جاؤوا من قطاع الهايتك، لذلك فإن تكلفتهم بالنسبة للسوق مرتفعة جداً بالمقارنة مع جنود احتياط من قطاعات اقتصادية أخرى أو غير حاصلين على تأهيل أكاديمي. علاوة على ذلك، فإن قانون الاحتياط الجديد، الذي قدمه الجيش ووزارة الدفاع، سوف يُسبب ضرراً للاقتصاد الإسرائيلي بقيمة تتراوح بين 6 و8 مليارات شيكل في السنة للناتج المحلي (حوالي 2 مليار دولار).

 

وترتبط التداعيات الاقتصادية لمنظومة الاحتياط بقانون تجنيد الحريديم، ففي دراسة أعدها خين هرتسوغ حول التداعيات الاقتصادية لقانون الاحتياط الجديد، ثمة إشارة إلى أن الضرر لا ينحصر في الانفاق الحكومي المباشر على رواتب جنود الاحتياط الذين يتركون أعمالهم للالتحاق بالجيش لمدة شهر ونيف في السنة، والتي تُقدَّر بحوالي 2.4 مليار شيكل لخزينة الدولة، بل يتعداه إلى الضرر الذي سيلحق بالسوق نتيجة تراجع الإنتاج بسبب خروج الموظفين وأصحاب المصالح التجارية لتأدية خدمة الاحتياط، خاصة وأن القانون الجديد يرفع سن انتهاء خدمة الاحتياط من 40 عاماً إلى 45 عاماً، وهي السنوات التي يكون فيها معدل إنتاج الفرد في ذروته.

 

بناءً على ذلك، يقترح هرتسوغ في دراسته إضافة 9000 جندي نظامي للجيش، والذين يُمكن تجنيدهم من صفوف الحريديم، مما يمنع الضرر الاقتصادي لقانون الاحتياط الجديد، ويوفر أيام احتياط في الجيش تصل إلى 3 ملايين يوم في السنة، فضلاً عن أن تكاليف الجنود النظاميين ستكون أقل بالموازنة مع زيادة عدد جنود الاحتياط وأيام تدريبهم في الجيش كل سنة، إذ إن تكاليف الجندي النظامي تصل إلى ثلث تكاليف جندي الاحتياط دون حساب التداعيات الاقتصاديات غير المباشرة. كما أن زيادة عدد الجنود النظاميين إلى 9000 جندي ستمنع 70% من الضرر المتوقع على السوق، وستوفر حوالي 4.2 مليار شيكل من تكاليف قانون الاحتياط الجديد، التي تصل إلى حوالي 6 مليارات شيكل.

 

واجه قانون الاحتياط المقترح الكثير من الانتقادات بعد نشره في فبراير، حيث عُدَّ تكريساً للواقع الراهن، بل وتعميقاً له. فالقانون يزيد العبء على الشرائح الاجتماعية التي تخدم، ويعفي الشرائح التي لا تخدم، وخاصة المجتمع الحريدي. وتُشير المعطيات إلى أن 3% فقط من الإسرائيليين يخدمون في الاحتياط، والقانون الجديد لا يوسع خدمة الاحتياط، بل يزيد العبء على هذه الشريحة القليلة جداً من الإسرائيليين، حيث أن خدمة الاحتياط ستزداد بنسبة 133% عما كان عليه الوضع في السابق. لذلك تعرَّض المقترح لموجة انتقادات من شخصيات سياسية واجتماعية، ومن حركات اجتماعية أهمها حركة “أخوة السلاح”، التي عَدَّت القانون تمييزاً ضد من يخدم ويعمل، ولا يتطرق لمن لا يخدم ولا يعمل، كما عارض حزب المعسكر الرسمي القانون، إذا لم يرافقه تشريع قانون تجنيد الحريديم وليس إعفائهم. وعموماً، فقد تعرض مقترح القانون لمعارضة جماهيرية واسعة بعد نشره لملاحظات الجمهور في فبراير، وبيَّن أغلبُ الملاحظات وجود معارضة جماهيرية حقيقية للقانون، بسبب التداعيات الاقتصادية المرافقة له على جنود الاحتياط من جهة، والتمييز الكامن فيه لصالح الحريديم من جهة أخرى.

 

وتحت طائلة الضغط الشعبي لم تطرح الحكومة مقترح القانون من فبراير للمصادقة. وعلاوة على ذلك، عارضت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهارف-ميارا، طرح القانون على طاولة الحكومة بسبب تعارضه مع مبدأ المساواة، موضحة في بيانها أن هناك “مانعاً قضائياً لزيادة العبء على الذين يخدمون في الجيش دون تقليص عدم المساواة في الخدمة”.

 

قانون تجنيد المتدينين ومنظومة الاحتياط

تزامن الجدل حول تشريع قانون الاحتياط مع التماس للمحكمة العليا ضد الحكومة بسبب مماطلتها في تشريع قانون لتجنيد المتدينين. وقد ناقشت لجنة مراقبة الدولة تجنيد المتدينين، وتم الكشف عن معدلات التجنُّد للجيش في صفوفهم. إذ أوضح الجيش في خلال النقاش أن عدد الحريديم الذين تجندوا للجيش بعد السابع من أكتوبر وصل إلى 1100 حريدي، ومع ذلك أكد الجيش أن معدل تجند الحريديم لم يتغير، إذ أشارت معطيات الجيش أن 540 حريدياً تجنَّد للجيش منذ بداية الحرب في إطار مسار التجنُّد الخاص بالحريديم في الجيش، وذلك من بين 66 ألف وصلوا لسنّ التجنيد في سنة التجنيد الأخيرة. وتشير معطيات مراقب الدولة إلى أن 10% فقط من المرشحين للخدمة العسكرية في صفوف الحريديم يتجندون للجيش، حيث يصل عددهم إلى 1200 متجند. ووفقاً لمعطيات المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فإنّ 1.7% فقط من الرجال الحريديم، من الشريحة الجيلية 20-24 سنة، تجنَّدوا للجيش.

 

وقد أثار قانون الاحتياط مسألة تجنيد الحريديم في الجيش، وتبين أن تجنيدهم سوف يُقلص من عدد أيام خدمة الاحتياط لدى أبناء الشرائح الاجتماعية التي تخدم في الجيش. فطبقاً لدراسة أجراها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، تَبيَّن أنه في حال جُنِّدَ 20% من الحريديم، فإن ذلك سيُقلص 13% من مجمل أيام الاحتياط في الجيش لدى الشرائح التي تخدم، وإذا جُنِّدَ 40% من الحريديم فإن ذلك يُقلص 28% من عدد أيام الاحتياط، وإذا جُنِّدَ 60% فإن ذلك يوفر 43% من أيام الاحتياط.

 

تُبين هذه المعطيات أن مسألة تجنيد الحريديم بعد الحرب على غزة لم تعد مسألة مناكفة سياسية داخلية بين الأحزاب الدينية والعلمانية في إسرائيل، أو بسبب الموقف المعياري لأهمية المساواة في تحمل العبء العسكري، بل تحمل تداعيات اقتصادية، واجتماعية، وعسكرية. فهي من جهة، تسد حاجة الجيش للجنود، سواء في الوحدات النظامية أو الاحتياطية، ومن جهة أخرى، تُقلل العبء الاقتصادي على الشرائح التي تخدم في الجيش، وتُحسِّن الوضع الاقتصادي العام في الدولة.

 

قضية تجنيد الحريديم بعد حرب غزة لم تعد مسألة مناكفة سياسية داخلية، بل تحمل تداعيات اقتصادية واجتماعية وعسكرية (AFP)

 

وعلى الرغم من الضغط باتجاه تشريع قانون لتجنيد المتدينين، قرر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، تبني مشروع قانون كان قد طرحه بني غانتس في حكومة بينيت-لبيد عام 2022، عندما شغل منصب وزير الدفاع حينها، والذي صودق عليه بالقراءة الأولى في ذلك الوقت. وكانت الحكومة تحتاج إلى موافقة الكنيست من أجل طرحه من جديد، في إطار ما يسمى “مبدأ الاستمرارية”، أي تبنّي قانون قديم وطرحه من جديد على الكنيست من مرحلة التشريع التي انتهى بها القانون. وقد صوّت جميع أعضاء الائتلاف الحكومي في 10 يونيو (63 عضواً، باستثناء وزير الدفاع يوآف غالانت)، على مبدأ الاستمرارية، مما يُخوِّل الحكومة طرح القانون للتصويت عليه في القراءتين الثانية والثالثة.

 

حاول نتنياهو الموازنة بين ضغط الشارع بشأن قانون الاحتياط الصارم من فبراير، وبين إقرار قانون تجنيد للمتدينين يكون متساهلاً كما تطالب الأحزاب الدينية، ووجد نقطة التوازن في تصوره من طريق تقليص سن خدمة الاحتياط لعام واحد فقط، على خلاف مقترح فبراير الذي اقترح فيه الجيش أن تكون الخدمة لمدة خمس سنوات، وفي المقابل، تبنَّى مقترح القانون الذي عرضه غانتس، والذي لا يعفي المتدينين من الخدمة العسكرية تماماً، لكنه يفرضها عليهم من طريق جرعات خفيفة، وعلى مراحل عديدة بعيدة المدى (تجنيد 1566 حريدي في السنة الأولى، ثم إضافة 125 متجنداً في السنة الثانية، و136 آخرين في السنة الثالثة).

 

وقد عَدَّ معهد دراسات الأمن القومي قانون التجنيد للحريديم الذي تبنَّته الحكومة بمثابة “خطر على الأمن القومي الإسرائيلي”. وأوضح المعهد أن مقترح القانون السابق جاء في سياق مختلف، إذ ترافق مع التفكير بتقليص مدة التجنيد الإلزامي، ولكن تغيُّر الواقع، من حيث حجم المهام الأمنية، وضرورة إعادة بناء القوى البشرية في الجيش، وبنية القوة العسكرية؛ كلها تفرض الحاجة لقانون مختلف للحريديم عما طرحه غانتس سابقاً.

 

لم يُفلِح نتنياهو في تثبيت المعادلة التي يريدها، فقانون تجنيد المتدينين للعام 2022، عارضه غانتس الذي طرحه، بزعم أن السياق بعد السابع من أكتوبر يفرض تشريعاً جديداً في هذا الشأن، كما عارضه أغلب قوى المعارضة، ووافق عليه أعضاء من الائتلاف على مضض ما عدا غالانت. وفي نفس الوقت، فإن تعديل قانون الاحتياط مع بقاء تشريع قانون تجنيد المتدينين لن يُلبي حاجة الجيش العسكرية في المرحلة المقبلة، وهكذا سيخسر الجيش فوائد قانون الاحتياط، ولن يعوضه بزيادة تجنيد الحريديم.

 

استنتاجات

أسهمت الحرب على غزة في إعادة النظر في أهمية منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، الذي أهمل جنود الاحتياط، مُفضلاً بناء جيش مهني متطور تكنولوجياً، وفتَّاك في نفس الوقت. وأثبتت تجربة حرب غزة التي لا تزال مستمرة، أن عملية بناء القوة في الجيش الإسرائيلي المعتمدة على القدرات التكنولوجية غير كافية للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي، وأن الحروب مع منظمات عسكرية مثل “حماس” و”حزب الله”، تحتاج إلى قوة احتياط وجيش نظامي بالمفهوم التقليدي، إذ إن القدرات التي تملكها هذه المنظمات ليست قدرات ميلشيويّة تقليدية، وفي نفس الوقت ليست قدرات جيش نظامي.

 

إن عودة أهمية منظومة الاحتياط ستُتيح للجيش إعادة بناء قوته بصورة مختلفة عن السابق، وهذا معناه تخصيص ميزانيات كبيرة لإعادة بناء منظومة الاحتياط، من حيث التدريب المتواصل، وتوفير المعدات العسكرية للأفراد، ومراقبة فرض الالتزام بتدريبات الاحتياط، وتوسيع رقعة التجنيد للجيش في المجتمع الإسرائيلي. ومن المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة تركيزاً على سلاح المشاة من الاحتياط، وإعادة التفكير في الخطط العسكرية والتنظيمية التي وُضعِت للجيش في السنوات الماضية بهدف تحويله إلى جيش صغير وذكي من الناحية التقنية، ويعتمد بالأساس على وحداته القتالية النخبويّة، نحو جيش يُركز على جهوزية قوات الاحتياط العادية، لاسيما تلك التي تعمل في مجال الدفاع الحدودي، والعمليات البريّة الصغيرة والواسعة.

 

مع ذلك، فليس هناك ضمان لنجاح الجيش الإسرائيلي في إعادة بناء بنيته وقوته، إذ إن هناك معيقات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية تفرض نفسها على خطط الجيش وتصوراته، أهمها التراجع عن رفع سن خدمة الاحتياط بسبب الضغط الاجتماعي، وعدم تجنيد الحريديم للجيش بسبب الضغط السياسي للأحزاب الدينية، والذي قد يؤدي في النهاية إلى تبخر الاهتمام بمنظومة الاحتياط كما حدث بعد توصيات “لجنة فينوغراد” [التي شُكِّلت عقب حرب لبنان عام 2006]، وعودة الوضع كما كان عليه في السابق.

 

وإذا أضفنا لهذا الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعيشها إسرائيل وسكانها في أعقاب الحرب، فإن الدافعية للتجنُّد للاحتياط سوف تتراجع، كما أن الخلافات السياسية الداخلية التي صعّدتها الحرب، لن تساعد على تطوير هذه المنظومة. فحسب القراءة التاريخية لتطور الاحتياط في إسرائيل، فإن نجاحه مرهون بإجماع سياسي في إسرائيل على أهداف الجيش في المرحلة المقبلة، لذلك ظهرت الدافعية للتجنُّد في الاحتياط في أول الحرب على غزة، بسبب حالة الإجماع على الثأر، ورد الاعتبار القومي، وتأطيرها بوصفها حرباً وجودية، ولكن مع إطالة الحرب، وضبابية الأهداف السياسية لها والانقسام حولها، بدأت تظهر بوادر رفض الخدمة الاحتياطية، مع ما رافقها من خسائر بشرية واقتصادية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/manzumat-alaihtiat-fi-aljaysh-alisrayili

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M