خلفيات خيار قلب الطاولة في مجتمع مأزوم: قرار الرئيس الفرنسي بحل مجلس الأمة

كان قرار الرئيس الفرنسي يوم ٩ يونيو الماضي بحل مجلس الأمة واستدعاء الناخبين في انتخابات تشريعية مبكرة تجري جولتها الأولى يوم الأحد ٣٠ يونيو مفاجئًا مباغتًا، واعتبر منذ اللحظة الأولى مخاطرة كبرى، لأنه اتخذ بعد هزيمة ساحقة للائتلاف الحاكم في الانتخابات الأوروبية، ويبدو من مسار الحملة الانتخابية ومن استطلاعات الرأي أن الرئيس سيخسر رهانه، وأن قيامه بهذه المراهنة دعم لحجج خصومه المنتقدين لأدائه.

لا ترمي هذه الورقة إلى رسم صورة جزئية أو لحظية أو كاملة للمشهد الفرنسي، فهو بالغ التعقيد شأنه شأن أزمة البلاد، أو شأن أي انتخابات تشريعية تجري في ٥٧٧ دائرة لكل منها خصوصيتها. هذه الورقة تحاول فقط طرح بعض التساؤلات الجزئية حول أداء السياسيين وانفصالهم عن الواقع من ناحية، وحول أساليب تحضير واتخاذ القرار، وحول كيفية التعامل مع الأزمات، وحول دور الحظ في مسارات الأمم، إلى جانب أسئلة أخرى.

بادئ ذي بدء أريد أن استبعد “التفسير بالغباء”، دون التقليل من أهمية تأثير السمات النفسية الشخصية للرئيس الفرنسي، ودورها في سلوكه وقراراته. أقصد أن الرئيس الفرنسي شخص شديد الذكاء، يتمتع بجلد وقدرات مذهلة على العمل لساعات طويلة، له خلفية فلسفية وثقافية أكثر من معقولة، وفهم عميق لآليات عمل الاقتصاد الحديث، ولبعض القضايا الاجتماعية، وحقق في أثناء فترة حكمه عدد من الإنجازات المشرفة، ومرر بمهارة عدد من الإصلاحات الضرورية، ورغم هذا بات شخصًا لا يتمتع بثقة الرأي العام الفرنسي ولا بثقة نظرائه، ويعود هذا إلى قيامه –بانتظام لا يحسد عليه- بمفاجئة الكل بقرارات يخونها التوفيق وتبدو عشوائية متهورة رغم كونها مدروسة.

 مشكلة فقدانه لثقة الرأي العام لها أسباب عامة وأخرى شخصية، السبب العام هو “القطيعة الثقافية والنفسية” بين الغالبية الكبرى لسكان باريس العاصمة وبدرجة أقل سكان المدن الكبرى المستفيدين من العولمة من ناحية، وبين عموم فرنسا لا سيما المناطق التي تأثرت بشدة من تراجع أو انهيار الصناعة ومن تدهور أداء المرافق العامة من ناحية أخرى. على سبيل المثال لا الحصر هناك انطباع قوي لدى سكان المدن الصغيرة والقرى والأرياف مفاده أنهم يدفعون ضرائب أكثر وأكثر وأن قدراتهم الشرائية في تراجع مستمر وأن خدمات المؤسسات والمرافق العامة (الأمن/الصحة/ البريد/ التعليم/ النقل العام/ القضاء) في تدهور كبير، وأن الاهتمام بهم أقل بكثير من الاهتمام بسكان المدن الكبرى وبسكان الضواحي القريبة من المدن الكبرى من أبناء المهاجرين، ويمكن القول بشيء من التبسيط إن ثقافة المدن الكبرى ليبرالية يمينية في الاقتصاد والإدارة وليبرالية يسارية في القضايا الثقافية والسيادية، على عكس ثقافة المدن المتوسطة والصغرى والريف، يمينية وطنية مائلة إلى معاداة الليبرالية في القضايا الثقافية والسيادية، يسارية (اشتراكية ديمقراطية أساسًا) في الملفات الاقتصادية والاجتماعية. أما سكان الضواحي فيمكن القول إنهم إما كالمدن المتوسطة والريف وإما يساريين أو طائفيين في كل الملفات على اختلافها. هذا الجانب العام من المشهد سابق لوصول ماكرون إلى سدة الحكم ولكنه تفاقم في أثناء ولايته.

وهناك أسباب تتعلق بأداء وأسلوب الرئيس وبالصورة الذهنية عنه التي تشكلت لدى الجمهور. منها عدم توفيقه المزمن في تصريحاته، وإعطاؤه الانطباع أنه يتكلم كثيرًا، بمناسبة أو بدون مناسبة، دون أن يعني أي شيء مما يقوله، وأن لغته ومفرداتها في أحوال كثيرة صعبة غير مفهومة، وأنه سيقول غدًا عكس ما قاله اليوم، لا أقول أن هذا الانطباع دقيق ولكنه سائد، ومن هذه الأسباب سلطوية ممارساته وانفراده بالحكم وتدخله في كل الملفات، ومنها عدم ثقته في خبرة ومعرفة أجهزة الدولة وتفضيله الاستماع إلى أراء مثقفين وجامعيين وبعض الأصفياء، ومنها إعطاؤه انطباع قوي بأن الملفات السيادية ملفات تثير حنقه وتمنعه من التفكير في ملفات يراها أهم (الملفات الاقتصادية والمالية والعلمية)، هذا لا يعني أنه يرفض تخصيص الموارد والوقت لهذه الملفات السيادية أو أن كل قراراته فيها خاطئة. بل يعني أن الجمهور يرى أو يتصور أن الرئيس من رجال البنوك وله قناعات راسخة قوية في الشأن الاقتصادي والمالي والعلمي وأن رأيه في الشئون الأخرى متغير أو أقل أهمية بالنسبة له، وأنه لا يفهم “المخيال والعقل الجمعي” الفرنسيين.

وقد يكون مهمًا أن نلفت النظر إلى أهمية وتبعات المشروع السياسي والمشروع الاقتصادي للرئيس وسوء حظه ودوره الشخصي في مشكلاته. يمكن القول إن المشروع السياسي الذي تبناه الرئيس وجسده هو مشروع “كان في الأجواء” منذ النصف الثاني من العقد الأول لهذه الألفية، أي قبل ظهور الرئيس في المشهد.

 هو مشروع خلق كتلة وسطية كبيرة، وهو مشروع نتج عن استياء فرق وتيارات في قوى اليمين ويمين الوسط من موقف أحزاب اليمين التقليدي من الليبرالية الثقافية أساسًا والاقتصادية، ومن تحفظ هذه الأحزاب تجاه مشروع الوحدة الأوروبية، كما نتج عن استياء فرق في قوى يسار الوسط وفي الحزب الاشتراكي من موقف الأحزاب اليسارية بما فيها الحزب الاشتراكي وحزب الخضر من آليات اقتصاد السوق ومقتضياتها ومن الليبرالية الثقافية والاقتصادية وفي بعض الأحوال من المشروع الأوروبي. وأدركت هذه الفرق اليمينية والوسطية واليسارية أن المشترك بينها بات كبيرًا عميقًا، وأن الأحزاب التقليدية أسيرة تنوع قواعدها الاجتماعية والتناقض بين مطالب هذه القواعد، وأنها أصبحت عاجزة عن المضي قدمًا فيما هو ضروري للتعامل مع التحديات الكبرى التي تواجهها فرنسا، وهو تعامل تأخر كثيرًا.

كان طموح أصحاب هذا المشروع خلق “تجمعًا أو دائرة للعقلاء” المؤمنين بالمشروع الأوروبي وباقتصاديات السوق وبالانتقال إلى اقتصاد يراعي البيئة مع بعض المراعاة للمشكلات الاجتماعية، وتسبب نجاح هذا المشروع في إضعاف كبير للحزبين الذين حكما فرنسا أغلب فترات الجمهورية الخامسة، أي الجمهوريين والحزب الاشتراكي. وتسبب أيضًا في إعادة تشكيل المشهد السياسي والحزبي، ليتكون من كتلة وسطية فازت بالرئاسة مرتين، وبأغلبية مطلقة في البرلمان مرة وبأغلبية نسبية مرة أخرى، ومن حزب كبير لليمين القومي (أقصى اليمين)، ومن حزب كبير نسبيًا لأقصى اليسار، ومن أحزاب قديمة لها وجود أكثر من معقول في المحليات هي اليمين الجمهوري والاشتراكيين والخضر والشيوعيين ولكنها ضعيفة للغاية فيما يخص الانتخابات الرئاسية والتشريعية. قلت: “تسبب نجاح المشروع في إضعاف”… وربما يكون من الأدق أن أقول: “استغل هذا المشروع الضعف الكبير الذي أصاب” الخ.

وعلى العموم كان للرئيس والقوى المؤيدة له مصلحة مؤكدة في مشهد يقيم استقطابًا بين دائرة تقدمية تجمع بين “عقلاء” اليمين واليسار وتنتهج سياسيات تطبق أفكارًا أحيانًا يمينية وأحيانا يسارية، وبين قوى متطرفة على اليمين واليسار، أي كان لهم مصلحة مؤكدة في إضعاف الأحزاب التقليدية. وهذه اللعبة كانت شديدة الخطورة شأنها أي خيار “إما أنا أم الطوفان”. وزاد من خطورتها الضعف النسبي للقاعدة الانتخابية للرئيس ومؤيديه. فهم يمثلون ١٨٪ تقريبًا من مجموع الناخبين، (٢٤/٢٥٪ من المشتركين في الانتخابات)، وفي صفوفهم من يؤيد هذا الائتلاف “لكونه أخف الأضرار” لا اقتناعًا بتفاصيل برنامجه.

تولى الرئيس ماكرون قيادة هذا المشروع السياسي وقام بصياغة الخطوط العريضة لمشروع اقتصادي، لا يستهدف فقط تحسين تنافسية فرنسا، والحد النسبي من الضرائب، وإعادة تصنيع البلاد، وقيادة تحول إلى اقتصاد بيئي، والتعامل مع مشكلات المعاشات والتأمينات الاجتماعية بتغيير سن الخروج إلى المعاش و”ترشيد” منظومة الصحة، ولكنه كان يعادي أيضًا كافة أشكال الريع، وأراد على سبيل المثال الحد من ميل الفرنسيين إلى الاستثمار في الشقق والعقارات وتشجيع الاستثمار في الشركات الناشئة الجديدة العاملة في قطاعات التكنولوجيات الجديدة. وحقق هذا المشروع نجاحات لا تنكر.

وكان الرئيس سيئ الحظ وإن لعب أسلوبه وخطابه دورًا في تفاقم المشكلة. من ناحية كان الإرث ثقيلًا، السياسات الاقتصادية التي اتبعت منذ ثمانينات القرن الماضي كانت خاطئة، والأزمة العالمية في نهاية العقد الأول من الألفية أرهقت فرنسا، أداء عدد كبير من الوزارات والمرافق تدهور، وتسببت رغبة الرئيس في الإسراع من الإصلاحات –من ناحية ليظهر آثارها قبل انتخابات ٢٠٢٢، ومن ناحية أخرى لأن الوقت كان تأخر- في احتقان الموقف وفي تصويره على أنه لا يحس بنبض الجماهير وانفجرت احتجاجات السترات الصفراء البالغة العنف في نوفمبر ٢٠١٨، وتطلب إخمادها تنازلات مؤلمة وإنفاق كبير. وترك عنف هذه الاحتجاجات ومظاهر الكراهية العميقة لشخص الرئيس جرحًا عميقًا في نفسيته. ودفعه هذا الجرح والتدهور الكبير في المنظومة الصحية والخوف من احتجاجات جديدة إلى تخصيص مبالغ كبيرة، بل مجنونة للتعامل مع جائحة الكوفيد، وهو تعامل كان موفقًا وإن كان من الممكن انتقاد رشادة الإنفاق من عدة زوايا، وأخيرًا وليس آخرًا جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليتسبب في أزمة كبيرة في أسعار الطاقة والغذاء.

 ولهذه الأسباب أساسًا ولغيرها جاء حصاد سنوات الرئاسة.. إصلاحات ضرورية وجيدة وغير شعبية، وضع مالي كارثي مع تفاقم الدين ودخوله دائرة الخطر، تراجع القوة الشرائية للمواطنين. وبات من الصعب التغني بمهارات الرئيس الاقتصادية، وتسفيه البرامج الاقتصادية للمنافسين والقول بعدم رشادتها المالية.

وإلى جانب هذا فشل الرئيس في تحسين الأمن وفي التعامل مع قضايا الهجرة والتعليم والثقافة. وأدت تقلباته الكبيرة في إدارة الملف الروسي والأوكراني وفشله الكبير في السياسة الأفريقية (رغم وجود بعض النجاحات) إلى تكريس الانطباع السلبي عن مهاراته. وأتصور أنه يشعر بالظلم وبالألم لأنه لم ينجح في تخفيف حدة الكراهية التي تصيب شخصه.

الانتخابات للبرلمان الأوروبي لها سمات. هي انتخابات بالقائمة النسبية على جولة واحدة، ولا تبعات مباشرة لنتائجها على النظام السياسي للدولة أو على حكومتها. وهذا يدفع قطاعات كبيرة من الرأي العام إلى عدم المشاركة أو إلى توجيه رسائل غضب للحكومة لا كلفة ولا تبعات لها. باختصار نتائج هذه الانتخابات تكون في أحوال عديدة صفعة موجهة إلى أصحاب الأمر والنهي.

وأدار الرئيس هذه الانتخابات بأسلوب خانه التوفيق. من ناحية عين شخصية مغمورة لتترأس قائمة ائتلافه، شخصية كفؤة هي السيدة “فاليري هاير”، ولكن لا أحد يعرفها، ومن ناحية أخرى مرر تشريعات خلافية في فترة الحملة الانتخابية، وأخيرًا وليس آخرًا تعامل هو ورئيس وزرائه بأسلوب غير لائق مع السيدة هاير، أسلوب يظهر علنًا عدم ثقتهم فيها، وهي عدم ثقة غير مبررة.

 ورغم دقة توقعات استطلاعات الرأي وما هو معروف عن هذه الانتخابات –نتائجها في فرنسا دائمًا سيئة للأحزاب الحاكمة– إلا أن الرئيس فوجئ بالنتيجة.. حصلت قائمته على أقل من ١٥٪ من الأصوات.. أي على أقل من نصف أصوات حزب مارين لوبن. وبعد ظهور النتيجة بساعة أو ساعتين أعلن الرئيس حل مجلس الأمة، قائلًا إن “حصول أحزاب أقصى اليمين على ٤٠٪ من الأصوات رسالة لا يمكن تجاهلها” وقال: يومها أو بعده بقليل أن “العودة إلى الشعب يتفق وروح الديمقراطية وأنه يثق في الشعب”.

وتوالت التقارير الصحفية وتنوعت في الأيام التالية، ألخص محتواها فيما يلي.. فكّر الرئيس في خيار الحل منذ عدة أشهر، كلف فريقًا ضيقًا للغاية من أصفيائه بدراسته والتفكير في السيناريوهات، في قوائم أسماء أعضاء الفريق لم يظهر أي اسم لأي خبير انتخابات و/أو استطلاعات رأي، الرئيس كان شديد الاستياء من أداء البرلمان الحالي، من ناحية لا يتمتع المؤيدون له بأغلبية مطلقة فيه، ومضطرون للتفاوض مع فرق أخرى لتمرير التشريعات، من ناحية أخرى دأب فصيل –ممثلو حزب فرنسا العصية اليساري المتطرف- الاحتجاج وانتهاج سلوكيات؛ هي سلوكيات اتحادات طلبة أو نشطاء لا تليق بوقار البرلمان، كان حديث النخب السياسية في باريس يرى أن الرئيس سيضطر إلى حل البرلمان في سبتمبر المقبل إن رفض البرلمان ميزانية الحكومة، فاجأ القرار أعضاء الحكومة والحزب، تم نشر صور لرئيس الوزارة ساعة إعلامه بالقرار قبل الإعلان عنه بدقائق. وبدا فيها مذهولًا مشلولًا شاحبًا، تقارير أكدت أن الرئاسة هي التي سربت الصورة رغبة منها في “تحجيم” رئيس الوزارة وفي التأكيد على أن الرئيس يمسك بزمام الأمور واتخذ القرار منفردًا.

بات واضحًا منذ أول لحظة أن القرار رهان ومقامرة، وأنه مبني على الحسابات والاعتبارات الآتية، أسباب النتيجة السيئة للغاية في الانتخابات الأوروبية هي عدم وجود تبعات لتصويت عقابي قاسي، وعدم مشاركة قطاعات كبيرة من القاعدة المؤيدة للرئيس في التصويت، وتفضيل قطاعات أخرى من هذه القاعدة إعطاء صوتها لقائمة الحزب الاشتراكي كنوع من الإنذار للرئيس، وقدر الرئيس أنه إن حان حين الجد وكان الخيار بين ائتلافه وحزب مارين لوبن – سيضطر كل كارهي الأخيرة وكل أصحاب المدخرات ومحبي الاستقرار إلى التفكير في الخطورة البالغة لبرنامج الحزب اليميني وفي تبعات تعصبه وفي عدم كفاءة كوادره وإلى الاحتشاد وراء حزب الرئيس؛ مما يسمح له بتوسيع قاعدته، وعلى فرض أن حزب مارين لوبن فاز بالانتخابات وحصل على أغلبية في البرلمان سيضطر إلى تولي الحكم في ظروف غير مواتية، الأغلبية لن تكون غالبًا مطلقة، أعداء الحزب الراغبين في إفشال تجربته سيعملون جاهدين من أجل هذا.. هناك خدمة دين تمنع انتهاج سياسات تفترض توسع كبير في الإنفاق، الرئيس له من السلطات ما يسمح له بعرقلة عمل حكومة مناوئة له، وبالتصدي لسياسات تعرض فرنسا للخطر.. إلخ.

في تقديري، توضح هذه الحسابات أحد المشكلات الرئيسة في رؤية الرئيس الفرنسي للأمور، فهذه الحسابات منطقية للغاية، وتبدو للوهلة الأولى مقنعة، ولكنها تفشل تمامًا في قراءة الواقع وتنم عن عدم فهم غريب لتوجهات الفرنسيين على اختلافها واختلاف مشاربهم.

أولًا: لا تنتبه هذه الحسابات إلى التوقيت. من ناحية يبدو الرئيس وكأنه يطالب قطاعات كبيرة من الرأي العام بتغيير فوري لموقفها، وبتقديم ما يشبه باعتذار “آسفين يا ريس”، ويبدو أن الرئيس لم يفهم أن قراره الأخير مثال أخر على أسلوبه المعتمد على الصدمات الكهربائية الدائمة الذي ترفضه قطاعات كبيرة من الرأي العام.

 ومن ناحية ثانية التوقيت يحمل أعباء كبيرة ومرهقة على عاتق الدولة وكوادرها. الانتخابات دائمًا مكلفة، ودائمًا تتطلب حشد الموظفين والمشرفين على اللجان والمراقبين والأمن.. إلخ. قامت فرنسا بتنظيم انتخابات البرلمان الأوروبي، وأمامها استحقاق ضخم يتم بسببه إلغاء عدد كبير من الإجازات، وهو الألعاب الأولمبية، وإذ بالرئيس يضيف استحقاقًا ثالثًا بأعبائه ومشكلاته، بدون أي سبب واضح يدعو إلى الاستعجال.

ثانيًا: هذه الحسابات افترضت ولو ضمنًا أن المنافسة الحقيقية تقتصر على حزب مارين لوبن وتيار أقصى اليمين من ناحية، وائتلاف الرئيس من ناحية أخرى. وعلى الورق يبدو هذا منطقيًا، فالقوى اليسارية متعددة وتوجهاتها متناقضة، منقسمة تكره كل منها القوى الأخرى، هناك الحزب الاشتراكي وحزب الخضر والشيوعيين وحزب فرنسا العصية وبعض المجموعات التروتسكية، يعود نجاح هذه القوى والتيارات في تقديم قائمة مشتركة تتبنى برنامجًا مشتركًا في انتخابات سنة ٢٠٢٢ إلى ظرف زال، وهو هيمنة شبه كاملة لحزب فرنسا العصية وقدرته آنذاك على فرض شروطه، وفي الانتخابات الأوروبية لسنة ٢٠٢٤ حققت قائمة الحزب الاشتراكي نتيجة أفضل من نتيجة فرنسا العصية.

الخلافات بدت هذه المرة عميقة مستعصية، هناك توجهات ثورية وأخرى إصلاحية، وانقسامات حول أنصار الصيغة العلمانية والداعين إلى صيغة التعددية الثقافية، وعداء بالغ ويزداد عمقًا وحدة بين أنصار وأعداء كل من إسرائيل وفلسطين، وهناك استخدام وتوظيف بعض هذه القوى لورقة المعاداة لليهودية أو للصهيونية، استخدامًا يراه الآخرون منفرًا، وهناك في المقابل اتهام يطول فصائل أخرى بالفوبيا من الإسلام. ويمكن أن يضاف إلى كل هذا أن قائد ومؤسس حزب فرنسا العصية شخصية خلافية منفرة لعدد كبير من الفرنسيين بما فيهم اليساريون، لتبنيه لنوع من الشراكة مع التيارات الإخوانية ولانتهاجه سلوكًا يبدو وكأنه يلعب بالورقة الطائفية.

كل هذا حقيقي ولكنه لا ينتبه إلى أهمية مكون رئيس لثقافة “الشارع اليساري” الفرنسي، على اختلاف توجهاته، “الشعب اليساري” متمسك بشدة بوحدة الصف وبوحدة الأحزاب اليسارية، في انتخابات الرئاسة سنة ١٩٨١ لم ينتبه الناخبون إلى العداء بين الاشتراكيين والشيوعيين وإلى تفضيل القيادة الشيوعية منع وصول الاشتراكيين إلى سدة الحكم. وسنة ٢٠٢٤ مارس الشارع اليساري ضغوطًا كبيرًا على القيادات لتتوصل إلى اتفاق، يوزع الدوائر ويتبنى برنامجًا للحكم، صحيح أن هذا البرنامج غير واقعي وشديد الراديكالية، ولكن حصاد حكم الرئيس في ملف الديون والقدرات الشرائية للفرنسيين يمنعه هو وأنصاره من لعب ورقة الكفاءة. وعلى العموم يعلم الناخب الذي ينتخب أقصى اليمين أو أقصى اليسار أن برنامج كل منهما غير واقعي، ولا يعير لهذا اهتمامًا.

 ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الرئيس افترض أن غضب من كان يعطي له صوته وفضل التصويت للاشتراكيين في الانتخابات الأوروبية الأخيرة غضب مؤقت، وأنه سيعود إلى “البيت” عندما يحين الجد. وهذا التصور له ما يبرره على الورق، إلا أنه حاليًا يبدو خاطئًا إما في المطلق –في كل الأحوال- أو في الظرف الحالي.. أقصد أن المؤشرات توحي في الوقت الحالي أن التصويت في الانتخابات القادمة سيكون أساسًا إما مع أو ضد حزب مارين لوبن، وأن من مصلحة من يريد منعه من الوصول إلى سدة الحكم أن ينتخب أقوى قائمة تعارضه.. وهي حاليًا قائمة القوى اليسارية التي سمت نفسها “الجبهة الشعبية الجديدة”. ونحن نشاهد حاليًا دعمًا (غير مقصود) من اليسار المتطرف لليمين المتطرف والعكس.

ولم ينتبه الرئيس ثالثًا إلى تبعة هذا القرار على أعضاء ائتلافه. لم يتم التشاور معهم، وكانت المفاجأة تامة، ويعني قراره فيما يعني أن الكثير منهم سيفقد منصبه الوزاري أو الإداري أو مقعده البرلماني دون أي تقصير منه، ودون داعٍ واضح، ودون إتاحته مهلة تسمح برسم مساره المهني والمستقبلي، ويرى الجميع أن اختيار هذا التوقيت –بعد نتيجة سيئة للغاية في الانتخابات الأوروبية- أمر غير منطقي بالمرة، وقال عدد من الأقطاب علنًا رأيهم في القرار، ويحرص أغلب مرشحي ائتلاف الرئيس على عدم إبراز صور له وعلى عدم ذكر اسمه، وعلى التشديد على أن انتخابهم هو اختيار لبرنامج عاقل وليس اختيارًا لشخص الرئيس وأنهم سيكونون مستقلين عنه وأنهم –إن حصلوا على أغلبية- سيفرضون عليه أمورًا، وطالب عدد من رموز هذا الائتلاف الرئيس بالتزام الصمت، لعدم استفزاز الجمهور، ولم يمتثل الرئيس طبعًا.

رابعًا: يبدو أن الرئيس لم ينتبه بالقدر الكافي إلى احتمال تعمد بعض الفاعلين دفع الأمور إلى الأسوأ لدفعه على الاستقالة لتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة تتيح لهم فرصة الوصول إلى سدة الحكم. هناك عدد من السناريوهات.. مثل سيناريو عدم حصول أي كتلة على أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة تنال ثقة البرلمان.. يقتضي التعامل معها تعاون من لا ينتمي إلى ائتلاف الرئيس، وهناك احتمال قطعًا أن دقة الظرف والخوف من المجهول ومن التبعات الدولية تحث عددًا كافيًا من النواب على ضبط النفس وتبني مقاربة بناءة، ولكن الاحتمال الأغلب –لا سيما نظرًا للرفض الشعبي للرئيس– أن الغلبة ستكون لمن يريد إسقاطه.

قال الرئيس في الدفاع عن قراره: إن الاحتكام إلى الشعب يتفق تمامًا وروح ومبادئ الديمقراطية، وإلى جانب التساؤلات حول مدى اتفاق التعجل وتعمد تضييق المهلة ومبادئ الديمقراطية، يمكن إثارة السؤال.. هل الانتخاب تفويض لمدة محددة أم لا ؟ هل العودة إلى الشعب في بعض الأحوال هروب من المسئولية؟

ولكن الرئيس أكثر في الأيام الماضية من الحديث عن “المخاطر الحقيقية لنشوب حرب أهلية”. ويبدو لي أن هذا إقرار ضمني بخطأ قراره، وتعبير عن يأس وعن إدراك أن الاحتمال الغالب هو خسارته لرهانه، والأهم من هذا أنه قد تكون هذه التصريحات تمهيدًا أو تهيئة النفوس لتطبيق المادة ١٦ من الدستور التي تسمح بمنح الرئيس سلطات استثنائية إن تعرضت البلاد لخطر عظيم.

 ومن الواضح أيضًا أن تبعات هذا القرار الرئاسي لن تكون محصورة في الداخل الفرنسي، بل ستطول الاتحاد الأوروبي والناتو وأوكرانيا. ونخوض في هذا في دراسة أخرى.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/46527/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M