كانت نتائج الانتخابات المحلية التركية الأخيرة التي أُجريت يوم 31 مارس الماضي بمثابة الحجر الذي أُلقي في مياه الحياة السياسية التركية الراكدة؛ إذ حظيت بقراءات مختلفة وبعثت برسائل ذات معاني متباينة بالنسبة لأطراف العملية السياسية الذين انخرطوا بدورهم في تفاعلات هدفت بالأساس إما إلى تثبيت المكتسبات المُحققة أو معالجة مسببات الهزيمة، محدثين بذلك انفراجة سياسية خففت حدة الاستقطاب الذي مثَّل السمة الرئيسية للمشهد السياسي طوال العقدين الماضيين، ودفعت بحزب العدالة والتنمية نحو إجراءات مراجعات داخلية لمعالجة ملامح الكهولة السياسية التي اعترت الحزب جرّاء بقائه في السلطة لسنوات، فضلًا عن تبني قرارات إصلاحية على صعيد السياسات الحكومية.
حسابات الانفراجة
قرر رئيسا الحزبين الأكبر في تركيا؛ العدالة والتنمية الحاكم والشعب الجمهوري المعارض، فتح قنوات اتصال حيث عقد الرجلان اجتماعين متتالين خلال 2 مايو و11 يونيو داخل مقر حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري على الترتيب، ويُعد اللقاءان هما الأولان من نوعهما بين أردوغان ورئيس حزب الشعب الجمهوري منذ 8 سنوات، والزيارة الأولى للرئيس التركي لمقر الحزب المُعارض منذ 18 عامًا. وقد تحرك الحزبان تجاه بعضهما لبعض انطلاقًا من حسابات يُمكن توضحيها كالتالي:
1. حزب العدالة والتنمية: ينطلق في إبداء مرونة سياسية تجاه خصومه للمرة الأولى من أهداف عديدة تتضمن:
• الوصول لتوافق سياسي بشأن صياغة دستور جديد للبلاد كون الدعوة لتغيير الدستور تطلب موافقة ثلاثة أخماس أعضاء الجمعية الوطنية، أي 360 عضوًا، بينما بلغ مجموع مقاعد تحالف الشعب الحاكم المكون من 6 أحزاب 323 مقعدًا، وكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة حال رغب أردوغان في ذلك، فإذا أراد الرئيس التركي ترشيح نفسه للمرة الرابعة عبر انتخابات مبكرة يلزم الدعوة إليها من قبل الجمعية العمومية عقب موافقة 360 عضوًا بينما قيام الرئيس بحل البرلمان بنفسه فسيحرم من ترشيح نفسه مُجددًا، بحسب الدستور.
• خلق مناخ إيجابي ملائم لنجاح السياسات الاقتصادية الإصلاحية وإقناع العالم الخارجي بوجود مناخ ديموقراطي بما يُساهم في بناء الثقة اللازمة لتدفق الاستثمارات الأجنبية.
• فقدان حالة الاستقطاب السياسي التي لطالما عززها أردوغان وحزبه العدالة والتنمية قبيل العمليات الانتخابية، وظيفتها الرئيسية في تأمين الفوز للحزب وإثبات عدم جدواها خلال الانتخابات المحلية الأخيرة.
2. حزب الشعب الجمهوري: تتضافر مجموعة من العوامل المحفزة للتشاور مع حزب العدالة والتنمية أبرزها الآتي:
• تأمين المكاسب السياسية وتوسيع القاعدة الانتخابية عن طريق إعطاء انطباع بأنه حزب معارض مسئول يُقيم حوارًا مع الحكومة والأحزاب المنافسة وليس حزبًا يتبني سياسات منغلقة ومتشددة ضد الخصوم، وبما يفتح للحزب قنوات لتوسيع الشرائح الاجتماعية التي يُمكن للحزب التأثير فيها في السياسة، ولا سيَّما الجماهير ذات التوجه اليميني المحافظ وتلك التي تصوت تقليديًا لحزب العدالة والتنمية لكنها غاضبة إزاء سياسته الاقتصادية، وقد اتبع الحزب هذا النهج مبكرًا منذ رئاسة كمال كيليجدار أوغلو عندما تم ترشيح بعض الأشخاص الذين شاركوا في الحياة السياسة عن الأحزاب اليمينية في الماضي كنواب أو مرشحين لرئاسة البلديات على قوائم حزب الشعب الجمهوري، لكنها لم تكن مجدية بشكل كافٍ، وقد كرر الرئيس الحالي للحزب أوزغور أوزال تكرار التجربة عندما لم يكتف بترشيح شخصيات ذات خلفية يمينية خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، بل فضَّل أيضًا المرشحين من داخل الحزب الذين لم يكن لديهم مواقف متشدد ويمكنهم الحصول على أصوات من قطاعات سياسية واجتماعية مختلفة.
• ترسيخ مكانة وصورة أوزغور أوزال كزعيم ناجح لحزب المعارضة الرئيسي يستطيع قيادته إلى تحقيق هدف الوصول إلى الحكم، وإثبات قدرته على قيادة حوار سياسي مع الحزب الحاكم بغرض تحقيق مكتسبات سياسية لحزبه لا سيَّما أن الانتخابات المحلية كانت اختبارًا لقيادته استطاع النجاح فيه وتجاوز رهانات كيليجدار أوغلو الصريحة وأكرم إمام أوغلو الضمنية على عجزه عن قيادة مسيرة الحزب خلال المرحلة التالية على الانتخابات واستعدادهم للقفز على رئاسة الحزب، ومع ذلك، استطاع أوزال تحقيق المعادلة الصعبة وقيادة حزبه نحو نجاح انتخابي غير مسبوق وإدارة المرحلة التالية بحيث لم يعد متوقعًا أن يذهب الحزب خلال المستقبل المنظور إلى مؤتمر جديد يؤدي إلى تغيير رئيسه.
• نجاح الحزب في القيام بأدواره الخدمية والمحلية؛ إذ لا يريد الحزب استعداء الحكومة المركزية بما يؤثر في الموارد والمخصصات المُقررة لبلديات الشعب الجمهوري لتقديم الخدمات وتلبية متطلبات الناخبين، حيث سيؤدي أداء الحزب في البلديات إلى فوزه أو خسارته في الانتخابات المقبلة ومن ثم يحتاج لتقديم صورة إيجابية وأداء جيد.
• الحصول على تنازلات بشأن الإفراج عن الشخصيات المعارضة المسجونة في قضايا سياسية كقضية غيزي واحتجاجات كوباني، وغيرها. وفي خطوة لإبداء حسن النية وتلطيف الأجواء، وقع أردوغان مرسوم رئاسي يوم 17 مايو يتضمن الإفراج عن الضباط المتقاعدين المدانين في قضية 28 فبراير لأسباب صحية، رغم اتهامهم بالتورط في الإطاحة بحكومة أستاذه نجم الدين أربكان عام 1997 فيما عُرف بـ “انقلاب ما بعد الحداثة”.
عقبات ماثلة
تواجه عملية “الانفراج السياسي” بحسب وصف أردوغان أو “التطبيع وفقًا لأوزال بعض العقبات التي تجعلها ليست النهاية لحالة الاستقطاب السياسي، ويُمكن استعراض أبرزها كالتالي:
• استمرار المحاكمات السياسية: لم تُسفر محادثات الانفراج/التطبيع عن اتخاذ خطوات إيجابية إزاء تحسين أوضاع حقوق الإنسان فيما يتعلق بالامتثال لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الدستورية بشأن الأحكام الصادرة بحق بعض الشخصيات المعارضة؛ فقد رفض أردوغان طلب الإفراج عن الناشط عثمان كافالا، المدان في محاكمة غيزي، بناءً على قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولم يتم اتخاذ أي خطوات فيما يتعلق بالمدانين الآخرين في محاكمة غيزي. كما فرضت المحكمة الجنائية العليا عقوبات مشددة على السياسيين المتهمين في قضية “احتجاجات كوباني” المتعلقة بأحداث 6-8 أكتوبر 2014، وصلت للحكم على الرئيس المشاركة لحزب الشعوب الديموقراطية سابقًا (الديموقراطية ومساواة الشعوب حاليًا) صلاح الدين دميرطاش بالسجن 42 عامًا رغم إعلان المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأنها “محاكمة سياسية”. كذلك، لم تنفذ الحكومة قرارات المحكمة الدستورية بشأن إطلاق سراح النائب المنتخب عن حزب العمال التركي في هاتاي، جان أتالاي.
• الالتزامات السياسية بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية: يمتلك الشريك الأصغر في التحالف الحاكم، حزب الحركة القومية، تأثيرات تتجاوز ثقله السياسي بحيث يستطيع تقويض مساعي العدالة والتنمية لإجراء إصلاحات سياسية. وينظر الحزب بعين الريبة إلى عملية الانفراج/التطبيع وتبعاتها المحتملة من تغيير التحالفات السياسية، إذ يعتقد أنها محاولة لحل تحالف الشعب، وقد وظف نفوذه السياسي لعرقلة مخرجاتها؛ فبينما دارت أحاديث عن إعادة محاكمة عثمان كافالا وإمكانية إعادة النظر في أحداث حديقة غيزي بناءً على محادثات أردوغان وأوزال في 2 مايو الماضي وتأييد شخصيات من داخل حزب العدالة والتنمية إعادة محاكمة كافالا، عارض مستشارا أردوغان عن حزب الحركة القومية محمد أوجوم وحسين أوزكان تلك الخطوة، وعليه رفضت لجنة القضاة بالإجماع طلب إعادة المحاكمة دون مراعاة قرارات المحكمة الدستورية أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
كما يُمكن قراءة لقرار المحكمة الجنائية العليا في أنقرة بإطلاق سراح 10 متهمين محتجزين على صلات بحزب الحركة القومية في قضية مقتل سنان أتيش، الرئيس السابق لحركة الذئاب الرمادية الجناح المسلح لحزب الحركة القومية، بأنه خضوع حكومي لضغوط حزب الحركة القومية بعدما أسفرت محادثات أردوغان وأوزيل عن لقاء الأول بزوجة المجني عليه عائشة أتيش وابنتيه داخل مقر الرئاسة، واقتراح أن تكون هناك محاكمة لأعضاء حزب الحركة القومية فيما يتعلق بمقتل سنان، لكن ضغوط الحزب انعكست في تخفيض منصب المدعي العام الذي أثبت وجود صلة بين حزب الحركة القومية ومقتل أتيش، وفقًا للمرسوم الصادر عن مجلس القضاة والمدعين العامين بشأن الاختصاص القضائي والإداري الذي أعلنته وزارة العدل خلال يونيو الفائت.
وعليه، يُتوقع ألا تتخطى تحركات العدالة والتنمية تجاه المعارضة إطارًا وحدودًا معينة وأن تظل محكومة بالخطوط الحمراء لحزب الحركة القومية، حيث يضطر أردوغان لمراعاة تفضيلات التيار القومي لتجنب دفع تكاليف سياسية باهظة تصل إلى إثارة الاضطرابات لا سيَّما أن حوادث الاعتداء على اللاجئين السوريين في ولاية قيصري التي امتدت إلى عدة ولايات نُسبت إلى مثيري شغب ينتمون إلى التيار القومي، ولتفادي تهديد استقرار حكومته إذا ما قرر حزب الحركة القومية الانسحاب من تحالف الشعب الحاكم وتفكيكه، ومن هذه الخطوط الحمراء على سبيل المثال استمرار التضييق على حزب الديموقراطية ومساواة الشعوب، إذ لطالما أراد بهتشلي إغلاق الحزب واعتقال وحظر رؤساء بلدياته، فعقب يومين من قول أردوغان في 1 يونيو إنه: “لا يُمكننا التخلي عن خطوطنا الحمراء من أجل التخفيف”، حُكم على رئيس بلدية هكاري المنتمي إلى الحزب محمد صديق أكيش بالسجن يوم 5 يونيو. كما يتوقع أن يعرقل الحزب مساعي أردوغان لتغيير الدستور ما لم يتراجع الأخير عن رغبته في إلغاء شرط 50% +1 اللازمة للفوز في الانتخابات الرئاسية لضمان ألا يفقد الحزب قدرته على ممارسة النفوذ على الحكومة مقابل تقديم دعمه لها.
• تباين أهداف الطرفين: يُمكن الإشارة بدايةً إلى أن حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري استخدما لفظين مختلفين لوصف العملية الجارية حاليًا؛ فالأول اعتبرها “انفراجًا” والثاني سماها بـ “التطبيع”، والكلمتان يحملان معنى مختلفًا؛ فالانفراج يقصد به التخفيض التدريجي للتوتر، أما التطبيع فهو العودة للظروف الطبيعية بعد فترة من الاضطرابات. وفي الواقع لا يُمكن اعتبار التشاور وغياب الاستقطاب وضعًا طبيعيًا في المطلق؛ فلا يوجد “وضع طبيعي” يُمكن تأسيسه واعتباره مرجعية ثابتة والعودة إليه، فالحياة الحزبية ديناميكية وبينما يتحرك السياسيون والأحزاب لتحقيق هدفهم الرئيسي وهو الوصول إلى الحكم، فإنهم ينشئون التحالفات أو يعيدوا صياغتها ويستبدلونها، أي أن الهدف ليس الوصول لصيغة تفاهمية أو تحالفية معينة وإنما بلوغ المصالح. وحقيقة الأمر أن تباين التوصيف لحالة الحوار الحالية بين الحزبين الرئيسيين راجعة لتباين الحسابات السياسية لكليهما كما سبقت الإشارة فلكل منهما أهداف سياسية ربما تتعارض مع الآخر وربما لا يستطيع تحقيقها بواسطة الحوار، من ثَمّ يفشل في تحقيق أهدافه، وهذه هي طبيعة السياسة التي تتضمن المنافسة والصراع واختلاف المواقف والأفكار إزاء السياسات الداخلية والخارجية.
• احتمالات المعارضة داخل الأحزاب: ربما يجد التقارب بين الحزب الحاكم والمعارض مقاومة بعض الشخصيات داخل الحزبين بغرض حماية المكاسب التي أنتجتها سياسة الاستقطاب، وكرد فعل مؤسسي طبيعي على حالة مغايرة للوضع الذي ترسخ داخل هيكل النظام الحزبي والذي يحتل فيه حزب الشعب الجمهوري موقع المعارضة الرئيسي منذ عام 2002؛ مما يُثير حساسيات لدى بعض السياسيين بشأن تقديم تنازلات للحزب الآخر، وهو ما يتبين على سبيل المثال من تعليق كمال كيليجدار أوغلو، الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري، على طلب رئيسه الحالي أوزال لقاء أردوغان بقوله “لا يمكنك التفاوض مع القصر.. يجب أن تقاتل”.
ختامًا، عقب مرور ثلاثة أشهر على الانتخابات المحلية لا تزال ارتداداتها تنعكس على المشهد السياسي ورسائلها محط قراءة من الأحزاب المختلفة بغرض صياغة استجابات تتفق وطموحاتها لمستقبلها السياسي، لعل أحد مشاهدها هو حالة الحوار الحالية بين الحزبيين الرئيسيين؛ العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، لكنها لا تزال في مراحلها الأولية ولا يُمكن الحكم قطعًا على نجاحها أو فشلها كونها تواجه بعض العقبات، فضلًا عن أنها ستكون خاضعة لتقييم المكاسب والخسائر بالنسبة لتصورات طرفيها، فطالما ظلت تخدم مصالحهما ستظل حالة التهدئة قائمة، أما إذا نشأت خلافات بشأن قضايا رئيسية فربما تتعثر العملية ويعود التصعيد إلى الواجهة السياسية، ولا يجدر بنا في هذه المرحلة سوى متابعة تطورات المشهد السياسي وما سيئول إليه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة اتساقًا مع المقولة الأشهر للرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل بأن 24 ساعة هي فترة طويلة جدًا في السياسة التركية.
المصدر : https://ecss.com.eg/46798/