مرحلة جديدة أم وقفة نهائية… مجريات ومآلات الموقف في جبهات غزة

بعد مرور تسعة أشهر على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه أمام وتيرة “مستمرة” من الأنشطة القتالية المكثفة داخل القطاع، والتي استمرت على مدى أشهر عدة، في مشهد لا يُقارن على مستوى المدى الزمني بأي مواجهات عسكرية مشابهة خاضها الجيش الإسرائيلي سابقًا، بما في ذلك عملية اجتياح الأراضي اللبنانية عام 1982. هذا الواقع بات ضاغطًا بشكل متزايد على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، كي تحسم أمرها بشأن مستقبل العمليات العسكرية في جبهات غزة.

وعلى الرغم من أن التيار السائد في إسرائيل مستمر في تأييد استمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة، وما زال يحمل في أذهانه “صدمة هجوم السابع من أكتوبر”، وما أسفر عنه من أضرار بالغة في استراتيجية الردع الإسرائيلية، إلا أن هذا التيار يبحث في الوقت ذاته عن مخرج يمكن من خلاله وقف التأثيرات السلبية المتزايدة على قطاع المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من غلاف غزة ونطاق الحدود مع لبنان، والذين تتزايد حالة الغضب في أوساطهم بشكل واضح، خاصة في ظل توقف الأنشطة الاقتصادية في هذه المستوطنات، ومعاناة السكان الذين تركوا مستوطناتهم منذ شهور -للمفارقة– من نفس ما يعاني منه آلاف الفلسطينيين الذين يقبعون يوميًا تحت القصف وفي ظل ظروف معيشية متدنية للغاية.

الموقف الميداني الحالي على الأرض

خلال الأسبوعين الماضيين، تركزت العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة في ثلاث جبهات رئيسة. فكانت الوحدات التابعة للفرقة 162 تقاتل في القسم الجنوبي من جبهة رفح، في حين أطلقت وحدات تابعة للفرقة 99، في الثامن من الشهر الجاري، عملية عسكرية في مناطق جنوب وغرب مدينة غزة، وتحديدًا في حي تل الهوا. أما العملية الثالثة فكانت في حي الشجاعية، وأطلقتها وحدات تابعة للفرقة 98، في السابع والعشرين من يونيو الماضي، إلا أن هذه العملية تم إنهاؤها في العاشر من الشهر الجاري.

في جبهة رفح، تنفذ خمسة ألوية تحت أمرة الفرقة 162، وهي اللواء المدرع 401، ولواء القوات الخاصة 89، ولواء المشاة الميكانيكي 84 “جفعاتي”، وكتائب تابعة للواء المشاة 12 “النقب”، وكتائب تابعة للواء المشاة 933 “ناحال”، عمليات تطهير محدودة الوتيرة في عدة نقاط على طول الخط الجنوبي للمدينة، حيث تعمل بشكل رئيس في حي تل السلطان، بجانب المنطقة الساحلية شمال القرية السويدية، بجانب خوضها معارك إضافية في المناطق الواقعة شمال بوابة صلاح الدين، بالتوازي مع تحركات أخرى شمال منطقة تل زعرب. وهي جميعها تحركات ذات وتيرة تدريجية وهادئة، تتسم بطابع “تأميني وتطهيري”، دون محاولة للتقدم على الأرض بشكل أكبر، حيث تركز الوحدات العسكرية في هذه الجبهة على عمليات تدمير المنازل والمنشآت الواقعة في حرم “طريق ديفيد”.

هذا الطريق افتتحه الجيش الإسرائيلي مؤخرًا، وهو يقع بموازاة الحدود المصرية مع قطاع غزة، على بعد 500 متر من خط الحدود، ليكون بديلًا للطريق الحدودي “محور فيلادلفيا”، بداية من معبر كرم أبو سالم وصولًا إلى ساحل البحر، وبالتالي بات تأمين هذا الطريق كمحور عسكري دائم مماثل لمحور نتساريم شمال قطاع غزة، هو الأولوية الأساسية خلال المرحلة الحالية للقوات الإسرائيلية في قطاع غزة، وهذا يشمل إنشاء نقاط عسكرية أساسية على طول المحور.

أما العمليات التي تم إنهاؤها في حي الشجاعية بمدينة غزة فقد شاركت فيها قوات من اللواء السابع المدرع ولواء المظليين، انطلاقًا من مستوطنة ناحال عوز في غلاف غزة، وتزامن هذا مع تعميم الجيش طلبات لسكان حي الشجاعية وبعض أجزاء حيي التركمان والتفاح بمغادرتهم هذه المناطق نحو حي الزيتون.

وقد أعلنت القوات الإسرائيلية أنها دمرت داخل هذا الحي تسعة أنفاق أساسية. وقد استهدفت إسرائيل من تنفيذ هذه العملية التوغل بشكل محدود في عمق مركز مدينة غزة، وخلخلة صفوف السرايا الفلسطينية التي تم رصد إعادة تجميعها داخل هذا الحي، الذي سبق وعملت القوات الإسرائيلية في قسم منه خلال المرحلة الأولى من العمليات البرية في ديسمبر الماضي، ثم نفذت عملية توغل محدودة بداخله في أبريل الماضي.

أما العملية العسكرية المستمرة حاليًا في حل تل الهوا، فتبدو هي الأهم في الوقت الحالي، وتنفذها تشكيلات من الوحدات الخاصة الإسرائيلية، وكتائب لواء المظليين الخامس والثلاثين الذي يتمركز بصحبة لواء “يفتاح” ولواء المشاة الاحتياطي الثاني “كرملي” في محور نتساريم. واللافت هنا أن تقدم القوات الإسرائيلية في هذه الجبهة يتم على اتجاهين أساسيين: الأول من الجهة الغربية باتجاه المنطقة الفاصلة بين الشيخ عجلين وحي الرمال الشمالي، والثاني من الجنوب في عمق تل الهوا؛ بهدف فصل الحي عن حي الزيتون وبقية المناطق الموجودة شرق وشمال مدينة غزة.

الجيش الإسرائيلي من جانبه برر تنفيذ هذه العملية برصده تصاعد نشاط سرايا القدس وكتائب القسام في الجانب الجنوبي والغربي من مدينة غزة، وتزامنت العمليات في هذا الحي، مع عدة تعميمات أصدرها الجيش الإسرائيلي لسكان بلوكات سكنية في أحياء الصبرة وتل الهوا وسكان أحياء الدرج والتفاح ووسط مدينة غزة ثم توسعت هذه التعميمات لتشمل جميع سكان مدينة غزة، تدعوهم إلى الإخلاء والتوجه جنوبًا نحو الملاجئ في دير البلح، عبر طريق صلاح الدين أو الطريق الساحلي.

جدير بالذكر أن الجيش الإسرائيلي قد عمم مؤخرًا تحذيرًا لسكان الأحياء الشرقية لمدينة خان يونس لإخلاء المنطقة والتوجه نحو المناطق الإنسانية الواقعة غرب المدينة “مواصي خان يونس”، وشمل هذا التحذير سكان منطقة القرارة وبني سهيلة وعبسان وخزاعة وعدة مناطق أخرى، حيث بدأت الوحدات الجوية الإسرائيلية عقب هذا التحذير سلسلة من الغارات التي استهدفت هذه المناطق، في خطوة جاءت بعد إطلاق ما بين 15 إلى 20 صاروخًا من هذه المناطق مؤخرًا نحو مستوطنات غلاف غزة، خاصة محيط المجلس الإقليمي “أشكول”، ما مثل أكبر صلية صاروخية تم إطلاقها من قطاع غزة منذ أشهر.

معطيات ميدانية ضاغطة على الجيش الإسرائيلي

في التحليل، يمكن القول إن وتيرة المقاومة التي واجهتها القوات الإسرائيلية في حي الشجاعية وحي تل الهوا تُعتبر أقوى بكثير بالمقارنة بالعمليات في جبهة رفح، وهي نقطة لافتة للنظر إلى أن العملية التي تمت سابقًا في مخيم جباليا، كانت تتسم أيضًا بوتيرة أعلى من عمليات الاشتباك مقارنة بجبهة رفح، وهذا يُشير إلى إعطاء الفصائل الفلسطينية أولوية لإعادة التموضع داخل المناطق التي تتوقف فيها العمليات داخل مدينة غزة، مع إعطاء أولوية ثانية لمواجهة القوات الإسرائيلية في جبهة رفح، خاصة أن أسلوب عمل القوات الإسرائيلية في رفح لا يُعطي فرصة كبيرة للفصائل الفلسطينية كي تواجه القوات الإسرائيلية بشكل متلاحم كما يحدث في الشجاعية، وتُفضل القوات الإسرائيلية التعامل في رفح بنفس مبدأ “الغارة – التمركز” المتبع في محور نتساريم.

في حي تل الهوا، وعلى الرغم من أن الواقع الميداني الحالي في هذه الجبهة يشير إلى نطاق أوسع من العمليات العسكرية فإن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس الأركان الإسرائيلي أثناء زيارته لقوات الفرقة 99، تشير إلى أن هدف هذه العمليات يبقى منع عودة التواجد الميداني للفصائل الفلسطينية في مدينة غزة، وقتل أكبر عدد ممكن من الكوادر القيادية، وتدمير ما يتيسر من قدرات تسليحية، ولا تستهدف هذه العملية السيطرة على أراضٍ جديدة بخلاف التواجد الحالي في ممر نتساريم.

توجد احتمالات لتوسيع العملية العسكرية الجارية في حي تل الهوا، لتشمل حي الدرج والتفاح، وهي جميعها مناطق سبق وعملت فيها القوات الإسرائيلية خلال المرحلة الأولى من العمليات البرية في قطاع غزة، لكن يبدو أن المعطيات الميدانية أشارت إلى استرداد الفصائل الفلسطينية جانبًا مهمًا من قدراتها البشرية والقتالية في مركز مدينة غزة، ما دفع القوات الإسرائيلية إلى بدء هذه العملية، لكن من حيث المضمون، لا ينظر إلى عملية تل الهوا على أنها تغيير في التكتيك الإسرائيلي، الذي ما زال ملتزمًا بأسلوب “الغارة – المركز”، باستخدام المناورة بالقوات المتواجدة داخل محور نتساريم.

وتشير التقديرات الإسرائيلية الحالية إلى أنه ما زال متواجدًا في مدينة غزة نحو 200 ألف شخص، ويمكن اعتبار المنشورات التي أُلقيت مؤخرًا على مدينة غزة، تطالب سكانها بالمغادرة، بمثابة محاولة لإجلاء ما تبقى من سكان داخل المدينة نحو المنطقة الوسطى، وهو نفس ما حاول الجيش الإسرائيلي القيام به خلال المرحلة الأولى من العمليات البرية في قطاع غزة، وأصبح من الواضح أن الجيش الإسرائيلي يريد حصر الكتلة السكنية والبشرية في المنطقة الوسطى “دير البلح”، ولهذا يسمح في الوقت الحالي بتحسين الخدمات الموجودة في هذا النطاق، في حين يضيق بشكل أكبر على سكان مدينة غزة ومدينة رفح، وهذا يخدم استراتيجية التمركز الحالية التي يتبعها في محور “نتساريم” ومحور “ديفيد”.

في جبهة رفح، تشير عدة تصريحات صدرت مؤخرًا عن المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وآخرها تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قال فيه “إن المرحلة المكثفة من الحرب ضد حماس في قطاع غزة على وشك الانتهاء”، إلى أن الجيش الإسرائيلي أصبح قاب قوسين أو أدنى من إعلان انتهاء المرحلة الحالية من عملياته في جبهة رفح، والانتقال إلى مرحلة جديدة أقل توسعًا في القتال في هذه الجبهة، واعتبار أن السيطرة على محور فيلادلفيا هو الهدف الأساسي لهذه المرحلة، ومن ثم يتم إطلاق مرحلة ثالثة من العمليات في هذه الجبهة، وهو نفس التوجه الذي يعمل وزير الدفاع الإسرائيلي على التداول مع الإدارة الأمريكية حوله. يؤكد هذا التقدير الصور الجوية الحديثة لجبهة رفح، والتي أظهرت أن عمليات هدم المباني على الجانب الغربي من شارع أبو بكر الصديق الموازي للحدود بين مصر وغزة، قد قاربت على الانتهاء، وبالتالي يمكن القول إن المحيط الأمني لطريق “ديفيد” الذي يسير بمحاذاة الحدود، قد تم تكوينه بشكل شبه كامل.

يلاحظ هنا استمرار عمليات الاغتيال، التي تستهدف العاملين في الإدارة المدنية لحماس –خاصة كبار الموظفين– بجانب العناصر القيادية والميدانية، وهذه العمليات تتم حتى داخل مخيمات اللاجئين والمنطقة الإنسانية، وهو ما يتم باستخدام ذخائر دقيقة لا تخلف سوى عدد محدود من الضحايا، تفاديًا للانتقادات الأمريكية والدولية، وللحفاظ على الوتيرة الحالية من العمليات في جبهة رفح.

وعلى الرغم من تحذيرات وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، وقادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، من اللجوء إلى إنشاء “حكم عسكري في قطاع غزة”، فإن هناك دلائل متزايدة على أن هذا الحل في طريقه للتطبيق الفعلي، حيث أصدر مؤخرًا كل من السكرتير العسكري لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، تصريحات تمهد لتطبيق هذا الحل، الذي سبق وحذر منه غالانت في مقال كتبه في مايو الماضي، وهو ما يطرح إشكالية، بموجبها لا يمكن إنهاء العمليات في جبهة رفح، إلا في حالة ما إذا تم التوصل إلى اتفاق داخلي وإقليمي على شكل الوضع في قطاع غزة بعد توقف العمليات العسكرية.

تماسك ميداني واضح للفصائل الفلسطينية

بالنظر إلى حقيقة أن فصائل المقاومة الفلسطينية قد نجحت في الاستعادة السريعة لوضعها العملياتي في المناطق التي تنسحب منها القوات الإسرائيلية، وهو ما ظهر بشكل واضح في مناطق مثل خان يونس وجباليا والزيتون ومخيم الشاطئ، يمكن القول أن هذا النجاح يعتبر سببًا رئيسا في إطالة أمد العمليات العسكرية في قطاع غزة، من منطلق وعي الفصائل بأن إطالة أمد العمليات العسكرية تمثل بالنسبة للجيش الإسرائيلي نقطة ضعف أساسية، نظرًا لعدم القدرة على التجنيد الدائم لوحدات الاحتياط، وكذلك استمرار التهاب الأوضاع في الجبهة الشمالية مع لبنان، وهو ما ساهم في مجمله في جعل القيادة العسكرية الإسرائيلية حريصة على أن يكون أقصى عدد ممكن من الألوية العاملة في قطاع غزة هو 11 لواءً، بحيث يتم توجيه بقية القوات المتوفرة للانتشار في الضفة الغربية والجبهة مع لبنان وسوريا، ومنح قسم كبير من هذه الألوية فرصة للتدريب تحسبًا لأي مواجهة محتملة مع حزب الله.

واقع الحال أن مسألة القوة البشرية المتوفرة تعتبر حيوية بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وكانت بمثابة عامل مفصلي ساهم في “تحجيم” التحركات البرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وقد حاولت تل أبيب بطرق عدة سد الفجوات التي باتت تشوب عديد وحداتها المقاتلة، حيث كشف موقع “والا” مؤخرًا أن الجيش يعاني من نقص في الجنود والمقاتلين، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى الترويج لإنشاء فرقة خفيفة جديدة من المتقاعدين والمتطوعين، بمن فيهم “الحريديم”، تحت اسم الفرقة 96 “فرقة داود” بقوام يبلغ نحو 40 ألف مقاتل – تحت قيادة الرائد في الاحتياط موتي باروخ، ويشير اسم هذه الفرقة إلى أنها ستتولى التمركز بشكل دائم في “طريق ديفيد” العسكري الذي أنشأته إسرائيل مؤخرًا بموازاة الحدود مع مصر.

وكذا أعلن الجيش الإسرائيلي عن تشكيل وحدة عسكرية جديدة، ستعمل في مستوطنات غلاف غزة، تحت اسم “لوتار عتيف” – في إشارة إلى غلاف غزة، كنتيجة مباشرة لقسم من التحقيقات الأولية في أحداث 7 أكتوبر، وسيتولى ضابط احتياط برتبة مقدم هذه الوحدة، التي ستكون إداريًا تحت قيادة فرقة غزة، وستتكون من جنود احتياط خدموا سابقًا في القوات الخاصة، ويعيشون في المناطق القريبة من غلاف غزة، بحيث يكونوا على استعداد للتدخل في حالات الطوارئ. يضاف إلى ذلك ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، خلال تقييم أجراه مؤخرًا مع رئيس أركان الجيش، عن أنه سيتم البدء في تجنيد الإسرائيليين المتشددين “الحريديم” ابتداءً من الشهر المقبل، وفقًا لقدرات الجيش الإسرائيلي على الاستيعاب والفحص.

على المستوى الميداني، يلاحظ الظهور اللافت للصاروخ الصيني المضاد للدبابات “HJ-8L“، المعروف باسم “السهم الأحمر”، حيث نشرت كتائب القسام، تسجيلًا مصورًا لعملية استهداف ناقلة جند إسرائيلية بهذا الصاروخ، غربي منطقة تل زعرب في جبهة رفح، وهو الظهور الأول لهذا النوع من الصواريخ، التي ظهرت سابقًا في ليبيا وسوريا، وتصنعه السودان بترخيص. هذا الصاروخ في حد ذاته لا يشكل تطورًا نوعيًا في تسليح الفصائل الفلسطينية، التي تمتلك صواريخ أحدث منه مثل صواريخ “كورنيت” الروسية، لكنه يتميز بالقدرة على اختراق الدروع التفاعلية وغير التفاعلية، باستخدام رأس ترادفي، ويمكن اعتبار الظهور المفاجئ لهذا الصاروخ، كإثبات آخر على أن الفصائل في قطاع غزة، مازالت تحتفظ بمخزونات من الأسلحة، لم يتم تدميرها أو التوصل إليها حتى الآن، وستبدأ في استخدامها خلال المراحل الأخيرة للقتال.

كذلك يمكن ملاحظة استيعاب عناصر المقاومة الفلسطينية، التي باتت تعمل ميدانيًا في مجموعات مصغرة يتراوح عدد أفرادها بين اثنين وأربعة أفراد – وفي أحيان كثيرة يتم تنفيذ عمليات بفرد واحد فقط – للتكتيكات المستحدثة التي أدخلها الجيش الإسرائيلي في عمليات رفح وتل الهوا، ومنها استخدام عربات مدرعة مسيرة عن بعد، يتم وضع دمى لجنود إسرائيليين بداخلها، بحيث يتم تحديد مصادر التهديد داخل المناطق التي تقتحمها القوات الإسرائيلية، ومن ثم يتم استهداف هذه المصادر بالطائرات المسيرة، وهو تكتيك لوحظ استخدامه بشكل أساسي في حي تل الهوا. يضاف إلى ذلك، ابتكار عناصر المقاومة أساليب للاستفادة من الذخائر المدفعية والجوية الإسرائيلية غير المنفجرة، وذلك عن طريق إلحاقها بقذائف المدفعية الصاروخية من عيار 107 ملم، لزيادة قوة نيرانها عند الانفجار.

يجب التنويه هنا إلى عامل مساعد مهم، يتعلق بالوضع في الضفة الغربية، فقد تزايد بشكل واضح حجم التهديدات التي تواجهها القوات الإسرائيلية خلال عمليات الاقتحام في مدن الضفة، خاصة فيما يتعلق بعمليات تفجير العبوات الناسفة، في مخيم جنين ومخيم نور شمس، وهي عمليات أسفرت عن مقتل وإصابة جنود إسرائيليين، وبدا منها أن تطورًا مهمًا طرأ على أساليب تنفيذ هذه العمليات، فقد جرت العادة أن تقوم جرافات ثقيلة بحفر ومسح الطرق أمام القوات المقتحمة للمخيمات، للكشف عن أي عبوات ناسفة محتملة، ومع ذلك، لم يتم اكتشاف العبوات الناسفة في الحوادث المذكورة، وهو ما يشير إلى أنه تم وضعها على عمق أكبر من المعتاد، كما أن آلية التفجير كانت فيما يبدو لاسلكية، وهذا تهديد جدي يجعل القوات الإسرائيلية مجبرة على استخدام آليات أثقل في تنفيذ عمليات الاقتحام، ويمثل هذا في حد ذاته ضغطًا متزايدًا على القوات العاملة في الضفة الغربية.

خلاصة القول، إن القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، تحاول في المرحلة الحالية، تفادي الأخطاء التي وقعت فيها خلال المرحلة الأولى من العمليات البرية، والتي خاضتها بذهنية “اجتياح لبنان عام 1982″، وهو ما ثبت فشله، وبالتالي لا يوجد أمامها خيار سوى الاستمرار في المدى المنظور، في تكتيك “الغارة – التمركز”، وشن عمليات محدودة من آن لآخر، في شمال ووسط القطاع، والحفاظ في الوقت الحالي على التواجد الدائم في محور ديفيد ومحور نتساريم. لكن هذا الوضع يجعلها في خانة الاستنزاف الدائم، خاصة بعد أن باتت العمليات القتالية تدور في حلقة مفرغة لم تتمكن خلالها القوات الإسرائيلية من تدمير القدرات القتالية والقيادية الأساسية للفصائل الفلسطينية.

لذلك بات الجيش الإسرائيلي أمام مفترق طرق مفصلي فيما يتعلق بالعمليات العسكرية في قطاع غزة، فهو من حيث المبدأ يعتزم إنهاء المرحلة الثانية من العمليات في جبهة رفح وفي الجبهات “المؤقتة” الأخرى في القطاع، لكن من حيث المضمون، يجد نفسه أمام خيارين، إما الانتقال إلى مرحلة ثالثة من العمليات القتالية، أو وقف القتال بموجب اتفاق شامل يتضمن ملف الأسرى، وبنود خاصة بالترتيبات الأمنية والسياسية تتعلق بالوضع القادم في قطاع غزة. فيما يتعلق بالخيار الأول، سيكون الهدف الأساسي من اللجوء إليه، هو “كسب الوقت إلى أن يتم الوصول إلى اتفاق سياسي”، وبالتالي يتم العمل على تأمين التواجد العسكري في محوري ديفيد ونتساريم، وهذا قد يقتضي خلق محاور أخرى داخل القطاع، خاصة في المنطقة الوسطى “دير البلح”، أو حتى في شمال القطاع، حيث تشير بعض الآراء الإسرائيلية، إلى أنه يجب فصل الجهة الشرقية من مدينة غزة، عن الجهة الغربية، بحيث تتم السيطرة بشكل كامل، على قسم من طريق صلاح الدين، وهو القسم الذي يربط بين أقصى شمال القطاع، ونطاق محور نتساريم، وهذا كله يعني في المجمل مزيد من الاستنزاف الميداني للقوات الإسرائيلية على مستوى العدد والعدة.

أما الخيار الثاني، فهو رهن بنجاح جهود إحياء المفاوضات الجارية حاليًا، والأكيد هنا أن فكرة “الحسم العسكري الإسرائيلي”، باتت بعيدة جدًا عن احتمالية التطبيق، في ظل احتفاظ الفصائل الفلسطينية بمجموعة من المكاسب والمرتكزات الأساسية، أهمها استمرار امتلاكها القدرة على تنفيذ الهجمات – بما في ذلك الهجمات الصاروخية والمسيرة – وكذلك عدم تمكن إسرائيل من إيجاد حلول “ميدانية” لملف الأسرى الإسرائيليين في حوزة هذه الفصائل.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81976/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M