الأميركيون غاضبون من الأسعار وتكاليف الحياة

قبل أربع سنوات، أعاقت جائحة “كوفيد-19” سلاسل الإمداد العالمية، فتسببت في إحداث نقص في كل شيء، من رقائق أشباه الموصلات إلى مراوح الهواء. وأدت الحرب والجفاف إلى اضطرابات في أسواق السلع. وأحدثت عمليات الإغلاق الموقتة والابتعاد الدائم عن المكاتب إلى تغيير أنماط الشراء لدى المستهلكين. ووجدت الأسر أن لديها وفرة من أموال التحفيز الحكومية.

وأدى ضيق سوق العمل إلى ارتفاع الأجور. وتضافرت تلك العوامل معا لتجعل لدى الأسر مزيدا من المال الذي تنفقه في حين كان العرض محدودا – واستغلت الشركات ذلك، فارتفعت أسعار كل شيء، دفعة واحدة. وأصبح التضخم المشكلة الاقتصادية المركزية في الحياة الأميركية للمرة الأولى منذ ثمانينات القرن العشرين.

الآن انخفض معدل التضخم السنوي من أكثر من 9 في المئة إلى ما يزيد قليلا على 3 في المئة. وبدأ تجار التجزئة في إجراء خفوضات كبيرة في الأسعار تحظى بتغطية إعلانية جيدة، سعيا لتحقيق الإيرادات باجتذاب الزبائن بدلا من تقاضي أسعار أعلى منهم. هكذا يروج “برغر كينغ” و”ماكدونالدز” لوجبات كبيرة سعرها 5 دولارات، وتخفض “تارغت” و”مايكلز” و”جيان” و”أمازون” و”والغرينز” أسعار عشرات الآلاف من السلع التي يتكرر شراؤها مثل الحفاضات وطعام القطط.

 

كانت أميركا تواجه مشكلة كبيرة في الأسعار حتى قبل التضخم – وستستمر في مواجهة مشكلة كبيرة في الأسعار في المستقبل

 

 

أخيرا، حصلت الأسر على متنفس – وهو ما يظهر بالفعل في استطلاعات ثقة المستهلكين. وكشف استطلاع جديد أجراه بنك الاحتياطي الاتحادي في نيويورك أن ما يقرب من أربعة من كل خمسة مستجيبين يتوقعون أن يكون أداؤهم مماثلا لما هو عليه الآن أو أفضل في غضون عام، وتلك أعلى نسبة منذ سنة 2021. وسأفاجأ إذا لم تبدأ معدلات تأييد أداء جو بايدن في الارتفاع أيضا.

ارتفاع متواصل للأسعار

هذه كلها أخبار طيبة. لكن الولايات المتحدة كانت تواجه مشكلة كبيرة في الأسعار حتى قبل هذه الموجة الشديدة من التضخم – وستستمر في مواجهة مشكلة كبيرة في الأسعار في المستقبل. وقد أدت الزيادة الحادة في تكاليف السلع الصغيرة التي تشتريها العائلات يوميا إلى جعل الأسعار أكثر بروزا بالنسبة للأسر الأميركية، لكن التكاليف الثابتة الكبيرة هي التي كان لها التأثير الأشد ضررا على مالية الأسرة بمرور الوقت. تلك هي التكاليف التي تستنزف حقا طموحات الأميركيين العاديين في التقدم، والتي لن تنخفض.

 

أ.ف.ب. أ.ف.ب.

ارتفاع تصاعدي لمؤشر الأسعار، وهو سجل 3.4% في أبريل الماضي 

لم يكن التضخم، منذ العقد الأول للقرن الحادي والعشرين حتى ظهور جائحة كورونا، مسألة قائمة في الحياة الأميركية. كانت البلاد تعاني من نمو ضعيف ومن ضعف في الطلب، يتجليان في تدني أسعار الفائدة، وانخفاض النمو في الإنتاجية، وركود الأجور، وارتفاع عدم المساواة. والنتيجة الوحيدة لذلك في الواقع هي استقرار الأسعار ورخص السلع. وكانت الإيرادات المتدنية تحقق نجاحاً في مطاعم الوجبات السريعة والمتاجر الكبرى بفضل سلاسل الإمداد العالمية والتقدم في التصنيع. بل إن المشردين كانوا يمتلكون هواتف ذكية. كان ذلك الاتفاق الليبيرالي الجديد الذي دعمته الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء.

إقرأ أيضا: ماذا تعني سياسات بايدن للاقتصاد الأميركي؟

أخذ هذا النموذج الاقتصادي يتغير خلال إدارة ترمب، عندما بدأ معدل البطالة المنخفض في البلاد في توليد ارتفاع قوي في الأجور وإحداث زيادة في الطلب. ثم أدت أزمة كوفيد إلى إغداق الأموال التحفيزية على الأسر فيما ضيقت على إمدادات عشرات السلع. ربما سُرّ الناس بارتفاع الأجور وتراجع عدم المساواة، لكنهم لم يعاينوا إلا التضخم.

 

ارتفعت الاسعار في متاجر البقالة بنسبة بلغت 13.5% بين صيفي 2021 و 2022. وأسعار الوقود وصلت الى 44%، وزادت الإيجارات

 

 

ارتفعت تكلفة كل شيء تقريبا، بعد مرور أكثر من عقد، لا على استقرار الأسعار فحسب وإنما على ركودها أيضا. فارتفعت الأرقام المدرجة على بطاقات الأسعار في متاجر البقالة بنسبة مذهلة بلغت 13.5 في المئة بين صيف سنة 2021 وصيف سنة 2022. وارتفعت أسعار الوقود بنسبة تصل إلى 44 في المئة في السنة. وبدأ أصحاب العقارات يطلبون زيادات شهرية على الإيجارات تبلغ 300 دولار أو 500 دولار أو حتى 2000 دولار.

استجاب بنك الاحتياطي الاتحادي لذلك برفع أسعار الفائدة – مما زاد تكلفة العديد من الأشياء، بما في ذلك الرهن العقاري والقروض على السيارات. وأثار ارتفاع الأسعار انزعاج الجميع، الأغنياء والفقراء على حد سواء. وتكررت الصدمة واستمرت طويلا: صار كل فنجان قهوة، وكل بيتزا في ليلة الجمعة، وكل رحلة بسيارة أجرة إلى المنزل، وكل رحلة طيران لرؤية الأقارب، وكل سلعة توضع في عربة تسوق البقالة، تذكر بتكلفة المعيشة واستحالة الازدهار.

 

أ.ف.ب. أ.ف.ب.

عملاء مطعم ماكدونالدز يصطفون لاستلام وجباتهم، في ميامي، فلوريدا في 26 يوليو 2022 

لكن الأسعار كانت مشكلة قبل مدة طويلة من هذا الارتفاع الحاد في التضخم. فعلى مدى عقود، كانت الأسعار المرتفعة باستمرار للسلع والخدمات المرتفعة التكلفة تلتهم بهدوء مداخيل الأميركيين وتجبر الأسر على اتخاذ قرارات مالية صعبة: تأخير الزواج، والتخلي عن حلم إنجاب طفل ثالث، والاستقرار في مناطق بعيدة خارج المدن بدلا من داخلها، وتأجيل البدء بمشاريع الأعمال.

للمزيد إقرأ: خواء أجندة ترمب الاقتصادية… وحساباتها خرافية

أولا المساكن، وهي الأسوأ بكثير. عندما انهارت فقاعة العقارات خلال إدارة جورج دبليو بوش، انهارت أعمال بناء المساكن ولم تتعافَ تماما قط. نحن نبني الآن عدد المنازل نفسها التي كنا نبنيها في سنة 1959، مع أن عدد السكان قد تضاعف. ونحن نبني عددا لا يذكر من المنازل في المدن الكبرى التي حققت أقوى نمو في الأجور والوظائف. لذا أدى ذلك إلى نقص كارثي في الإسكان وارتفاع فاحش للأسعار، لا سيما للمستأجرين ذوي الدخل المنخفض. وقد شهدت الإيجارات ارتفاعا بنسبة 52 في المئة خلال العقد الماضي، في حين ارتفعت الأسعار على العموم بنسبة 32 في المئة.

 

تأتي ثانيا تكلفة الرعاية الصحية. تنفق الولايات المتحدة 17 % من ناتجها المحلي الإجمالي على الخدمات الصحية، أي ما يقرب من ضعف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية

 

 

تأتي ثانيا تكلفة الرعاية الصحية. تنفق الولايات المتحدة 17 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الخدمات الصحية، أي ما يقرب من ضعف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من دون تحقيق نتائج أفضل. الأسعار هي المشكلة. تكلفة التأمين أعلى هنا. تكلفة الأدوية بوصفة طبية أعلى هنا. (الأنسولين، وهو دواء عمره قرن من الزمان، يكلف في الولايات المتحدة تسعة أضعاف ما يكلفه في دول مماثلة لأميركا. يبلغ سعر “Ozempic” ما بين خمس إلى 11 ضعفا في السعر). العمليات الجراحية تكلف أكثر هنا. تكلف زيارات غرفة الطوارئ أكثر هنا. التكاليف الإدارية سخيفة هنا. استقر إجمالي الإنفاق على الصحة منذ عهد أوباما، مما يسمح بنمو أقوى للأجور. لكن الدولة رفعت العبء المالي الذي يتحمله الفرد: بعد تعديله وفقا للتضخم، ارتفع بشكل مطرد ويبلغ الآن 1400 دولار للشخص الواحد في السنة.

ثالثا، رعاية الأطفال. تتراوح التكلفة السنوية المتوسطة بين 18,000 دولار و 29,000 دولار، اعتمادا على عمر الطفل وبيئة الرعاية. في المدن ذات التكاليف المرتفعة، مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، تنفق العائلات عادةً أكثر من ذلك. يضطر الملايين من الأميركيين الذين لا يستطيعون تحمل الرعاية، ومعظمهن من النساء، إلى ترك العمل أو التوقف عن العمل بدوام كامل لرعاية أطفالهن.

هذه التكاليف الباهظة للعائلات العاملة لا تترجم إلى أجور معيشية للعاملين في مجال رعاية الأطفال، والعديد منهم يعيشون في فقر. وقد ساء الوضع أكثر في الآونة الأخيرة، حيث اختار عشرات الآلاف من العاملين في دور الحضانة والمربيات التحول إلى وظائف ذات رواتب أفضل، بما في ذلك في مجال البيع بالتجزئة، ومع جفاف التمويل الفيديرالي المرتبط بالجائحة. اضطر العديد من المراكز إلى رفع الرسوم الدراسية، على الرغم من أن الآباء يدفعون بالفعل أكثر مما يستطيعون تحمله.

إقرأ أيضا: مناظرة بايدن وترمب… سؤال وجواب

لا عجب أن يعبر الأميركيون عن شعورهم بعدم القدرة على التقدم، بغض النظر عن مقدار ما يكسبونه. في المقابلات، يخبرني الكثير من الناس أنهم ببساطة لا يصدقون أن نمو الأجور قد تجاوز التضخم، أو أن نمو الأجور كان أقوى بالنسبة للعائلات ذات الدخل المنخفض، مقارنة بالعائلات ذات الدخل المرتفع، أو أن الطبقة الوسطى أكثر ثراء اليوم مما كانت عليه قبل بضع سنوات، أو أن التضخم قد خفّ إلى مستويات عادية، على الرغم من صحة كل هذه الأمور. من السيء دفع 15 دولارا لتناول وجبة غداء سريعة عندما يمكنك بالكاد تغطية إيجارك. من المزعج أن تنفق 40 في المئة أكثر مما تريد على مهماتك الأسبوعية عندما تكون قد وضعت للتو فاتورة طبيب على بطاقة ائتمان.

 

يشكل النقص في رعاية الأطفال والإسكان، والأسعار الباهظة للرعاية الصحية، تهديدا لازدهار العائلات الأميركية

 

 

العودة إلى النموذج الليبيرالي الجديد القديم سيكون أسوأ شيء على الإطلاق. قد لا يحب أبناء الطبقة الوسطى إنفاق المزيد على “ماكدونالدز” وركوب “أوبر”، لكن الدفع أكثر سيستحق ذلك إذا كان يعني أن المزيد من أماكن العمل الأميركية تقدم وظائف للطبقة الوسطى.

مع ذلك، أنا قلق من أن النموذج الجديد لن يكون أفضل بكثير. لدى واشنطن مجموعة كبيرة من الخيارات لزيادة الطلب في الاقتصاد. يمكنها إرسال شيكات للعائلات وزيادة مدفوعات تأمين البطالة وخفض أسعار الفائدة إلى الصفر. لديها خيارات قليلة جدا للسيطرة على التكاليف، وخيارات أقل لزيادة العرض، خاصة لأن بناء المنازل وتوظيف الممرضات وبناء مراكز رعاية أطفال جديدة سيكون تضخميا في حد ذاته.

مع ذلك، يشكل النقص في رعاية الأطفال والإسكان، والأسعار الباهظة للرعاية الصحية، تهديدا لازدهار العائلات الأميركية. يجب أن يتوقف الناس عن الغضب بسبب تكلفة وجبة “بيغ ماك”، وأن يبدأوا بالغضب بسبب تكلفة استئصال الزائدة الدودية وفاتورة حضانة الأطفال لهذا الشهر.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/320776/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%BA%D8%A7%D8%B6%D8%A8%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M