واحدة من أهم التغيرات في عملية التنمية في اقتصادات كثيرة تتضمن إبدال العمل القائم على السُّخْرة والعمل القَسري الذي يُعْتَبر من خصائص كثير من النُّظم الزراعية التقليدية، وإحلال نظام العمل التَّعاقُدي الحُر، وحرية التنقل دون قيد. ولا ريب في أن المنظور المَعنِي بالتنمية والمُرتَكز على الحرية…
بقلم: أمارتيا صن
يمثل دور آلية السوق موضوعًا آخَر يستلزم أن نستعيد بعض التراث القديم. إن علاقة آلية السوق بالحرية، ومن ثم بالتنمية الاقتصادية تُثير تساؤلات تَتعلَّق على الأقل بنمطين مُتمايِزَين تمامًا بحاجة إلى أن نُميِّز بينهما بوضوح. الأول: أن إنكار فُرص الصفقات عن طريق ضوابط تَعسُّفية يمكن أن يكون مصدرًا لافتقاد الحرية ذاتها؛ إذ يكون الناس هنا مَمنوعِين من عمل ما يمكن أن يكون بعض حَقِّهم، في حالة عدم وجود أسباب قاهرة تَدفعُهم إلى عكس الاتجاه. وهذه نقطة غير مُتوقِّفة على نقص، أو قُصور في آلية السوق، أو على أي تحليل شامل للنتائج المُترتِّبة على وجود أو عدم وجود منظومة سوقية. إنها تتوقَّف ببساطة على أهمية حرية التَّبادُل والصفقات دون عائق.
وحَرِي أن نُمايِز هذه الحجة لصالح السوق عن حجة ثانية شائعة جدًّا هذه الأيام: إن السوق تعمل على نحو نمطي لتوسيع نطاق الدَّخل والثروة والفُرص الاقتصادية المتاحة للناس. إن القيود التعسفية المفروضة على آلية السوق يمكن أن تُفضي إلى خفض الحريات بسبب النتائج المترتبة على غياب الأسواق. ويمكن أن تحدث مظاهر الحرمان حتى ننكر على الناس الفُرص الاقتصادية والنتائج المواتية لهم التي تطرحها الأسواق وتدعمها.
هاتان الحُجَّتان الداعمتان لآلية السوق وَثيقَتا الصلة بمنظور الحريات الموضوعية؛ ولذا يَتعيَّن إبرازهما مُستقِلَّتَين. وواضح أن الحجة الثانية تَرتكِز على الفعالية الكفء والنتائج الإيجابية لآلية السوق؛ لذلك فإنها تحظى بكل الاهتمام في الدراسات الاقتصادية الحديثة.١٨ وهذه حجة قوية يقينًا، وثمة براهين تجريبية كثيرة تؤكد أن السوق يمكن أن تكون قاطرة لنمو اقتصادي سريع والتوسع في مستويات المعيشة. ولهذا فإن السياسات التي تُقيِّد فُرَص السوق يمكن أن تفضي إلى تقييد التوسع في الحريات الموضوعية التي كان بالإمكان أن تُحقِّقها منظومة السوق، وبخاصة عن طريق الرخاء الاقتصادي الشامل. وليس معنى هذا إنكار أن الأسواق يمكنها أحيانًا أن تكون مُعوِّقة للإنتاج (كما أوضح آدم سميث نفسه؛ إذ دَعَّم، بوجه خاص، الحاجة إلى ضوابط تحكم سوق المال).١٩ ونجد في بعض الحالات حججًا جادَّة لمصلحة تَوافُر هذه الضوابط. ولكن المُلاحَظ بعامة أن الآثار الإيجابية لمنظومة السوق تَحظى الآن باعتراف واسع النطاق أكثر مما كانت منذ بضعة عقود مضت.
بيد أن هذا الرأي المُؤيِّد لاستخدام الأسواق مختلف تمامًا عن الحجة التي تُؤكِّد أن للناس حق عقد صفقات وتحويلات. وإذا حدث أنه لم يكن ثَمَّة قبول لهذه الحقوق باعتبارها حقوقًا لا يجوز انتهاكها -ومستقلة تمامًا عن نتائجها- فإن بالإمكان الدَّفع بأن إنكار حق الناس في التفاعل بعضهم مع بعض اقتصاديًّا يَتضمَّن قدرًا من الخسارة الاجتماعية. وإذا كانت الآثار المُترتِّبة على هذه الصَّفقات ضارة بآخَرِين، إذن يَتعيَّن وللوهلة الأولى تقييد الفُرص المُؤيِّدة لحق الناس في حُرِّية عَقْد الصفقات. ومع هذا سيظل هناك شيء ما يُمثِّل خسارة مباشرة نتيجة فَرْض هذا القيد (حتى وإن وازن الخسارة المقابِلة للآثار غير المباشرة لهذه الصفقات بالنِّسبة لآخَرِين).
لقد اتَّجَه مبحث الاقتصاد إلى الابتعاد عن التركيز على قيمة الحريات متجهًا إلى المنافع والدخول والثروات. وطبيعي أنَّ تَقْيِيد بؤرة الاهتمام على هذا النحو يُفضي إلى الغضِّ من قيمة الدور الكامل لآلية السوق حتى وإن تَعذَّر علينا اتِّهام علم الاقتصاد من حيث هو مهنة بالتَّقصير في الثَّناء على الأسواق بما يكفي. ولكن المسألة ليست كمَّ الثناء بل أسبابه.
لنأخذ على سبيل المثال الحُجَّة المشهورة في علم الاقتصاد وهي أن آلية السوق القائمة على المنافَسة يمكن أن تحقق نمطًا من الفعالية والكفاءة يعجز عنه نظام مركزي بسبب كل من اقتصاد المعلومات (كل شخص يعمل في السوق ليس عليه الإلمام بالكثير جدًّا من المعلومات)، ومواءمة الحوافز (حيث الأفعال الحذرة لكل شخص يمكن أن تندمج في سلاسة مع أفعال الآخرين). ولكن لنتأمل الآن واقعًا عكس ما هو مُفترَض بوجه عام، حالة يمكن أن يحقق نظام مركزي كامل النتيجة الاقتصادية المَرجُوَّة نفسها على الرغم من أن القرارات المتعلِّقة بالإنتاج والتخصيص يقررها رئيس ديكتاتور. تُرى هل يُعْتَبر الإنجاز واحدًا من حيث الجودة والنَّفع في الحالتين؟
ليس عسيرًا الدفع بأن ثمة شيئًا ما ناقصًا في مثل هذا السيناريو، إنه حرية الناس في أن يعملوا حسبما يقررون: كيف وأين يعملون وماذا يُنتِجون وأي شيء يستهلكون … إلخ. وإذا افترضنا جدلًا أن شخصًا ما في كِلا النوعين من السيناريو (حيث يَتضمَّن أحدُهما حرية اختيار، والآخرُ الانصياع لأوامر الرئيس الديكتاتور) يُنتِج السلع نفسها بالأسلوب نفسه ويحقق الدَّخْل نفسه ويشتري السلع نفسها، فإنه لا يزال يرى مُبرِّرًا معقولًا وقويًّا جدًّا لتفضيل سيناريو الاختيار الحُر على الخضوع للديكتاتور. وثَمَّة تميز بين «حصاد الذروة» (الناتج النهائي دون اعتبار لأي شيء آخَر في عملية الإنتاج بما في ذلك ممارَسة الحرية)، و«الحصاد الشامل» (الذي تَعنيه طبيعة العملية التي تُحقِّق في النهاية حصاد الذروة)، ولقد حاولتُ في موضِع آخر أن أتناول بالتحليل التفصيلي هذا التَّمايُز وصِلَته الوثيقة بموضوعنا.٢٠ إن جدارة نظام السوق لا تَتمثَّل فقط في قُدرتها على توليد حصاد ذروة أكثر كفاءة.
إن تَحوُّل بؤرة اهتمام الاقتصاد المنحاز إلى السوق من الحرية إلى المنفعة حدَثَ مَقابِل بعض الخسارة؛ ألا وهي إغفال القيمة المحورية للحرية ذاتها. وهذه نقطة عرَضها – بوضوح مثير للإعجاب، في إحدى الرسائل – جون هيكس أحد علماء الاقتصاد الرُّواد في القرن العشرين، الذي كان تَوجُّهُه نحو المنفعة أكثر منه نحو الحرية؛ إذ قال في هذا الصدد:
«إن المبادئ الليبرالية أو مبادئ عدم التَّدخُّل عند الاقتصاديين الكلاسيكيين (أتباع آدم سميث أو ريكاردو) لم تكن في أساسها مبادئ اقتصادية. وإنما كانت تطبيقًا لاقتصاد المبادئ الذي اعتقد البعض أن بالإمكان تَطبيقه على نِطاق أوسعَ بكثير. وإن الدَّفْع بأن الحرية الاقتصادية صِيغَت بهدف الفعالية الاقتصادية لم يكن أكثر من مُساندة ثانوية … إن ما أُصِرُّ على السؤال بشأنه هو عمَّا إذا كان ثَمَّة ما يبرر لنا إغفال الجانب الثاني من الحجة، والذي يصل بالبعض إلى حدِّ إغفاله إغفالًا تامًّا.»٢١
قد تبدو الفكرة غريبة إلى حد ما في سياق التنمية الاقتصادية من حيث الأولوية التي تميل الدراسات الاقتصادية إلى إضفائها بهدف توليد دخول عالية، ووعاء أضخم للسلع الاستهلاكية وغير ذلك من حصاد الذروة، ولكنها أبعد ما تكون عن وصفها بالغرابة. إن واحدة من أهم التغيرات في عملية التنمية في اقتصادات كثيرة تتضمن إبدال العمل القائم على السُّخْرة والعمل القَسري الذي يُعْتَبر من خصائص كثير من النُّظم الزراعية التقليدية، وإحلال نظام العمل التَّعاقُدي الحُر، وحرية التنقل دون قيد. ولا ريب في أن المنظور المَعنِي بالتنمية والمُرتَكز على الحرية يَلتقط على الفور هذه المسألة بحيث لا يكون ثَمَّة مجال لمنظومة تقييمية تُركِّز اهتمامها على حصاد الذروة فقط.
ويمكن توضيح الفكرة في ضوء الجدال الذي دار حول طبيعة عَمَل الرِّق في جنوب الولايات المتحدة قبل إلغائه. هناك دراسة كلاسيكية عن هذا الموضوع كتبها روبرت فوجل، وستانلي إنجرمان (الزمان على الصليب: اقتصاد الرقيق الزنوج الأمريكِيِّين). وتتضمن الدراسة اكتشافًا مُهمًّا يتعلَّق بالدخول المالية العالية نسبيًّا للرقيق (الملاحظ أن الخلافات في الرأي حول بعض القضايا الواردة في هذا الكتاب لا تُقوِّض هذا الاكتشاف). والملاحظ أن مقارنة سِلال سلع استهلاك العبيد كانت ملائمة لدخول العُمَّال الزراعيين الأحرار. كذلك المتوسط المتوقَّع لأعمار الرقيق، نسبيًّا طبعًا -لم يكن منخفضًا بطريقة واضحة- إذ يكاد يكون متطابقًا مع المُتوقَّع في بلدان مُتقدِّمة مثل فرنسا وهولندا، وأطول من المُتوقَّع للعمال الصناعيين الأحرار في الحضر في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.٢٢ ومع هذا كان الرقيق يهربون، وهناك من الأسباب الجوهرية التي تدعو إلى افتراض أن نظام العبودية لم يلبِّ مصلحة أو اهتمامًا خاصًّا للعبيد. وحقيقة الأمر أن محاوَلات استرجاع الرقيق، بعد إلغاء الرِّق، للعمل كرقيق وبأُجور مُرتفِعة لم تُكلَّل بالنجاح.
«بعد تحرير العبيد حاوَل كثيرون من أصحاب المزارع إعادة بناء نظام عَمل المجموعات على أساس الأجر المدفوع. بَيْدَ أنَّ هذه المحاولات أصابها الإخفاق بعامة على الرَّغم من واقع أن الأجور المعروضة على مَن تَحرَّرُوا تَجاوزَت بكثير الأجور التي اعتادوا تلقيها كعبيد بما هو أكثر من الضعف. وتَبيَّن للمزارعين أنه على الرغم من هذه العلاوات من المستحيل الإبقاء على نظام عمل المجموعات بعد أن بات مُحرَّمًا عليهم استخدام القوة القسرية».٢٣
إن أهمية الحرية بالنسبة للعمالة وفي ممارَسة العمل أهمية حاسمة لفَهْم القِيَم المتضمنة في ذلك.٢٤
والحقيقة أن مُلاحَظات كارل ماركس الملائمة عن الرأسمالية، والتي تُؤكِّد وقوفه ضد افتقاد الحرية في تنظيمات العمل الرأسمالية، إنما ترتبط بالدِّقة والتحديد بهذه المسألة والتي أسهمَتْ في تشخيص ماركس للحرب الأهلية الأمريكية حين وصفها بقوله إنها «من أعظم أحداث التاريخ المعاصر.»٢٥ حقًّا إن هذه المسألة الخاصة بالحرية المرتكزة على السوق مسألة محورية للغاية لتحليل العمل القائم على السخرة والشائع في كثير من البلدان النامية، وللانتقال إلى تنظيمات العمل القائم على التعاقد الحر. وإن هذه هي إحدى الحالات التي مال فيها التحليل الماركسي ليؤكد صلته بمذهب دعاة الحرية وتركيزه على الحرية مقابل المنفعة.
ونذكر كمثال الصورة الواضحة الرائعة التي قدَّمها في. كي. راماخاندران – للأهمية التجريبية لهذه المسألة في الوضع الزراعي المعاصر في جنوب الهند – في دراسته المهمة عن الانتقال من العمل القائم على السُّخْرة إلى العمل المأجور في الهند، يقول:
يمايز ماركس بين الحرية الشكلية للعامل في ظل الرأسمالية، وافتقاد الحرية الحقيقية للعمال في النُّظُم قبل الرأسمالية. حرية العمال في تغيير أصحاب العمل تجعله حرًّا بصورة لا نجدها في أنماط الإنتاج الأولى. إن دراسة تَطوُّر العمل المأجور في الزراعة دراسة مهمة من منظور آخر أيضًا. ذلك أن توسيع نطاق حرية العمال في مجتمع ما لبيع قوة عملهم هو تعزيز لحريتهم الإيجابية التي هي بدورها مقياس مُهم لبيان مدى حُسن وجودة أداء هذا المجتمع.٢٦
وإن الوجود المشترَك والمُتلازِم للعمل القائم على السخرة والمديونية يفضي إلى شكل راسخ من أشكال افتقاد الحرية في الكثير من المجتمعات الزراعية قبل الرأسمالية.٢٧ ولكن اعتبار التنمية حرية يسمح لنا بتناول هذه المسألة مباشرة وبيان أنها ليست مُتوقِّفة على الكشف عن أن أسواق العمل تزيد هي الأخرى إنتاجية الزراعة. وهذه مسألة جد خطيرة في ذاتها، ولكنها مختلفة تمامًا عن مسألة حرية التعاقد والعمل.
كذلك فإن بعض الجدل الدائر حول المسألة المروعة الخاصة بعمل الأطفال ترتبط هي الأخرى بمسألة حرية الاختيار التي تتحدث عنها. إن أسوأ مظاهر انتهاك المعايير ضد عمل الأطفال إنما مصدرها على نحو نمطي الاسترقاق الفعلي للأطفال من أبناء أُسر مُعوَّقة واضطرارهم قسرًا إلى الارتباط بعمل استغلالي «على نقيض أن يكونوا أحرارًا وقد يُفضِّلون الالتحاق بالمدارس».٢٨ وتُمثِّل هذه المسألة المُتعلِّقة بالحرية مباشرة جزءًا مُكمِّلًا من القضية في صورتها الشاملة.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/development/39443