- تُدير تركيا علاقاتها الخارجية بين الغرب وكلٍّ من روسيا والصين بقدر كبير من البراغماتية، مُحاوِلةً إظهار عدم الانحياز إلى طرف على حساب الآخر، إلا أن وضعها الاقتصادي قد يُجبِر ها على التخلي عن هذه السياسة البراغماتية ولو تدريجياً.
- مع أن تركيا تدعم مشاريع تنوع القوة العالمية وإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، لكن أزمتها الاقتصادية الحالية تدفعها إلى التقارب أكثر مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، خصوصاً مع سعي أنقرة للحد من العجز في ميزان تجارتها الخارجية.
- وجَّهت أنقرة رسالة إلى الصين برغبتها في التقارب السياسي وإغلاق ملفات الخلاف بخصوص الإيغور، لكنها في المقابل أظهرت التزامها بالشروط الغربية فيما يتعلق بالمعاملات التجارية والاقتصادية.
- أظهرت روسيا قلقها من التقارب التركي مع واشنطن، ما دفعها لتعزيز ودعم طموحات تركيا للانضمام إلى مجموعة بريكس، ودعم استئناف أنقرة لمفاوضاتها الأمنية مع الحكومة السورية.
في سعيها لدعم عالم متعدد الأقطاب، وعملها على تنويع وزيادة حلفائها، تدير تركيا علاقاتها الخارجية بين الغرب وكلٍّ من روسيا والصين بقدر كبير من البراغماتية، مُحاوِلةً إظهار عدم الانحياز إلى طرف على حساب الآخر، على الرغم من انتمائها للمعسكر الغربي تقليدياً بحكم عضويتها في الناتو وترشُّحها للانضمام للاتحاد الأوروبي، وأن أكثر من نصف معاملاتها التجارية تجري مع الغرب. فمن ناحية، وافقت أنقرة على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وهي عضو في مجموعة الدول العشرين الصناعية، ومن ناحية أخرى تعرب عن رغبتها في الانضمام إلى منظمة شنغهاي أو مجموعة البريكس بقيادة الصين وروسيا.
لكن مساعي تركيا الأخيرة للتقارب أكثر إلى الغرب من أجل الحصول على دعم مالي لإنقاذ اقتصادها، تُواجِه شروطاً غربية تطلب منها تقليص علاقاتها الاقتصادية مع روسيا وهو ما يقلق موسكو، فيما تحاول تركيا الإبقاء على سياستها البراغماتية المنفتحة استراتيجياً، والعمل تكتيكياً على التقارب مع الغرب، أو على الأقل استخدام ورقة العلاقات مع روسيا والصين من أجل الحصول على امتيازات أكبر من الغرب، والحفاظ على خط من العلاقات مع بيجين وموسكو لا يؤدي إلى العداء مستقبلاً أو المواجهة. لكن الوضع الاقتصادي الحالي قد يُجبِر تركيا للتخلي عن هذه السياسة البراغماتية ولو تدريجياً.
موسكو وواشنطن تتجاذبان أنقرة
في خلال مؤتمر الاقتصاد الدولي الذي عقد في الفترة 5-8 يونيو 2024، في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وَجَّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحذيراً إلى تركيا، حين قال في مؤتمر صحفي نُظِّم في 7 يونيو “إن تركيا تسعى للحصول على قروض أو دعم أو هبات من المؤسسات الغربية لدعم اقتصادها، وهذا أمر ليس سيئاً، لكن إذا كان ذلك مشروطاً بتقليص تجارة أنقرة وعلاقاتها الاقتصادية مع روسيا، فإن ذلك سيأتي بخسائر أكبر من أية أرباح ستحصل عليها تركيا من الغرب. أرى أن هناك تهديداً بهذا الشأن، وهذا رأيي”. بعد هذا التصريح بأسبوع، قال السفير الأمريكي في أنقرة جيف فليك “إن علاقات تركيا مع الغرب والناتو الاستراتيجية في أقوى حالتها حاليا” وأشار إلى موافقة الكونغرس على بيع تركيا طائرات من طراز إف-16 المحدثة، وعلَّق على مساعي تركيا للانضمام إلى مجموعة البريكس قائلاً “لا نرى أن هذا أمر سيئ، ولن تضطر تركيا إلى التخلي عن علاقاتها مع الغرب من أجل ذلك”، وأضاف عن علاقات تركيا الاقتصادية مع روسيا “إن المسؤولين الأتراك يرون أن الاقتصاد الروسي يقع تحت ضغط الحرب والعقوبات، وأن هذا الوضع لا يفيد تركيا في علاقاتها التجارية مع موسكو”.
هذان التصريحان المتعاقبان يعكسان قلق موسكو وتحذيرها أنقرة من الانجرار وراء الخطط والسياسات الغربية ضد روسيا مقابل الحصول على الدعم المالي، في مقابل التشجيع الأمريكي لخطوات تركيا الأخيرة وتقاربها من الغرب عموماً، خصوصاً بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة صيف العام الماضي، وسعيه لتحسين العلاقات مع الغرب عموماً، من طريق التقارب مع اليونان، وإسرائيل قبل حرب غزة، والسعي لعقد لقاء مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض. ويرى محللون أتراك أن الدعم الاقتصادي الذي تسعى إليه أنقرة من الغرب ومؤسساته، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لم يصل حتى الآن إلى المستوى المطلوب، وأن واشنطن تشترط على أنقرة احترام سياسات حلف شمال الأطلسي وقراراته فيما يخص روسيا (إذ إن أنقرة ترفض حتى الآن تطبيق العقوبات الغربية على روسيا بشكل كامل)، والالتزام بسياسة منع وصول اللاجئين إلى أوروبا.
ومن المهم تتبع سير السياسة الخارجية التركية منذ تشكيل الحكومة الجديدة صيف العام الماضي، لفهم خط سير هذه السياسة بين القطبين الغربي والشرقي، وبين العلاقات مع واشنطن وروسيا:
- شكَّل الرئيس أردوغان حكومته الجديدة في يونيو الماضي، وسلَّم ملف الاقتصاد للوزير محمد شيمشيك المقرب من الغرب، والذي وضع خطة اقتصادية جديدة لتركيا تقوم على أسس السوق الحرة ورفع أسعار الفائدة، واعتمدت خطته التقارب مع الغرب من أجل الحصول على الدعم المالي والاقتصادي، خصوصاً من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والخروج من القائمة الرمادية للدول في مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
- سارع الرئيس أردوغان إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل واليونان بعد ذلك، باعتباره مدخلاً مهماً لتحسين العلاقات مع واشنطن، والتقى أردوغان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في نيويورك في سبتمبر الماضي وأعلن عن عودة العلاقات الدبلوماسية بالكامل بين البلدين، كما زار أثينا في بداية ديسمبر الماضي، وصادق البرلمان التركي على انضمام السويد إلى الناتو في يناير الماضي. فيما وافق الكونغرس الأمريكي على بيع طائرات إف-16 محدثة إلى تركيا.
- أعلنت شركة بايكار التركية، في فبراير 2024 ،التي يملكها صهر الرئيس أردوغان، الاتفاق على إنشاء مصنع للطائرات المسيرة التركية في أوكرانيا على بعد 500 كيلومتر من العاصمة كييف، في تحوّل مهم لسياسة التوازن التي كانت تتبعها تركيا في حرب أوكرانيا باتجاه زيادة دعم كييف.
- في مارس الماضي زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس المخابرات التركية إبراهيم كالن واشنطن، وبدأ الاعداد لترتيب زيارة للرئيس أردوغان إلى البيت الأبيض كان من المفترض أن تتم في مايو الماضي لكنها أُجِّلَت لأسباب غير واضحة. في المقابل أُعلِنَ عن تأجيل زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى أنقرة في مارس الماضي بحجة انشغال الطرفين بالانتخابات.
- وضعت الخزانة الأمريكية 16 شركة تركية على قائمة العقوبات الأميركية لتزويدها روسيا بمعدات تكنولوجية يمكن استخدامها في تصنيع السلاح الروسي، وضغطت واشنطن بقوة على النظام البنكي التركي، مما أدى إلى تراجع المعاملات البنكية بين تركيا وروسيا اعتباراً من خريف 2023، كما أوقفت البنوك التركية التعامل ببطاقات الائتمان الروسية.
وبالتالي، يمكن القول إن حكومة الرئيس أردوغان سعت في خلال أول عشرة أشهر لها في الحكم إلى التقارب مع واشنطن من مختلف الاتجاهات والسُّبل، لكن كل ذلك لم يحقق لأنقرة النتائج المرجوة، سواء بترتيب زيارة للرئيس أردوغان إلى البيت الأبيض، أو بالحصول على دعم واستثمارات وقروض كافية من المؤسسات المالية الغربية.
التوجه التركي نحو الشرق: بداية تحوُّل استراتيجي أم مجرد خطوة تكتيكية؟
اعتباراً من شهر يونيو المنصرم، بدأت السياسة الخارجية التركية بالتوجه شرقاً نحو الصين وروسيا من جديد على نحوٍ لافت للنظر، حيث قام وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بزيارة إلى الصين من 5 إلى 7 يونيو، زار في خلالها مقاطعة سنجان ذات الغالبية المسلمة لقومية الإيغور، وتجنَّب توجيه أي انتقادات للحكومة الصينية وسياساتها تجاه الإقليم، مؤكداً دعم تركيا لسياسة الصين الواحدة. وكان سماح بيجين بهذه الزيارة إلى الإقليم بحد ذاته أمراً مهماً، إذ سبق أن اتهمت تركيا الصين في عام 2019 بالقيام بعملية تطهير عرقي ضد قومية الإيغور، وأنها تسجن نحو مليون من أبناء هذه الأقلية في معسكرات اعتقال. وهاكان فيدان هو أرفع مسؤول تركي يزور المنطقة التي زارها أردوغان في عام 2012 آخر مرة.
لكن في مقابل هذه الأجواء السياسية الإيجابية لزيارة وزير الخارجية هاكان فيدان، جاءت خطوة تركيا برفع التعرفة الجمركية على السيارات المستوردة من الصين إلى 40% لتلقي بظلالها على هذه الأجواء، وهو الأمر الذي عارضته بشدة وزارة التجارة الصينية، وأعلنت أنها ستسعى بكل السبل من أجل تراجع أنقرة عنها. ويمكن القول هنا إن أنقرة وجَّهت رسالة إلى الصين برغبتها في التقارب السياسي وإغلاق ملفات الخلاف بخصوص الإيغور، لكنها في المقابل ملتزمة بالشروط الغربية بما يتعلق بالمعاملات التجارية والاقتصادية، خصوصاً مع سعي أنقرة للحد من العجز في ميزان تجارتها الخارجية.
اقرأ المزيد من تحليلات «وحدة الدراسات التركية»: |
على مسار العلاقات مع روسيا، وبعد التحذير الذي وجّهه الرئيس الروسي بوتين لتركيا المشار إليه أعلاه، أجَّل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارة إلى روسيا، على هامش دعوته للانضمام إلى اجتماع وزراء خارجية دول البريكس في 11 يونيو، حيث التقى هناك بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وسكرتير مجلس الأمن القومي سيرغي شويغو، كما التقى بشكل مفاجئ الرئيس بوتين. ليتبع ذلك لقاء مفاجئ بين وفدين عسكريين تركي وسوري في قاعدة حميميم في سورية، والاعلان عن لقاء ثاني مستقبلاً في بغداد.
وانطلاقاً من التحذير الروسي لأنقرة، مروراً بدعوة وزير خارجيتها لحضور اجتماعات وزراء خارجية البريكس، ثم تحريك الوساطة مجدداً بين أنقرة ودمشق، يُلاحظ مدى القلق الروسي من التقارب التركي مع واشنطن، والذي دفع روسيا لتعزيز ودعم طموحات تركيا للانضمام إلى مجموعة بريكس، واستئناف المفاوضات الأمنية مع دمشق للحديث عن ملف الأكراد الذي يقلق أنقرة هناك.
ويمكن القول بعد هذه التطورات إن أنقرة في مسار تقاربها من جديد مع واشنطن، تسعى لاستخدام أوراق قوتها مع كل من الصين وروسيا، للضغط أكثر على واشنطن لتسريع مسار التقارب. كما تسعى للحفاظ على نوع من العلاقة مع بيجين وموسكو في انتظار تقديم البلدين مزيداً من الدعم لها إن هما أرادتا الإبقاء على هذه العلاقات، وعدم انجرار تركيا أكثر نحو التعاون مع واشنطن. أي أن أنقرة تحاول، وربما للمرة الأخيرة، لعب ورقة “التجاذب بين الطرفين” للحصول على أكبر قدر من المصالح من كليهما.
هل تريد تركيا حقاً الانضمام إلى مجموعة بريكس؟
أعلن الرئيس أردوغان عن رغبة بلاده في الانضمام إلى مجموعة بريكس في خلال حضوره ضيفاً على قمة المجموعة في يوليو 2018، وفي سبتمبر 2022 أعلن عن رغبة بلاده في الانضمام إلى مجموعة شنغهاي الاقتصادية، لكن أنقرة شعرت بخيبة الأمل من ضم دول أخرى للمجموعة وتجاهل طلبها حتى الآن، ولعل هذا الإحباط من تجاهل مجموعة البريكس لطلب أنقرة هو ما يفسر أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لم يكرر بشكل رسمي واضح رغبة بلاده في الانضمام إلى مجموعة بريكس في خلال زيارته لبيجين وموسكو، ولعلها انتظرت، عبر سياسة البراغماتية الحالية، أن تعرض موسكو وبيجين الأمر عليها بوصفه مُحفزاً للإبقاء على علاقات جيدة معهما، وربما أيضاً لأن الحديث عن هذا الموضوع قد يعرقل مفاوضات أنقرة الجارية مع المؤسسات الغربية للحصول على دعم مالي واقتصادي.
فقبل زيارة هاكان فيدان لبيجين، انضم المسؤول التركي إلى ندوة عقدها مركز الدراسات الصيني “مركز الصين والعولمة”، وفي خلال الندوة قال “إن تركيا تسعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الموسع مع الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت تبحث الفرص التي قد تحققها من انضمامها إلى مجموعة البريكس”. وفي خلال فقرة الأسئلة رد فيدان على سؤال حول ما اذا كانت تركيا تسعى حقاً وتريد الانضمام إلى بريكس بالقول “نبحث الفرص التي يمكن أن نحصل عليها من ذلك، وإن لم يكن هناك مانع فلمَ لا”. لكن الإعلام الصيني حوَّل هذا الجواب الدبلوماسي إلى خبر مفاده “تركيا تريد الانضمام إلى بريكس”. وحافظ فيدان على لغته الدبلوماسية ذاتها في أثناء زيارته إلى روسيا، حيث قال في مؤتمر صحفي “نثمن الدور الذي تؤديه مجموعة البريكس في تحقيق توازن عالمي، وتنوُّع في مراكز القوة”.
خلاصة واستنتاجات
تدعم تركيا مشاريع تنوع القوة العالمية وإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، لكنها حالياً -وبسبب أزمتها الاقتصادية- تسعى إلى التقارب أكثر مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة. وتستخدم أنقرة تقاربها الحالي مع واشنطن من أجل دفع روسيا والصين لتقديم امتيازات لتركيا دون أن تطلب ذلك صراحة. كما تستخدم تركيا علاقاتها مع الصين وروسيا من أجل الضغط أكثر على واشنطن لتسريع دعمها الاقتصادي والمالي لتركيا، من طريق التلويح بوجود بدائل، لكن تبقى أولوية أنقرة الحالية هي التقارب مع واشنطن.
وفي الإجمال، تمر تركيا بمرحلة تحوُّل في سياساتها الداخلية والخارجية لاستعادة علاقاتها القوية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يزيد هذا الأمر من اهتمام الصين وروسيا بأنقرة من أجل إقناعها بعدم الانجرار أكثر من اللازم تجاه واشنطن.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/turkia-bayn-algharb-wa-briks-biraghmatia-bihudud