السياسة الروسية تجاه أفغانستان في ظل حكم طالبان: الركائز والتحديات

  • تنظر روسيا إلى أفغانستان باعتبارها بلداً يتمتع بمكانة جيواستراتيجية كبيرة. ومع ذلك، تُركِّز موسكو اهتمامها على التدابير الأمنية في التعامل مع الملف الأفغاني، وخاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من هذا البلد، وعودة حكم حركة طالبان.
  • يتأثّر السلوك الروسي حيال أفغانستان تحت حكم “طالبان” بعوامل مختلفة، تتضمّن: القلق من فقدان السيطرة على المشهد لصالح المنافس الأمريكي، وتداعيات الوضع الأفغاني على آسيا الوسطى، والقلق من جهود واشنطن لإنشاء حكومة أفغانية لا تتناغم مع هواجس الأمن القومي الروسي.
  • على رغم الوعي المتزايد في الأوساط الروسية بأهمية الساحة الأفغانية جيوسياسياً وجيواقتصادياً، فإن موسكو لم تصل إلى نتيجة حاسمة بشأن ما إذا كانت حركة طالبان تمتلك الرغبة والقوة الكافية لتأمين مصالح روسيا في أفغانستان.

 

شكّلت أفغانستان لزمن طويل بؤرة جيوسياسية مهمة بالنسبة لروسيا، وشهدت العلاقات الروسية-الأفغانية خلال العقود الخمسة الماضية تقلبات عدة؛ وكان الهاجس الأمني، والعامل الأمريكي، هما المحوران الرئيسان لهذه التحولات. لكن استيلاء حركة طالبان على السلطة في 2021، دفع موسكو لاتخاذ مقاربة أكثر تطوراً تجاه نظام الحكم الجديد في كابول.

 

الأولويات الروسية في أفغانستان

لطالما اهتمت روسيا بالملف الأفغاني، وذلك لعدة أسباب من بينها: الحدود الطويلة بين البلدين، والهوية الثقافية والاجتماعية المتشابهة على الجانبين من الحدود، واحتمالية تسرُّب التطرف من الجغرافيا الأفغانية المتسمة بالفقر وعدم الاستقرار إلى الأراضي الروسية، أو الجمهوريات المحاذية لها.

 

وبعد سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان في أغسطس 2021، شهدت المقاربة الروسية للملف الأفغاني تطورات عدة نتيجة للتحديات الناشئة بين روسيا وطالبان قبل سيطرة الحركة على السلطة. واتخذت السياسة الروسية تجاه طالبان شكل “سياسة العصا والجزرة”، بهدف استغلال فرصة سيطرة طالبان لتحقيق المصالح الروسية في أفغانستان، ومواجهة المخاطر التي تنطوي عليها هذه السيطرة على الأمن الروسي.

 

وكانت العلاقات بين روسيا وطالبان قد تأزمت في عدة مراحل سابقة، فعلى سبيل لمثال، أرغم مقاتلون تابعون لطالبان في أغسطس 1996 طائرة شحن روسية من طراز إل 76 محملة بالسلاح على الهبوط لتسليم شحنتها من الأسلحة، وفي عام 1999أعلنت الحركة الجهاد ضد روسيا، ودعمت استقلال جمهورية الشيشان، بقيادة أصلان مسخادوف، واستخدمت إذاعة الشريعة لجذب المسلمين الروس. وأدت كل هذه الأحداث إلى تصنيف روسيا طالبان تنظيماً إرهابياً وفقاً لقرار صادر عن المحكمة العليا الروسية في عام 2003، واستمر هذا التصنيف حتى اليوم على رغم التعاون الجاري بين الجانبين.

 

ومع أن التعاون الاقتصادي بين موسكو وكابول بعد سيطرة طالبان في عام 2021 أخذ يتراجع؛ إذ انخفض ترتيب أفغانستان في قائمة شركاء التجارة الروسية من المرتبة 133 إلى المرتبة 137، إلا أن المسؤولين الروس يعتقدون أن أفغانستان أرضاً خصبة لم تُستثمر بعد بالكامل. ولا تزال روسيا تواصل تزويد أفغانستان بالطاقة. وتتوافر أفغانستان على العديد من المعادن والمناجم التي يمكنها توفير فرص اقتصادية جيدة لروسيا.

 

قلق روسيا من فقدان السيطرة على المشهد الأفغاني لصالح واشنطن يمثل أحد محددات سياستها تجاه طالبان (Shutterstock)

 

لكن الجانب الروسي لا يُولِي أهمية كبيرة لتطوير التعاون الاقتصادي البحت مع أفغانستان واستغلال الفرص الاقتصادية الأفغانية، بل ينظر إلى إقامة بنية أمنية طويلة الأمد مع هذا البلد، بهدف منع نموّ النفوذ الأمريكي والبريطاني فيه مجدداً. ولهذا الغرض، عملت موسكو على إدماج تعليم اللغة البشتوية ضمن مناهج جامعاتها.

 

وتُظهِر التفاصيل أن القضية الأهم للجانب الروسي في أفغانستان هي التحديات والاهتمامات الأمنية، والتنافس مع اللاعبين المؤثرين في المشهد الأفغاني، وهو أمرٌ عكسته الوثائق الأمنية الروسية، وتأكيد روسيا المستمر بشأنه في مقررات اجتماعات حلف الأمن الجماعي التابعة لمنظمة رابطة الدول المستقلة (CIS)، والقرارات الأمنية الصادرة عن “منظمة شنغهاي للتعاون”، وحتى القرارات الصادرة عن الاجتماعات الأمنية التابعة لمنظمة “بريكس”.

 

وبينما لا يزال العديد من النخبة السياسية الروسية يعتقدون أن حركة طالبان قوة مُتعاونة مع الولايات المتحدة، وتعمل بالوكالة عن واشنطن، يسعى متخذو القرار الرسمي الروسي، من جهته، لمواصلة العلاقات الخفية والمعلنة مع “طالبان”، ولذا استبقت موسكو سيطرة الحركة على أفغانستان بإجراء مفاوضات سرية معها، بهدف التأثير على تفاصيل توزيع السلطة في أفغانستان عبر هذه المحادثات.

 

واصلت روسيا تزويد طالبان بالدعم الطاقوي رغم تحفظاتها المعلنة تجاه سلوك الحركة، ممّا يعكس استراتيجية موسكو في المحافظة على حصتها من المصالح في الساحة الأفغانية، والتصرف بيقظة تجاه مشاريع المنافسين الآخرين هناك

 

تطوُّر الموقف الروسي من حركة طالبان

بعد مدة وجيزة من سيطرة حركة طالبان على الحكم في أغسطس 2021، أعلنت روسيا أن أفغانستان دخلت في وضع سياسي جديد، ودعت جميع الأطراف إلى التحرك باتجاه التعاون مع الحكومة التي تشكلها طالبان لإدارة البلاد. وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال منتدى فالداي للحوار في أكتوبر 2021، أن بلاده تقترب من اتخاذ قرار بسحب “طالبان” من قائمتها للتنظيمات الإرهابية، في حال اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً بذلك.

 

لكن هذا الموقف الروسي الهادئ والمتفهم إزاء طالبان شهد بعدها بعض التغيُّر، فخلال إقامة المنتدى الروسي الخامس في عام 2023، والذي كانت أفغانستان محوره الرئيس، برزت مواقف روسية انتقادية حيال الحركة. وأكدت موسكو “أنها لا ترى أي مؤشرات تدل على رغبة طالبان في إنشاء حكومة شاملة”، مُبيِّنةً أنّ الحركة “أظهرت ضعفاً كبيراً في إدارة البلد، وأنّ ذلك يترك أضراراً بالغةً في الوجود الأفغاني، وفي الأمن الروسي، من منطلق انتشار الإرهاب والمخدرات”.

 

أظهر هذا التغيُّر أنّ السلوك الروسي حيال أفغانستان يتأثّر بعدة عوامل مختلفة، تتضمّن: القلق الروسي من فقدان السيطرة على المشهد لصالح المنافس الأمريكي، والتأثير المحتمل للمشهد الأفغاني الجديد على آسيا الوسطى التي تعتبرها موسكو جزءاً من دائرة نفوذها، والقلق من جهود الولايات المتحدة لإنشاء حكومة وحدة وطنية تتناسب مع أهدافها ولا تتناغم مع هواجس الأمن القومي الروسي.

 

وفي ضوء كلّ هذه العوامل، واصلت روسيا تزويد طالبان بالدعم الطاقوي رغم تحفظاتها المعلنة تجاه سلوك الحركة، ممّا يعكس استراتيجية موسكو في المحافظة على حصتها من المصالح في الساحة الأفغانية، والتصرف بيقظة تجاه مشاريع المنافسين الآخرين هناك.

 

التحديات التي تواجه السياسة الروسية في أفغانستان

ينظر الروس، على غرار بقية القوى العالمية، إلى أفغانستان باعتبارها بلداً يتمتع بمكانة جيواستراتيجية كبيرة. ومع ذلك، تُركِّز موسكو اهتمامها على التدابير الأمنية في التعامل مع الملف الأفغاني، وخاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من هذا البلد، وتغيُّر السلطة فيه.

 

وترى موسكو أن انتشار عدم الاستقرار في أفغانستان قد يؤثر في استراتيجياتها الأمنية تجاه البلاد، خاصة فيما يتعلق بالتحديات الحدودية وانتشار الإرهاب والتطرف، بالإضافة إلى تأثيره على المشاريع الاقتصادية التي بدأتها في أفغانستان. وأكدت روسيا على هذه النقاط خلال مؤتمر مغلق حول الأمن في أفغانستان في فبراير الماضي في قرغيزستان.

 

وعلى الرغم من الوعي المتزايد في الأوساط الروسية بأهمية الساحة الأفغانية على الصعيدين الجيوسياسي والجيواقتصادي، فإن الجانب الروسي لم يصل إلى نتيجة حاسمة حتى الآن بشأن ما إذا كانت حركة طالبان تمتلك الرغبة والقوة الكافية لتأمين المصالح الروسية في أفغانستان، وتوفير الأمن في جميع أنحاء البلاد، خصوصاً في المناطق الشمالية المحاذية لطاجيكستان وتركمنستان، الدولتان اللتان تحرص موسكو على إبقائهما ضمن دائرة نفوذها الإقليمي.

 

تُركِّز موسكو اهتمامها على التدابير الأمنية في التعامل مع الملف الأفغاني، وخاصة بعد الانسحاب الأمريكي وعودة حكم طالبان (AFP)

 

يكتسب هذا التلكّؤ الروسي أهميته من واقع تصاعد أنشطة تنظيم “داعش” وتنظيمات انفصالية أخرى في آسيا الوسطى في الفترة الأخيرة. إن تعزز الوضع المضطرب، إلى جانب الخلافات الحدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان، والاضطرابات الحدودية بين طاجيكستان وأوزبكستان، والفراغ الأمني الذي استفادت منه “القاعدة” و”داعش” للتحرك بحرية في هذه المناطق الجغرافية؛ كلها معطيات دفعت روسيا لتوجيه إنذار إلى حركة طالبان، ومطالبتها بممارسة مزيد من الضغوط على هذه التنظيمات الإرهابية، وإظهار قدر أكبر من القوة والقدرة على ضبط الحدود الأفغانية.

 

ومع تصاعد معدلات الفقر والأزمة الاقتصادية الخانقة في أفغانستان، والسلوك المتشدد الذي تظهره حركة طالبان تجاه فئات عدة من الشعب الأفغاني، لاسيما النساء، والذي أثار انتقادات متزايدة من المجتمع الدولي، اتجهت القيادة الروسية نحو ممارسة مزيد من الضغط على طالبان لتلبية بعض الشروط قبل إخراجها من قائمة التنظيمات الإرهابية. وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في يناير 2024 أنه “يتعين على طالبان الوفاء بالتزاماتها بإنشاء حكومة شاملة تضم جميع الفئات الأفغانية، بما في ذلك الأقليات الهزارة والطاجيكية والمكونات الدينية، بالإضافة إلى تطوير علاقات بناءة مع جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية”.

 

وقد قوبل هذا الموقف الروسي برد فعل قوي من جانب طالبان؛ حيث أكد المتحدث باسم التنظيم، ذبيح الله مجاهد، في تغريدة على منصة إكس، أن “حكومة طالبان حكومة شاملة وتحالفية، ولا تسمح بالتدخل في شؤونها الداخلية من قبل روسيا أو أي دولة أخرى”. وتُظهِر مواقف الجانبين الروسي والأفغاني هذه أن الخلاف بين موسكو وكابول قد تصاعد للسطح خلال الفترة الأخيرة، بعدما كان الطرفان يحاولان إخفاءه.

 

وحاولت موسكو بذل الجهود للتوصل إلى اتفاق بين أبرز اللاعبين في المسرح الأفغاني، بهدف تسهيل تشكيل حكومة وطنية موحدة في أفغانستان، من خلال إنشاء مجموعة الخمسة التي تضمّنت: روسيا، والهند، وباكستان، والصين، وإيران. وشهد اجتماع عام 2023 لهذه المجموعة عدة محاولات للتوافق بشأن التعامل مع الطالبان والقضايا المرتبطة بالملف الأفغاني. ومع ذلك، كشفت هذه المجموعة عن قدر كبير من عدم الفعالية نتيجة الخلافات الجوهرية بين بعض الأعضاء بشأن الشأن الأفغاني، وتورط كلٍ منهم في مشاريع متعارضة. بالإضافة إلى ذلك، عانت مجموعة الخمسة، خلال مساعيها الطموحة لإيجاد حلول للأزمة الأفغانية، من غياب بعض اللاعبين الرئيسين في المشهد الأفغاني، بما في ذلك أطراف خليجية وغربية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/alsiyasa-alruwsiya-tujah-afghanistan-fi-zili-hukm-taliban

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M